الفصل السابع عشر: الله في سفر أيوب

الفصل السابع عشر
الله في سفر أيوب

بعده نظرة سريعة إلى سفر الامثال ويشوع بن سيراخ، وما فيهما من حكمة تقليديّة، ندخل في سفر أيوب بما فيه من رفض لتعليم يعتبر أن الانسان يجازى خيرًا إن عاش في الفضيلة، ويعاقب إن هو اقترف الخطايا وأغاظ الله. تعليم يغلق على الانسان في هذا العالم كما في سجن. ما استطاع أيوب أن يحطّم قضبان هذا السجن فذهب إلى الله.
رفض قول الحكماء وما فيه من تقليد، ورفع قلبه إلى الله في صلاة قادته إلى أن يسمع صوت الله من خلال حكمته وعنايته بالبشر، بل قادته إلى أن يرى الله رؤية الايمان فيندم على مقاله في التراب والرماد.

1- أيوب وإلهه
مع سفر أيوب ندخل في "أدب" مقاومة لفكر يسيطر على الجماعة. فكر حديث وُضع في فم شيوخ يتكلّمون عن خبرة. في مجتمع يحسب حسابًا للسنّ، قدّم أي (مع سفر الجامعة) في أفواه الكبار طروحًا ما كان لأحد الجرأة على طرحها. تلك هي الطريقة الفضلى لكي يسمعنا الناس. وحين جاء أليهو باسم الشباب لكي يعطي عبرة لأصحاب اللحى البيضاء (ز ق ن ي م)، بدا كلامه باهتًا تجاه ما قاله أيوب.
كيف استطاع أي أن يربط بين تسامي الله وحكمة الانسان وعقله؟ نلاحظ أولاً في الكتيّب الشعبي (ف 1- 2) أن الاسم الالهي هو دومًا يهوه، في خبر يعود إلى الشرق (1: 3). في أم 30: 9، في أقوال آجور الآتية من المشرق، يُستعمل اسم يهوه. بعد ذلك، اسم الله هو إيل، شداي، الواه. هل أراد الكاتب أن يجعل من أيوب نموذج الانسان، كل انسان، أمام الله؟ الأمر ممكن. وهكذا نخرج من أرض فلسطين الضيّقة لنصل إلى الكون الوسيع.
ونتساءل: ما هو مرمى الكاتب الاخير؟ هل أراد أن يدوّن كتابًا عن الله؟ لا شكّ في ذلك. قد نتوقّف عند مسألة الالم البشريّ. قد نجد مرآة لنظرة الشرقيّ عامّة، والاسرائيليّ خاصّة، حول ممارسة "عدالة" الله على الأرض. ولكن سرّ الله يبقى في قلب كتاب لايني يتكلّم عنه. هناك إله أيوب وإله أصدقائه. ولكن أيوب وحده يواجه مسألة الله، ذاك الاله الحنون والقاسي معًا. إله شخصيّ أحسّ أنه انقطع عنه بغير خطيئة منه، ولكنه يرغب في أن يفهم ويجد جوابًا عن هذا الوضع الذي يتخبّط فيه. كاتب أي يهتمّ بالانسان أكثر ممّا يهتمّ بالله، وهكذا يكون في إطار الأدب الحكميّ. ولكن الله حاضر في كتابه من البداية إلى النهاية، وأفضل طريقة للتعرّف إلى الله هو الانطلاق من الانسان. خبرة أيّوب خبرة شخصيّة قبل أن تكون خبرة البشر جميعًا وإن عاد إليها في 6: 1 و14: 1- 3 (الانسان مولود المرأة، قليل الأيام، كثير القلق). وهي خبرة تجعله يفهم أن عمل الله سرّ لا يُدرك. ما تخلّى أيوب يومًا عن الدفاع عن قضيّته (9: 14- 21)، لهذا نراه دومًا يصطدم بالقدير.
قال: "كيف لي أن أجيب الله وأختار كلماتي معه؟ ولو كنت بريئًا لا أجيب، فخصمي هو نفسه حاكمي (كيف أسترحمه؟). وإن أنا دعوته فأجابني، فهل تراه يستمع لقولي؟ وهو الذين يراني كشعرة... أبالقوّة؟ فانظروا قوّته. أبالقضاء؟ فمن ترى يحاكمه؟... أنزيه أنا؟ لا أعرف".
الله حاضر كل الحضور في هذا الكتاب. هو على شفاه "أصدقاء" يتكلّمون عنه "بطلاقة" من ارتبط بطمأنينات قديمة ما أراد المخلّي عنها. يتكلّمون عنه ولا يكلّمونه، ولا يرفعون صلاة إليه. والله هو على شفتي أيوب كنداء يعينه على فهم تدبير الكون والانسان. ولكن أيوب يكلّم الله بصيغة الغائب وكأنه يخاف أن يقع نظره على نظر ربّه. وبصيغة المخاطب حين تشتعل النار في قلب هذا المؤمن لذي قدّموا له صورة مشوّهة عن الله. في نظر "الاصدقاء"، الله هو عمود مغروز في الأرض (جا 12: 11) نتعلّق به فنتجنّب الذهاب إلى مناطق غير معروفة. وفي نظر أيوب هو منساس يدفعنا إلى الانطلاق والاكتشاف، فلا نبقى في موضع واحد كالمياه الآسنة.
قد لا نكون في هذا السفر تعلّمنا شيئًا جديدًا عن الله. ولكننا نكتشف انسانًا رافضًا، متمرّدًا. وهذا ما أراد أن يقدّم لنا الحكيم في سفر أيوب.

2- إله الكتيّب الشعبي
الله يدير الكون داخل فريق عمل. ليس هو وحده. فله "مجلسه" (1: 6، 12). "وحكومته" هي "أبناء الله" (1: 6؛ 2: 1). عاد الكاتب إلى الصور القديمة (تك 6: 2: رأى بنو الله؛ مز 82: 6: بنو العلي كلّكم)، فدلّ على نظرة إلى حكم الله كما في نظام الأبوّة. ولكن المجلس منفتح جدًا، والمعارضة تُسمع صوتها. "وجاء الشيطان أيضًا بينهم" (1: 6؛ 2: 1). فهو أيضًا يعمل في عالم البشر. يستكشفه. وها هو يطلب أوامر بأن يجرّب هذا الانسان الذي اسمه أيوب، الذي هو أحد الأبرار الثلاثة الذين لاحظهم حز 14: 14. ونال الشيطان ما طلب، شرط أن يحترم حياة أيوب، أن لا يسيء إليه في جسده. حاول مرّة أولى ومرّة ثانية ففشل في زعزعة ثبات أيوب. وُجد الشيطان هنا لكي يطلق العمل الدراماتيكي، فلا يكون الله هو الذي يجرّب. انتهى عمله فاختفى بعد ف 2، ولم نعد نراه أو نسمع صوته في الحوارات.
ظنّ المجرّب أن الانسان يستطيع أن يرفض الله. وظنّ أنه يقدر أن يكون السبب، على مثال الحيّة في سفر التكوين. لا يقال عنه أنه يجسّد الشرّ. بل هو خاضع لله الذي سيلجأ إليه ليُظهر مجده حين تظهر أمانة أيوب ساطعة سطوع الشمس. عند ذاك يكون أيوب ضحيّة رهان بين قوّتين عظميين! ولكن ليس هناك قوّتان متقابلتان. وإلاّ صرنا في ثنائيّة المانويين الذين يقولون بإله الخير وإله الشرّ. ثم إن الله ليس "متفرّجًا" بين المتفرّجين، ينظر إلى المبارزة ولا يفعل شيئًا. ولن يكون كذلك أيضًا خلال الدراما التي تجعله مع البارّ وجهًا لوجه.
في نهاية الكتاب، جازى الله أيوب أفضل مجازاة. وفي نهاية الحوار، عرّفه إلى موضعه. هو إنسان، لا إله. هو محدود في الزمان والمكان. ولكنه دلّه على طرق جديدة للتفكير. في نهاية الحوار وفي نهاية الكتاب، كان الله هو السيّد الضابط الكلّ، المتأكّد من عدالته، الذي لم يدهش حين رأى أمانة أيوب في ف 1- 2، كما لم يدهش من جرأته حتى "الوقاحة" في الحوارات.
وهناك شخص آخر يتكلّم عن الله في الكتيّب الشعبي: امرأة أيوب. هي تدعو زوجها دعوة سافرة لكي يجدّف على الله. هي تشبه الجاهل الذي قال: لا إله. تشبه المتشكّك المرتاب الذي يرفض ما يقدّم له. هذه المرأة هي ابنة حواء التي لا يحق لها أن تقدّم نظرة دينيّة في العالم اليهوديّ. ولكنها معنيّة بوضع زوجها وما فيه من انحطاط. ما عرفت أن تكتشف عمل الشيطان، فصارت مثل حواء شريكة آدم في الجنة. فبكل اجتياح عاطفتها، رفضت هذا الاله الذي أخذ من العائلة كل ما تملك. في الخاتمة (42: 7) التي تضمّ معطيات الخبر ومعطيات الحوار، وبّخ الرب أصدقاء أيوب، ولم يوبّخ المرأة الغضوبة، وسوف تعطي لزوجها الذي عاد إلى حالته السابقة سبعة بنين وثلاث بنات جميلات. وهكذا تكون "قصة" أيوب قصّة التفاؤل. ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى الحوارات.

3- الله وأصدقاء أيوب
إلههم هو إله مجمل الأسفار الملهمة في لاهوت العهد. إله الحكمة التقليديّة. فالأصدقاء الثلاثة يلعبون دور المحرّك في حوار يتيح للمتكلّم الرئيسيّ الذي يعيش في عزلة مترفّعة، أن يقول رأيه بما فيه من متطلّبات. فالتسامي الالهي في نظرهم هو معطى لا يُحسّ، ولابدّ من مراعاته في وظيفته كمُجاز لأعمال البشر. فعلى الانسان أن يحكم على نفسه لا حسب وعيه الشخصيّ لحالته النفسيّة الخاصّة، بل بحسب ما يدلّ عليه وضعه. هو مبارك من الله بالخيرات التي نالها، إذن هو بار. وإلاّ فهو ملعون حين يخسر المال والبنين والصحّة. نحن هنا أمام علامة أكيدة عن دينونة الله.
هل نرى في هذه الخطب لوحة واسعة قدّمها الكاتب بروح خطابيّة عن لاهوت عصره؟ ربّما. ولكن قد يكون رآها غير كافية تجاه الخبرة. لهذا قدّم نظرات فيها الكثير من المبالغة والافراط. وفي أي حال، هذه النظرة تبقى ناقصة لأنها نسيت عمل الله الخلاصيّ تجاه شعبه. ولكن هذا ليس موضوع سفر أيوب. فأقوال الأصدقاء كما دوّنها، هي مناسبة تتيح لأيّوب أن يعبّر عن فكره، وبالتالي أن يحكم على نفسه. يقول إنه أمين، فليعط تفسيرًا معقولاً عن الشقاء الذي يعيش فيه الآن. وهل يستطيع الله أن يُعطي هذا التفسير؟
أراد اليفاز في لحظة من اللحظات أن يرفض الاشكاليّة المعروفة التي تفترض أن الله يهتمّ بموقف الانسان. "هل يرضى القدير إذا تبرّرت؟ هل يهتم ببراءتك؟ هل يستفيد إذا قوّمت طرقك، إذا كان سلوكك مستقيمًا" (22: 3)؟ لو كان الأمر كذلك، لانتفى السؤال: إذا كان الله لا يهمّه الانسان ومصيره ومحاولاته لكي يبرّر نفسه، فلا يبقى لنا إلاّ أن نعود إلى الصدف. ولكن منطق إليفاز لا يصل بنا إلى هذا الحدّ. بل يعود إلى مدلول حكميّ: الألم تأديب للانسان. "هل على تقواك (أو: خوفًا منك) يؤدّبك، ويدخل معك في محاكمة؟ شرورك أنت جسيمة وآثامك لا حدّ لها" (22: 4- 5). هذا الكلام نكمِّله بما في 5: 17- 19: "هنيئًا لمن يؤدّبه الله، ومن لا يرفض مشورة (عظة) القدير. يجرح (الله) ولكنه يضمّد، ويضرب ويداه تشفيان. ينجّيك ستّ مرّات من الضيق، وفي السابعة لا يمسّك سوء". هنا نلتقي بما في تث 8: 5: "إعلم أن الرب يؤدّبك كما يؤدّب الأب ابنه". هذا ما فهمه اسرائيل. فلماذا يرفض أيوب أن يفهم؟
وسيستعيد أليهو هذا الدرس في 36: 15 ليدلّ على أن الله يعلّم الانسان بواسطة الألم. فيبقى على أيوب أن يتوب عن خطاياه فيتركه الله في سلام. هنا تتداخل نظرة مجازاة داخل المجموعة حيث يتألّم واحد عن الآخرين، مع نظرة مجازاة تصيب الفرد كما حصل لأيوب فما عاد يفهم لماذا أصابه ما أصابه.
وهكذا بدا اللجوء إلى الارتداد والتوبة للعودة إلى النعمة واستعادة السعادة، موضوعًا من مواضيع أصدقاء أيوب، قد تحدّث عنه الأنبياء مرارًا بالنسبة إلى الأمّة الخائنة. عاد الأصدقاء إلى خبرة الآباء (8: 8): "سائل الاجيال السابقة، وتأمّل تجارب آبائهم". من يطلب الرب، من يرذل الشرّ "يمتلئ فمه بالضحك وشفتاه بهتاف الفرح" (8: 21). وقالوا: "كل هذا اختبرناه وهو حقّ، فاسمعه وأعمل به لخيرك" (5: 27). الله هو عادل، ولا يستطيع أن يميل بالحقّ. هو لا يرفض البريء. أما الاشرار فلا يعرفون كيف يعودون إلى الله.
وحين يبدأ أليهو الكلام، فهو لا يزيد الشيء الكثير على صورة الله كما رسمها الاصدقاء الثلاثة، أليفاز اليتماني، بلدد الشوحي، صوفر النعماتي. اهتمّ أليهو كل الاهتمام بتسامي الله، فوبّخ أيوب المشتكي لأنه أراد أن يظهر نفسه أبرّ من الله. "قلتَ (أنت) على مسمع مني، وصوتُ كلامك رنّ في أذني: أنا بريء بلا معصية، نقيّ ولا عيب فيّ. هو الله يخلق المبرّرات ويحسب أني عدوّ له. يحبس رجلّي في المقطرة ويراقب جميع خطواتي. فأجيب أنك غير محقّ: هو الله أعظم من الانسان. لماذا أنه تخاصمه" (33: 8- 13)؟
وفي 34: 5- 12، يورد أليهو كلام أيوب: "قال أيوب: أنا على حقّ، لكن الله رفض حقّي. يكذّبني والحقّ في جانبي، وجرحي عديم الشفاء ولا ذنب لي". ثم يردّ على أيوب: "فمن من الناس مثل أيوب هذا يشرب الهزء كما يشرب الماء (جماعة المستهزئين). يمشي في صحبة أهل السوء ويسلك مع زمرة الأشرار... فالله حقا لا يفعل الشرّ ولا يعوّج طريق العدل".
أراد أليهو أن يبرّر الخالق. قال: "حملتُ معرفتي من مكان بعيد. وسأبرهن عن عدل خالقي" (36: 3). لهذا أبرز دور الألم على أنه لغة يكلّمنا بها الله. "على فراش الألم يؤدبّه وبارتجاف عظامه المستمرّ، فتعاف نفسه أكل الخبز ولا تشتهى لذيذ الطعام" (33: 19- 20). بهذه الطريقة، ينجّي الله الانسان من الهاوية. ويردّ أليهو على أيوب الذي يرغب في لقاء مع الله: "لا نستطيع أن ندركه" (37: 23). هو فوق متناول فهمنا. غير أن هذا لم يمنعه من أن يبدأ جواب العليّ الصامت من جميع المخلوقات. "فاسمعوا هزيم صوت الله والزئير الخارج من فمه. تحت جميع السماوات يطلق برقه فيصل إلى أطراف الأرض... الله حقًا يعمل العجائب، وعظائمه فوق إدراكنا. يقول للثلج: اسقط على الأرض. وللمطر الغزير: أهطل بقوّة. يختم على يد كل انسان (يضع عليها الختم فلا تعود تتحرّك) ليعرف جميع البشر خالقهم... بنسمة الله يحدث الصقيع وتتجمَّد سطوح المياه... فأصغ إلى هذا يا أيّوب؟ قف وتأمّل عجائب الله. أتعرف كيف يسيّرها الله؟ وكيف يلمع البرق في غمامه"؟ سيطرح الربّ مثل هذه الأسئلة على أيوب في ف 3- 42، فتكون كلمات الجواب الأخير صدى لما قاله أليهو في ف 37.
ومختصر الكلام، تأكّد هؤلاء "الاصدقاء" من الله. وضعوه "في جيبهم". برهانهم لا يتبدّل ولا يقبل الردّ. والله يمكنه أن يثق بهم لكي يربح قضيّته! ولكنه خسرها. بالاضافة إلى ذلك، لا سؤال عندهم يطرحونه على الله، فكل شيء واضح لهم. أو بالأحرى تجمّدوا، فخمدت فيهم قوّة الحياة التي تدلّ الانسان على وجه الله الحيّ.

4- إله أيوب
وجد أيوب نفسه أمام خبرة جديدة لواقع الله: هو الاله العدوّ. بل هو بالأحرى ذاك الاله الذي لا تستطيع أن نمسكه. أن ندركه! هو سبب كل شيء، بل سبب الشرّ الذي يصيب البارّ. لهذا نحن لا نستطيع أن ندنو منه. لقد اعتبرت الحكمة التقليديّة أنها نستطيع أن تعطي تبريرًا لوضع رديء لا يجد له تفسيرًا. لم تجد هذا التبرير على مستوى العقل. فهاجمت العلّة الأولى. ودخل أيوب في اللعبة. فطرح هو أيضًا أسئلة على الله. وانتظر جوابًا يختلف عن ذاك الذي أعطي له مرارًا لأنه يعارض خبرته. بما أنه حكيم، لا يستطيع أن يقبل بهذا الجواب. عند ذاك كشف له العليّ عن طرقه. صمتُ الله "يزعجه" أكثر من أعماله. وهذا الانزعاج يجعل كلامه مؤثّرًا. فحين نقرأه نكتشف الانسان لا الله الذي ظلّ صامتًا.
أيوب رجل متشعّب الشخصيّة، صابر ومضايَق، تقيّ وعلى حافة التجديف. هو انسان يسعى إلى الموت (6: 9). بل يلعن حياة لا قيمة لها بالنسبة إليه بعد اليوم. "ليت الشهور السالفة تعود، أيام كان الله حارسي، يضيء سراجه فوق رأسي فأسلك بنوره في الظلام. أيام كنت في عزّ حياتي ورضى الله على مسكني، والقدير بعدُ ساكن معي وأولادي يحيطون كلّهم بي..." (29: 2- 20). كانت ليلة طويلة تشبه ليلة صراع يعقوب مع الملك.
إن كان أيوب قد جُرح في الصميم، إلاّ أنه لم يشعر يومًا أنه "تفوّق" على الله. لا شكّ في أنه يعلن بثقة عميقة: "أعرف أن وليّ حيّ. فالذي أراه يكون لي (ضد خصومي). سيظهر لعينيّ ولا يكون لامباليًا" (19: 25- 27). ولكن كل شيء يبدأ جديدًا من هنا. لهذا قال أيوب أيضًا في 23: 3- 7 ما يؤلمه: "ليتني أعرف أين أجده (= الله)، أو كيف أصل إلى مسكنه! فأعرض أمامه دعواي وأملأ فمي حججًا. وأعرف ماذا يجاوبني، وأفهم ما يقوله لي. أبعظمة جبروته يحاكمني أم عليه أن يُصغي إليّ؟ فيرى أنني خصم مستقيم وأن دعواي هي الرابحة".
إن تشكّي أيوب يدلّ على أيوب أكثر ممّا يعرّفنا إلى الله. وهو يهتمّ بأن يكلّم الله، لا بأن يتكلّم عنه. عكس أصدقائه. أيوب وحده هو الذي يصلّي. ولكننا نحسّ أننا أمام إنسان خاضع، ذليل، ثائر. يتوسّل فلا يتأكّد أنه يجد أذنًا صاغية. يتحدّى الله وهو متأكّد من نفسه: هو على حق! إذن الله...
ليس الله بالنسبة إلى أيوب فكرة مجرّدة، كائن ضروري نحتاج إليه لكي نعطي معنى للكون والتاريخ. ففي نظره كما في نظر اسرائيل كله، يهوه هو الاله الحيّ، وهو قريب من شعبه قربًا لا يعرفه شعبٌ من الشعوب مع إلهه (تث 4: 7). ولكن ليس هذا سؤاله. فهو يعيش مصيرًا يبدو له شاذًا: يتلقّى البار ما يجب أن يعود إلى الشرّير. فمن هو مسؤول عن هذا الوضع سوى الربّ؟ لم يجد أيوب على مشكلته جوابًا يرضيه حين آمن بمواعيد الله "لجيوش اسرائيل". رفض الجواب الجماعيّ الذي يبحث عن سبب الشرّ في القبيلة، في الأجداد والابناء. المشكلة مشكلته هو. وبالتالي مشكلة كل شخص وحده. وعدالة الله يجب أن تجعله المجازي العادل. ولكن شتان بين هذه العدالة وما ينتظره أيّوب.
عند ذاك اعتبر أيوب أنه يحقّ له أن يسأل عن السبب لدى شداي (الاله القوي الشديد، إله الجبال). بل هو لم يقبل أن لا يؤخذ نداؤه بعين الاعتبار. إذا كانت التوراة لا تُخرج صورة الله من تشكّيات طويلة واتهامات المؤمنين للرب بعد أن دخل إيمانهم في مناخ الاضطراب، إلاّ أن هناك نصوصًا تبرّر هذه الطريقة بتحديد موقع الله بالنسبة إلى الانسان. فلهجة بعض المزامير قريبة جدًا من لهجة أيوب. إلاّ إن قصر المزمور لا يتيح لنا أن نرسم وجه الانسان، ولا وجه الله الذي يتّهمه الانسان.
إذا كان أيوب قد ارتبط بالمزامير أو بكتاب المراثي، فهو مع ذلك قد مزّق المواضيع التي نجدها في هذين السفرين. فما كان فيهما كلامًا ينشد الله وبرّه، استُعمل هنا ضدّه. فالتسامي الالهي الذي يعترف به أيوب، لا يعطيه شرحًا كافيًا من أجل وضعه. فأمام قداسة العليّ ليس من بار. هذا ما لا شكّ فيه (9: 2). ولكن المشتكي لا يتراجع عن اعلان براءته (10: 7). عندئذ يشكّ في برارة الله بالذات. "يوقع البلاد في يد الشرير ويحجب وجوه قضاتها (لئلا ترى). إن لم يكن (هو من يضربني) فمن يكون" (9: 22- 24). انزعج أيّوب كما انزعج عدد من أتقياء الله في اسرائيل من ازدهار الأشرار (21: 7- 19: لماذا يحيا الاشرار ويشيخون ومع الأيام يزدادون اقتدارًا؟)، فصرخ معهم بأن الجور مسيطر على الكون، وتمنّى أن تتبدّل الأحوال.
يقبل أيوب بأن يكون الرب كليّ القدرة، كليّ المعرفة (12: 13: لله العلم والجبروت، وله وحده المشورة والفهم). ولكنه يريد جدالاً صريحًا معه، مهما كلّفه هذا الجدال: "أريد أن أعاتب الله" (13: 3). "اسكتوا (ولا تتكلّموا) عني فأتكلّم أنا وليُصبني من الله ما أصاب" (آ 13). فهذه هي فرصته الاخيرة في خلاص ينتظره. "هو حقًا مخلّصي الوحيد". (آ 16). "أطلبه في الشمال فلا أراه. وأميل إلى الجنوب فلا أبصره. أما هو فيعرف كيف أسلك، وإذا امتحنني خرجتُ كالذهب" (23: 9- 10). إذن، هو لم يفقد كل أمل: "لي من الآن شاهد في السماوات، ومن يحامي عنّي في الأعالي" (16: 19).
صار الله في نظر أيوب كما في نظر العهد القديم كله "رقيب البشر" (7: 20). والانسان أمامه مثل أجير ينتظر أجرته، وعبد يشتاق إلى الظلّ من حرّ الشمس. قال أيوب عن الله مبدّلاً معنى مز 8: "ما الانسان لتحسبه عظيمًا أو لتشغل به قلبك؟ تراقبه صباحًا بعد صباح، وفي كل لحظة تمتحنه. إلى متى تنصرف عنّي فتمهلني لأبلع ريقي" (7: 17- 19)؟ هذا الاله يمحق أيوب بالاهوال، يغرز فيه السهام، ويرسل إليه السموم لتمتصّ روحه (6: 4). يرهبه بالاحلام والرؤى (7: 14) فيكاد يختنق.
لا شكّ في أن أيوب لا يريد أن يعطي درسًا "للذي يدين الكائنات العلويّة"، بل للذين يعارضونه: يغلقون عيونهم عن خبرة لا شكّ فيها، أو يجعلون مشكلته (= الرجل المتألّم) خارج حدود الاختبار والملاحظة (21: 3: يخلّص الشرير ساعة النكبة)، أو يسجنون هذا المشتكي في جدليّة كذبهم. في نظره، ليس من رغبة ولا يقين ولا كذب يستطيع أن يملي شروطه على الله. الله حرّ، ولكنه يخيّب الآمال. بدا أيوب متقلّبًا في كلام وجّهه إلى الله الصامت، وفي ردّه على الاصدقاء الثرثارين، ولكنه ظلّ ثابتًا في يقينه: هو بريء. وهذا التأكيد يسلّمه إلى حكم الله. "ليزنّي الله في ميزان العدل فيعرف سبحانه نزاهتي" (31: 6). شكّ لحظة ببراءته فقال في 9: 21: "أنزيه أنا؟ لا أعرف". ولكنه تخلّى عن هذا الشك. ويبقى أن ما لا يعرفه هو موافقة برّ الله مع الشرّ الذي يصيبه.
كيف بدا وجه الله أمام شخص أيوب؟ هو ينتقل من الايمان إلى الشكّ وفي النهاية، يسجد راكعًا في التراب والرماد.

5- الله في ظهوره لأيوب
اتّهم أيوب الله لأنه رفض الحوار. لم يقبل بالطريقة التي بها يُطرح السؤال. وها هو الآن يفرض طريقته. المقابلة التي رفضها في البدء، ها هو يعطيها ساعة سكت الناس. لا، ليس الله بعيدًا وليس لامباليًا. هو العليّ. وهو سيتكلّم من "قلب العاصفة". غير أنه لا يردّ على الاتهامات التي وجّهت إليه نقطة نقطة. ولن يكون سهلاً مع أيوب. "من هذا الذي يغلّف مشورتي بأقوال تخلو من كل معرفة" (من كل معنى) (38: 2)؟ واعترف المتَّهم بصحّة هذا الاتهام في 42: 3. وكلّم الله أيوب عن مشورته وحكمته. ما انتظر أيوب كل هذا. بل انتظر شيئًا ينيره في تساؤله. أخذه الله في نزهة عبر الكون فقال أيوب: "سمعت عنك سمع الأذن، والآن رأتك عيناي". قدّمت له الخليقة وحيًا يختلف عن كل ما قدّمت له خطب الحكماء. فعاد إليه هدوؤه. "صار فقيرًا" أمام الله، فتمّ له اللقاء مع الله الذي شكّ به وارتاب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM