لا تحبّوا العالم

لا تحبّوا العالم
2: 12- 17
تبدأ آ 12- 17 مع النداء: يا أبنائي الصغار (رج آ 1، 28؛ 3: 7، 18؛ 4: 4؛ 5: 21). ومع فعل: أكتب (رج آ 1). قد تكون آ 12- 14 عظة، وآ 15- 17 كلامًا إرشاديًا. غير أن هذه العظة تبدأ بتذكير بغفران الخطايا كما في 1: 7، 9. هذا ما يعرفه القرّاء. فعلى يوحنا أن يجذِّر في انجيل الغفران قرّاء تأثّروا ببرامج تحمل الخلاص على الطريق الغنوصيّة، ويطلب منهم أن يترجموا معرفتهم لله عملاً.
1- دراسة كتابيّة
تقسم هذه القطعة قسمين: وضع جديد للمؤمنين (آ 12- 14)، علاقة المؤمنين بالعالم.
أ- وضع جديد للمؤمنين (2: 12- 14)
أولاً: نظرة عامة
اختتمت آ 11 قطعة عبّرت عن التعارض بين النور والظلمة في إطار حفظ الوصيّة الجديدة التي تدعو المؤمنين لكي يحبّوا بعضهم بعضًا. وتبدأ قطعة جديدة مع سلسلة من الأقوال حول الوضع الروحيّ للقرّاء. وهذه الأقوال استعادت ما قيل في تعليم سابق، وشدّدت على ما هو حقّ بالنسبة إلى القرّاء. بالنسبة إلى آ 12، رج 1: 9. بالنسبة إلى آ 13 أ، 14 أ ب، رج 2: 3. بالنسبة إلى آ 14 ج، رج 1: 8، 10.
وفي الوقت عينه، هناك أفكار جديدة، ستجد ملء التعبير عنها في ما بعد، في الرسالة، مثل الغلبة والانتصار (4: 5؛ 5: 4- 5). كما أن ليس من ارتباط واضح على مستوى الألفاظ مع آ 15- 17 التي تتضمّن تنبيهًا يمنع المؤمن من محبّة العالم. ولكن يبقى أن آ 12- 14 تثبّت القرّاء في وضعهم المسيحيّ، وتؤمن الأساس المتين للوصيّة في آ 15- 17. في آ 12- 14 كما في آ 15- 17، هناك تطبيق إيجابي وتطبيق سلبيّ لبعض ما جاء في 1 يو. وإشارة إلى موقف المؤمنين الحقّ من اعتبارات كاذبة يطلقها خصوم يوحنا، وتحذير من السقوط في حبّ العالم الذي ينشره هؤلاء المعلّمون الكذبة (4: 5).
كيف نفهم هذه القطعة بالتفصيل؟ هناك أربع مسائل على مستوى التفسير. (1) يعطينا الكاتب سلسلتين من ثلاثة أقوال متوازية، ويكرّر الثاني بشكل أوسع ما قاله الأول. كيف نفهم هذا التكرار؟ (2) تبدأ السلسلة الأولى من الأقوال مع "أكتب" في صيغة الحاضر. والسلسلة الثانية مع "كتبتُ" في صيغة الاحتمال. هل من مدلول للانتقال من صيغة إلى صيغة؟ (3) إن الاداة "هوتي" تعني "لأن" وتعني "أن" أكتب إليكم لأن الله (السبب الذي لأجله يكتب يوحنا). أكتب إليكم أن الله (ما سبق يوحنا وقاله لهم). ما الفرق بين الاثنين؟ (4) تتوجّه كل سلسلة من الأقوال إلى الأبناء، إلى الآباء، إلى الشبّان. هل نأخذ هذا في المعنى الحرفيّ أم نعتبره استعارة؟ ومجازًا؟
وتبقى الصعوبة الكبرى في تكرار الأقوال. ظن بعضهم أننا أمام مسودتين. ولكن لماذا أدرجهما الكاتب ولم يختر واحدة منهما؟ واعتبر آخرون أننا أمام تقليد شفهيّ في الكنيسة مع تمييز بين "أكتب" و "كتبت". وقال آخرون إن تبديل صيغة الفعل توخّى الابتعاد عن الرتابة. كما اعتبر بعض آخر أن الكاتب إنطلق من الماضي وجعل نفسه في زمن قرّائه. أما الاختلاف بين "لأن" و"أن"، فلا يؤثّر في فهمنا للنصّ. مع "لأن" نلتقي مع آ 21: لأن القرّاء عرفوا الحق. ومع "أن"، يعلن يوحنا كلام حول وضع القرّاء. ولكن تبقى السببيّة (لأن) في المفضّلة. ويبقى التنوّع في تسمية القرّاء: أبناء، آباء، شباب. إن يوحنا يفكّر في ثلاث مجموعات في الكنيسة. أو هو يتطلّع إلى خبرات مسيحية ثلاث: مهتدون جدد، ناضجون في الايمان، وموقع بين الاثنين. ويمكننا أن نربط المهتدين الجدد بمعرفة طريقة لغفران الخطايا. والمسيحيين الناضجين بمعرفة عمقية لله. والشباب بالعزم على التغلّب على الشرير. وهنا تفسير آخر: الآباء والشبان هم مجموعتان في الكنيسة، على مثال الشيوخ والشمامسة. أو هم فئتان في الكنيسة (الكهول والشباب). رج 1تم 5: 1- 2؛ تي 2: 1- 8؛ 1 بط 5: 1- 5 والتفسير الأخير: نحن أمام تقسيم بلاغيّ يرتبط بمراحل الحياة الثلاث. فالمسيحيون يمتلكون براءة الطفولة، وعزم الشباب، ونضج الشيوخ.
ثانيًا: قراءة الآيات 12- 14
هناك طريقة البناء. تكرار كتبتُ (آ 12- 13) أو أكتب (آ 14)، ثلاث مرات. نحن هنا أمام أسلوب كتابي. بعد هذا نجد رسمة مثلّثة تتكرّر مرتين: الابناء الصغار، الآباء، الشبّان. الأبناء الصغار هم مجمل قرّاء الرسالة. والشيخ هو الذي يكتب. إذن، هم يرتبطون به، وينتظرون منه كل تعليم. وحين يتحدّث يوحنا عن الآباء والشبان، فهو يشير إلى فئتين بين قرّائه. وأخيرًا، إن كل عنصر في الرسمة يعود إلى الأمر عينه: في الحالة الاولى إلى الله الآب الذي يغفر الخطايا. في الحالة الثانية إلى المسيح. وفي الحالة الثالثة إلى حرب على الشرير وانتصار.
كتب يوحنا ليُسند المؤمنين ويحضّهم. أراد أن يثبّتهم في شركة كوّنها الله معهم حين غفر لهم خطاياهم بالنظر إلى ذلك الذي يحملون اسمه (1: 7- 9). فهم كمسيحيين يعرفون الآب. والذين يعرفون الآب، يعرفون ذاك الذي كان من البدء، أي كلمة الحياة الذي هو لدى الآب منذ الأزل. أما الشبّان فقد غلبوا الشرير. هذا لا يعني أنهم بلا خطيئة. ولكن كلمة الله التي فيهم تقوّيهم وتدفع عنهم ضلال محيطهم بحيث يظلّون في شركة مع الله.
ثالثًا: يا أبنائي الصغار (آ 12)
أكتب إليكم (آ 1، 7، 8) بعد صيغة الحاضر، نقرأ صيغة الاحتمال في آ 14، 21، 26 (رج 5: 13؛ 3يو 9). لا ننسى أننا في الاسلوب الرسائلي، ما سبق وكتبتُ لكم في رسالتي. الأبناء الصغار (رج آ 1) هم جميع قرّاء الرسالة. يجب أن يفرحوا، لأن الله غفر لهم خطاياهم. لا في الماضي فقط، بل الآن أيضًا. فيا ليتهم يستفيدون من هذا الغفران.
سمّى بولس قرّاءه الأبناء الصغار كما في غير موضع في 1يو. هم يحتاجون إلى التعليم (هكذا يسمّي المعلّم تلاميذه في أسفار الحكمة). قرّاؤه شعب خطئ فغُفر له وطُلب منهم أن يعترفوا بخطاياهم (1: 9) ففضلوا، فعرفوا فرح الغفران. هنا نتذكّر أن المغفرة ليست عمليّة آلية. بل هي جواب الانسان على غفران يقدّمه الله مسبقًا اكرامًا لاسم المسيح. هنا نتذكّر دور المسيح، وعملَه كالشفيع الذي يقدّم ذبيحة عن الخطيئة (1: 7؛ 2: 1- 2)، وواجب الايمان باسمه (3: 23؛ 5: 13). صيغة الفعل صيغة الكامل. نحن أمام غفران في الماضي ما زالت مفاعيله حاضرة. وهكذا تكون خبرة الغفران في قلب الاهتداء إلى المسيح.
رابعًا: أيها الآباء (آ 13)
يُذكر الآباء والشبّان هنا بحسب أعمارهم في قلب الجماعة اليوحناويّة. الآباء يعرفون من يعرفون؟ ذاك الذي كان من البدء. أي يسوع المسيح (1: 1- 3؛ 2: 7، 24؛ 3: 11؛ 2يو 5، 6) كما عرفته الجماعة ونادت به. امتاز الآباء في أنهم نالوا تعليمًا أصيلاً هو قاعدة الايمان. أما الشبان (نيانسكوي) فانتصروا انتصار الايمان ضدّ الضلالة وضدّ العالم. في هذه الحال، الشرّ أو الشرير (بونيروس، 3: 12؛ 5: 8- 19) هو إبليس، رئيس العالم وملهم الهرطقات.
إن تصوير مجموعة المسيحيين البالغين على أنهم "الآباء"، لا يجد ما يقابله في العهد الجديد. حين لا يُستعمل اللفظ استعمالاً حرفيًا (أف 6: 4) فهو يعود إلى الشيوخ الذين رقدوا (2 بط 3: 4). لهذا قد نرى فيه تعبيرًا عن احترام للشيوخ (أع 7: 2؛ 22: 1). والشيوخ هم الذين عرفوا المسيح باكرًا فدلّوا على نضج في خبرتهم المسيحيّة بعد أن عرفوا ذاك الذي كان من البدء. تعود الصورة إلى ما قيل عن المسيحيّين الحقيقيين في 2: 3- 4. بما أن الآب يُذكر في آ 14 أ، فالذي من البدء هو الابن. لا خلاف على وجود الآب منذ الأزل. ولكن يوحنا يشدّد على أن يسوع أيضًا هو من الأزل. هناك التباس. ويمكن أن يكون الكاتب احتفظ به، لأن لا تمييز بين خبرتنا مع الآب وخبرتنا مع يسوع.
ويذكر النصّ الشبان وما يُطلب منهم. لقد انتصروا على الشرير. هي صيغة المذكّر (2: 14؛ 3: 12؛ 5: 18- 19). تدلّ على ينبوع الشرّ وعالم الظلمة. تُستعمل صيغةُ الكامل: فالنصر تمّ وإن وجب علينا أن نتابع الجهاد. فالنصر على الشرّ حصل يوم الاهتداء. حصل بقدرة يسوع الذي غلب إبليس بموته وقيامته. هذا يعني أننا نستطيع أن نتغلّب على التجربة التي تأتي من العالم (آ 15- 17) ومن المعلّمين الكذبة (آ 18- 27). هذا ما نقرأه في 4: 4 فنفهم أننا ننتصر على كل ما يبعدنا عن التعليم الصحيح.
خامسًا: أكتب اليكم (آ 14)
أكتب إليكم. هنا نعود أيضًا إلى الفئات الثلاث التي ذُكرت سابقًا: أبنائي الصغار، الآباء، الشبّان، ونلاحظ التكرار. في آ 14 ج نقرأ: أنتم أقوياء لأن كلمة الله فيكم. لهذا انتصرتم. نحن هنا في إطار اسكاتولوجيّ (الشرير، النصر). في إطار الانتصار الأخير الذي ينعمون بنتائجه منذ الآن (2 يو 9).
يُصوَّر الابناء على أنهم عرفوا الآب (رج آ 3). فمعرفة الآب هي امتياز الأطفال (مت 11: 25؛ لو 10: 21). لهذا، يجب على المسيحيّين أن يكونوا كالأطفال. أما الآباء فيعرفون ذاك الذي هو من البدء، الآب أو ابنه يسوع المسيح (رج آ 13). والشبّان هم أقوياء لا بقوّتهم، بل لأن كلمة الله تثبت (تقيم) فيهم. رج 1: 8؛ 2: 4. إن تقبّل كلام الله هو ينبوع قوّة روحيّة تتجاوز قوّة المعلّمين. ذُكر الآب والابن. ومع الحديث عن قوّة الله، نتذكر ضمنًا الروح القدس (أف 6: 17). وهكذا نكون في إطار ثالوثيّ بهذه القوّة الشخصيّة التي تفعل في الداخل، يصبح انتصار يسوع على الشرّ واقعًا وحقيقة في حياة المؤمنين. ذاك هو الأساس للوصيّة التي ستلي. لا بدّ للمؤمن من أن يتذكّر وضعه الروحيّ. في آ 3، فهمنا أهميّة العمل بوصايا الربّ. هو يدعونا في الايمان ونحن نتجاوب معه. كما لا بدّ أن نتذكّر أن الخلاص يرتبط بوعد الله وقدرته. هكذا نستطيع القول إننا في سلام مع الله، وعرفنا بمن آمنا (5: 13).
ب- علاقة المؤمن بالعالم (2: 15- 17)
نتوقّف هنا عند ثلاثة أفكار: العالم وما في العالم (آ 15). العالم وما فيه من شهوة (آ 16). العالم يزول (آ 17).
أولاً: العالم وما في العالم (آ 15)
وثق الكاتبُ بقرّائه، فدلّ على أنهم لم يسقطوا في تجربة محيطهم. بما أنهم رفضوا ما يقدّمه العالم للمؤمنين، وجب على يوحنا أن يثبّتهم ضدّ الضلال. لهذا دعاهم فقال: "لا تحبّوا العالم". العالم في 2: 2 هو البشريّة التي كفّر عنها المسيح. أما هنا، فهو المكان الذي فيه تعمل القوى التي تفضل الانسان عن الله. لا يقول الكاتب (شأنه شأن الغنوصيين) بعالم شرير في ذاته، فنتخلّص منه مهما كان الثمن. بل، إن من جذبه العالم، أحلّ محلّ محبّة الله ما ينتمي إلى الفساد. إذن، يحب أن نختار بين الله والعالم، ولا خيار ثالث. في الواقع، هي مواجهة بين حبّنا للعالم وحبّنا لله.
لا يتحدّث النصّ عن العالم على أنه خليقة الله، بل عن ذاك الذي رئيسه سيُدان (1يو 12: 31؛ 16: 11؛ 18: 36) والذي بغضُه يهدّد التلاميذ (يو 15: 18- 25). العالم يعارض الله وحاملَ وحي الله. يعارض شخص يسوع كما تجسّد في التاريخ، ويعارض الكنيسة جسد المسيح في العالم. وتقول الرسالة: كل ما في العالم (آ 16) لا يأتي من الله. إذن، لا مكان للخير في العالم. فلا نحبّ ما في العالم، ولا ما يسيطر على العالم.
بعد سلسلة الأقوال (آ 12- 14) جاء تحذير للقرّاء الذين حافظوا على إيمانهم. فالخطر يهدّدهم (1كور 10: 12). هم يشاركون الله ويحبّون إخوتهم، ولكن كل هذا يتدمّر في محبّة العالم. هذا العالم الذي يتمرّد على الله. الذي يرتبط بالظلمة (يو 1: 5؛ 12: 46) والخطيئة. إذن، حين يحذّر يوحنا قرّاءه من العالم، فهو يحذّرهم من مقاومة الله والانجذاب إلى الخطيئة. ويُفهمهم أن حب الله لا يتوافق مع حبّ العالم. على مثال اللاتوافق بين حبّ الله وحبّ المال (مت 6: 24؛ لو 11: 13). في هذا المجال يقول يع 4: 4: "تعرفون أن محبّة العالم عداوة لله".
ثانيًا: العالم وما فيه من شهوة (آ 16)
ما الذي ينتمي إلى هذا العالم الشرير؟ الشهوة. وهذا ما يتعارض مع محبّة الآب. إن أخذنا بالشهوة، كان ذلك على حساب الله. لهذا يجب أن نختار: أو نتعلّق بما هو للعالم، أو نتعلّق بما هو لله. فلا يستطيع انسان أن يستسلم إلى شهوات العالم ويعتبر نفسه مملوءًا من محبّة الله.
إن آ 16 تؤسّس ما قيل في آ 19 وتوضحه. إذا كنا لا نحبّ العالم، فالسبب... نحن لا نحبّ عالم الشهوة. لا نحبّ عالمًا تأخذ فيه الشهوة مداها. وهكذا نتجاوز الثنائية الغنوصيّة (الله، العالم وكأنها يتقابلان ويتساويان في الصراع)، فنفهم أن يوحنا لا يحذّرنا من العالم، بل من استعمال سيِّئ للعالم. وما هو غنى (الجسد، العين) صار دافعًا إلى الشهوة.
أجل، لا توافق بين حبّ الله وحبّ العالم. فكل ما في العالم، لا يأتي من الله، بل من العالم نفسه. فأصله يرتبط بنظام مرتّب في معارضة لله. وما في العالم يشارك العالم، ويقدّم يوحنا ثلاث سمات تدلّ على العالم الخاطئ. الأول، شهوة الجسد (حرفيًا: اللحم، البشريّة بما فيها من ضعف وميل إلى الخطيئة). أي الرغبة التي تنطلق من "البدن" فتصبح مركز الرغبات الشهوانيّة والفجور: على مستوى الطعام والشراب والرغبات الجنسيّة. هذا يصحّ في إطار وثنيّة القرن الأول (روم 1: 28- 29). أما في 1يو، فالارتباط واضح بالعالم البيبليّ واليهوديّ مع انسان (من نفس وجسد) يرتبط بالعالم فيفصل عن الله ويقاومه.
والسمة الثانية للعالم هي شهوة العين. فالعين هي مرارًا ينبوع الرغبات بما فيها من شهوة. وهي تميل إلى "الخارج". والسمة الثالثة هي مجد الحياة. هي الرغبة في امتلاك الأشياء. هذا ما يقودنا إلى الكبرياء والمجد الباطل. نستطيع أن نعتبر السمة الأولى وكأنها أساس السمتين التاليتين. فرغبة الانسان تتحرّك بما تراه العين، وتعبّر عن نفسها في مظاهر باطلة. وهذا كله ليس من الله، بل من العالم، لأنه يعبّر عن اكتفاء ذاتي لدى الانسان واستقلاليّة عن الله. نشير هنا إلى ما قاله بعض الشرّاح عن موقف حواء المثلّث حين سقطت في التجربة: رأت أن الشجرة المحرقة طيّبة المأكل. أنها منية العين. أنها مرغوبة لكي تمنح الحكمة. ولكن تبقى المقابلة غير دقيقة.
ثالثًا: العالم يزول (آ 17)
تنتمي الشهوة والمجد الباطل إلى هذا العالم، وتزولان معه. يستند هذا القول إلى الخبرة البشريّة العاديّة، وإلى الاعتقاد بأن هذه الميول لا علاقة لها بالله. هي لا تتوافق مع مشيئة الله: وهكذا يسير الذين يعيشون في تعارض مع مشيئة الله، نحو دمارهم، ونحو فراغ يميّزه غياب الله. أما الذين يعملون بمشيئة الله، فيحيون إلى الأبد، لأن الشركة مع الله لا تنحصر في حياة تمتدّ من الولادة إلى الموت، بل تتواصل عبر الموت لتلج أبديّة الله. وهكذا يقاسم الانسانُ المسيحَ مصيره (2: 6). فحين على يسوع بمشيئة الآب (يو 4: 34؛ 5: 30؛ 6: 38) صوّر مسبقًا دعوة جميع المسيحيّين (يو 7: 17- 18؛ 9: 31؛ رج مت 7: 21؛ مر 3: 35).
حين نحب العالم نقاوم الله. بل نُستعبَد أيضًا لمستقبل نزع عنه يسوع القناع وحكم عليه. وما قيل عن الظلام في آ 18 (باراغاتاي، مضى) يقال الآن عن العالم نفسيه: يزول. نحن بعيدون عمّا يقوله الغنوصيّون عن أن العالم جزء من واقع كاذب لا قوام له. فما يعلّمه يوحنا هو أن العلم دين وحُكم عليه (يو 16: 11)، لأن قوى الشرّ تسيطر عليه. وهكذا لا مستقبل أمام الله لهذا العالم الحاضر. هذا لا يعني أن العالم يزول، بمعنى أنه يعود إلى العدم. بل يزول كما هو الآن. ولا يمكن الله إلاّ أن يحكم عليه كما حكم على سيّده.
وعبارة "عمل بمشيئة الله" عرفها العالم اليهوديّ والمسيحيّة الأولى (يو 4: 34؛ 6: 38؛ 9: 31). تعني في 1 يو: حفظ وصايا الله. أحبّ اخوته (2: 14؛ 3: 7- 11). لا شكّ في أن يوحنا يتحدّث عن النظر إلى الابن والايمان به. ولكنه يشدّد بشكل خاص على أهميّة المحبّة الأخويّة ليحارب كل روحانيّة تنسى الواقع اليوميّ وتعيش في الغيوم. وأخيرًا، العمل بمشيئة الله جزء من الايمان بخلاص الله المجاني، جزء من معرفتنا لله.
هكذا نصل إلى قمّة النداء الذي يطلقه يوحنا. من الغباوة أن نرغب في العالم وشهواته فهي ستزول كما زال الظلام (2: 8). وكان بولس قد قال: "هذا العالم في شكله الحاضر يزول" (1 كور 7: 31). ومجيء النور علامة لبداية جديد ونهاية قديم.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
صوّر يوحنا في هذه الآيات ما يحصل في الكنيسة. وما يلفت النظر بادئ ذي بدء هو اللهجة الايجابيّة. عرفتم الذي كان من البدء. غلبتم الشرير. كان الكاتب قد طلب قبل ذلك من المسيحيين أن يحبّوا بعضهم في قلب الكنيسة. وها هو يطلب منهم يجب أن يأخذوه تجاه العالم.
لجأ يوحنا إلى لغة شخصيّة ومباشرة فحثَّ المؤمنين ودعاهم لكي يثبتوا في ما يعيشونه. فالجهاد لا يتجاوز قواهم. ويحدّثهم كما يحدّث الأب أولاده. يتوجّه إلى الجميع، ويكلّمهم بلغتهم ليصل إلى اهتمامتهم الشخصيّة ويردّ على أسئلة يطرحونها على نفوسهم.
يقول لهم: غُفرت خطاياكم بفضل (بسبب، بالنظر إلى) اسمه. ثم يقول: تعرفون الآب. الفعلان هما في صيغة الكامل، فيدلاّن على واقع حاضر يعود إلى أمر حصل في الماضي. ولكن ما هي اللحظة التي نال فيها الناس المغفرة عن خطاياهم حين اعترفوا بأن الله أبوهم؟ ومتى انطلقت هذه الحياة التي تجدّدت بالشركة مع الله؟ هنا نتذكّر كلام بطرس بعد العنصرة: "ليعتمد كل واحد باسم يسوع المسيح لغفران خطاياه فتنالوا موهبة الروح القدس" (أع 2: 38). وفي خبر كورنيليوس، أمر بطرس بأن يُعمَّد الجميع (أع 10: 48) بعد أن أعلن أن "من يؤمن به (= بيسوع) ينال باسمه غفران الخطايا" (آ 43). في هذين النصين يرتبط اسم يسوع بغفران الخطايا والمعمودية. فالمعمودية تجعل الانسان ينعم بعمل المسيح من أجلنا.
وتأتي الدعوة للابتعاد عن العالم. هذا لا يعني أن المسيحيين ينغلقون على نفوسهم، ويعيشون بعيدًا عن الناس. لا، لا يدعو يوحنا المؤمنين لكي يتهرّبوا ويتخلّوا عن مسؤولياتهم. هم في العالم، ولكنهم ليسوا من العالم، كما قال لهم يسوع. هذا العالم الذي إليه أرسل الله ابنه، هو البشريّة التي تحتاج إلى الخلاص. هذا العالم لا نهرب منه، بل نهرب ممّا فيه من شرّ وارتباط بابليس. وهكذا نكون أولاً أمام موقف سلبيّ: نترك كل شهوة ومجد باطل. ثم أمام موقف ايجابي: نعمل بمشيئة الله. فيبقى علينا أن لا نجعل حياتنا تتوافق مع طريقة حياة العالم. منذ الآن بدأت دينونة هذا العالم. ونحن سنُدان معه إن تعلّقنا به. لهذا نقول 1 يو 2: 18: "جاءت الساعة الأخيرة".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM