الوصيّة القديمة والجديدة

الوصيّة القديمة والجديدة
2: 7- 11
ويتوجّه الرسول أيضًا إلى القرّاء: "اغابيوي". يا أحبائي (رج 3: 2، 21؛ 4: 1، 7، 11). والموضوع هو الوصيّة الجديدة، مع توسّع أول حول كره الاخوة وبغضهم (3: 13، 15؛ 4: 20). يتضمّن هذا المقطع قسمين يرتبطان ارتباطًا حميمًا. في الأول، تُذكر الوصيّة القديمة التي هي جديدة، دون أن يحدَّد مضمونها (آ 7- 8). والقسم الثاني الذي انتظرنا منه أن يكشف هذا المضون، يندّد بقول المضلّين أنهم في النور وهم يكرهون إخوتهم. وهكذا نكون أمام كلام هجوميّ، لا تعليميّ.
1- دراسة كتابيّة
نتوقّف هنا عند أربع محطات: وصيّة قديمة (آ 7). وصيّة جديدة (آ 8). بين النور والظلام (آ 9). بين الحبّ والكره (أو البغض، آ 10- 11).
أ- وصيّة قديمة (2: 7)
لم يحدّد يوحنا حتى الآن معنى لفظة "وصايا"، وسوف ننتظر 3: 23 لتفهم أن الوصيّة هي الايمان بيسوع المسيح. أما الآن، فالكاتب يعبن أنه لا يقدّم وصيّة جديدة، بل قديمة. هي قديمة لأن المسيحيين عرفوها منذ بداية حياتهم المسيحية. في آ 3- 4، تحدّث يوحنا عن "وصايا" في صيغة الجمع. وهنا عن "وصيّة" في صيغة المفرد. نحن نلاحظ هذا التبديل في 3: 23- 24؛ 2 يو 5- 6، الذي لا يبدو مهمًا. حسب 2يو 5- 6 نفهم أن الوصيّة (صيغة المفرد) تطلب منا أن نحبّ بعضنا، والمحبة تكمن في سلوك طريق الوصايا (صيغة الجمع). هنا نلتقي مع بولس الرسول: إذا أحببت قريبك كنفسك أتممت جميع وصايا الشريعة (روم 13: 8- 10؛ غل 5: 14). يبقى أن الوصيّة المذكورة هنا هي وصيّة المحبة.
يا أحبائي. فالرسول يعرف قرّاءه كل المعرفة. رج لفظة "تكنيا"، أبنائي الصغار، في آ 1، 12، 28، ولفظة "بايديا" (أبنائي الصغار) في آ 14، 18؛ 3: 7. هي عاطفة الآب تجاه أولاده ويدلّ هذا الكلام على علاقة مشاركة وخضوع تبدو مهدّدة.
أنهى يوحنا ردّه على معارضيه، وها هو يقدّم قولاً حول طريقة جديدة من أجل الحياة المسيحيّة. فمثال يسوع كما في يو 13 حول المحبّة والتواضع، يرتبط بقول يعلّم التلاميذ كيف يعيشون. بعد هذا، يعطي الكاتب وصيّة المحبّة بحيث إن العودة إلى طريقة حياة يسوع والنداء إلى التلاميذ ليتبعوا ذات الطريق، يتعبهما عرض عن الوصيّة.
هي وصيّة قديمة، لا جديدة. ومع ذلك، تكلّم يسوع عن وصيّة جديدة (يو 13: 34)، هي وصيّة المحبّة المتبادلة (يو 15: 12؛ 1يو 3: 23؛ 2يو 5). هذه الوصيّة جديدة في فم يسوع. ولكنها عُرفت لدى المسيحيين، فلم تعد أمامهم وكأنهم يسمعونها للمرّة الأولى. "من البدء" أي منذ بداية الخبرة المسيحيّة وإعلان الانجيل الذي سمعوا به.
ب- وصيّة جديدة (2: 8)
مع أن هذه الوصيّة قديمة بعد أن سمعها قرّاء الرسالة منذ زمن طويل، فهي في شكل آخر جديدة (يو 13: 34). هي ليست جديدة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، ويسوع عاد إلى لا 19: 18 حين تكلّم عنها. ولكن بما أن يسوع أوردها، فقد صارت في سياق جديد: تمّت كلها فيه بعد أن أضاء النور في الظلمة (يو 1: 5). تبدّل الزمن فتبدّلت الوصيّة.
لن نعود نجد موضوع "الجديد" في 1يو. ولكن 2يو 5 تقول لنا أولاً: هذا القديم الجديد هو قديم وصيّة المحبّة الأخويّة. لسنا أمام عالم جديد ولا أمام خليقة جديدة. فالنصّ يشدّد على التعليم بما أنه "كلمة الحياة" (1: 1). وثانيًا: هذا القديم الجديد يتعارض مع الأمور الجديدة التي يقدّمها الغنوصيّون، ويجعلونها تحل محلّ التعليم الأصلي. وثالثًا: هذا الجديد يرتبط بجديد يسوع (أن اوتو، فيه، أي في يسوع) من خلال تعليمه وحياته التي قادته إلى ملء المحبة. فلا جديد جديداً إلاّ في يسوع وبواسطة يسوع. ورابعًا: وهذا الجديد لا يرتبط "بشخصية" يسوع، بل يقول لنا إن النور النهائي هو هنا. فالنور الحقيقيّ الذي لا يدركه أحد، صار حاضرًا في يسوع، كما في الجماعة التي "تحفظ" تعليمه. إن نور الحب هذا يدحر ظلام البغض، والحقّ يدحر الجهالة التي هي وضع بشري يصل بالانسان إلى نكران الله.
نجد فعل "مضى" (باراغاتي) بالنسبة إلى الظلمة. وفعل "أضاء" (فايناي) بالنسبة إلى النور. هناك أولاً صراع بين النور والظلمة في خطّ اللاهوت اليوحناويّ. ثانيًا، ينتصر النور على الظلمة. ولكن الجماعة ما زالت ممزّقة بسبب قوّة الظلام. ثالثًا، يتطلع الكاتب إلى النور الذي يميّز الأيام الأخيرة: إننا أدركنا هذا النور منذ الآن "في يسوع المسيح" و"فيكم" أيتها الجماعة المسيحيّة.
أجل، هي وصيّة جديدة لأنها حقيقيّة. وهي تتحقّق وتتأوّن دومًا في حياة يسوع وفي حياة تلاميذه. صارت هذه الوصيّة أمرًا واقعًا بعد أن تجسّدت في الجماعة. فيسوع هو الذي بيّن واقع هذا النوع الجديد من الحبّ بشكل ملموس (يو 10: 14- 18؛ 15: 12- 13). وهذا ما يجب أن يظهر عند التلاميذ الذين ساروا في خطاه. فجديد هذه الوصيّة يكمن في أنه تحقّق في شكل لم يتوقّعه أحد. وبكلام آخر، إن ظلمة الزمان القديم الذي فيه لم يعرف الناسُ مثل هذا الحبّ، قد زال ومضت. وجاء نور زمان جديد، نور الحبّ الذي بدأ يشعّ شيئًا فشيئًا. فهناك أماكن يسيطر بعدُ فيها الظلام، وأماكن عرفت النور، وفيها يجب أن نجد التلاميذ. بدأ النور بمجيء يسوع (يو 8: 12)، وسيكون في ملئه في المجيء الثاني. هذا النور هو حقّ وحقيقيّ. فلا ينبوع آخر للنور سوى يسوع والتعليم الذي تحمله كنيسته.
ج- بين النور والظلام (2: 9)
تبدّلت الأزمنة. والذين أبصروا النور يستطيعون أن يفهموا نتائج هذا التبدّل. فبعد المقابلة بين النور والظلام (آ 5- 7)، أكّد يوحنا أن لا امكانيّة للعيش في نور الله (كما يظنّ البعض) مع بغض الأخ الذي هو مسيحيّ. فمن يكره يقيم في الظلام وإن حسب نفسه عائشًا في النور. ليس هناك نور وظلام، بل نور أو ظلام. وليس هناك بغض وحبّ. بل بغض أو حبّ. ولا نستطيع أن نكون مع المسيح وضدّ المسيح. فمن ليس مع المسيح فهو ضدّه.
"من قال" (هو لاغون). رج آ 6. وعبارات "نكون في الله" "نثبت فيه" "نكون في النور" هي مترادفة، وهي محبوبة لدى الغنوصيين. نجد هنا فعل "ميساين" (كره، أبغض) للمرة الأولى وسنجده في آ 11: 3: 13، 15؛ 4: 20: إذا وضعنا جانبًا 3: 13 الذي يتحدّث عن بغض العالم للمسيحيين في خط يو 15؛ فالبغض هو بغض الاخوة (أو: الأخ)، وهو يتعارض تعارضًا واضحًا مع الحبّ. لا تقدّم 1 يو أفكارًا وقيمًا عامة، بل أشخاصًا يحبون (الآن) أو يكرهون.
بمَ يقوم هذا البغض الذي يقابل مع القتل في 3: 15؟ أولاً: البغض (أو الكره) هو غياب الحبّ. فالذي لا يحبّ يكره. ليس هناك من موقف وسط. ثانيًا: البغض هو موقف متعال ومتكبّر فيه يحتقر الغنوصيون المسيحيين اليوحناويين الذين لم يصلوا إلى "الكمال" (كما يرونه هم). رج 2 يو 9. ثالثًا: تلمّح لفظة كره إلى واقع يقول إن الغنوصيين تركوا الجماعة اليوحناويّة (2: 19) رابعًا: حسب 3: 17، هذا الكره هو قساوة الأغنياء تجاه الفقراء في الجماعة.
جمع يوحنا بين الوصيّة الجديدة والنور، فكان لجمعه هذا نتيجة لا مهرب منه. فإن أعلن أحد أنه في النور (رج 1: 6) وهو يكره أخاه، فهو لا يزال في الظلمة، ولو أن النور بدأ يشرق (هيوس أرتي، حتى الآن). انطلق يوحنا من معرفة قرّائه لهذه الوصيّة الجديدة حول محبّة الاخوة، ومن اعتبار يقول إن من لا يحبّ أخاه يكرهه. ولكن لا بدّ من القول بأن هناك أناسًا لا نحبّهم ولا نبغضهم. موقفنا حياديّ، ولكن، هل نستطيع أن لا نبالي بمن نعيش معه تحت سقف واحد، في بيت واحد... ثم إن يوحنا ينبّهنا إلى أن لا نترك أخانا في حاجة. فإن فعلنا لن تكون محبّة الله فينا وفي أي حال، لا يحقّ لنا أن نطرد أحدًا من محبّتنا. نتصرّف كالسامري الذي التقى جريحًا غريبًا، بل عدوًا. ومع ذلك، أنحنى عليه فدلّ على محبته.
د- بين الحبّ والكره (آ 10- 11)
حين نتكلّم عن الحبّ والكره، لا نحصر كلامنا في عاصفة بشريّة. فهما يعبّران بالأحرى عن موقف وعن نتائج ترتبط بهذا الموقف. نحن أمام نظرة واستعداد داخليّ يُترجَمان عملاً. ماذا نعمل حين نحبّ؟ ماذا نعمل حين نكره؟ من يحبّ هو في النور، (يو 11: 9). فلا يعثر. من لا يحبّ هو في الظلمة. إذن، يتلمّس طريقه بصعوبة (يو 12: 35). إنه يشبه العميان الذي يتساوى لديهم الليل والنهار.
لا يكتفي المؤمن بأن يدخل إلى النور، بل يقيم فيه ويثبت. وكيف ذلك؟ حين يحبّ الاخوة. العلامة ساطعة: أنا أحبّ الاخوة، إذن أنا في النور، أنا في الله. لهذا، يحكم الكاتب بقساوة على ذاك الذي يبغض أخاه: هو في الظلمة. لقد تسلّم النور، ومع ذلك فضّل الظلمة على النور، لأن الظلمة أعمت عينيه، والظلمة هي الجهل ورفض الوحي الذي تحمله المدرسة اليوحناويّة. وهكذا، لا يكون البغض (والكره) سبب هذا العمى، بل نتيجته وعلامته.
من أحبّ، من كره. نحن على مستوى العمل، لا على مستوى الكلام، وحين نحبّ لا نعلن محبتنا على الملأ. ولكن هذا يظهر من عيشنا في النور، فلا نخاف أن نتيه في الظلمة. وعند ذاك تتبدّل نظرتنا إلى الآخر. أما الذي يكره أخاه فيعثر: يقع في الخطيئة، يجحد إيمانه أو يعيش وكأنه لا يؤمن.
في آ 11، يعود يوحنا إلى وضع الانسان الذي يكره أخاه. سبق وقال إنه ما زال في الظلمة. وها هو يكرّر القول عينه مشدّدًا على الخوف والقلق والاضطراب. هو لا يعرف ماذا يجب أن يعمل، كما لا يجد طريق الخلاص. لا يرتاح في حياته لأنه أعمى. وإذ اختار الظلمة وتعوّد عليها، لم تعد عيناه تميّزان النور.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
قال يسوع لتلاميذه ليلة آلامه وموته: "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم". أعطاهم كلمة تُلهم سلوكهم، فأوجز حياته في عمل دلّ فيه على أنه أحبّ إلى الغاية. فيبقى علينا أن نسلك كما سلك هو. كما عاش هو حياته الأرضيّة. ولكن هل ننسخ في حياتنا حياة يسوع وأعماله بشكل حرفيّ، وكما يتخيّله البعض (لباسه، هندامه...)؟ كلا. فالوصيّة القديمة التي تحدّث عنها يوحنا هي دوماً جديدة، وذلك بواسطة الانجيل الذي هو قدرة الله. وهذا الانجيل هو الذي يفعل.
ولكن هل تعني محبّة الأخ، محبّة المؤمن الذي ينتمي إلى جماعة تنتمي إليها، أن ننسى محبّة الأعداء؟ لقد طلب منّا يسوع أن نصالح خصمنا. أن نبارك الذين يضطهدوننا. لا يطلب يوحنا أن نحتقر خصومنا ونُبغض أعداءنا. وحين يحذّرنا من العالم، فهو لا يحذّرنا من البشر، بل ممّا يحمله العالم من اغراءات تحيد بنا عن الملكوت.
وإن كلمنا يوحنا عن المحبّة الأخوية، فهناك ثلاث أسباب الأول، عمليّ، ماذا ينفع كلام عام (مثل: أنا أحب البشريّة) إذا كنّا لا نحب أولئك الذين وضعهم يسوع بجانبنا. فالخطابات عن التضامن لا قيمة لها إن لم تترجم في الحياة. لهذا نتجنب العموميات التي لا تقود إلى شيء لأنها لا تلزمنا في شيء. والسبب الثاني، الكنيسة هي الموضع الذي يملك فيه سلام الله. وبما أننا نلنا النور فنحن أبناء النور، ونكوّن جماعة النور بعد أن وحّدتنا معرفة الاله الواحد وشاركنا في الحياة الالهيّة. أليس هناك شيء يربطنا، أقلّه على مستوى المجتمعات البشريّة؟ وهكذا لا تكون الكنيسة فقط الموضع الذي فيه تمارَس المحبّة، بل هي علامة المحبّة. هي محبّة الله متجسّده في جماعة رأسها يسوع المسيح.
والسبب الثالث. ليس الحبّ الأخويّ من الأرض، بل من السماء. وقد أعطي للكنيسة منذ الآن، وإن كانت ترجوه في ملئه. يبقى عليها أن تعيشه. وحين يحبّ المسيحيون بعضهم بعضًا، يجعلون على الأرض قطعة من السماء. لهذا، يستبعد الكُره (والبغض) عن جماعة المسيحيين الاخوية. كما تستعيد الامبالاة. فمن رفض أن يعين أخاه يقتله.
إذا أردنا أن نحبّ نكون في النور. وخارجًا عن يسوع المسيح، لا نجد حبًا أخويًا حقيقيًا ولكن حين نتعلم مثل هذه المحبّة، فهي تتيح لنا أن نقيم في النور، أن نشارك الله في حياته. أن نثبت في الله. وحين نمارس الحبّ نعتاد على النور، فنكتشف حالاً ما يريده الله منا في كل ساعة من ساعات حياتنا. عندئذ تزول الحواجز التي تفصلنا عن الله وعن الأخوة حين نختبر فرح المحبّة الذي يتجسّد في فرح العطاء. على مثال يسوع الذي بذل نفسه عن إخوته، عن أحبائه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM