الفصل الثامن عشر: معرفة الله في سفر الحكمة

الفصل الثامن عشر
معرفة الله في سفر الحكمة

موضوع معرفة الله في سفر الحكمة قد دُرس مرارًا. ونحن نسير في خطى الذين سبقونا فنتعرّف إلى فصول هذا الكتاب الذي هو آخر كتب العهد القديم، وقد دوّن في الاسكندريّة سنة 50 وربما 30 ق. م.

1- استهلال ومقدمة (ف 1- 5)
يستهل الكاتب في هذه الفصول الخمسة الأولى كلامه، فيشدّد على أهميّة مديح الحكمة بعد أن تعارضت الآراء في هذا الشأن. أما الفن الادبي للاستهلال فهو يتيح لنا أن نوضح براهين المعارضين، وهذا ما يتمّ في سلسلة من الدبتيكات نقرأها في ف 3- 4، داخل إطار نجد فيه خطبة الاشرار وبرنامج حياتهم (ف 2)، وخطبة تختتم قول هؤلاء الاشرار الذين اكتشفوا في الدينونة النتائج الحقيقيّة لأعمالهم. كل هذا يبدأ بمقدّمة (ف 1) وينتهي بخاتمة (ف 5 وبداية ف 6).
ونتوقّف عند الآيات الأولى في المقدّمة. "أحبّوا التقوى يا حكّام الأرض. تأملّوا في الرب واطلبوه بطيب قلب. فالذين لا يجرّبونه يجدونه. والذين لا يشكّون فيه يرونه. أما سوء الظن فيبعد عن الله، والشكّ في قدرته يفضح الجهل" (1: 1- 3).
من الواضح أن الالفاظ المستعملة هنا هي ألفاظ تقليديّة في التوراة. فبالنسبة إلى آ 2، نتذكّر قول عزريا في زمن الملك أسا: "الرب معكم ما دمتم معه. إن طلبتموه وجدتموه، إن تركتموه ترككم" (2 أخ 15: 2). غير أننا نلاحظ فعل "جرّب"، فنتذكّر أن اسرائيل جرّب الله عند مياه مريبة (خر 17: 7؛ تث 6: 16؛ مز 49: 9). فكّر حك بالشعب المختار. جرّب الله، تذمّر عليه، فكانت النتيجة أنه لم يجد الله وهكذا توجّه الكاتب إلى بني اسرائيل وذكّرهم بتاريخهم.
عبارة سلبيّة. ولكن هناك عبارة إيجابيّة: الله يكشف عن (يري) نفسه للذين يؤمنون، للذين لا يشكّون. إن فعل كشف، أوحى، يرد أحدى عشرة مرّة في السبعينيّة كلها، منها أربع في حك. نجد في حك 1: 2 وخر 33: 13، 18: "الله يري نفسه". في خر، طلب موسى من الرب أن يراه: "إن نلت حظوة في عينيك، اكشف عن ذاتك فأراك بوضوح" (كما في السبعينيّة). وكشف الرب عن نفسه لموسى: "الرب، الرب، إله الرحمة والحنان" (خر 34: 6- 7). إذا كان حك قد لمّح إلى موسى في هذه الآية، فلكي يقبل بين موقف مجمل الشعب وموقف موسى الذي قال عنه الله في عد 12: 7: "هو أمين في كل بيتي".
ويتابع حك كلامه: "الحجج المعوجّة (سوء الظن) تبعد عن الله". في آ 5، سوف يتكلّم النصّ عن "الحجج الباطلة". الأمانة تقود إلى الله. أما سوء الظنّ في عمل الله ببراهين وحجج باطلة، فهو يبعد عنه. ولكن هذا يحتاج إلى شرح، ولا سيّما إذا كان هناك انقسام في الجماعة كما في وقت الخروج.
فبعض اليهود في الاسكندرية ظلّوا أمناء لله. أما الآخرون فتركوا الايمان وممارسة الشريعة، وقد سمّاهم الكاتب "الأشرار" الذين سيخطبون فيقدّمون برنامجهم. رفضوا أن تكون حياة بعد الموت فقالوا: "تعالوا نتكلّل بالورد قبل ذبوله" (2: 8). وما توقّفوا هنا. فبعد القسم الأول من خطبتهم (2: 1- 9)، كان القسم الثاني (2: 1- 20) ضدّ البار الذي يزعجهم. فما لا يستطيع الاشرار احتماله، هو أن البار يوبّخهم لأنهم تجاوزوا الشريعة، واتّهمهم لأنهم خانوا التربية التي تلقّوها.
نتذكّر هنا ما قال كتاب المكابيين عن قسم من الشعب تحالف مع العالم الهلّيني وضايقوا إخوتهم الذين ظلّوا أمناء للشريعة. كل ما احتفظ به الاشرار من كلام البار هو أنه "يدّعي معرفة الله ويسمّي نفسه ابن الرب" (2: 13). ليست معرفة الله علمًا نظريًا، بل اعترافًا بالرب وقبولاً لمشيئته. هذا ما تؤكده الآية السابقة بشكل تعارض: من عرف الله كان أمينًا فحافظ على الشريعة، وما خان ما نال من تربية على الايمان. هنا نتذكّر النصوص البيبليّة: معرفة الله تقوم في ممارسة فرائض الشريعة (هو 4: 1)، في إنصاف الفقير والمسكين (إر 22: 16). ونتذكّر كلام إر 31: 31- 34 في معرفة الشعب للربّ من صغيرهم إلى كبيرهم. فما وعد به إرميا قد تحقّق في البار. هذا ما سنعود إليه فيما بعد.
نلاحظ في ف 2 أننا لسنا أمام "ابن الله" يسوع المسيح. بل أمام جواب لما في 2: 16: "افتخر بأن الله أبوه". كما نلاحظ في حك أن "ابن الله" يدلّ دومًا على الشعب، هنا نتذكّر خر 4: 2: "بكري هو اسرائيل".
هذا ما يقودنا إلى القول (حسب 2: 13) بأن اليهود الامناء الذين يعرفون الله، ينعمون منذ الآن بما قالته نبوءة إرميا. ولكن كيف يتمّ ذلك؟ فسَّر حك خطبة الأشرار مع ذروتها بأن يميتوا البار ميتة شنيعة، فكتب: "هذا ما يتوهَّمونه لكنهم يخدعون أنفسهم لأن الشرّ أعماهم. هم لا يعرفون أسرار الله ولا يرجون للقداسة جزاء" (2: 21- 22).
ظلّ الأشرار في تفكيرهم، وذلك لسببين: شرّ الأشرار الذين انزعجوا من رؤية البار. شرّ يدفعهم إلى أن يقتلوا البار ليروا إن كان الله ينجِّيه. أما هم فلا يؤمنون بالآخرة، وسبب ضلالهم الثاني هو أنهم لا يعرفون أسرار الله: هم لا يجهلون سرّ الله في ذاته، بل ما يحتفظ به الله لمؤمنيه ويبقى خفيًا عن العالم، وهو مجازاة القداسة في الآخرة، لأن الله خلق الانسان للخلود وعدم الفساد.
ويتوسّع الكاتب في فكرته بسلسلة من الدبتيكا التي يعارض فيها الابرار والاشرار. ففي يوم افتقاد الله، "المتوكّلون عليه سيفهمون الحقّ، والمؤمنون (أو: الامناء) لمحبّته سيلازمونه كقديسيه ومختاريه، وتكون النعمة والرحمة لهم. أما الكافرون (أو: الاشرار) فسينالهم عقاب يوافق سوء ظنونهم بعد أن أهملوا البار وتركوا الرب" (3: 9- 10).
كل شيء يترتّب في الآخرة. بالنسبة إلى المؤمنين، هم "يفهمون الحق" حين يكتشفون في الآخرة أن ما قالوه كان صحيحًا (20: 17): أعلن أن مصير الابرار الاخير هو السعادة، واعتبروا أن الله أبوهم (2: 16). أما الاشرار (أو: الكافرون) فجهلوا أسرار الله، لم ينتظروا مجازاتهم للقداسة (2: 22). سيحيا الأبرار في الايمان حتى الموت وفي النهاية سيفهمون أنهم يقيمون في المحبّة قرب الله. أما الكافرون فلم يجعلوا رجاءهم في الآخرة: فتصرّفهم تجاه البار الذي ما اهتمّوا به، وتجاه الله الذي جحدوه، سينال الجزاء الذي نادوا به.
وإن مات البار وهو في عمر مبكر، لا يفهم الناس مقاصد الله فيه (4: 14، 17)، لأنهم لا يفكّرون أن الرب يمنح قديسيه النعمة والحماية (4: 14، 15). لهذا، سيُلقي الأشرار في الدينونة خطبة جديدة حين يكتشفون نتائج أعمالهم: "ضللنا عن طريق الحق، ونور البرّ لم يضئ لنا، وشمسه لم تشرق علينا. أنهكنا (أشبعنا) أنفسنا في طرق الشرّ والهلاك، وعبرنا براري بدون معالم، وما عرفنا طريق الرب" (5: 6- 7).
نستطيع أن نقابل هذا المقطع وسياقه مع مزمور توبة نقرأه في أش 59: الظلمة والليل. تلمّس الخطأة الذين تسرع أرجلهم إلى الشرّ، الذين يريدون أن يسفكوا الدم البريء. "ما عرفوا سبيل السلام" (أش 59: 8). نحن هنا في سياق عمل أخلاقي لا معرفة عقليّة مجرّدة. طريق الحقّ هي طريق الربّ. تقابلها طريق الشرّ والهلاك الذي يتبع الشرّ. طريق الحقّ حسب مز 119: 30 هي فرائض الرب وأحكامه وشريعته. وما يقابلها طريق الشرّ (119: 29). في مز 95: 10، جعل المرتّل في فم الرب كلمات قاسية في جيل الخروج الذي ما زال يتذمّر: "هؤلاء الناس لم يعرفوا طرقي".

2- مديح الحكمة (ف 6- 10)
إن مديح الحكمة الذي يشكّل القسم الأهمّ في الكتاب، يغطّي ف 6- 10. دوّنه الكاتب فاستلهم حلم سليمان في جبعون وحكمته كما في أسفار الملوك والأخبار. وقد توقّف بشكل خاص عند نقطتين: نال سليمان الحكمة بعد أن طلبها في الصلاة (يشكّل ف 9 ذروة في الكتاب مع توسّع في صلاة سليمان على جبعون). حملت الحكمة إلى سليمان، فضلاً عن الغنى والكرامة، معرفة واسعة جدًا (1 مل 5: 9، 14): الحكمة هي التي أعطت سليمان كل هذه المعرفة.
استلهم سليمان أم 8: 22- 30 فأعطاه تفسيرًا في خطّ حضور ناشط للحكمة ساعة الخلق (7: 21؛ 8: 5)، وحاول أن يتّخذ الحكمة عروسًا له. فلاحظ في مرحلة أولى من تفكيره أن الحكمة تعيش مع الله. "نشأت في معرفة الله واختارت أعماله" (8: 4). إذن، لا سرّ لله بالنسبة إلى الحكمة. فهي تعرف بفضل تنشئتها ما يعرفه الله. وهكذا نستطيع القول إن للحكمة معرفة كاملة عن الله، لا من الخارج وكأن الله موضوع هذه المعرفة، بل من الداخل. فهي تعرف الله كما يعرف الله نفسه. ولكن أية معرفة إلهيّة يعني؟ أمعرفة عقليّة فقط؟ في 8: 6 سأل الكاتب "إذا كان العقل يعمل. فمن أكثر من الحكمة يعمل في الكون. فقد لا يكون علم الله الذي وصلت إليه الحكمة، سرّ الله بل مخطّط عمله. في هذا المجال يصبح الشطران في 8: 4 متكاملين.
في ف 9 نجد أغنى المقاطع من أجل الموضوع الذي ندرس. نشير هنا إلى أن آ 1- 6 تتحدّث عن الانسان بشكل عام، وكذلك آ 13- 18. أما آ 7- 12 فتشير إلى سليمان. في المقطع المركزيّ نجد سليمان، الحكمة، الله.
"معك الحكمة التي تعرف أعمالك، والتي كانت حاضرة حين صنعت العالم وتعرف ما يرضيك وما يتّفق مع وصاياك. أطلبها. أرسلها. حتى إذا حضرت تعينني على معرفة ما يرضيك، لأنها تعرف وتفهم كل شيء فتقودني في نشاطي بفطنة وتحميني بمجدها" (9: 9- 10).
تتماهى معرفة الحكمة مع معرفة الله نفسه. وهي معرفتان بحسب 8: 4: هي تعرف أعمال الله. وتعرف ما يرضيه أي ما يوافق فرائض شريعته. وما يطلبه سليمان هو أن تُعطى له معرفة الحكمة، أن تشركه الحكمة في ما تستطيع أن تعرف عن الله بواسطة الله، أن تعلّم سليمان ما يرضي الله، أن تعلّمه كيف يتصرّف في عمله بما يوافق فرائض الله.
وهكذا نكون أمام معرفة عمليّة لا أمام حقائق مجرّدة وعقليّة حول سرّ الله. وهذا ما يثبته المقطع الأخير في الصلاة: "من يعرف مقصد الله، أو من يدرك ما يريده الرب. فالعقل البشري قاصر ووسائله عاجزة، لأن الجسد الفاني يرهق النفس، والمسكن الأرضي يعيق الفكر... من يعرف قصدك إن لم تعطه الحكمة وترسل إليه من أعاليك روحك القدوس" (9: 13- 17)؟
فإذا أراد الانسان أن يتعلّم ما يريده الله منه، وجب على الله نفسه أن يعوّض عن محدوديّة الانسان الغاطس في الطين بحيث لا يستطيع الارتفاع. يجب على الله أن يعوِّض وقد فعل (9: 18) حين منح حكمته أي روحه القدوس. إذا أراد الانسان أن يفهم ما يرضي الله على مستوى الشريعة، لأن الشريعة تعبّر عن إرادة الله بالنسبة إلى الانسان، وجب على الله أن يحقّق الاعلان النبوي في حز 36: 27 (أجعل روحي فيهم) وإر 31: 34 (فيعرفونني). تصبح الشريعة باطنيّة (إر 31: 33) وأجعلكم تسيرون في شرائعي وتحفظون رسومي (حز 36: 27).
عطيّة الحكمة (أو: روح الله) أمر مهمّ. فهي تعرّفنا مشيئة الله وتعلّم الانسان كيف يُتمّ ما يرضي الله. قد مُنحت هذه العطيّة لبعض البشر (9: 18). لهذا لاحظ الأشرار أن البار أعلن أن له معرفة الله.
ويتوسّع ف 10 في ف 9- 18 (مسلك البشر على الأرض)، فيرسم لوحة كبيرة للآباء منذ آدم حتى موسى، بعد أن خلّصتهم الحكمة أو قادتهم. ولمَّح الكاتب إلى سلّم يعقوب (تك 28) فكتب أن الحكمة "دلّته على ملكوت الله وعرفته بالقديسين" (10: 10). لقد اكتشف يعقوب، بفضل الحكمة، الحماية التي منحه الله إياها بواسطة الملائكة. رأى في الحلم الملائكة صاعدين ونازلين، فنال وحيًا لا من الله نفسه، بل من الله في علاقته مع يعقوب وممّا سيفعله لأجله. وهكذا صار يعقوب نبيًا.

3- مدراش في سفر الخروج (11: 4- 19: 22)
دلّ ف 10 على الحكمة حين قادت الأبرار وخلّصتهم. قادت الآباء المشهورين. وهكذا ينتقل الكاتب إلى منظور تاريخيّ. منذ 11: 5 انطلق مع موسى قائد اخوته في مدراش وصل به إلى البحر الأحمر عبر سبعة أمثلة يتقابل فيها المصريون الذين يُضربون، والعبرانيون الذين ينالون النعمة والبركة.
المقابلة الأولى (11: 5- 14) قصيرة. يقابل فيها الكاتب مياه النيل التي ما عادت تُشرب لدى المصريين، بماء الصخر الذي أطفأ عطش العبرانيين في البريّة. وإذ فكّر الكاتب بالعواطف التي شعر بها العبرانيون كتب: "فبمحنهم التي كانت تأديب حكمة، فهموا أي عذاب أصاب الأشرار" (11: 9). أما هؤلاء الاشرار، فحين سمعوا أن ما كان لهم عقابًا صار لأعدائهم نفعًا "شعروا أنه الرب" (آ 13). كلاهما نال ظروفًا قاسية من أجل تعليمهم عن الله. فعناصر الكون التي استعملها الله في خطّ أو في آخر، من أجل الخلاص أو العذاب، تتيح للبشر أن يتعلّموا عن الله في حقبة من تاريخهم. إذن، لسنا فقط أمام برهان كوسمولوجي، برهان ينطلق من الكون.
والمقابلة الثانية هي الحشرات التي قابلها الكاتب مع السلوى (ف 16). ولكن بمناسبة الحديث عن الحيوانات الشنيعة، ينطلق الكاتب في توسّعين خرج بهما عن موضوعه. الاستطراد الأول يشدّد على رفق الله حين يعاقب، وهكذا ينضمّ مثل الكنعانيين إلى مثل المصريين. والثاني يبيّن أن عبادة الحيوانات التي تمارَس في مصر هي شرّ الانحرافات الدينيّة.

أ- الاستطراد الأول (ف 12)
نجد أربعة مقاطع تتعلّق بموضوع معرفة الله.
عبد المصريون حيوانات حقيرة، فاجتاح بلادَهم حشدٌ من هذه الحيوانات التي أرسلتها إليهم "لتعلّمهم أن الانسان يُعاقب بما خطئ به" (11: 16). فكأننا أمام شريعة المثل (سنّ بسنّ). ولكن نفهم أن الله يضيء للانسان على خطيئته بشكل عقاب. هذا ما نسمّيه عدالة ملازمة. وهكذا يكون الحدث كاشفًا لوجه الله.
ولكن الله يرأف بالجميع، لأنه يحبّ جميع الكائنات: "تؤدّب الساقطين برفق، وتذكّرهم بما به يخطأون، وتنذرهم ليتركوا الشرّ ويؤمنوا بك أيها الرب" (12: 2). جعل الكاتب نفسه على مستوى الكون قبل أن يطبّق كلامه على الكنعانيين. يكون عقاب الله تدريجيًا ولا يتمّ دفعة واحدة (12: 9 ب). والهدف هو أن يعود الانسان عن شرّه ويؤمن بالله. أي يستند إليه، ولا يستند إلى الخلائق ويضع فيه اتكالها.
وقد يعاند الخاطئ. فبعد أن دلّ الكاتب على اعتدال الله بالنسبة إلى الكنعانيين، بيّن السبب العميق لذلك: قدرة الله. "تُظهر جبروتك للذين يؤمنون بكمال قدرتك وتخزي جرأة الذين يعرفونها" (12: 17). إن تربية الله التي تريد أن تعود بالخاطئ إلى الايمان، لا تنجح دومًا. فيبرهن الله على قدرته حين يشكّ الانسان بسلطانه المطلق. عند ذاك نرى إصبع الله. ولكن من تجرّأ وعاند، يخزي الله جرأته بعمل قدرة آخر. ما يقوله الكاتب هنا يطبَّق على جميع البشر، ولكن الكاتب ينظر منذ الآن إلى المصريين الذين سيقرأ تاريخهم في الخروج. لا يشير هنا إلى اليهود الجاحدين كما في ف 2، بل إلى فرعون الذي اكتشف اصبع الله وعدالته والخضوع له. هذا ما حدث لفرعون حين أقرّ بخطيئته، وشرّه وشرّ شعبه، كما أقرّ بعدالة الرب. غير أن هذه الخطوة الاولى ظلّت يتيمة، فلم تتبعها خطوات أخرى. تقسّى قلبُ فرعون وقلبُ عبيده.
ونقرأ ما يؤكّد هذا التفسير في 12: 27: "فهم عندما عوقبوا بما اعتبروه آلهة، شعروا بمرارة الخيبة، واعترفوا أن الذين كانوا يكفرون به هو الاله الحيّ، ولذلك نزلت بهم أقصى العقوبات". كان العقاب خفيفًا، فعاند المصريون مع أنهم عرفوا فيه الاله الحقيقيّ الذي رفضوا أن يعرفوه من قبل (خر 5: 2؛ رج حك 16: 16). وهذا العناد جعل العقاب الكبير ينصبّ عليهم، فغرقوا في البحر (حك 19).

ب- الاستطراد الثاني (ف 13- 15)
إذ أراد الكاتب أن يوضح 12: 25- 27، بدأ استطرادًا ثانيًا امتدّ على ثلاثة فصول (ف 13- 15). بيّن فيه أن عبادة الحيوانات كما تمارس في مصر هي شرّ الانحرافات على المستوى الديني. لهذا استحقّت عقاب الموت في البحر الاحمر. وتوقّف عند ثلاث مراحل متصاعدة: عبادة الطبيعة لدى أناس "باطلين". استحقّوا توبيخًا بسيطًا ولكنهم لا يُعذَرون (13: 1- 9). عبادة الاوثان في جميع أشكالها كما يمارسها البؤساء (13: 10- 15: 13). وأخيرًا عبادة الحيوانات التي تدلّ على قمّة الحماقة (15: 14- 19). وهكذا تعالج هذه الفصول معرفة الوثنيين لله.
أولاً: ديانة الفلاسفة (13: 1- 9)
هذا المقطع هو مصدر للاهوت التقليديّ حول مسألة معرفة الله معرفة عقليّة. فالكاتب يجادل الفلاسفة في هذه الآيات، ولاسيّما الرواقيين الذين اعتبروا الكون كله "مدينة" يقيم فيها الانسان. ليس الله ذاك المهندس أو الصانع الماهر. بل هو يهوه، خالق الكون. فالاله الذي يصل إليه الفلاسفة هو الاله الذي ندركه بالايمان.
كيف عبّر الكاتب عن وجود الله؟ انطلق من أرسطو: نلاحظ الكون وجماله والقوى التي فيه، فنستنتج كما في ملاحظتنا لبيت جميل، أن هذه المدهشات هي عمل مهندس إلهي. مسيرة الوثنيين مسيرة صالحة. ولكن حك تجاوزها.
فنحن نجد في آ 3- 5 تأكيدين كبيرين. الأود هو أن البرهان (الضمني هنا) على وجود الله، كان بإمكانه أن يقود الفلاسفة إلى طريق لا تقود إلى تأليه عناصر الكون: إن الفلاسفة الرواقيِّين لم يعرفوا أن يدرسوا طبيعة الاله التي نستنتجها من وجود هذا الاله. لذلك ضلّوا. ما يهمّ حك هو التعرّف إلى طبيعة الله انطلاقًا من البرهان على وجود الله كما اكتشف نواته عند أرسطو.
والتأكيد الثاني: أدخل حكمة "القياس" في بحثه عن طبيعة الله (آ 5 ب). يبدو أنه كان أول من استعمل القياس النسبي. فلو استعمله الفلاسفة مفكّرين في نتائج برهانهم على وجود الله، لما كانوا ضاعوا في التحدّث عن طبيعته. وينهي الكاتب هذا المقطع حول ديانة الفلاسفة بسؤال. "هؤلاء الناس لا عذر لهم، لأنهم إن كانوا من العلم على قدر كاف لمعرفة طبيعة الكون، فكيف قصّروا عن معرفة رب الكون" (آ 9)؟ لا نستطيع أن نجد الجواب على هذا السؤال إلاّ إن أعدنا قراءة 1: 5. هي الخطيئة تمنع الانسان الذي يحتاج إلى عطيّة الحكمة لكي يعرف الله (9: 18).
وهكذا جهل الفلاسفة الله. ما استطاعوا أن يعرفوا الربّ. ما اكتشفوا صانعَ هذه الأعمال العظيمة التي تأمَّلوا فيها. إن هؤلاء الفلاسفة الوثنيين توقّفوا عند النظريات، فنقصتهم هذه المعرفة الوجوديّة التامّة التي تتضمّن الالتزام بالعيش حسب الحكمة. حسب وصايا الله.
ثانيًا: عبادة الاوثان (13: 10- 15: 13)
هذا ما يقودنا إلى توضيح حكم الكاتب على عبادة الاوثان. عالج أصلَ هذه العبادة وتوسّعها ونتائجها، فأشار بشكل خاص إلى شعائر عبادة ديونيسيوس وما فيها من فلتان. وميّز محطّتين في انحطاط عبَّاد الاصنام: جهلوا الله. عاشوا حياة لا أخلاقيّة. "وكما أنهم لم يكتفوا بضلالهم في معرفة الله، مزّقهم الجهل الجديد حتى إنهم اعتبروا جهلهم هذا التمزّق سلامًا" (14: 22).
جاء الشقّ الأول من هذا المقطع في امتداد اللاهوت التوراتيّ الذي يجعل جهل الله مرادفًا لعبادة الاصنام (15: 11): ذاك هو وضح الأمم الوثنيّة حيث تترجم لا معرفة الله بحياة لا أخلاقيّة. بدأ الجهل على مستوى العقل (14: 30 ب: استهانوا بالله وعبدوا الاصنام) وامتدّ إلى الحياة.
وقدّم الكاتب إلى هؤلاء الخطأة الذين يعبدون الاوثان، مثال أمانة يعيشها اليوم شعب اسرائيل. "إذا خطئنا فنحن لك ونعرف قدرتك. لكننا لا نخطأ لعلمنا أنّا لك ومعرفتنا لك هي منتهى الصلاح، كما أن معرفة قدرتك هي أصل الخلود" (15: 2- 3). نفسّر هذا النصّ في خطّ لاهوت العهد. أيقترف الشعب خطيئة كما عمل الآباء حين عبدوا العجل الذهبيّ، ولكنه يبقى لله لأنه قبل سيادة الله حيت "وقّع" على العهد. ولكن الشعب لا يخطأ لأنه يخصّ الربّ، ولهذا فهو يلتزم بأن يتجنّب الخطيئة. والمعرفة تدلّ على أننا نعرف اختيار الله لنا اختيارًا خاصًا، كما تدلّ على أننا نجد تشجيعًا لئلاّ نخطأ. وهكذا نكون في لاهوت العهد: تكونون شعبي وأكون إلهكم.
أن نعترف بسلطة الرب، ونعرف أنه اختارنا، فهذا لا يتوافق مع الخطيئة. نعترف بسلطة الرب الذي هو السيّد، هذا يعني القبول بكل ما يطلب منا. وهكذا نمتلك اللاهوت والخلود.

خاتمة
وهكذا اكتشفنا معرفة الله في قراءة سريعة لسفر الحكمة. فمنذ الآيات الأولى عرفنا أن التفكير المعوج يبعد عن الله. أبعد هذا التفكيرُ اليهود الجاحدين الذين جدّدوا خطيئة آبائهم في سيناء، وتخلّوا عن الممارسات الدينيّة التي يعرفها إيمان اسرائيل، وما اهتموا بما يقال عن الجزاء في الآخرة، وضايقوا إخوتهم الذين ظلّوا أمناء للعهد. والوثنيّة المعاصرة لم تصل إلى معرفة الله، سواء عبدت عناصر الكون أو الأصنام أو الحيوانات على مثال الذين ضايقوا العبرانيين في زمن الخروج. غير أن الفرعون وشعبه قد خضعوا لتأديب الله في قصاصات متعاقبة تدعوهم إلى الايمان. ففي الأحداث الدراماتيكيّة من تاريخهم حيث كانت الطبيعة تعاقبهم، اكتشفوا قدرة الرب من أجل شعبه، ولكنهم ما عتّموا أن تمرّدوا فقسّوا قلوبهم. في مرحلة أولى عرفوا الربّ، ولكن معرفتهم ما قادتهم فيما بعد إلى الخضوع له خضوعًا مليًا ونهائيًا.
وحده اسرائيل المؤمن يستطيع أن يعلن أنه يعرف الله، أنه ينعم بوحي مثل موسى في سيناء. هذا لا يعني أن اسرائيل تفوّق على سائر الأمم بذكائه وبرّه. ولكن الله اختاره فقبل بسيادة الربّ التي هي نقطة انطلاق للبرّ الكامل أمام الرب وباكورة الخلود.
ولكن إذا أردنا أن نواصل الحياة في هذا التيّار الخلاصيّ الذي نعم به شعب اسرائيل، يجب أن تنفتح نفوسنا على الحكمة. فالحكمة التي تدرّجت في علم الله بالذات، في مخطّطه الخلاصيّ، في عمله داخل الواقع اليومي، هذه الحكمة التي هي روح الله القدوس، تستطيع أن تُدخل الانسان إلى معرفة الله ومشيئته في الانسان. كما تستطيع أن تقوّم الخاطئ وتعيده إلى الله. وهذه المعرفة التي تتيح لنا الدخول إلى معرفة الله ومعرفة الخليقة كلها، نطلبها بالصلاة كما فعل سليمان. وهكذا يتحقّق العهد الأول: يعرفونني جميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM