المعرفة والطاعة
2: 1- 6
تشكّل هذه الآيات مجموعة موحّدة بأسلوبها وموضوعها. بعد الأسلوب الاحتفالي والملّح في ف 1، بتوجّه الكلام، بشكل لم تكن نتوقّعه، إلى القراء: "يا أبنائي، يا أبنائي الصغار" (تكنيا، 2: 12، 28؛ 3: 7، 18؛ 4: 4؛ 5: 21). نحن هنا أمام إشارة جديدة عن علاقات خاصة بين الكاتب وقرائه. أما موضوع آ 1- 6 فليس معرّفه الله في حدّ ذاتها، بل العلاقة بين هذه المعرفة والطاعة لوصايا الله. فبعد تحريض لئلا نخطأ (آ 1 أ)، نجد تذكيرًا بالعمل الخلاصي الذي أتّمه يسوع المسيح (آ 1 ب- 2). وتطرح آ 3 مسألة الطاعة أو الوعي لهذه المعرفة. هنا تكتشف أن معرفة الله وحبّ الله وكيان الله هي متوازية. وقد استعملها المعلّمون الكذبة من أجل اغراضهم وأخيرًا، تتخلّى آ 6 عن موضوع معرفة الله، فتنقله إلى المستوى الكرستولوجي: من أراد أن يثبت في الله (إن اوتو)، وجب عليه أن يسلك كما سلك يسوع (إكاينوس). انطلق يوحنا من نظرة هؤلاء المعلّمين إلى يسوع كي يشكّ في شركتهم مع الله.
1- دراسة كتابيّة
المسيح شفيعنا هو كفّارة. نعمل بوصاياه. من عرف عمل. ومن عمل شارك في المحبّة. سيرة المسيح. تلك هي أفكار هذه القطعة.
أ- المسيح شفيعنا (2: 1)
جعل يوحنا أمامنا واقع الحياة المسيحيّة. ولكن هذا لا يعني أننا نستسلم، ونعتبر الخطيئة أمرًا ضروريًا وشيئًا يفرض نفسه علينا. فنحن لسنا معدّين للخطيئة بل للخلاص. وما الذي يعينا هذه الثقة؟ وجود شفيع، وجود مدافع، وجود محامي يقف بقربنا.
انتقل الكاتب إلي صيغة المتكلّم (أكتب أنا)، بعد أن كان في صيغة المتكلّم الجمع (سمعناها، نحن). هو واحد من الجماعة، من المدرسة اليوحناوية تقرأ لفظة "تكنيا" (أبنائي الصغار) ست مرات، وهي تقابل "بايديا" (2: 14، 18؛ 3: 7. تدل اللفظة على المحبّة والحنان. بل تدلّ على الأبوّة التي يمكن أن تتصرّف بقساوة من أجل خير الأبناء.
في هذه الآية، يوقف الكاتب سيرة تفكيره، فيوجّه كلامه إلى أبنائه الصغار. في ف 1 توجّه إلى معارضيه وما يقولونه فيُضلون به المؤمنون في الكنيسة. والآن، ها هو يتوجّه بشكل مباشر إلى أعضاء الكنيسة ويرسل إليهم نداء. ومع أن الربّ طلب من تلاميذه أن لا يدعوا أحداً "أباً"، فيوحنا يسمّي هؤلاء المؤمنين ابناءه. تلك هي علاقة الراعي بالجماعة (1 كور 4: 14، 17؛ غل 4: 19؛ 1 تم 1: 2؛ فلم 10؛ 3 يو 4).
أكتب إليكم بهذه الامور. توتا في اليونانيّة تعود إلى ما سبق بشكل مباشر، كما إلى الرسالة بشكل عام (رج 5: 13). وإذ حدث يوحنا المؤمنين عن الخطيئة والمغفرة، ظن بعضهم: "نقيم في الخطيئة فتكثر النعمة" (روم 6: 1). ولكن يوحنا يريد من المؤمنين أن لا يخطأوا. وعدم الاقرار بالخطايا لا يتوافق مع شركتنا مع الله. إذن، على المؤمنين أن يعرفوا خطيئتهم ويُقرّوا بها. كما عليهم أن يسعوا إلى حياة بدون خطيئة. من السهل أن نعيش بلا خطيئة إذا انكرنا وجود الخطيئة في أعمالنا. أما يوحنا فيطلب من القرّاء أو يقرّوا بالخطيئة المنتشرة في كل مكان وبالتالي أن لا يخطأوا.
وها هو يعود للمرّة الثالثة إلى غفران الخطايا. هناك دواء للذين خطئوا واعترفوا بخطيئتهم: لنا شفيع لدى الآب يدافع عنا. "باراكليتوس". هو من يُدعى ليقف بجانبنا، كي يساعدن، كي يرافع عنا في الحكمة ويدافع. حدثنا بولس عن يسوع الذي يقف عن يمين الله ويتشفّع بنا (روم 8: 34)، وعن عمل الروح الذي يعيننا في صلاتنا الضعيفة (روم 8: 26). تلك هي الفكرة الحاضرة هنا. بماذا ندافع عن نفوسنا لننال الغفران عن خطايانا؟ يسوع المسيح يأتي ويرافع. هو المحامي. وهو البار (هو مثال يتبعه المسيحيون، 2: 29؛ 3: 7). وبطرس في أع 3: 14 (رج أع 7: 52) تحدّث من براءة يسوع تجاه شرّ الذين حكموا عليه بالموت. ولكنه سّماه أيضًا البري في 1 بط 3: 18 البريء الذي مات لكي يأتي بالخطأة (اللاأبرار) إلى الله البار (ديمايوس) تقليد مسيحاني يعود إلى أنش 53: 11 (رج أخنوخ الحبشي 38: 2؛ 53: 6). بما أن يسوع بار (لم يخطأ، ولا تلامسه الخطيئة، عمل دومًا مشيئة الآب فهو يقدر أن يتشفّع في الآخرين.
في العهد الجديد، تستعمل لفظة "بارقليط" في الانجيل الرابع، فتدلّ عل الروح القدس (يو 14: 16، 26؛ 15: 26؛ 16: 7). روح الحقّ الذي يرسله الآب إلى التلاميذ بعد أن يمضي يسوع. لكي يشهدوا له ولعمله. والشركة حميمة بين الآب والابن بحيث يقول يو 15: 26؛ 16: 7 إن يسوع يرسل الروح. نجد أن هناك تقليدًا آخر يسمّى يسوع "البارقليط"، فيعكس ما قاله يسوع في يو 15: 16: "أطلب من الآب فيعطيكم بارقليطًا آخر". فالاول هو يسوع. والثاني هو الروح القدس. إن الوحدة بين الابن والروح تجعلنا نفهم هذه الوظيفة التي يقوم بها الابن الذي يتشفّع بنا عند الآب، والروح الذي يشهد للابن.
ب- هو كفّارة (2: 2)
الشيء الوحيد الذي يُبعد الانسان عن الله هو الخطيئة. يغيب الانسان. يمضي في الظلمة ولكن يسوع هو هنا. يدافع عنا. بل هو كفّارة لخطايانا. لا يتوسّع يوحنا في تعليم حول التكفير، بل يركّز كل شيء حول غفران لخطايا كإمكانيّة جديدة للانسان (1: 7، 9) في الماضي، وقفت الخطيئة بين الله والانسان. والآن ، وقف المسيح كالوسيط (1 تم 2: 5). في الخطيئة، لا طريق تقود العالم إلى الله. أما في المسيح، فقد جاء الله إلى العالم. لا يكفّر يسوع عن خطايا المؤمنين وحدهم، بل عن خطايا العالم كله.
هكذا بدا يسوع كالشفيع والمحامي: كان كفّارة (هيلسموس 4: 10). هذا ما يعود بنا إلى العهد القديم (خر 29: 36- 37) الذي أخذ به بولس فاستعمل "هيلستيريون" متحدّثًا عن رضى الله علينا (لو 18: 13؛ عب 2: 17). لينا هنا أمام وسيلة سحرية نرضي بها الاله، بل أمام طقس أسّسه الله، واحتفال حصل به على الغفران.
لا نجد لفظة "هيلسموس" في العهد الجديد، إلاّ في 4: 10. نجد أن هناك كلمات من ذات الجذر مثل "هيلسكوماي" (لو 18: 13؛ عب 2: 17). "هيلستيريون" (روم 3: 25؛ عب 9: 5)، "هليووس" (مت 16: 22؛ عب 8: 12). في خارج الكتاب المقدس، تُستعمل اللفظة عن تقدمة يقوم بها الانسان لكي يهدئ غضب الاله الذي أغاظه. هي وسيلة بها نحوّل الله من موقف غضب إلى موقف رضى، وهي تقوم بأن تعطي الاله شيئًا يزيل الاساءة. أما في الاطار اليوناني الدنيويّ، يكون الموضوع الاله الذي أغيظ. أما في السبعينيّة فالموضوع هو الاساءة. واستنتج الشراح. لسنا هنا أمام تهدئة ذاك الذي غضب. مع شعور شخصي ضد المسيء. بل نزيح كل ما يمنع الشراكة مع الله. وتَبرز هذه النظرةُ خصوصًا حين نعرف أن الله يستطيع أن يهيّئ التقدمة (كما كان الأمر بالنسبة إلى ابراهيم، تك 22: 8، 13)، وهكذا تعني الكفّارةُ إزالة الخطيئة وسترها.
إن يسوع كفّر أمام الله عن خطايانا. وهذا في خط الآية السابقة حتى يعمل عمل يسوع عمل المتشفّع عنّا لدى الله. وتتواصل الصورة في هذه الآية (آ 2) حيث يدافع يسوع عن الخطأة أمام الديّان ويطلب لهم الغفران. هو لا يطلب أن يُعلَنوا أبرياء، وكأنهم لم يخطأوا بل أن يقدّم المغفرة لمن اعترفوا بخطاياهم. بما أن الغفران يُمنح، فهناك عمل تجاه الخطيئة بحيث يرضى الله عن الخاطئ. هذا يعني أن لهذا العمل مفعولين: تكفير عن الخطايا وإرضاء الله.
والذبيحة الكفّارة هي موت المسيح. وهذا واضح ممّا في 1: 7 مع دمّ المسيح الذي يطهّر من الخطايا. فالدم استعارة تشير إلى الموت الذبائحيّ.
هنا نتوقّف عند نقطتين الأولى، يسوع هو الشفيع والمحامي، وهو الكفّارة، ما به يدافع عن الخطأة، يفعله من أجلهم. يطلب الغفران ويغفر لهم. إنه المدافع البار عنهم. الثانية، تبدو لغة الشفاعة والذبيحة وكأنها تجعل يسوع ضدّ الله، وكأن الله يحتاج إلى شخص ثالث كي يغفر لنا. ذاك هو ضعف الصورة المستعملة هنا: مكان الله لا يريد أن يغفر لهذا يُطلب منه! كلا ثم كلا. فالله هو الغفران الدائم. وهو يغفر لنا باسم يسوع المسيح. في 1: 9 عرفنا أن الله أمين وبار (وعادل) وهو يغفر. وفي 4: 9- 10 نعرف أن الله أرسل ابنه كفّارة عن خطايانا. فالله نفسه هو الذي يعطي وسيلة الغفران ويدفع "الثمن" إن الله يغفر لنا حين يرسل ابنه كي يكون مخلّصنا.
والذبيحة لا تنحصر في خطايا قرّاء الرسالة، بل تصل إلى البشريّة كلها. هذا يعني أن البشريّة كلها تحتاج إليها. كما يعني أن لا حدود لفاعليّة موت يسوع في الزمان ولا في المكان.
ج- نعمل بوصاياه (1: 3)
يتحدّث النصّ هنا عن الوصايا، وصايا الله أو وصايا يسوع. في النهاية، الواقع هو هو. قد تكون أمام وصايا يسوع إذا عدنا إلى الوراء (رج يو 14: 15، 21؛ 15: 10، 12. من يحبّني يحفظ وصاياي). وأمام وصايا الله في خط 1يو 3: 22- 24؛ 5: 2- 3 هذا يعني أننا نعرف الله حين نحفظ وصاياه. ما هي هذه المعرفة؟ ما هي هذه الوصايا؟ سنعود في آ 3- 11 إلى العلاقة بين المعرفة والعمل، بين معرفة الله والعمل البشريّ.
حرفيا: نعرف (على يقين) أننا نعرفه. هناك شرط يؤكّد أننا نعرف الله: نحفظ وصاياه لسنا هنا أمام أساليب لمعرفة الله، بل أمام المعيار الصادق لكل معرفة دينيّة. حفظُ الوصايا هي عبارة يوحناويّة، ولكننا نجدها أيضًا في مت 19: 17؛ 1 تم 6: 14؛ رؤ 12: 7؛ 14: 2). تعني حفْظ ثلاثة أمور: حفظ في الذاكرة. حفظ ومدافعة ضدّ الهراطقة. العمل بهذه الوصايا. هنا نحفظ في الذاكرة الوصايا، ونعمل بها.
ويتابع الكاتب الردّ على معارضيه (آ4: رج آ9)، ويبيّن لهم أن كلامهم لا يتوافق مع طريقة حياة مطلوبة. ولا يعود الكلام على الشركة مع الله، بل المعرفة لله. كان كلام عن حاجز (الخطيئة) يمنع الشركة مع الله، وهنا يتكلّم يوحنا عن وصايا يجب على المسيحيّين أن يعملوا بها.
إن الفكرة عن معرفة الله، تظهر هنا للمرة (في 2 يو 1، حديث عن معرفة الحق) ولكن ما يخفف فجاءة هذه الفكرة، هو أن عودة الكاتب إلى الشركة مع الله (1: 3، 6، 7) هي طريقة أخرى للتعبير عن الواقع عينه. ومع ذلك، قارتباط الفكرة بها سبق ليس بديهيًا. قد نجد المفتاح في آ 4 حيث نسمع قولاً آخر لمعارضي يوحنا، كما في ف 1. إذا كان الأمر هكذا، يكون يوحنا أنتقل من قول خصومه بأنهم يعيشون في النور (1: 6) إلى قول آخر يعتبرون فيه أنهم يعرفون الله (فما هي هذه المعرفة التي لا يقابلها حفظ الوصايا؟)
معرفة الله موضوع معروف في الديانات القديمة، وفي الفكر الغنوصي (غنوسيس: معرفة) الذي بدأت جذوره في القرن الاول وازدهر بشكل خاص في القرن الثاني. المعرفة في هذه الإطار هي خبرة روحيّة ورؤية مباشرة للاله. أو سطر تحمل الخلاص للمتدرِّجين. وفي أي حال، مثل هذه المعرفة لا تؤثر على السلوك الأخلاقيّ هذا يعني أن قرّاء يوحنا لم يهتّموا بالخطيئة والشرّ، ولم يعتبروا أن الخطيئة تشكل حاجزًا لشركتنا مع الله.
من النادر في العهد القديم أن نجد فكرة تقول إن الانسان عرف الله، وإن كان هذا ما تمنّاه الأنبياء (إر 31: 34؛ رج عب 8: 11). بل إن الانبياء يشتكون مرارًا، لأن الشعب لم يعرف الله (أي 36: 12؛ إر 9: 6؛ أش 1: 3؛ 5: 13؛ 1صم 2: 12)، وهو يحتاج إلى من يقول لهم لكي يعرفه (1 أخ 28: 9؛ إر 9: 24). إن علامة معرفة الله هي الطاعة لوصاياه ومعرفة طريق الحياة التي ينتظرها من شعبه. مثلاً، حين يشتكي هوشع من غياب معرفة الله في الأرض، فهو يتبع شكواه (لا رحمة؛ لا معرفة) حالاً فيقول: "بل اللعنة والغدر والقتل والسرقة والفسق" (هو 4: 1- 2). إذن، الطاعة لله تعني الطاعة لما يطلب منّا.
حين يتحدّث يوحنا عن معرفة الله، يستعمل صيغة الكامل: هذا يجعلنا في الماضي الذي ما زالت نتائجه حاضرة. نحن ماضون في معرفته. أي معرفة الله الآب (2: 4، 13، 14؛ 3: 6، 16؛ 4: 16: 2 يو 1). هناك من قال "معرفة يسوع" بالنظر إلى ما سبق. في الواقع، الطاعة للآب هي الطاعة للابن والضمير يبقى ملتبسًا. ولكن كيف يعرف انسان أنه يعرف الله؟ ذاك هو السؤال الذي يفكّر فيه يوحنا، ويحاول أن يردّ عليه. ما الذي يؤّكد لنا أن خبرتنا الدينية حقيقيّة وليست كاذبة؟ البرهان هو حفظ الوصايا. هذا هو الشرط الذي لا يمكن أن نتهرّب منه. فإن كنا لا نحفظ الوصايا، هذا يعني أننا لا نعرف الله. وهذه أيضًا هي العلامة بأننا نعرف الله وهكذا نلتقي في ما يمكن أن يقال عن محبتنا لله.
في 2 يو 4- 6، يُعبَّر عن محبّة الله بحفظ الوصايا. فحفظُ الوصايا هو نتيجة حبّ الله (الثمرة في الشجرة) والبرهان الملموس عن وجود هذا الحبّ. لا يفصّل يوحنا كلامه، وإن كان واضحًا أن الوصيّة الأول هي أن يحبّ بعضنا بعضًا (آ 10- 11). حفظ الوصايا علامة لمعرفة الله، والخطأ علامة لجهل الله.
د- من عرف عمل (2: 4)
"من قال". يورد يوحنا أيضًا كلام خصومه. يعتبرون أنهم يعرفون الله. هم فهماء ويُقنعون الناس بمعرفتهم. ولكنهم شوّهوا نظرتهم بالطريقة التي يمارسون وصايا الله. فالذي لا تتوافق أعماله مع اقواله، لا يستطيع أن يقول إنه في الحقّ. نجد أن الحقّ ليس فقط توافقًا بين القول والعمل. بل هو وحي للواقع كما يُعطي للبشر. هو وحي لواقع الله الذي لا يمكن أن يكذب. اذن، حين يمارس الانسان الحق، يشارك في واقع الله، في حقيقة الله. والانسان الذي تتوافق فيه معرفة الله وحفظ الوصايا. يكون فيه حقّ الله.
تبدو آ 4 نتيجة 3: إذا كان حفظ الوصايا العلامة لمعرفة الله الحقّة، فالذي يؤكّد أنه عرف الله ويتجاوز الوصايا، هو كاذب. إن فعل قال (ايبومن) هو اعلان وتأكيد وتعليم. ولكنه يرتبط بالجماعة (5: 16؛ 2 يو 10). يجعلنا الكاتب نشعر أنه سمع هذه الملاحظات.
في آ 3، قال الكاتب: إذا عملنا. وفي آ 4، اتخذ الوجهة السلبيّة: ما عملنا. هؤلاء الذين اعتبروا أنهم يشاركون الله، يقولون الآن إنهم يعرفون الله. ومع ذلك، فهم لا يبالون بالوصايا. قولهم كاذب، والحق ليس فيهم (1: 8).1
"أعرفه" (اغنوكا، في اليونانيّة). هي صيغة الكامل بمعنى الحاضر الذي يرتبط بخبرة دينيّة سابقة. عرف الضالّ الله، بعد أن نال هذه المعرفة في يوم من الأيام (3: 16؛ 2: 1). ولكن هذا العارف يعيش في الكذب. يعيش في الوهم الدينيي. ليس هو في الحقّ الذي نجده عمليًا في التعليم اليوحناويّ حول حقّ الله كما أوحي في المسيح (يو 14: 26). ليس الحقّ فيه. أي الحقّ لا يمتلكه. لم يدخل فيه كأنه شخص حيّ.
هـ- من عمل شارك في المحبّة (2: 5)
إن هذه المشاركة تدلّ على حضور كلمة الله فينا (1: 10)، مهما حاول الكذب أن يفعل وحين نحفظ الكلمة التي أعطانا الله، ندلّ على أننا امتلأنا من حبّ الله. فالشركة مع الله لا تتمّ خارج الانسان. والممارسة المسيحيّة الصادقة تعني أن حقّ الله ولج حقّ الانسان بحبّه. فمن أتمّ الحقّ شارك في حبّ الله.
تبدأ آ 5 مع "دي" (أما). كان حديث عن المعرفة الكاذبة. والآن نقرأ حديثًا عن المعرفة الحقة. ولكن كان كلام عن معرفة الله، وها هو كلام عن محبته. كان كلام عن وصايا نحفظها. وها هو كلام عن كلمة الله. كان كلام الحق، وها هو كلام عن "نكون في الله". لقد جعل الكاتب ضد المعرفة (عنوسيس) الكاذبة حبّ (حبنا) الله، كلمة الله، كوننا في الله. "حقًا" (اليتوس). لا تظهر إلاّ هنا في 1 يو. فهي تعني هجومًا كما في يو. نكون في الله حين نعمل عمل الله. وإلاّ، لسنا في الله.
يؤكّد الكاتب لقرّائه الذين يحفظون الوصايا أنهم يعرفون الله، ويحثّ الذين تأثروا بالمعلميّن الكذبة، على أن يتبعوا تعليمه. ينطلق من الشرط الذي وجدناه في آ 3 (إذا عملنا)، ويتكلّم عن جزاء الذي يعملون. ولكنه لا يتكلّم عن حفظ الوصايا، بل عن حفظ كلام الله (من ينكر أنه خطئ لا يحفظ هذا الكلام، 1: 10). إن هذه العبارة تذهب بنا أبعد من طاعة لوصايا الله، فتعلّمنا قبول مواعيده بثقة تامة. فمن يفعل هذا، لا تكون فقط حقيقة الله فيه، ولكن تكون محبّة الله كاملة فيه.
ما معنى محبّة الله؟ (1) محبّة الله للانسان (4: 9). (2) محبّة الانسان لله (2: 15؛ 5: 3). (3) طريقة الله في الحبّ. تفاسير ثلاثة ممكنة في الواقع. حبنا لله هو انعكاس لحبّ الله لنا وجواب على هذا الحبّ. وهكذا يكون حفظ كلام الله علامة بأن حبّ الله عمل فينا ملء عمله. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن المقابلة مع 2: 15 و5: 3 تجعلنا نظن أن يوحنا فكّر في محبتنا لله قبل الحديث عن محبّة الله التي تُنتج فينا مثلَ هذا الجواب. ونجد توازيا بين معرفة (معرفتنا) الله ومحبّة الله.
"اكتملت محبّة الله". يفكّر الكاتب في واقع يقابله بيطلان الذين يقولون: "أنا أحبّ الله" (4: 20). يجب أن يكون هذا الحبّ تامًا وناضجًا. فحين نقبل كلمة الله ونخضع لها، نصبح كاملين في الحبّ. وهذا ليس خاصًا بالنفوس الرفيعة فقط، كما قال البعض بل يالمسيحيين العاديين أيضاً. كما أن الانطلاقة تبدأ في بساطة وتنمو شيئًا فشيئًا، وهي تستند إلى مواعيد الله.
وتنتهي الآية مع "نعرف أننا في الله". هل نحن تجاه عودة إلى الوراء أو نظرة إلى الأمام؟ إذا كان الخيار الثاني، البرهان الذي به نعرف أننا فيه نجده في آ 6، ويمكن في أن نسير كما سار يسوع. أما إذا كان الخيار الأول، فالبرهان يدلّ إن كنا حفظنا كلمته أو اختبرنا ملء حبّه. في أي حال، ليس من اختلاف جوهريّ بين الخيارين. إن عدنا إلى الوراء، تكون آ 6 استعادة كما في آ 5 أ التي يعبِّر عنها النصّ بشكل تحريض. وإن تطلّعنا إلى الأمام، تضمّنت آ5أ مبدأ ما سيُبرهن عنه في آ5 ب- 6. وفي أي حال، ليس من فرق حقيقيّ بين حفظ كلام الله والسير كما يسوع سار.
واستعمل يوحنا لفظًا يعبِّر عن وضع المسيحي الحقيقيّ. هو "فيه"، أي في الله، أي مخفيّ فيه. يعيش فيه. ثابت فيه (آ6). يتحدّث يوحنا مرارًا عن المسيحيّ الذي يثبت في المسيح (يو 15: 4- 10؛ رج 1 يو 2: 27- 28؛ 3: 6) أو عن يسوع الذي يثبت فيهم: فالمؤمنون هم في الابن والابن هو في المؤمنين (يو 14: 20، 23؛ 17: 21، 23، 26؛ 1 يو 5: 20). كما يتحدّث عن الآب الذي هو في الؤمنين 1 يو 14: 23؛ 1 يو 4: 4) وعن المؤمنين الذين هم في الآب (يو 17: 20؛ 1 يو 5: 20). بمثل هذه العبارات يدلّ يوحنا على الاتحاد الوثيق بين المؤمنين من جهة، والآب والابن من جهة ثانية. كما يتكلّم بالطريقة عينها من العلاقة بين الآب والابن 1 يو 14: 10، 11، 20؛ 17: 21، 23).
و- سيرة المسيح (2: 6)
ينضمّن هذا الاتحاد بالله أن يسير المسيحيّ كما سار المسيح، وأن يتبع طريق الحبّ. رج أف 5: 2: "سيروا في المحبّة سيرة المسيح". ولكن لسنا هنا أمام تماثل تام مع المسيح، بل مقابلة فيها التقارب والتباعد. فالتماثل التام مستحيل، لأن أحدًا لا يستطيع أن يحبّ كما أحبّ المسيح. فليس حب الانسان هو الذي خلّص العالم، بل حبّ المسيح. ومع ذلك، فالانسان يستطيع أن يشارك المسيح في حبّه. وتصل هذه المشاركة إلى ذروتها مع المسيحي الذي يقيم في الله. هذا يعني أن المسيح هو النموذج لتحقيق هذا الحبّ. ويعني أيضًا أن حبّ المسيحي وحب المسيح يعودان إلى نبع واحد هو محبّة الله.
"من قال". يقابل "إذا قال"، نجد فعل "مانو"، ثبت أقام. يدر 19 مرة في 1 يو، مرتين في 2 يو، 30 مرة في يو. استعمله المضلّون بجانب فعل عرف ليعلنوا تقدّمهم الروحيّ. في القسم الثاني من الآية، ننتقل من غنوصيّة مركّزة على الله (على اللاهوت)، إلى خلقيّة مركّزة على المسيح. نسير في النور (1: 7). نحفظ الوصايا (2: 3- 4). نحفظ كلامه (آ 5). كل هذا يتم حين نقيم في الله، ونسلك كما سلك المسيح. وهكذا تعود 1 يو إلى وجه يسوع التاريخيّ ومصيره. "مثل"، كما، "كاتوس". بما أن يسوع سار هكذا، نحن نسير مثله. رج يو 13: 15. وهذا أمر واجب (اوفايلاي). بل هو امتداد لحياتنا في الله.
نكون في الله. نعيش في الله، وهذا يعني علاقة مستمرّة، ويحتاج إلى مثابرة من قبَل الانسان. يتطلّع يوحنا إلى أشخاص يعلنون أنهم ينعمون بهذه العلاقة. سواء كان القائلون من الجماعة أو من المعلّمين الكذبة، يبقى البرهان حاضرًا: نسلك كما سلك المسيح (إكاينوس). ذلك الذي هو وحده. وما نلاحظ هو أن حياة يسوع على الأرض تقدَّم لنا كمثال (يو13: 15؛ 1 بط 2: 21) سار وهو يعمل الخير (أع 10: 38). فهل تنتج خبرتنا الدينية انعكاسًا لحياة يسوع في حياتنا اليوميّة؟ فإن كان الجواب بالنفي، كانت خبرتنا كاذبة، وخدعنا أنفسنا.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
ونحن نحيل إلى الشرّ، ولا نقدر بقوانا أن نعمل الخير. فهل نستطيع بقدرتنا أن تقف بوجه هذه السيطرة لنخضع للعدوّ الذي هو أقوى منا؟ فلماذا المقاومة؟ رفض يوحنا هذا التخلّي عن القتال. إذا كان الله الحياة والنور، أتراه أعدّنا للخضوع للشر؟ كلا. "لئلا تخطأوا" نحن هنا أمام أمر. يجب أن لا تخطأوا. فالنصر ممكن. وهناك مخرج يقودنا إلى الفرح والسعادة في حياة تمجّد الله.
ولكن قد نخطأ فما العمل؟ لنا شفيع عند الآب. هو يقف بجانبنا فيجعلنا بجانب الله. يساعدنا لكي نرضي الله، وهو الذي كفّر عن خطايانا. وعن خطايا العالم.
نحن نعرف أننا نعرف. في الواقع، نحن لا نعرف أبعاد حياة الله فينا. فهذه المعرفة يجب أن تظهر في العمل بحسب الوصايا. ووصايا يسوع هي كلمته، في عطاؤه للكنيسة وهذا الحفظ يقود إلى محبّة المؤمن للرب، وهي محبّة ترتبط بمحبة الله الذي أحبّنا أولاً وأرسل ابنه كفّارة عن خطايانا.