الذي كان من البدء

الذي كان من البدء
1: 1- 4
ونبدأ في البدء، في بداية تعود بنا إلى ما قبل التاريخ في خطّ مطلع الانجيل الرابع (يو 1: 1). عندها يكون الحديث عن المسيح. أو في بداية الكرازة بالانجيل. عندها يعود القارئ إلى التعليم المسيحي كما برز في أصوله. يعود إلى تعليم يسوع بما فيه من قديم وجديد.
آيات أربع تكوّن وحدة تامة. وتُشرف عليها عودة إلى ماض يرتبط بشهادة حاضرة وإعلان. استند الكاتب إلى ما كان، إلى ما سمع مع آخرين، إلى ما تجلّى من حياة الله في العالم. وبما أنه رأى وسمع، يحقّ له أن يتدخّل في حياة قرّائه، ليحمل إليهم البشارة، ويشدّد على الشركة التي تجمعهم به جمعًا يصل إلى الآب والابن.
1- دراسة كتابيّة
نتوقّف عند هذه الآيات الاربع: يسوع المسيح ابن الله. الحياة تجلّت. شركاء معنا. فرحنا كامل.
أ- يسوع المسيح ابن الله (1: 1)
دخل الكاتب منذ الآية الاولى في قلب الموضوع. هو ما قدّم نفسه. ولا أرسل تحيّته إلى جماعة يكتب إليها. وبما أن الخاتمة تنتهي فجأة دون السلامات المعهودة، اعتبر عدد من الشرّاح أن 1يو كرازة أو مقال لاهوتيّ. ولكن يبقى أن التقليد اعتبرها رسالة، ولهذا الاعتبار أسبابه. فمن الواضح أن هذا المقال يشير إلى وضع محدّد، كما يتوجّه إلى جماعة معروفة بدأ أساس الحياة المسيحيّة يتزعزع عندها. ولكننا لا نعرف اسم المرسل واسم المرسل إليه.
إذن، لم نجد في بداية هذا المقال ما يميّز الرسالة، كما هو الأمر في 2 يو و3يو. أراد الكاتب أن يتوجّه إلى مجموعة خاصة من القرّاء. وقد نستطيع أن نتعرّف إليه، لا سيّما وأنه ذاك الذي كتب 2 يو و3يو.
تتركّز الرسالة منذ البداية على شخص يسوع المسيح، ابن الله. لا يعود بنا الكاتب إلى فكرة مجرّدة، ولا إلى مبدأ إلهيّ، ولا إلى مخيّلة بشريّة. بل هو يعود بنا إلى كائن ملموس، كائن عاش انسانًا كسائر الناس. عاش وسط الناس. وتكلّم لغة الناس. والكاتب يعلن أنه التقى بذاك الانسان.
يبدأ كلام يوحنا (صاحب الرسالة) في شكل رفيع وصعب حقًا. ففي الأصل اليوناني، تؤلّف الآيات الثلاث الأولى مع نصف الآية الرابعة جملة واحدة. في جملة عاديّة، نجد الفاعل، ثم الفعل، وأخيرًا المفعول. هنا جعل الكاتب المفعول في البداية لكي يُبرزه. وجهلنا ننتظر الفاعل والفعل (نبشّركم). ويبدو المفعول في توازيات مع اسم الموصول، ويمتدّ في معترضة (آ 2) تصوّر أحد عناصر المفعول وفي النهاية، يكرّر يوحنا في آ 3 ما قاله في آ 1 قبل أن يصل إلى الفعل الرئيسي: نبشّركم.
والنتيجة هي أن هذه الافتتاحيّة دلّت على ذاك الذي أعلن وبُشِّر به، لا على نشاط ذاك الذي يبشّر. فقد توخّى الكاتب أن يذكّر قرّاءه بطابع التعليم المسيحي قبل أن يحدّثهم عن عمل البشارة.
فما هو هذا الموضوع؟ "ذاك الذي كان من البدء". نحن هنا في عودة إلى تك 1: 1 (في البدء خلق الله) ويو 1: 1 (في البدء كان الكلمة). سوف يذكر الكاتب في آ 3 "الكلمة" (لوغوس). غير أن الكاتب يسارع في تصويره كشخص سمعه هو وآخرون. هذا يعني أن "كلمة الحياة" هي منذ البدء مع الله، وأنها جاءت إلى البشر فسمعوها ورأوها. إن البلاغ الالهي وصل إلى البشر فاستطاعوا أن يسمعوه.
ويخطو الكاتب خطوة ثانية. فيضيف: "رأيناه بعيوننا". ما هذا البلاغ الذي نراه؟ وسوف يقول إنه لمسه بيديه. إذن، نحن ننتقل من كلمة سمعناها إلى من هو الكلمة يسوع المسيح. ومن بلاغ وصل إلينا إلى شخص حيّ هو الرب يسوع. تطلّع الكاتب إلى تعليم هو اعلان يسمعه البشر. وقد حُمل إل قرّائه فنعموا ببركاته بعد أن تقبّلوه. هذا التعليم بشَّر به يسوع نفسه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يصوَّر يسوع نفسه على أنه الكلمة الذي لدى الآب (يو 1: 1). فالتعليم يُصبح فيه شخصًا ملموسًا. فيسوع هو في الوقت عينه المنادي ببلاغ الله، وهو هذا البلاغ. قال بولس: "ننادي بالمسيح" (1كور 1: 23؛ رج 2كور 4: 5). فدلّ على أن التعليم يتماهى مع الشخص. وقالت عب 1: 1- 2: "كلّم الله آباءنا... بلسان الأنبياء... ولكنه في هذه الأيام الأخيرة كلّمنا بابنه...". وهكذا أبرز كاتب 1يو التماهي بين التعليم المسيحي ويسوع. اتّخذ التعليم سمة شخصيّة في شخص (في انسان) نستطيع أن نسمعه ونراه ونلمسه.
انتظرنا الفعل. ولكن ها إن الكاتب يُقحم عبارة سوف يتوسّع فيها في آ 2. "من كلمة الحياة". في شأن كلمة الحياة. قد تعود العبارة إلى ما قبل. ما رآه الكاتب وسمعه يعود إلى كلمة الحياة. وهذا ما ننادي به. وهناك رأي آخر يعتبر أننا أمام مفعول آخر لفعل نادى، بشّر. ولكننا نأخذ بالخيار الأول.
لفظ "الحياة" يدلّ على خبرة روحيّة هي موضوع شوق روحي. والله هو الذي يعطيها. فالكاتب يرى أن الانسان العادي يمتلك حياة الجسد، ولكن تنقصه حياة النفس. فمن الوجهة الروحيّة هو مائت (3: 14؛ يو 5: 24). أما يسوع فهو ينبوع الحياة الروحيّة. والذين يؤمنون به يمرّون في خبرة روحيّة تشبه ولادة الانسان الذي ينال عطيّة الحياة (يو 3: 16). توصف هذه الحياة مرارًا بأنها "أبديّة". ولكننا أمام صفة هي في صلب مضمون اللفظة. فالحياة الروحيّة التي فيها يدخل المؤمنون تدوم إلى الأبد، شأنها شأن حياة الله (لو 20: 36).
"كلمة الحياة" تعني البلاغ الذي ينقل هذه الحياة إلى البشر، أو يحدّثهم عنها (أع 5: 20؛ فل 2: 16). وهكذا تكون الجملة وصفًا للتعليم المسيحي الذي ينادي به الكاتب ومعاونوه. ولكن إن عدنا إلى يو 1: 4 نفهم أن "فيه في (في الكلمة) كانت الحياة. وفي يو 11: 25؛ 14: 6 يقول يسوع عن نفسيه إنه الحياة. أجل، يسوع الكلمة هو ينبوع الحياة الأبديّة وجوهرها.
ب- الحياة تجلّت (1: 2)
نجد في آ 2 فكرتين حول الحياة الأبديّة: كما وُجدت لدى الآب، وكما تجلّت في العالم. ما يعلنه النصّ هو حياة لا حدود لها. هي حياة لا تختلف عن الله ذاته، وقد أعطت حياة لمن كان بلا حياة وبلا نور. أما الجديد، فليس هذا الحضور اللامنظور. بل هو أن الحياة الأبديّة تجلّت في الانسان يسوع. فإليه نوجّه أنظارنا ونرفع أيدينا. وتجلّي الحياة الأبديّة هذا صار حدثًا ملموسًا في حياة الانسان. هو حدث فريد يرتبط بالله في بعده الباطني، ويرتبط بالانسان في بُعده المنظور.
فمع أن البلاغ المسيحي هو الوسيلة التي بها تصل الحياة الأبديّة، اهتمّ الكاتب بأن يوضح، بوجه كل الضلالات، أن الحياة التي يشهد لها، قد كشفها الله بواسطة انسان من التاريخ هو يسوع المسيح. لهذا، أقحم هنا معترضة قطعت مسيرة تفكيره: إن الحياة التي يعطيها الله للبشر، قد أوحي بها في التاريخ، في يسوع. بل هي تتماهى مع يسوع، فاستطاع الكاتب أن يقول إنه رآها. لهذا، اعتبر أنه يقدر أن يشهد لها. أن يقدّم شهادة شخصيّة عمّا رآه واختبره. وهكذا صارت مناداته بالبشارة فعل شهادة.
غير أن يوحنا لا يشدّد على اعلان البشارة كعمل يقوم به، بل على الواقع التاريخيّ الذي يشهد له. يقول: هي الحياة الأبديّة الذي كانت مع الآب، ثم ظهرت لنا. اللغة المستعملة هنا هي التي استُعملت في الكلام عن الكلمة (لوغوس) الذي كان مع الآب منذ البدء (يو 1: 2)، إن تجلّي الحياة الأبديّة في شخص تاريخي، هو يسوع المسيح، مهمّ كل الاهميّة للكاتب ولقرّائه.
لا نستطيع بقدرتنا أن نجعل اللامنظور منظورًا، واللامسموع مسموعًا. لا نستطيع سوى أن نتوجّه إلى ذاك الموضع حيث تُسمع كلمة الله في كل مداها، فتخلق شركة بين الله والانسان، كما بين جميع الذين بلغوا إلى الايمان بالمسيح الذي هو الطريق الذي يقود الانسان إلى الله، والله إلى الانسان.
ج- شركاء معنا (1: 3)
حين كتب يوحنا فكّر في هذه الشركة بين البشر، الذي هو جزء منها مع قرّائه. ونحن نجد جذور هذه الشركة في شركة مع الله والمسيح. في شركة الثالوث كما تنعكس في العالم المنظور. فالانسان، في علاقته بالله، ليس وحده. فهو يعيش هذه العلاقة مع أناس آخرين. والله ليس وحده في علاقته بالانسان. فهو يعيش هذه العلاقة بواسطة المسيح. فالوحدة بين الآب والابن تؤسّس الشركة المسيحية، وتعكس شركة الله مع البشر.
في آ 3، تنتهي المعترضة (آ 2)، فيستعيد الكاتب ما قاله في آ 1: "ما رأيناه، ما سمعناه". وفي النهاية، يصل إلى الفعل الرئيسي. إن فعل "ابانغالوماي" قد استعمل في آ 2 (نبشّركم بالحياة)، وكأنه يهيئنا لما نقرأه في آ 3. أعلن الكاتب بهذا الفعل أنه يشاركهم في التعليم الذي ناله، بحيث يكونون شركاءه. نعمَ المؤمنون بالشركة، بعضهم مع بعض. ونعموا بشكل خاص بالشركة مع الآب والابن. ونتيجة شركة القرّاء مع يوحنا، هي شركة مع الآب والابن. فإذا أردنا أن ننطلق في معالم اللاهوت، نقول ما قاله قبريانس، اسقف قرطاجة: "ولا يستطيع أحد أن يقول إن الله أبوه إن لم تكن الكنيسة أمّه". المشاركة مع الله هي ينبوع كل مشاركة. والمشاركة مع الأخوة تدلّ على صدق مشاركتنا مع الله. هنا نتذكّر ما سوف تقوله 1يو عن محبّة الله وعلاقتها بمحبّة القريب (4: 20- 21).
المشاركة (في اليونانيّة: كوينونيا). هناك شيء مشترك بين اثنين. الامثلة عديدة. تشارك يعقوب ويوحنا مع سمعان بطرس في العيد (لو 5: 10). وتشارك بولس وتيطس في الايمان الواحد (تي 1: 4؛ رج يهو 3). والمؤمنون يتشاركون في نعمة الله (فل 1: 7)، في يسوع المسيح (1كور 1: 9)، في المواهب الروحيّة (روم 15: 27). ونكتشف وجهتين كنتيجة لهذه المشاركة. هناك عنصر مشاركة في موهبة روحيّة أو خدمة مسيحيّة. وهناك عنصر اتحاد مع مؤمنين آخرين كنتيجة التشارك في امتياز روحيّ أو نشاط رسوليّ.
لقد أراد الكاتب من خلال هذه الآية (آ 3) أن يعرّف قرّاءه بالتعليم بحيث يقبلونه فيصيرون شركاءه وينضمّون إلى محبّة المسيح التي توحّد أولئك الذين يتشاركون في الايمان بالمسيح. ولا ننسى أن مشاركتنا مع الابن تعني مشاركتنا مع الآب، لأن الآب والابن واحد.
د- فرحنا كامل (1: 4)
إن عرف قرّاء الرسالة هذه الشركة بين الله والمسيح، ثم بين الاخوة، يكون فرح الرسول كاملاً. وهذا الفرح يكتمل في فرح الذين ساروا في طريق الايمان الذي سار فيه الكاتب. فكلهم نعموا معًا بالحياة الأبديّة. فماذا ينتظرون بعد ذلك؟
شدّدت آ 3 على هدف الكاتب حين قدّم البلاغ المسيحيّ. وهو الآن يضيف أمرًا واحدًا. لقد كتب رسالته من أجل الفرح الذي ينعم به المؤمنين. هنا نجد اختلافات نصوصيّة. فبدلاً من ضمير المتكلم الجمع (نحن، فرحنا نحن) كما في الاسكندراني والفاتيكاني والسينائي، نجد ضمير المخاطب الجمع (أنتم، فرحكم أنتم) الذي يعتبره الشرّاح تصحيحًا للأصل. رج يو 16: 27 مع صيغة المخاطب الجمع: "أطلبوا تنالوا فيكون فرحكم كاملاً". هنا نلاحظ قلب الراعي الذي لا يمكن أن يكون سعيدًا ما دام الذي يسأل عنهم لم يختبروا ملء بركات الانجيل.
هـ- تساؤلات
أترى يوحنا كتب 1 يو إلى أشخاص غير مؤمنين؟ كلا. بلا هو كتب إلى مؤمنين، كما في 5: 13: "أكتب إليكم بهذا لتعرفوا أن الحياة الأبديّة لكم، أنتم الذين تؤمنون باسم ابن الله". إذن، ما توخّاه هو أن لا يبتعدوا عن الايمان المسيحيّ. فهو قلق حول وضعهم الروحيّ لا سيّما وأن بعض الأعضاء تركوا الكنيسة فدلّوا أنهم لم ينتموا إليها حقًا. لقد خاف الرسول على مؤمنين فاترين، أن يتركوا الكنيسة، وآخرين أن ينقادوا لتعاليم ضالّة تقطعهم من الشركة الحقيقيّة مع الله. وهكذا نستطيع أن نفسّر آ 3 كتعبير عن فهم الايمان المسيحيّ، بحيث يعرف القرّاء وضعهم ومدى مشاركتهم معه على أساس قبول التعليم الواحد. هو متأكّد أن ما يقوله هو التعليم الحقّ. فمن قلبه كانت له شركة حقّة في الكنيسة، وبالتالي اتحاد مع الله بواسطة يسوع المسيح.
إن طبيعة فهم الكاتب للبلاغ المسيحي ظاهر منذ 1: 1- 4، وهو سيتوضّح فيما بعد. فقد أعلن هو والفريق أنهم شركاء مع الآب وابنه يسوع المسيح. ففي طريقة أو أخرى، أعلن المعارضون أنه بالامكان نوال الحياة والشركة مع الله، دون ن يكون ليسوع أي دور في ذلك. فأبرز يوحنا هذه الشراكة مع الآب والابن، وسوف يوضح فيما بعد أن لا أحد يستطيع أن ينعم بهذه الشركة دون علاقة بالمسيح (2: 23). وفي الوقت عينه. شدّد على أننا لا نجد الحياة الأبديّة إلاّ في يسوع: هو حياة الله التي هي مع الله في البدء. وفيه كشف الله حياته. فمضمون البشارة هو يسوع كلمة الحياة.
ولكن ما يشدّد عليه الكاتب بشكل خاص هو أن بعض الناس يستطيعون أن يشهدوا لهذه الأمور، لأنه كانت لهم خبرة شخصيّة مع يسوع. سمعوه، رأوه، بل لمسوه، ورأوا فيه تجسّد الحياة الالهيّة. لقد شاركهم الكاتب. لهذا تحدّث في صيغة المتكلّم الجمع (نحن) فانضمّ إلى الآخرين الذين يعلنون أنهم كانوا شهودًا لحياة يسوع على الأرض.
غير أن هذا التفسير طرح سؤالاً: ففي 4: 14 قال: "نحن رأيناه ونشهد أن الآب أرسل ابنه مخلصًا للعالم". فصيغة "نحن" تعود إلى المسيحيين بشكل عام كما في الآية السابقة (آ 13). لهذا، قد لا يكون الكاتب رأى يسوع وسمعه. فهو يعود إلى حدث مجيء يسوع وتحقيق هذا الحدث في الكنيسة: فخبرة الكنيسة للخلاص بيسوع هي موضوع الشهادة. هذه فرضيّة. وهناك فرضيّة أخرى تقول إن الكاتب انضمّ إلى المسيحيين الأولين فبدا وكأنه شاهد لأنه شارك في خبرة الكنيسة ولكننا نرفض هاتين الفرضيتين. فالكاتب يقف في مجموعة الشهود، وشهادة حقّة. فلو كانت "كاذبة" لما صدّقه القرّاء، ولما كان لتعليمه قوّة.
وأبرز يوحنا خطرين يواجهان الكنيسة. الأول يعلن أن الشركة تقوم من دون أساس الايمان المشترك بالمسيح. فماذا يعني اجتماع المسيحيّين من دون المسيح؟ فلا شركة بين المؤمنين بالمسيح واللامؤمنين. والخطر الثاني يعلن أننا نشارك الله، وفي الوقت ذاته "نرذل" الابن كالطريق والحقّ والحياة. أما الرسالة فتوضح: لا نعرف الآب إلاّ بالابن. فلا اسم آخر به نخلص.
3- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
الذي كان من البدء... يعود الانسان إلى الوراء، ويتوقّف في نقطة من التاريخ تبدو له حاسمة، بل تبدو للآخرين أيضًا. فالجميع مدعوون لكي يكتشفوا في هذه اللحظة من التاريخ بداية وجدد جديد. إذن، هكذا بدأ كل شيء. وقد بدأ حين تجلّت الحياة، تلك الحياة التي كانت لدى الآب وجاءت إلى البشر. تراءت لهم فرأوها. تكلّمت إلى البشر فسمعوها. انكشفت للبشر فشاهدوها. عاشت مع البشر فلمسوها. وعملت عملها من أجل هؤلاء البشر. فامتلأوا ممّا رأوا وسمعوا، ونقلوا إلى الآخرين هذا الخبر الطيّب والعجيب. وهذه الحياة التي كانت لدى الآب، وتجلّت للبشر، هي ابنة يسوع المسيح. وفي النهاية، ينزع يوحنا الستار عن كل التردّدات: البداية هي في يسوع المسيح. يسوع المسيح هو البداية.
يسوع المسيح هو البداية بالنسبة إلى العالم. ومجيئه يدلّ وكأن العالم خُلق من جديد. ما حصل مع يسوع المسيح يتوازى مع ما حصل في الخلق. ويسوع المسيح هو البداية بالنسبة إلى البشريّة. فهو يقدّم لها مناسبة لانطلاقة جديدة تصل بالتأكيد إلى هدفها. وما يصحّ بالنسبة إلى البشريّة، يصحّ بالنسبة إليّ في حياتي الفرديّة الحميمة. فحياتي لا تبدأ يوم ولادتي، بل يوم عمادي. فمنذ ذلك اليوم، بدأت أنعم بتجلّي الحياة التي هي يسوع المسيح. أخذني على عاتقه. اقترب مني. نقلني من الظلمة إلى النور العجيب. جعلني في جسده، فعبرت من الموت إلى الحياة. وهكذا عرفت من أنا: أنا الله. وعرفت لماذا أحيا. أنا أحيا لله. وعرفت إلى أين أتجه. إلى الله.
بما أن يسوع هو البداية، فلا نبحث عن بداية أخرى. فهذا هو مصيرنا. والمسيح الذي هو البداية هو الذي كان لدى الآب وتجلّى لنا. فالحياة التي كانت لدى الآب هي بقربنا، هي معنا. حياة حقة. جسد حقيقي. بشر يشارك البشر في كل شيء ما عدا الخطيئة. لهذا، فعمل الخلاص كله يرتبط ارتباطًا كليًا ببشريّة المسيح. لهذا نهتمّ بسماع شهادة الذين رأوا يسوع وسمعوه وشاهدوه ولمسوه. فبهم نصل إلى الجسد الذي صار حياة، إلى يسوع الاله الانسان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM