الفصل التاسع عشر: الاله الخفيّ

الفصل التاسع عشر
الاله الخفيّ

يشهد الكتاب المقدس تنوّعًا كبيرًا في الاشكال الادبية التي تُعبِّر عن وحي الله في شعب اسرائيل، وهو وحي يجدُ امتداده، في نظر المسيحيين، في حياة المسيح وموته وقيامته. شدّد العهدُ الأول على تجليّات الله الذي يحرّر شعبَه من عبوديّة مصر، الذي يقوده إلى أرض تَدُرُّ لبنا وعسلاً، الذي يُكلِّمه بالانبياء والحكماء، الذي يوجّهه بالرؤساء والملوك. في هذا الاطار، الله يُرى، الله يُسمع، الله يتكلَّم، الله يَظهر، الله يخلّص. ونستطيع أن نسند كلُ عبارة من هذه العبارات بسلسلة من النصوص البيبلية. هذا التشديدُ على عمل الله يشكّل الموضوعَ الرئيسي في هذا العالم الكتابي. ولكننا نجد بجانب موضوع حضور الله لشعبه، موضوعًا آخر هو موضوع الله الخفي. إن الله الذي يكشف عن نفسه هو في الوقت عينه الاله الخفي، الاله الذي لا نستطيعُ أن نحبسه داخل رغباتنا وأشواقنا. إنه أبعد منها. هذا هو موضوع كلامنا في معرض تعرّفنا إلى وجه الله الخفيّ في الكتاب المقدس.

1- أش 45: 15
نقرأ عبارة الاله الخفيّ أو الاله المحتجب في هذا النص من أشعيا. في العبرية "إيل مستتر". وفي السريانية: الها مسترا، أي الاله المحجوب والمستور والمخفي.
نعود إلى إطار النص لنفهم معنى هذه الآية. فالمقولة النبوية التي تنتمي إليها آ 15، تضم أقلّه آ 14- 17 التي تشكّل وحدة أدبية مفصولةً عمّا سَبَقها وعمّا يتبعها. تبدأ بعبارة هكذا قال الرب (آ 14) وتنتهي بها (آ 18). ثم إن عبارة "ليس آخر" التي تشدّد على وحدانيّة الله، نجدها في آ 14 وفي آ 18. قد نكون أمام تكرار، بل نحن بالأحرى أمام تأكيد يعلنُه الله نفسُه عن اعتراف الشعوب به. وأخيرًا، تجاه الاله الخفيّ الذي يحتجب (آ 19)، يعلن الله في آ 19: "لم أتكلّم في الخفية". كيف نترجم أش 45: 14- 17؟
"هكذا قال الرب: ثمرة عمل (سعيُ، تعب حسب السريانية) مصرَ وتجارةُ كوش وأهلُ سبأ ذوي القامات (الممدودة) يعبرون إليك ويكونون لك. يسيرون وراءك. يعبرون في القيود. يسجدون لك ويتضّرعون إليك (أو: فيك) قائلين: إنما الله فيك (أو: الله فيك وحدك. أو: لا إله إلاّ عندك) وليس آخر. أما الآلهة فعدم (هي كلا شيء). حقًا أنت إله مُحتَجب (خفي)، إله اسرائيل، المخلّص (يوسّع ولا يضايق). لقد خَزوا وخَجلوا كلُهم. ذهب صُنّاع التماثيل جميعًا بالخجل. أما اسرائيل فخُلّص بالرب خلاصًا أبديًا. إنكم لا تخزون ولا تخجلون إلى دهور الأبد (أو: من الآن إلى الأبد)".
نقرأ في أش 3:43 عن ثلاثة بلدان: مصر، كوش، سبأ، كما في هذا النص. وفي أش 23: 18 كيف أن غنى الأمم يجري إلى أورشليم (رج أش 60: 1- 10؛ حج 2: 7- 8).
يقول النص: يعبرون بالقيود. إنهم أسرى حرب. ولكن هذا لا يليقُ بأناس جاؤوا يعترفون بالله الواحد. أنستطيعُ أن نترجم: يمرّون في الطرق (رج كلمة زقاق في العربية). إذا أبقينا على الترجمة الاولى نكون أمام عبيد مقيّدين (رج الترجمة السبعينية التي تقول: يكونون لك عبيدًا، فتزيد كلمة). هذا ما نقرأ في أش 61: 5.
ولكن إلى من يتوجّهُ الله في آ 14؟ يعود ضميرُ المخاطب (أنت) ستَ مرات هنا. وهو في صيغة المؤنث. إنه يدلّ على أورشليم (أو: صهيون) التي يعلن لها اللهُ مسيرةَ شعوب الجنوب، وهي مسيرةٌ تتحوّلُ إلى حجّ إلى أورشليم مدينة الله الواحد.
نجد ثلاثة أفعال تصف هذه الشعوب: أولاً، يعبرون قرب أورشليم. ثانيًا، يعلن الله أنهم يكونون لاورشليم أو في أورشليم. ثالثًا، يسيرون وراء أورشليم، يتبعونها، وهم بفعلهم هذا لا يعودون يتبعون آلهة أخرى. وهناك فعل سجد، ثم فعل صلّى الذي يدخلنا في اعتراف إيمان كما في أش 44: 17 (سجد ثم صلّى).
أما تعابير اعتراف الايمان التي وُضعت في فم الشعوب، فنحن نجدها على مدّ أش 40- 55.
- "لا إله إلاّ عندك". عبارة أصيلة تدلّ على أن الله الواحد حاضر في أورشليم.
- ليس آخر أو لا إله آخر. نجد هذه العبارة التي تُبرز وحدانيّة الله في أش 45: 5 (أنا الرب وليس آخر)، 6، 18، 22؛ 46: 9.
- الآلهة عدم. فكلمة "أفس" تدلّ على العدم كما في أش 40: 18: عدم وخواء (رج 41: 12، 29؛ 45: 6، 14...).
إذن، يشير الله في آ 14 إلى صعود ثلاثة شعوب أتوا من الجنوب: المصريون، الكوشيون (أو: الاحباش)، السبأيون (أفريقيا الشمالية الشرقية). أتوا إلى أورشليم، ولما وصلوا إليها، إعترفوا بالاله الواحد.
تبدو آ 15 متوازية مع آ 14 وهي تبدو أيضًا بشكل اعتراف إيماني. لا نستطيع أن نربطها بصلاة الشعوب. فالضمير ضمير المخاطب المذكر، والاعتراف يتوجّه مباشرة إلى الله. ثم إن الفعل "استتر" الذي يصف الله لا يتوافق مع آ 14 حيث تُعلن الشعوب جهارًا وحدانية الله.
لهذا، نحن نعتبر آ 15 اعتراف إيمان النبي الذي يتكلّم باسم شعبه. لا، لسنا أمام تفسير يقدّمه كاتب تقي، ولا أمام تعبير عن صوت المعارضة الدينيّة. إذا كان اعتراف الشعوب غير موفَّق وغير كاف، فالنبيّ يكلّمه هنا ولا ينتظر آ 18- 19.
إعتراف إيمان النبي أصيل، وهو يعبّر عن إيمان شعبه: "حقًا، أنت الاله الذي يستتر (يحتجب)، إله اسرائيل، المخلّص". لا أحد يخفي الله أو يحجبه. بل إن الله هو الذي يحجب نفسه. هذا ما يشدّد على عمل الله الارادي والمستمرّ، ويدلّ بالتالي على حريّة الله وسمّوه في تصرّفه. وغياب الله كإله يفعل من أجل شعبه، لا يتمّ إلاّ بالعودة إلى خبرة حضور فاعل. لأن الله الذي يحتجب هو في الوقت عينه إله اسرائيل. نقرأ في أش 43: 11: "أنا، أنا الرب، ولا مخلّص غيري". وفي أش 45: 21: "ليس آخر، لا إله غيري، إله عادل مخلص ليس سواي" (رج أش 43: 3؛ 49: 26).
وبعد أن ينتقد النص (آ 16) صانعي التماثيل، تؤكّد آ 17 مرّة ثانية أن اسرائيل لن يجد خلاصه إلاّ في الرب. وتقدّم آ 16- 17 تناقضًا بين خزي صنّاع التماثيل ولاخزي اسرائيل الذي يعرف خلاصًا أبديًا.
ولكن، لماذا يتحدّث نبيّ المنفى عن الله الذي يحتجب؟ قيل: إن الله لم يعد يعمل بصورة مباشرة في التاريخ، كما في الماضي، فاحتجب خلف أدواته (كورش). ولكنه بقي لشعبه ذاك المخلّص الذي تظهر قدرته في عمل خلقه. نحن أمام تفسير عام لا يأخذ بعين الاعتبار فعل "احتجب". فالاله الذي يحتجب هو الذي لم يتدخّل من أجل شعبه. حين يتأمّل المؤمن في تاريخه، يجد أن مخطّط الله سريّ لا يُدرك. فسقوط أورشليم سنة 587 وخبرة المنفى هما وقتان لم يتدخّل فيهما الله من أجل شعبه. نحن هنا أمام خبرة دينيّة جديدة لا نستطيع أن نلغيها فنحسبها وكأنها ما كانت. يعبّر النبي عن هذه الخبرة المؤلمة، ولكنه يؤكد أيضًا أن الاله الذي يحتجب هو المخلِّص. وهكذا يكتشف الايمان في حركة واحدة حضور الله وغيابه.
عاش النبي في زمن تاريخي محدّد، فعبَّر عن خبرته الايمانية. وقد يعيش الافراد والجماعات أوضاعًا مماثلة، فيفهمون أن خبرة الاله الخفيّ جزء لا يتجّزأ من الايمان.

2- الله الذي يحتجب
توقّفنا عند أش 45: 15 التي هي فريدة بمضمونها وبشكل الفعل المستعمل في النص. فهل من نصوص أخرى تحدثنا عن الله الذي يحتجب؟ نستطيع أن نورد أش 57: 17 الذي هو جزء في قولة تعود إلى ما بعد المنفى، وفيها يذكر الله عمله السابق من أجل شعبه ويعلن الخلاص. "غضبت بسبب شهوته الاثيمة. إختبأت فضربته وغضبت. فذهب عاصيًا في طريق قلبه. رأيت طرقه فشفيته وهديته، ورددت العزاء له ولنائحيه" (أش 57: 17- 18).
إن عمل الله الذي يحتجب، يشير إلى دينونة الله حيال شعبه. يُعتبر زمن المنفى زمنًا أراده الله. غير أن هذه الدينونة محدودة في الزمن، لأن الله يعلن الخلاص في رمز الشفاء.
ونستطيع أن نورد أيضًا مز 89 الذي يبدو في قسمه الاخير (آ 29- 52) في شكل تشكّ جماعي بعد كارثة حلّت بالوطن. في هذا الاطار، سأل المرتّل الله، قال: "إلى متى يا رب؟ أعلى الدوام تستتر (تحتجب، تتوارى)؟ أيتّقد سخطك كالنار" (آ 47)؟
إن الشقاء الذي حلّ بسلالة داود يتعدّى الفهم والادراك، لهذا كان المرتّل عنيفًا في صلاته. مثل هذا الشقاء لا يجد جوابه في ذنب اقترفه يوشيا (الملك الشاب). لم يأت الربّ في الوقت المناسب ليعين من اختاره ومسحه ملكًا. يبدو أن هذا المزمور يرتبط بموت يوشيا (الملك الشاب) في مجدو سنة 609 ق م.
ونقرأ في مز 10: 1: "لماذا يا رب تقف بعيدًا وتحتجب في آونة الضيق"؟ الرب يتوارى. مع أن الشرير يهزأ بالله فينجح في كل أعماله. حين لا يتدخّل الله، يتبلبل المؤمن الذي ينتظر رغم كل شيء أن يقوم الله بعمل من الاعمال من أجل شعبه وخائفيه.
أما مز 55 فهو نداء يتوجّه إلى الله الذي يتظاهر بالصمم. "اللهم أصغ لصلاتي. لا تستتر (تحتجب، تتوارَ) حين أتضرع إليك" (آ 2). وضعُ المرتّل وضعٌ حرج: فالعنف لا يأتيه من الخصوم والاعداء، بل من صديق حميم. إشتكى المرتّل إلى الله فأظهر اتكاله عليه. ولكن هذا الاله يحتجب ساعة ترتفع الصلاة إليه.

3- الله يحجب وجهه
نجد هذه العبارة في سفر أيوب (13: 24؛ 34: 29) وسفر التثنية (31: 17، 18؛ 32: 20)، في المزامير وعند الانبياء (مي، أش، إر، حز).

أ- في المزامير
تُستعمل عبارة "الله يحجب وجهه" في مزامير التشكّي الفرديّة أو الجماعيّة (مز 44: 25) وفي صلوات المديح (حز 30: 8؛ 104: 29).
يكون المرتّل في وضع من الشدّة والضيق، فيشتكي إلى الله ويتوسّل. قد يكون السبب مرضٌ يقود إلى الموت أو شهادة زور يرميها أحد الخصوم على المؤمن، أو هزيمة في الحرب. ووضعُ الضيق هذا لا يرتبط بغضب الله إلاّ في مز 27: 9: "لا تحجب وجهك عني، ولا تنبذ بغضب عبدك"!
لماذا لا يحدِّد المؤمن سبب التشكي؟ هل هناك علاقة بين الضيق والخطيئة؟ هذا ما لا نستطيع أن نؤكّده. وإن ذكر المرتّل خطيئته فلكي يقرَّ بها. ففي مز 51، يقر المؤمن بخطيئته، ويطلب من الله الغفران: "أحجب وجهك عن خطاياي، وامحُ جميع آثامي" (آ 11).
وفي مز 69، يقرّ المتوسّل أنه خاطئ: "اللهمّ، أنت عالم بجهالتي، وآثامي ليست مخفية عنك". اتُّهم المؤمن بأنه سارق، فاشتكى إلى الرب معلنًا براءته. بل أكدّ أن الوضع الذي هو فيه ناتج عن أمانته لله. "من أجلك تحمّلت التعيير، والخجل يغطّي وجهي" (آ 8). ثم في آ 10: "أجل، غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيّريك وقعت عليّ".
حين نقرأ مز 51 و69 لا نستطيع أن نعمّم القول بأن الخطيئة هي السبب فيما يحصل للمؤمن. في مز 69، يشتكي المرتّل إلى الله ويطلب منه أن يتدخّل. "استجب لي، يا رب، فإن أمانتك (رحمتك) صالحة. بحسب كثرة رأفتك التفت إليّ ولا تحجب وجهك عن عبدك" (آ 17- 18).
نشير هنا أنه، إن حجب الله وجهه، فهذا يعني أنه يمنع غفرانه. وهذا ما لا نراه في المزامير. وهكذا لا تكون الخطيئة سبب الضيق الذي يحلّ بالانسان. ومز 44 الذي هو نحيب وتشكٍّ جماعيّ، يبدأ بذكر حسنات الله (آ 2- 9). وفي آ 10، يظهر التشكي الذي يلمّح إلى هزيمة في الحرب. وأخيرًا، نجد في آ 18 كلامًا يعلن بأن الشعب بريء. "هذا كله وقع علينا وما نسيناك ولا نكثنا عهدك. لم ترتدّ قلوبنا إلى الوراء (أي: لم نتراجع). ولا مالت خطواتنا عن سبيلك حين حطّمتنا في مقر بنات آوى (أرض الخراب والدمار) وغطّيتنا بظلال الموت (آ 18- 20).
وتجاه هذا الوضع الذي لا يُفهم، يتوجّه المؤمن إلى الله ويطرح عليه وابلاً من الاسئلة: "انتبه! لماذا تنام، يا رب؟ إستيقظ! لا تقص (أو حسب العربية: لا تتغيَّر) على الدوام! لماذا تحجب وجهك وتنسى بؤسنا وضيقنا" (آ 24، 25)؟
مثل هذه الاسئلة تعبّر عن الشعور بغياب الله. هذا الاله تدخّل في الماضي، فلماذا لا يتدخّل الآن؟ هذا ما لا يفهمه المؤمن. الحاضر مؤلم وهو لا يطاق، فلماذا يغيب الله عنه؟!
نلاحظ في هذه المزامير تكاثر الاسئلة التي تطرح على الله. ففي مز 88، يتشكّى مريض صار قريبًا من الموت، فيطرح هذا السؤال: "لماذا ترذلني يا رب، وتحجب وجهك عني" (آ 15)؟
وسنجد السؤال عينه في خطبة لأيوب يعود فيها إلى خطيئته. "ما الذي لي من الآثام والخطايا؟ أعلمني معصيتي وخطيئتي. لماذا تحجب (تستر) وجهك (وكأنك لا تريد أن تغفر) وتعدُّني عدوًّا لك" (أي 13: 23- 24).
نستطيع القول إن السؤال الموجّه إلى الله يتضمّن لومًا وعتابًا: هناك تعارض بين ما يعرف المؤمن عن الله، عن مواعيده وأمانته وميثاقه وبركاته، وبين الوضع الحاضر. ويتغذّى السؤال عند أيوب من عدم التناسب بين الضيق والخطيئة. أما في مز 13 فنجد أربعة أسئلة تدلّ على أن المؤمن يحسّ أن الله قد تركه وهو لا يعرف لماذا تركه. "إلى متى يا رب تستمر على نسياني؟ لماذا تحجب وجهك عني؟ إلى متى يسيطر الهمّ في نفسي وتأكلني الحسرة النهار كله؟ حتى متى يتغلَّب عدوي عليّ" (آ 1- 3)؟
وإذا قرأنا مز 9 و10 معًا نجد مزمور شكر ثم مزمور تنهّد وتوسّل. نحن ننتقل في هذين المزمورين من اليقين حوله تدخّل الله إلى عكس ذلك، إلى الشكّ والارتياب حول تدخّل الله في هذا العالم. فإن مز 10 يعارض بالتفصيل مز 9. هو يبدأ بسؤال: "لماذا يا رب تقف بعيدًا وتحتجب" (تتوارى)؟ وفي هذا المزمور يعلن الشرير بنبرة الانتصار: "الله قد نسي وحجب وجهه، فهو لا يرى شيئًا" (آ 11).
وإن توقَّفنا عند ظاهر الأمور، فالله لا يعاقب الانسان بسبب هذه الكلمة والسلوك الذي يلهمها. فيتشكّك المؤمن ولا يفهم غياب ردّة الفعل عند الله. هذا مع العلم أن المرتّل يشهد أن الله يرى الضرر والألم اللذين يصيبان المسكين ويسهر على أن يجازي بيده. فالمسافة واسعة بين واقع المؤمن واليقين الذي يملأ قلبه.
ونجد تشكيًا قويًا في مز 30 الذي هو مزمور شكر. حين يستعيد المؤمن الماضي يقول: "حجبت وجهك فارتعبت. إليك صرخت يا رب، وإلى الرب تضرّعت: أية منفعة إذا متّ (سُفك دمي) ونزلت إلى القبر (الهاوية)؟ هل يستطيع التراب (من يصير إلى التراب، من يموت) أن يعترف لك؟ هل يخبر بأمانتك؟ إستمع يا رب، وارحمني. كن ناصري يا رب" (آ 8- 11).
لقد لاحظنا أن عبارة "تحجب وجهك" تشير إلى الماضي وإلى التشكي الذي تفجَّر من قلب المؤمن في ذلك الوقت. إن المزمور يصوّر "القطيعة" بين المؤمن والله. وبأشكال متنوعّة.
هناك صرخة الاستغاثة التي تلحّ على الله بأن يخرج من صمته، ويعييد الاتصال مع المؤمن الذي يلجأ إليه. "إسمع يا رب" (30: 11). "أنظر، استجبني" (13: 4). "أسرع واستجبني" (69: 18). "ليصل إليك صراخي" (413: 1). "أمل إليّ أذنك" (88: 3).
ثم إن المرتّل يشير إلى هذه القطيعة الجذريّة، إلى الموت. لهذا على الله أن يتدخّل ليستطيع المؤمن أن يتابع عمل الاعتراف، لأن فعل الشكر والمديح يتوقّف عند الأموات. هذا ما وجدناه في مز 30.
إبتعد الله، غاب ولا نعرف متى يعود. نحن هنا أمام خبرة دينية واسعة، يكتشف فيها المؤمن أن الله حاضر وغائب معًا.

ب- في كتب الانبياء
ما نلاحظه عند الانبياء، هو أن عبارة "حجب وجهه" ترد إحدى عسرة مرّة (ثم 3 مرات في تث)، وأنها ترتبط بالخطيئة والمعصية. إذن، نحن في إطار الدينونة.
تظهر العبارة في مي 3: 4 في نهاية قولة دينونة (آ 1- 4). فبعد اتّهام يندّد بخطيئة رؤساء الشعب، يأتي الحكم: "حينئذ يصرخون إلى الرب فلا يجيبهم. سيحجب وجهه (في ذلك الوقت، في ذلك الزمان) على قدر الاعمال السيّئة التي اقترفوها" (آ 4). لا شكّ في أن الحكم يصيب الرؤساء، ولكن تأثيره يصل إلى الشعب. أما عبارة "في ذلك الزمان" فهي تعطي القولة النبوية معنى يتعدّى الزمن الحاضر ليطبّقه على الشعب على أثر نكبة سنة 587. وعبارة "يحجب وجهه" هي استعارة تعلن حكم الله. إنها تشير إلى غياب كل عمل إيجابي من قبل الله الذي لن يكون حاضرًا إلاّ عبر دينونته.
ويستعمل أشعيا، نبيّ القرن الثامن، مرّة واحدة عبارة "حجب وجهه". أحسَّ النبيّ أن نداءه إلى التوبة لم يسمعه الملك ولا الشعب، فأعلن حكم الله (أش 8: 5- 8، 13- 15). وحين تحقّق من فشله هتف: "أنتظر الرب الذي يحجب وجهه عن يعقوب، وأتوكّل عليه" (آ 17). ونجد هذا الرباط بين خطيئة الشعب وعبارة "حجب الله وجهه" في نص دوّن بعد المنفى وهو أش 59: 2: "أجل، إن آثامكم فصلت بينكم وبين إلهكم، خطاياكم حجبت وجهه عنكم فلا يسمع" (صار بعيدًا جدًا فلم يعد يسمع).
نجد هذه النظرة في نصوص نبويّة يعلن فيها الله أنه يحجب وجهه. هذا ما نقرأه في إر 33: 5: "قتلتهم بغضبي وسخطي، وحجبت وجهي عن هذه المدينة لأجل كل أعمالهم السيّئة". وفي حز 39: 23- 24: "وتعلم الأمم أن آل اسرائيل ذهبوا إلى المنفى بسبب اثمهم. أخطأوا إليّ فحجبت وجهي عنهم، وجعلتهم في أيدي مضايقيهم فسقطوا بالسيف جميعًا. حجبت وجهي عنهم فصنعت بهم على مقتضى أعمالهم النجسة والسيّئة". ويربط سفر التثنية (31: 16- 18؛ 32: 19- 20) العبارة بالتنديد بعبادة الاوثان.
لاحظنا بهذه الامثلة أن الله يحجب وجهه بسبب خطيئة شعبه. وتفصّل النصوص (تث 31: 16- 22؛ أش 59: 1- 8) هذه الخطايا. وتترافق هذه العبارة مع عبارات موازية: الله لا يسمع (أش 59: 2)، الله لا يجيب (في 3: 4). وصمت الله هذا يدخل في كلمة دينونة تحكم على خطيئة شعب بادر فحطّم العلاقة بينه وبين ربه. إذا كان الله احتجب (توارى) أو حجب وجهه، فهذا يعني أنه يمارس دينونته وقد مارسها في سقوط أورشليم والذهاب إلى المنفى.
غير أن النصوص النبويّة لا تعتبر أن الله سيبقى محتجبًا مخفيًا. فإن حجب الله وجهه، فهذا وضع لا يستمرّ. إنه عابر. وسيقوم الله بنفسه بإعادة العلاقة مع شعبه. وهذا العبور من الدينونة إلى الخلاص، يميّز النصوص التي أوردناها، لأن، الوعد بإعادة البناء نقرأه في إر 33: 6- 7 (أشفيهم، أبدي لهم وفرة السلام، أعيدهم، أبنيهم)؛ حز 39: 25- 29 (أردّ، أرحم، أعيدهم، أجمعهم)؛ تث 32: 20. هذا ما نجده في أش 54: 8 حيث يعلن الله: "في سورة غضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبرأفة أبدية أرحمك، قال فاديك الرب".
فدينونة الله، مهما كانت قاسية، تبقى عابرة. فالدينونة ليست كلمة الله الاخيرة، بل يتبعها وعد بالمغفرة والعودة. أجل، إن علاقة الله مع شعبه لا تنتهي بالمنفى. فالله سيبادر ويعمل وسيكون أمينًا في مواعيده.

4- إطار النصوص
نتوقّف هنا على العبارات التي ترافق عبارة "حجب الله وجهه".

أ- تساؤلات المرتّل (صاحب المزامير)
حين نقرأ المزامير نرى أن عبارة "حجب الله وجهه" ترد عبر تساؤل أليم. هل نحن أمام طريقة بلاغية؟ وإلاّ فما معناها في إطار الصلاة؟
نبدأ فنفهم الظاهرة التي أشرنا إليها. فيتساءل المؤمن: "لماذا تحجب وجهك" (مز 44: 25؛ 88: 15؛ أي 13: 24)؟" إلى متى ستحجب وجهك؟ (مز 13: 2)؟ حين يطرح المؤمن مثل هذا السؤال على الرب، فهو يحاول أن يفهم وضعه الحاضر بالنسبة إلى علاقته بالله. وتجري التساؤلات حول عجزنا عن إدراك عمل الله الفاعل، فتتّخذ أشكالاً مختلفة: "يا رب، لماذا تقف بعيدًا" (مز 44: 24)؟ "إلى متى يا رب؟ هل تتوارى على الدوام" (مز 89: 47)؟ "كم ستطول هذه الايام لعبدك؟ متى تتّخذ قرارًا ضد مضطهدي" (مز 119: 84)؟ "أين هو صلاحك الماضي، يا رب" (مز 89: 50)؟
والباعث على هذه التساؤلات ضيق لا يتحمّله المؤمن، ضيق يتطلّب تدخّلاً من الله سريعًا. ولكن الله يبدو صامتًا أمام هذا الوضع: إنه ينسى، إنه نائم، إنه غائب. لهذا يُطرح السؤال: لماذا؟ إلى متى؟ ويجد المؤمن نفسه أمام اثنين لا ثالث لهما: هل الله فاعل أم لا؟ ويصلّي المرتّل بعنف، ولكنه لا يلقى جوابًا مباشرًا. فالله لا يقول شيئًا عن وضع المؤمن ولا يقول كم يدوم هذا الوضع. وأمام غياب الجواب، وأمام ضيق يطول، يشكّ المؤمن ويرتاب، وتأخذه الدهشة. فإن مز 13 هو سلسلة من التساؤلات وطلب لكي يتدخّل الله. أما مز 42- 43 فيرسم مسيرة تنتقل من اليأس إلى الامل والرجاء.

ب- الله ينسى
إن عبارة "الله ينسى" ترافق "الله يحجب وجهه". نجدها في فم الشرير (مز 10: 11: قال الشرير في قلبه: الله قد نسي، حجب وجهه فلا يرى شيئًا). نجدها بشكل تساؤل على شفتي المصلّي: "إلى متى تستمر على نسياني" (مز 13: 2)؟ "لماذا تحجب وجهك وتنسى بؤسنا وضيقنا" (مز 44: 25)؟ "أقول لله خالقي (أنت صوّرتني، لا: أنت صخرتي): لماذا نسيتني، ولماذا أمشي حزينا يدفعني العدو" (كالأسير) (مز 42: 10)؟ نجد العتاب عينه في مرا 5: 20: "لماذا تنسانا على الدوام، وتخذلنا طول الايام"؟
ونجد فعل "نسي" بشكل تذكير ونداء في مزامير التوسّل والتشكي: "لا تنسَ المساكين" (مز 10: 2). "لا تنسَ حياة بائسيك (لا تتركهم في البؤس) على الدوام" (مز 74: 19). ويدعو المرتّل الله لكي يتذكّر العدو الذي جدّف على الربّ. يدعوه أن يتدخّل إكرامًا لاسمه (مز 74: 18، 22).
وفي مز 19: 3، نتعرّف إلى عودة الثقة إلى قلب المؤمن: "الله لا ينسى صراخ البؤساء". وأمُّ صموئيل تطلب من الله أن يتذكرها ولا ينسى أمته (1 صم 1: 11). وتتهم صهيون الله أنه نساها، فيرفض الرب هذا الاتهام: "أنا لا أنساك" (أش 49: 14- 15).

ج- الله يرذل ويتخلّى
الله رذل شعبه، تخلّى عن مؤمنيه. ولكن يتمنّى المرتّل أن لا يكون هذا، مع أنه يخاف من حدوثه: "كنتَ عونًا لي فلا تخذلني ولا تتركني يا إله خلاصي" (مز 27: 9). وقد يتساءل عن السبب الذي لأجله رذله الله: "لماذا ترذلني يا رب، لمادْا تحجب وجهك عني" (مز 88: 15)؟
وفي صلاة جماعية (مز 89: 39- 52) يتحدّث المرتّل عن وضع رذل الله فيه مليكه: "أقصيت مسيحك ورذلته، وغضبت عليه" (آ 39).
ورغم هذه التشكّيات، يبقى الله إله الخلاص. ترتفع الصلاة إليه مع أنه غائب في وقت الشدّة. هكذا تبدو صلاة إرميا (14: 19- 22). "هل رذلت يهوذا رذلاً، وعافت نفسك صهيون؟ ما بالك ضربتنا ولا شفاء لنا؟ إنتظرنا السلام (أن تصطلح الامور) ولكن لم يحصل أي خير. إنتظرنا وقت الشفاء، فإذا الرعب (رعب الحرب). قد عرفنا، يا رب، نفاقنا واثم آبائنا. لقد خطئنا إليك. لا تنبذنا لأجل اسمك، لا تهملنا لأجل عرشك المجيد. اذكرنا ولا تنقض عهدك معنا. ألست أنت الرب إلهنا وإياك ننتظر"؟

د- الله بعيد
نجد في المزامير هذه الطلبة الملحة: يا الله، لا تبتعد. فالمتوسّل يعتبر قُرب الله أمرًا طبيعيًا، وأن لا شيء أصعب من بُعد الله. الملجأ الوحيد للمؤمن بوجه أعدائه، بوجه الذين يردّون على الخير بالشر، هو الله. ولهذا يطلق المرتّل نداءه في نهاية مز 38: "لا تتركني أيها الرب، لا تتباعد عني يا إلهي. أسرع إلى نصرتي يا رب خلاصي" (آ 22- 23).
الاخطار عديدة، فلا ينتظر المرتّل عونًا إلاّ من الله وحده. لهذا نسمع صرخة مز 22: "لا تتباعد عني. فالخطر قريب وليس لي من معين" (آ 12). ويطلق المرتّل صرخته مرّة ثانية: "وأنت يا رب لا تتباعد. يا قوتي، أسرع إليّ وانصرني" (آ 20).
ونجد هذه الطلبة عينها في مز 35: 22 (لا تصمت، لا تتباعد عني) وفي مز 71: 12: "اللهم لا تبعُدْ عني، يا إلهي أسرع إلى نصرتي".
هذا ما نجده في المزامير. أما عند الانبياء. فالشعب هو الذي يبتعد عن ربِّه بسبب أعماله السيِّئة. وسنقرأ في حز 11: 15- 16 أن الله أبعد شعبه وسط الأمم الوثنية فما تركهم ولا تخلّى عنهم: "أنا حاضر هناك وأكون لكم مقدسًا".

هـ- صمت الله
يحصل للمرتّل ضيق فيتوسّل إلى الله ويطلب جوابًا، فيصطدم بصمت لا يطاق: "استمع، يا رب، صوت دعائي. إرحمني واستجب لي" (مز 27: 7). "أنا في الضيق، أسرع واستجب لي" (مز 69: 18). ويتكرّر فعل أجاب، استجاب، في هذه الصلوات: "في دعائي أجبني، يا إله برّي" (مز 4: 2). "أنظر واستجب لي أيها الرب إلهي" (مز 13: 4). "أصغ إليَّ واستجب لي" (مز 55: 3). "خلّص بيمينك واستجب لي" (مز 60: 7).
وهناك نداءات إلى الرب لكي لا يبقى صامتًا. "لا تصمت" (35: 22). "إلهنا يأتي ولا يصمت" (لا يبقى صامتًا، بل يتكلّم، يفعل) (مز 50: 3). "اللهمّ لا تكن ساكتًا، لا تصمت" (مز 83: 2). "لا تكن صامتًا يا إلهًا اسبحك" (مز 109: 1). وفي الخط عينه، يدعو المؤمن الرب لكي لا يكون أصمّ (مز 28: 1)، لكي لا يبقى مكتوف اليدين (مز 83: 2). وما ينتظره المرتّل ليس كلمة وحسب، بل عملاً يشهد على حضور الله.

خاتمة
كل معرفة حقيقيّة لله تبدأ بالاقرار أنه الخفيّ والمحتجب. هذا يعني أن الانسان لا يدرك الله في ذاته. ولكن لابدّ من توضيح هذه العبارة. ففي الخبرة الدينيّة التي عرفها شعب اسرائيل، يبادر الله ويتجلّى ويعرّف بنفسه. إنه اله الوحي. هنا نقرأ هذا الاعتراف الايماني في أش 45: 15: "حقًا أنت إله محتجب (خفي) يا إله اسرائيل، يا مخلّص". فالله لا يكشف عن نفسه كالمحتجب إلاّ بالنسبة إلى خلاص عُرف سابقًا وأخِّرت نتائجه الحاضرة. ما يسبِّب أزمة في قلب المؤمن والمتوكّل على الله، هو أن الله لا يتدخّل، هو أن الله يبدو غائبًا. تلك هي خبرة المؤمن وهو يعبّر عنها في صلاته: حجب الله وجهه. كان صامتًا. لم يفعل. وهكذا يُدرك الله كالاله الذي يكشف عن عمله والاله الذي يحتجب.
يشهد الكتاب المقدس أن التعرف إلى الاله الخفيّ في بعض ساعات حياتنا جزء لا يتجزَّأ من خبرة الايمان. هذا ما اختبره المرتّل أمام أحداث الحياة المؤلمة، فتأرجح بين الشكّ واليقين، بين الضيق والرجاء. وتجاوبت صرخته مع صرختنا. فكل واحد منا يستعجل خلاص الله في الساعات الحرجة. والمرتّل يود أن يتدخّل الله المخلّصُ حالاً ولا يبطئ. هو يعيش في الحاضر وضعًا متأزمًا، فيعود إلى الماضي لئلا ينسى الله، والى المستقبل كفسحة رجاء منها يشع نور الله. فثقة المرتّل تتأسّس على الماضي والمستقبل معًا، ولكن هذا لا ينفي صعوبة الوضع الحاضر الذي يبدو فيه الله غائبًا. فعلى المؤمن أن يدخل في منطقة عاصفة فيتأرجح فيها بين الثقة والشك دون أن يفرض على الله جوابًا سريعًا. هذه هي خبرة النبي وهي تعكس الشروط الحقيقيّة للايمان بالله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM