الله نور
1: 5- 10
ظنّ بعضهم أن آ 5 - 10 جزء من مطلع الرسالة (آ 1- 4)، لأننا نجد فيها ذات المواضيع: المناداة بما سمعنا (آ 5). الشركة مع يسوع ومع بعضنا بعضًا (آ 6- 7). الكلمة، كلمة يسوع أو كلمة الله (آ 10). في الواقع، تبدو هذه الآيات مستقلة. وهي تتّخذ منحى هجوميّاً. وتبدأ فتقول لنا: الله نور. ولكنها لا توضح ما يعنيه هذا اللفظ. ثم نقرأ ثلاثة تحذيرات: من الذين يعتبرون أنهم في شركة مع الله ويسيرون في الظلمة (آ 6- 7). من الذين يزعمون أنهم بلا خطيئة (آ 8- 9). من الذين يقولون: ما خطئنا (آ 10). يقولون (آيبومان). يزعمون. يعلّمون. لا يحاول الكاتب أن يصحّح سلوكهم وما فيه من ضلال، بل يكشف ما في كلامهم من كذب (آ 8).
1- دراسة كتابيّة
النور والظلمة. إذا قلنا. دمه يطهّرنا. طريق مسدودة. غفران الخطايا. تلك هي المواضيع التي نقرأها في 1: 5- 10.
أ- النور والظلمة (1: 5)
ليس تعليم يوحنا بالتعليم الجديد. فهو يأتي من يسوع نفسه، ويعلن أن الله نور. فيسوع هو نور العالم (يو 1: 4- 5، 7- 9؛ 8: 12؛ 9: 5)، لأنه جاء من الله. هو نور ولا ظلمة البتّة فيه. نور الله هو محبّة الله (1يو 4: 8، 16). والظلمة هي ما يعارض محبّة الله. هي ما يدلّ على أن الرباط مع الحبّ قد انقطع، وأن الانسان يريد أن يعيش بدون الله.
بعد أن حدّثنا المطلع (1: 1- 4) عن شكوك حول وحي الله الآب التاريخيّ في ابنه يسوع المسيح، جاءت آ 5- 10 تدلّنا على الشراكة الحقّة مع الله ومع يسوع وعلى شروط العيش في هذه الشركة.
ويبدأ يوحنا برهانه بقول حول طبيعة الله يعود إلى يسوع. سمعناها (أكوو) منه (أب اوتو) لا شكّ في الضمير (هو). يعود إلى يسوع. فالرسول يعود إلى ما سمع. هذا هو مضمون التعليم حول الله. وصاحب هذا التعليم هو يسوع (يو 1: 18؛ 3: 32). وهكذا يؤسس تعليمه (خصوصًا بوجه الخصوم) على سلطة ما سمع من وحي الله التاريخيّ في يسوع.
الله نور. لا نجد هذا الوصف في تعليم يسوع كما يرد هنا. غير أن مجيء يسوع اعتبر وحيًا عن النور (مت 4: 16؛ لو 2: 32؛ يو 1: 4- 9؛ 3: 19- 21).. وحسب يو، يسمّي يسوعُ نفسه نور العالم (8: 12؛ 9: 5). ويحدّثنا مت 5: 14- 16 عن يسوع الذي يطلب من تلاميذه أن يكونوا نور العالم. كل هذا يتضمّن أن الله ذاته هو نور، وأن يسوع يجسّد نور الله للبشر. والحديث عن الله بهذه الصورة يقودنا إلى مدلول نجده في ديانات عديدة.
غير أن فكر يوحنا ينطلق بشكل خاص من العهد القديم حيث النور يرمز إلى الله، ولا سيّما حين يكشف عن نفسه من خلال النار والنور. فقد قيل أن الله ارتدى النور والمجد (مز 104: 2)، أنه نور لا يتحمّله الانسان (1 تم 6: 16). وهناك لفظان يرافقان الله الذي هو نور الاول: الوحي والخلاص (مز 27: 1؛ 36: 9؛ أش 49: 6). فالظلمة تحمل النور إلى الأماكن المظلمة، وتشير إلى الطريق الذي فيه يكشف الله عن نفسه للبشر فيدلّهم كيف يعيشون. واللفظ الثاني: القداسة. فالنور يرمز إلى كمال الله. والمقابلة بين الخبر والشر من جهة، والنور والظلمة من جهة أخرى، أمر معروف في العالم القديم: في العالم الفارسي. في التيارات الغنوصيّة. في الفكر اليهوديّ. ويُطلب من جماعة قمران أن يحبّوا كلَّ أبناء النور ويبغضوا كلَّ أبناء الظلمة (نظام الجماعة 1: 9- 10).
قدّم الكاتب هذا الرمز حين أعلن فكرته الأساسيّة: "الله نور". وأبرز الفكرة حين كرّرها في شكل سلبيّ: "لا ظلام فيه". فالتعارض بين الله والظلمة يجد هنا تعبيرًا لافتًا. هذا لا يعني أن الله لم يخلق الظلمة (فيوحنا لا يدرس أصل الظلمة)، بل أن الحياة في الظلمة لا تتوافق مع الشركة مع الله، هذا يعني أن الكاتب يتحدّث عن النور والظلمة في منظور أخلاقيّ. الله صالح. ولا وجود للشرّ بقربه.
ب- إذا قلنا (1: 6)
ما هي النتائج بالنسبة إلى الذي عرف النور؟ فتأتي آيات مبنيّة مع الاداة "إذا" التي ترد خمس مرات. إذا قلنا... أما إذا قلنا... لا يقف الكاتب فقط على مستوى البلاغة، بل يتطلّع إلى أناس يعتبرون نفوسهم في شركة مع الله، وسلوكُهم يعارض مقالهم. ما يعملونه لا يتوافق مع ما يقولونه. إن الكذب يختفي في الظلمة. والشركة مع الله تعني أننا لا نتلمّس طريقنا في الظلمة، بل نحيا في النور الآتي من عند الله. هناك طريقان: طريق الحق وطريق الكذب. ونحن نختار (رج أف 5: 8- 13). الأول يقود إلى الله، إلى النور. والثاني يُبعد الانسان عن الله، ويتيه في الظلمة.
الله نور. بعد هذا الطرح الأساسي، يضعنا الكاتب أمام مواقف تتعارض مع هذا الطرح. فينطلق من ثلاثة أقوال تتكرّر في الكنيسة التي يكتب إليها الرسول، فتضع البلبلة بين المؤمنين. نحن نشاركه (لنا شركة معه). نحن بلا خطيئة. نحن ما خطئنا. ويردّ الكاتب في كل حالة، فيقابل القول مع طريقة حياة الناس اليوميّة: هو يدلّ على أن ما ينادون به خطأ. عندئذ، يبيّن يوحنا في كل حالة كيف يجب أن يكون الانسان الذي يريد شركة مع الله.
يصدر القول الأول عن أناس يؤكّدون شركتهم مع الله. علاقتُهم حقيقيّة مع الله، ولكنهم لا يقبلون تعليم الرسول. وجاء جواب الرسالة: ما زالوا عائشين في الظلمة هم يعيشون في هذا العالم الذي يتعارض مع الله (2: 15- 17) ويتميّز بالظلمة. من يسير في النور لا يخاف أن يعثر، ولا أن يسقط. فالعيش في النور يتضمّن حياة تتوافق مع ذاك الذي يقيم في النور (لا في الظلمة)، حياة محرَّرة من الخطيئة. فالعيش في الظلام يعني عيشًا لا ينعم بنور الله وتوجيهه، بل يقيم في الخطيئة.
ما يريد يوحنا أن يقوله هو أنه لا يمكن أن تكون لنا شركة مع الله ونعيش في الخطيئة، لأن الشركة مع الله تعني مسيرة في النور. أما العيش في الخطيئة فتعني مسيرة في الظلمة. لا يمكن أن يقول الشعب: نحن نشارك الله وفي الوقت عينه نسلك في الظلمة. فنحن أمام تعارض لا يقبل به أحد، كما لا يقبل به يوحنا. بل إن الرسول يلفت الانتباه إلى طريقة حياتهم التي تدلّ على حياة في الظلام.
مثل هؤلاء الناس يغشّون نفوسهم. يعلنون أن لهم شركة مع الله، الذي هو النور، بينما هم ظلمة. يتحدّثون عن خبرة مع الله وهي خبرة مع الخطيئة. هذا يعني أنهم لا يضعون الحقّ موضع العمل. ففي 2 يو، الحق هو واقع الله الأخير كما أوحي في يسوع وفي البلاغ المسيحيّ. وهذا الواقع يرتبط بالعالم الخلقيّ. إن ممارسة الحقّ تعني حياة حسب الطريق التي أوصى بها الله، حياة في عالم الله (الذي هو نور). فالذين يمارسون الخطيئة، يدلّون على أنهم ليسوا من الله، وبالتالي لا شركة لهم مع الله.
ج- دمه يطهّرنا (1: 7)
من يدخل في طريق النور ليس بنور. فالنور حاضر هنا قبل الانسان، لأنه يأتي من الله الذي هو نور. ولكننا نشارك في النور مع الذين يسيرون في طريق نسير فيه. أما إذا سلكنا في الظلام. أبعدنا نفوسنا من حبّ الله. وتصبح شركتنا مع الآخرين وهمًا وسرابًا. وبما أن المشاركة مع المسيحيين تتأسّس على الشركة مع الله، فهذا الانقطاع يتضمّن خسران عمل الخلاص والمصالحة الذي تمّ بموت المسيح على الصليب. فالذي يعيش في النور ويتصرّف كما يتصرّف أبناء النور، يشارك في دم المسيح "الذي يطهّرنا من كل خطيئة".
هنا يصل الكاتب إلى تعارض بين عيش في النور وعيش في الظلام، إلى جواب حول وحي الحقّ الذي يبيّن لنا كيف يجب أن نعيش. العيش في النور هو مجيء إلى عالم نجد فيه الله بالذات. نحن هنا أمام استعارة في وجهين: الله هو نور. الله هو في النور. ينتج عن هذا أن الذين يعيشون في النور يشاركون الله. والعيش بحسب نور الله يجعل الانسان في شركة مع الله. ولكن ليس هذا ما يقوله الكاتب. فقد سبق له وكتب أن هدفه أن يتشارك قرّاءه معه ومع فريقه الرسولي. وهو الآن يستعمل صيغة التكلّم الجمع (نحن، كما يفعل الواعظ) الذي يتضمّن الجماعة والكاتب والقرّاء، فيعلن أن السلوك في النور يجعلنا نشارك بعضنا مع بعض وبالتالي نتشارك مع كل جماعة شعب الله.
أورد يوحنا قول المعلّمين الكذبة وردّ عليه: هم يفتخرون بشركة مع الله ويهملون الشركة مع البشر. هذا مستحيل. فالذي انقطع من الشركة مع سائر المسيحيين، لا يستطيع أن تكون له شركة مع الله. ولكن إن استعدّ لأن يحيا بنور الله، كانت له شركة مع المسيحيين ومع الله ذاته.
مثل هذا الانسان يصبح واعيًا لخطيئته، فيظهر له في هذا النور ما يفصله عن الله. فما العمل؟ كان قد انتقل من النور إلى الظلمة. وعرف أن أعماله كانت شريرة. أما الآن، فلا يريدها أن تظهر بعد. فدم المسيح ابن الله طهّره من الخطيئة. "الدم" يدلّ على طريقة رمزيّة بها نتكلّم عن موت يسوع. في العهد القديم، كان الدم نتيجة موت الضحيّة، وكان يُرشّ على مقدّمها الذي ينعم بنتائجها. ونتيجة موت المسيح هي تطهيرنا من خطايانا. غفران خطايانا. هكذا لا نعود أشخاص حُكم عليهم في نظر الله. ومع أننا واعون لخطايانا، إلاّ أن هذا لا يمنعنا من الشركة مع الله، لأن الله يبعد عنا معاصينا بُعد المشرق عن المغرب (مز 103: 12).
د- طريق مسدودة (1: 8)
الخاطئ انسان يسلك في الظلام ويعيش حسب هواه. الخطيئة طريق. وهناك من يسير فيها ويعلن أن الخطيئة لم تلامسه. هكذا نعود إلى آ 6: يعتبرون أنهم في شركة مع الله ويسيرون في الظلمة. هذا الموقف خطير في جماعة مسيحيّة، لأنها تبدو وكأنها تنكر ضرورة الخلاص، وبالتالي صدق كلمة الله. إذا كان الانسان يظنّ أنه يقدر وحده أن يحيا بلا خطيئة فموت المسيح يبدو بلا فائدة. وهكذا نكون في طريق مسدودة تشبه الطريق التي أوردها بولس في حديثه عن الرباط بين قيامة المسيح وقيامتنا.
في آ 6، اتّهم الكاتب معارضيه: يعتبرون أن لهم شركة مع الله، مع أنهم يسلكون في الظلمة، يعيشون في الخطيئة. فجاء جوابهم ردًا على هذا الاتهام وإنكارًا له. "نحن بلا خطيئة". هم ما احتاجوا إلى تطهير من خطاياهم، لأن لا خطيئة عندهم. فما يعتبره يوحنا خطيئة لا يعتبرونه هم خطيئة.
إن يوحنا متيقّن أن هؤلاء خطأة. والجواب: إنهم يخدعون أنفسهم، والحقّ ليس فيهم. هذا لا يعني فقط أنهم يكذبون، بل أنهم لا يشاركون في حياة الله وإن نادوا عكس ذلك. إن اعترفنا بخطايانا كان الحقّ فينا. وإلاّ، لم يكن الحقّ فينا. فإن لم نعترف بخطيئتنا فلا تُغفر. فمن أنكر خطيئته، انقطع عن المغفرة وبالتالي عن قدرة يسوع بأن يحمل الخلاص. خاف يوحنا من هؤلاء المعلّمين الكذبة، وخاف على الذين يتبعونهم بعد أن يتركوا الكنيسة، فينقطعوا عن الشركة مع الله. ولكن ستكون مفارقة نعود إليها فيما بعد، حين تقول (يو 3: 6، 9؛ 5: 18) إن المسيحيّ لا يخطأ، ولا يمكنه أن يخطأ.
هـ- غفران الخطايا (1: 9- 10)
هذا الموقف الرافض للخطيئة، يجد ما يقابله في آ 9- 10: إذا اعترفنا بخطايانا. لا يحتاج المسيحي أن يتعلّق بالفراغ، فأمانة الله وبره (أو عدالته) تكفيانه، وهما تظهران في غفران الخطايا، فتدلاّن على الطريقة التي بها يردّ الله على لا أمانتنا ولا برّنا. ولكن الشرط هو هو: يجب أن نقر بضلالنا وجهالاتنا. فالذي يقيم في النور يعرف أن الظلمة تحيط به وتهاجمه لتمنع النور عنه.
في آ 9، كما في آ 7، يقدّم الكاتب الموقف المعاكس. فبدلاً من أن نقول نحن بلا خطيئة، علينا أن نعترف بخطايانا. تأتي الجملة في صيغة الشرط، فهي في الواقع أمر وفرض: علينا أن نعترف بخطايانا. والاعتراف بخطايانا لا يعني أننا خطأة، بل نجعل خطايانا أمام الله ونطلب المغفرة. إن فعلنا هذا، نتأكّد من المغفرة والتطهير على أساس أن الله أمين وبارّ (تث 32: 4؛ رج روم 3: 25؛ عب 10: 23) وهو يغفر فأمانة الله ترتبط بوعده لشعبه على ما قاله لشعبه: "من مثلك ينسى (يغفر) ذنوبنا، ويعفو عن كل معاصينا، نحن بقيّة ميراثك؟ فأنت يا ربّ تحبّ الرحمة، ولا تحفظ إلى الأبد غضبك. الربّ يرجع ويرحمنا، ويستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا. أظهر ليعقوب أمانتك، ولابراهيم رحمتك يا ربّ، كما أقسمت لآبائنا منذ أيام القدم" (مي 7: 18- 20).
وعدلُ الله يقوم في استقامة عمله. وغفرانه لا يعارض عدله. فغفرانه وعدله واحد. ووصف عمل الله هو امتداد لما في آ 7. وفكرة التطهير من الخطايا تجد امتدادًا لها في عبارَتي غفران الخطايا والتنقية من اللابرّ. تُعتبر الخطيئة ما يجعلنا مذنبين في نظر الله وبالتالي محتاجين إلى غفرانه. ونشير إلى أن التطهير يدلّ على نجاة من عقاب ومن قوّة الخطيئة في قلب الانسان. التطهير هو ابتعاد عن نتائج الخطيئة، إمّا بتجنب فعل الخطيئة (2كور 7: 1؛ يع 4: 8) وإما بغفران خطايا سبق وارتكبناها (أف 5: 26؛ عب 1: 3؛ 10: 2).
ونصل إلى آ 10. للمرة الثالثة يورد يوحنا مقال الخصوم وأعضاء الكنيسة الذين ضلّوا بضلالهم. ماذا يقولون؟ "ما خطئنا". رج آ 8: "نحن بلا خطيئة". ربما لم تكن هناك خطيئة الآن. ولكن هناك خطيئة في الماضي. وما اكتفى يوحنا بالقول إنهم يخدعون أنفسهم، بل هم يجعلون الله كاذبًا حين ينكرون حكمه على البشر بأنهم خطأة (رج روم 3: 4). كل هذا يعني أن تعليم الله الذي وصل الينا عبر التقليد المسيحيّ لم يؤثّر في معتقدهم ولا في سلوكهم.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
وهذه هي البشرى. وهذا هو البلاغ والتعليم. الله نور. أي روح محض وفهم كامل. هو الخير السامي الذي لا يخالطه شرّ ولا مزيج. هو اللامحدود الذي لا نقدر أن ندركه. هو الحاضر في كل مكان، والثابت التي لا يتبدّل. تتحدث هذه العبارة عن ملء جوهره الالهي، وعن قداسة طبيعة الله ونقائها. وهناك من قابل وجود الله بالشمس التي هي مجيدة ونقيّة.
ولكن كل هذا يبقينا على مستوى البشر، ولا يصل بنا إلى الانجيل، إلى البشرى والخبر الطيّب. فيوحنا لا يبحث عن الحقّ. هو يتقبّله. هو ينقل حقيقة لم تأت من عنده. ويفسّر واقعًا جاء من آخر هو يسوع المسيح.
ففي الكتاب المقدس هناك الاله الواحد. الاله الذي لأجلنا. الذي يحطّم جميع الحواجز التي تعزله في أعلى سمائه، ليدخل في تاريخ البشر وحياتهم. هذا ما تعنيه عبارة: الله نور. النور يضيء. ينشر أشعته. يمتد في ساحات يسيطر عليها الظلام فيطرده. وستقول الرسالة: "النور الحقّ يضيء" (2: 8). هكذا يصوّر الله الذي يريد أن يتجلّى للبشر. لا يقول يوحنا ما هو الله في ذاته، بل ما هو من أجلنا، وما يفعل من أجل خلاصنا.
وبما أن الله نور، فلا يمكن أن ننتظر الانسان إلاّ بالنسبة إلى هذا النور. فمن أراد أن ينقطع عن النور، أن يستقلّ عن النور وينغلق على نفسه، يجعل نفسه في الظلمة. أجل، لا يستطيع الانسان أن يحيا لله، إذا ظلّ يخدع نفسه. فالله حين يظهر لنا، يدلّنا عل هوّيتنا الحقيقيّة. والانسان الذي ينعزل عن الله، لا يعرف من هو. يجهل هوّيته.
في هذه الحال، لا نكتفي بأن نخدع أنفسنا، بل نجعل الله كاذبًا. وندمّر كلمته. كيف يمكننا أن نقول إننا بلا خطيئة، إننا ما خطئنا؟ وبعد ذلك، ما هو دور دم يسوع؟ عند ذاك نعتبر أننا نحمل الخلاص لنفوسنا، ولا ننتظر الخلاص بقدرة الله.
ما هو الردّ على مثل هذه الأقوال؟ دم المسيح. موته التكفيريّ. هكذا أعاد يوحنا (أو المدرسة اليوحناويّة) تفسير معطيات الايمان الأساسيّة تجاه واقع جديد يواجه المسيحيّين في العالم. وهو يعود إلى "النؤمن" الذي تتلوه الكنيسة. كما لا يتوقّف فقط عند مجيء ابن الله تاركًا موته على الصليب. فالتكفير عن الخطايا يرتبط بشخص يسوع الذي أرسله الآب وبموته وقيامته.
لقد جاءت الحياة، وعاشت حياة انسان. وماتت. وأضاء النور في وجود يسوع الذي أعلن للبشر أنه نور العالم. هذا الانسان النور قال للآتين أبيه في ليل الجسمانيّة مع سيوف وعصي: "هي ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53). راح يسوع إلى الصليب بإرادته، لأنه فهم خطورة حياتنا وما وصل إليه عصياننا في علاقتنا بالله. أخذ على عاتقه صكّ الحكم علينا. وكلام يوحنا لا ينحصر في الماضي. هو يستعمل صيغة الحاضر ليدلّ على أن ما أتمّه يسوع، أتمّه لأجلنا نحن أيضًا. من حيث إنه مات فقد مات مرة واحدة. ومن حيث إنه حيّ فهو حيّ إلى الأبد.
من أجل هذا يتحدّث المسيحيون عن الخطيئة. هم لا يكرزون بالخطيئة، بل بيسوع المسيح، وإذ يفعلون يعلنون ذاك الذي كشف لهم وضعهم وما فيه من بُعد عن الله. فاذا أرادوا أن يستفيدوا ممّا عمله لأجلهم يجب عليهم أن يعترفوا بخطاياهم، وأن يعيشوا الشركة الاخويّة. فمن اعترف بخطاياه، أدركه غفران الله وحوّله كما حوّل الخاطئة التي جاءت باكية إلى يسوع. غفر لها فعلّمها كيف تحبّ. وحين يغفر الرب خطايانا يعلّمنا ما هي المحبّة التي تصل بنا إلى شركة مع الله وشركة مع إخوتنا.