كِتَابُ صَموئيل أو سِفرا صَموئيل الأوّل وَالثَاني

كِتَابُ صَموئيل
أو
سِفرا صَموئيل الأوّل وَالثَاني

المقَدّمة

عندما نقرأ كتاب صموئيل، نجد نفوسنا أمام أسماء كتابية جميلة ترنّ في أذاننا، أمام أخبار قصيرة ومُشوّقة، أمام مشاهد حيّة تدور في إطار من البساطة. نتعرّف إلى عواطف بشرية رقيقة، ونسمع أخبار الحروب والمُنازعات. فالسلام لم يزل بعيدًا عن أرض البشر: تعاسة وشقاء، سعادة وفرح في هذا العالم الديني القديم الذي يُشبه الى حدٍّ بعيد عالمنا الحديث.
بين الإنسان العائش في القرن الحادي عشر ق. م.، والإنسان العائش في القرن العشرين ب. م. علاقات متينة، لأنّ الإنسان إنسان مهما تنوّعت ثقافته، وفي كلّ إنسان حاجة إلى العودة إلى الجذور. فإنسان الكتاب المقدس، يُشير إلى إنسان اليوم باسم الله، لأنّ الله الواحد يدعونا ويُسْمِعُنا صوته.
موضوع سفر صموئيل هو قِصّة إقامة المَلَكية في شعب إسرائيل. طالت حالة الفوضى في زمن القضاة، ولكنّها حالة لا يُمكن أن تدوم، فانتهت بآخر القضاة الذين خلّصوا الشعب، إنتهت بصموئيل. بعدها اختار بنو إسرائيل مَلِكًا بشخص شاول. ولكنّ عهد شاول انتهى بالفَشَل. فجاء بعده داود أول ملك حقيقيّ لشعب إسرائيل، وسيُخّصص كتاب صموئيل العدد الأكبر من فصوله، ليُحدّثنا عن ملحمة داود، ليرسم لنا ملامح الرجل الذي اختاره الربّ منذ صغره، ليروي لنا قِصّة ملك يرتبط بمخطط الله على شعبه وعلى البشر.
كلّ هذه الأخبار دخلت في التوراة، ضِمْن إطار كتاب نبويّ يحمل إلينا تعاليم هامّة. أجل، إن سِفْر صموئيل كتاب لا يستغني عنه من يريد التعرّف إلى التوراة وإلى تعليمها، وهو بما فيه من فَشَل وانتصار وآلام وأفراح، وخطيئة وإيمان وصلوات وأعياد، كتاب قريب منّا، بل كتاب حياتنا، بل كتاب كلِّ شعب يُريد أن يقرأ تاريخه على ضوء كلام الله.

1- إسم الحب وكاتبه
إسمه في العبرانية كتاب صموئيل: ظنّ التقليد الربانيّ القديم أنّ النبيّ صموئيل قد دونّه، تاركًا لناتان وجاد النبيين أن يُتمّا عمل التدوين بعد موته، وذلك بحسب ما نقرأ في 1 أخ 29: 29: "وأعمال داود الملك، من أولها إلى آخرها، مُدوّنة في سِفْر أخبار صموئيل الرائي وناتانّ النبي وجاد الرائي ". ولكن في الحقيقة ليس صموئيل هو الذي دوَّن السفر المنسوب إليه، كما أنّه لا يلعب دورًا مُهمًا إلا في القسم الأول. ثمّ إنّ رواية الأحداث تمتدّ بعيدًا بعد موته، فتصل بنا إلى الملك سلمان، بل تُورد أمورًا (2صم 21: 24) لا تمتّ بصلة إلى الأحداث التي أوصلت الملك سليمان إلى سُدّة الحُكْم.
إسمه في اليونانية السبعينية سِفْر الملوك الأول وسِفْر الملوك الثاني، وهذا الإسم أخذت به اللاتينية الشعبية. أمّا في العربية، فالتقليد البروتستانتي أخذ بالنص العبراني فسمّاه سِفْر صموئيل الأول، سِفْر صموئيل الثاني، وهذا ما نجده في كل من ترجمة "جمعية ترقية المعارف المسيحية" بمعاونة فارس الشدياق، وفي ترجمة "جمعية الكتاب المقدّس " بمعاونة بطرس البستاني. أمّا التقليد الكاثوليكيّ، أكان في الترجمة اليسوعية (في لبنان) أو الدومينيكانية (في العراق)، فقد أخذ بنصّ اللاتينية الشعبية، وسمّى سِفْري صموئيل "سِفْر الملوك الأول، سِفْر الملوك الثاني ". ونتيجة لذلك، سمّى التقليد الكاثوليكيّ سِفْري الملوك "سِفْر الملوك الثالث، سِفْر الملوك الرابع ". إلا أنّ العلم الحديث للكتاب المقدّس يعود إلى التسمية العبرانية، وهذه هي الطريق التي نتّبعها.
وهكذا فصموئيل الأول في النسخة العبرانية، يُقابل الملوك الأوّل في النسخة اليونانية واللاتينية، وصموئيل الثاني يُقابل الملوك الثاني. والملوك الأول يُقابل الملوك الثالث، والملوك الثاني يُقابل الملوك الرابع .
في الأصل، كان سفر صموئيل يُشكّل كتابًا واحدًا، فقسمته الترجمة السبعينية قِسْمين متوازيين لأسباب عملية، وتبعتها في ذلك الشعبية اللاتينية.
ولمّا نُشرت النسخة العبرانية في البندقية سنة 1547، قسمت هي أيضًا سِفْر صموئيل قسمين بحسب اللاتينية الشعبية، مُتناسية أنّ نصف الكتاب بحسب التقليد الماسوري، يقع في اصم 24:28، لا في نهاية الفصل 31.
وإذ نتحدّث عن الترجمة السبعينية، نُلفت انتباه الباحث إلى الفَرْق بين النصّ العبراني والنص اليوناني، وهذا راجع إلى وجود نصيّن مستقلين في بداية القرن الأول المسيحيّ. نصّ وجد في قُمْران وهو قريب ممّا نقرأه في اليونانية، ونصّ آخر نقله إلينا الماسوريون مع ما فيه من ترداد وتناقُضات وصعوبات. نُسارع إلى القول إنّ الترجمات تستند أولاً إلى النصّ الماسوري المُثبت، وتستعين ثانيًا بالنصّ اليوناني وبما نُشِرَ من نصوص قُمْران.

2- أقسام الكتاب ومضمونه
ألقسم الأول (ف 1-7) من سفر صموئيل الأول، يُحدّثنا عن صموئيل. صلّت أمّه العاقر فحَبلت به، ولمّا ولدته كرّسته للربّ في معبد شيلو. دعاه الربّ ليكون نبيّه، راذلاً ابني الكَاهن عالي اللذين حكما على عائلتهما بالدمار، بسبب ما اقترفاه من خطايا. ماتا في معركة مع الفلسطيين، ومات والدهما عندما علم بالخبر، وأُخِذَ تابوت العهد. ولكنّ الربّ ضرب الفلسطيين الضربات العديدة، فردوا تابوت العهد إلى بيت شمس، قبل أن يُوضع في قرية يعاريم. في هذا القسم يبدو صموئيل قاضي (أو حاكم) بني إسرائيل ومُحرّرهم.
ألقسم الثاني (ف 8-15) يحدّثنا عن صموئيل وشاول. شاخ صموئيل، فطلب منه الشعب ملكًا. رفض صموئيل، ولكنّ الربّ أمره فمسح شاول. وعيِّن شاول بالقُرعة، ففرض نفسه على الشعب بعد انتصاره على بني عمّون. وتنحَّى صموئيل تاركًا المجال لشاول، ليُواصل الحرب على الفلسطيين مع يوناتان ابنه. ولكنّه سيعصي أوامر الربّ كما نقلها إليه صموئيل، فيرذله الربّ.
ألقسم الثالث (ف 16- 31) يحدّثنا عن شاول وداود. مسح صموئيل الشابَ داودَ ملكًا مكان شاول. ولما دخل داود في خدمة شاول، تميّز عن رفاقه حين قتل الفلسطي الجبّار الذي تحدّى الله وشعبه. فحسده شاول وحاول التخلّص منه مرارًا. فترك داود القصر وتاه في البلاد. لاحقه شاول فهرب مع أفراد عصابته إلى أرض الفلسطيين، وظلّ هناك إلى يوم سحق الفلسطيون بني اسرائيل في جلبوع، وقتلوا شاول ويوناتان.
وننتقل إلى سفر صموئيل الثاني. ألقسم الأوّل (ف 1- 20) يحدّثنا عن داود، ملك يهوذا وإسرائيل. رفع بنو يهوذا داود ملكًا في حبرون، فابتدأ الصراع بين الملك الجديد وإشبعل (أو ايشبوشت) الوارث الوحيد لشاول، ولم ينته قبل مقتل إشبعل وقائد جيشه أبنير. في هذه الحالة من الضَيَاع، تحوّل بنو إسرائيل إلى داود وأعلنوه ملكًا عليهم. ما إن ملك داود على يهوذا واسرائيل حتى احتلّ أورشليم وجعلها عاصمة مملكته السياسيّة والروحية، ونقل إليها تابوت العهد. ثم حارب الفلسطيين فانتصر عليهم، وأبعد خطرهم عن البلاد. ومعّ حدوده وأخضع الشعوب المجاورة لسُلطانه.
ولكنّ الأزمات الداخلية هدَّدت سلطان داود. غفر لمن تبقّى من بيت شاول، فاجتذب إليه مُناصري سلفه. زنى مع بتشابع فاستحق عقاب الله، ولكنّه تاب فعادت إليه رحمة الله الذي أعطاه من زواجه ببتشابع ابنا، هو سُليمان، الذي سيكون وارث عرشه. ثم إنّ أمنون بِكْره أذلّ تامار، فقتله أخوها أبشالوم وهرب من وجه أبيه. غفر داود للقاتل، ولكنّ القاتل تآمر على أبيه وثار عليه. فترك الملك أورشليم فارًّا إلى شرقيّ الأردن. لحقه الثائرون، غير أنّ الموالين للملك قهروهم وقتلوا أبشالوم. ولكن ما إنّ عاد داود إلى أورشليم حتى واجه انقلابًا قام به شابع البنياميني.
ألقسم الثاني (ف 21-24) يحتوي على مَلاحِق تتعلّق بنهاية مُلك داود، فتُخبرنا بالمجاعة الكُبرى، وقَتْل أبناء شاول، وبطولات رجال داود، وإحصاء الشعب، والوباء الذي حلّ بالشعب قبل أن يغفر الله، راضيًا بالذبيحة التي قربت له على مذبح شيد حيث سيُشيَّد الهيكل فيمَا بعد.

3- متى أُلف ومن أُلفه
إنّ مُطالعة سريعة لكتاب صموئيل، تُلفت انتباه القارىء إلى بعض مُعطيات يخالف بعضها بعضًا. فشاول قد مسحه صموئيلُ ملكًا في السرّ (26:9 ي)، ثم نادى به الشعبُ في مناسبات مُختلفة (17:10 ي؛ 15:11). وتأسيس الملكية نقرأ عنه في نوعين من النصوص. نوع أول يوافق على المَلَكية (9: 1 ي؛ 10: 1-16؛ 11: 1 ي) ونوع آخر يرفضها (8: 1ي؛ 17:10-24؛ 12: 1ي) رَذَل صموئيلُ شاولَ مرّتين (13: 14 ي؛ 26:15 ي)، ولكنّ شاول ظلّ ملكًا حتى موته. يعرض الكتاب في صورتين مختلفتين بداية حياة داود قرب شاول (16: 14- 17: 11؛ 17: 12- 30)، ويذكر أنّ داود هرب مرّتين من القصر الملكي (19: 12؛ 21: 1)، وأنّه عفا مرّتين عن شاول (24: 1ي؛ 26: 1ي) وأنّه لجأ مرّتين إلى حماية ملك جت (21: 11 ي؛ 27: 1ي).
هذه الاختلافات والتردادات، تجعلنا أمام مؤلّف جمع مواده من التقاليد المتعددة عن زمن الملوك. ويُمكننا أن نتصور كيف رتّب الكاتب المُلهم هذه المُعطيات على الشكل التالي: هناك سلسلة من الأخبار القديمة تتعلّق بتضييق الفلسطيين على بني إسرائيل، وهي حالة تبدو امتدادًا لما قرأناه في قض 13-16. وهناك قصة تابوت العهد الأسير لدى الفلسطيين في 1 صم 4-6 والتي ستُكمّل في 2 صم 6 حين يُنقل التابوت إلى أورشليم. وهناك وُجهة القائلين بالنظام الملكي (ف 9- 11) وما يليها من حرب تحريرية (ف 13-14). في كل هذا يبدو صموئيل رجل الله المتصل بجماعة الرائين والأنبياء (10: 5 ي ؛ رج 19: 18-24)، والأداة التي ستحملها الله لاختيار شاول وينطلق الكاتب في سيرة صموئيل من خبر ولادته ودعوته (1 صم 1-3)، ورَذْل الربّ لشاول (13: 8-14؛ 15: 1ي) واختيار داود (16: 1-3 ي). وفي مرحلة لاحقة نتعرّف الى صموئيل آخر القضاة (7: 1ي) الذي لا يرضى عن المؤسسة المَلكية (8: 1ي؛ 17:10-24؛ 12: 1ي). أمّا بالنسبة إلى بداية داود وصداقته مع يوناتان، وخلافه مع شاول، وحياته في البرية وإقامته لدى الفلسطيين، كلّ هذا يستند إلى تقاليد قديمة، جُمِعَت فيمَا بعد من مصادر متعددة، فبدا فيها الترداد والتكرار. عندما نصل إلى سفر صموئيل الثاني، نجد أنّ الأخبار عن ملك داود في حبرون وعن حربه مع الفلسطيين واحتلاله لأورشليم، ونقل تابوت العهد اليها، (2 صم 2-6) ترتبط بالطبقة الأولى لسِفْر صموئيل الأول. نبؤة ناتان قطعة قديمة أعيدت صياغتها مرارًا. ثم يُورد الكاتب المُلهم مُلَخصًّا عن أعمال داود (2 صم 8: 1ي)، قبل أن يسترسل في رواية طويلة (2 صم 9- 31)، تنتهي بنهاية الكتاب. يروي الكاتب كيف ثَبتت سلالة داود، رغم المُعارضة الخارجية والمآسي التي مزّقت العيلة المَلَكية. وإنّه ليُخيّل لنا أنّ شاهدًا عيانًا كتب قِصّة خلافة الملك داود، وجعل في وسطها خبر ولادة سليمان (2 صم 12: 24)، قبل أن يتوصّل إلى وضع يده على السلطة (1 مل 46:12). كتبها شخص من بطانة داود، يُمكن أن يكون أحد الكهنة في القسم الأول من عهد سليمان، مثل أحيماعص أو أبياتار أو غيرهما.
وهكذا نرى أنّ كتاب صموئيل يحتوي عناصر قديمة، بدأت تتجمعّ منذ عهد ملوك يهوذا الأول، فدُمجت بعضها ببعض قبل أن تُدوَّن في إطار الأسفار التاريخية، على ضوء تعليم سِفْر التثنية في زمن المنفى. ويُمكننا أن نوجز ما قلناه في محطات أربع.
ألمحطة الأولى: في القرن التاسع ق. م.، ظهرت الأخبار الأولى عن تابوت العهد، وعن تأسيس المَلَكية كما نقرأها في:2 صم 4-6، 9- 11. في هذه الأخبار، نجد نواة أخبار سِفْر القضاة، وقد ألفّت معها في البداية مجموعة واحدة. وقد تبع هذا ما يتعلّق بشاول والفلسطيين (1 صم 13- 14)، ومزاحمة داود لشاول (1 صم 17- 31) وتبع داود لعرش بني إسرائيل (2 صم 2-6) ثمّ المُلحقات (2صم 21، 23-24).
ألمحطة الثانية: في القرن الثامن، استعاد كاتبٌ هذه الموادَّ وزاد عليها بعض الفصول (1 صم 1-3؛ 7؛ 17:10-24؛ 12؛ 15؛ 16)، متأثرًا بالأنبياء (عاموس، هوشع، ميخا) الذين لم يُعارضوا مبدأ المَلَكية في بني إسرائيل، بل طريقة ممارسة المَلَكية على يد خلفاء سليمان. وهكذا نفهم أن يكون هناك تقليدان متجاوران عن المَلكية (1 صم 8-12): تقليد قديم يُوافق على مبدأ المَلَكية (1 صم 9؛ 10: 1-16؛ 11) وتقليد آخر (1 صم 8؛ 17:10-24؛ 12) نشأ في مملكة الشَمال، فحذّر من المَلكية التي أدخلت العبادة الوثنية إلى البلاد.
ألمحطة الثالثة: بعد سقوط السامرة، دمج رجال الملك حزقيا التقليد اليهوهي بالتقليد الالوهيمي، وجمعوا سلسلة من الأمثال على غرار رجال سليمان (أم 25: 1)، ونظمّوا الوثائق الآتية من السامرة مع تلك الموجودة في أورشليم. في هذا الوقت، دوّن كاتب سفرَ القضاة بطريقة متتابعة، وفصل عنه ما يتعلّق بصموئيل وببداية المَلكية، ورتّب كاتب كتاب صموئيل بشكله الحاليّ أي مجموعة صموئيل، ثمّ مجموعة شاول، ثمّ مجموعة داود .
ألمحطة الرابعة أوصلت إلينا كتاب صموئيل في صورته الحاضرة. قام بالعمل الكتّاب الاشتراعيون (المتأثرون بسِفْر تثنية الاشتراع). في القرن السابع والسادس ق. م. إكتفوا بالتدوين النهائي، واضعين اللَمَسات التي تُوافق نظرتهم إلى التاريخ. مثلاً 4: 18: وكان تولّى القضاء لبني إسرائيل اربعين سنة، أو 3:7-4: إن كنتم تائبين إلى الربّ من كلّ قلوبكم، فأزيلوا الآلهة الغريبة... أو 12: 6- 11: فقال صموئيل للشعب: ألربّ الذي اختار موسى وهارون وأخرج آباءكم من أرض مصر...
وهكذا كانت لنا لوحة تاريخية واسعة، تتكوّن من أسفار يشوع والقُضاة وصموئيل والملوك، تبدأ بخروج الشعب من أرض موآب، وتنتهي بدمار مملكة يهوذا في القرن السادس. جعل الكاتب في واجهة هذه اللوحة سفر التثنية، ليُساعد المؤمنين على التأمّل في تاريخ الملوك على ضوء تعليم الله.
كان بنو إسرائيل يعيشون حالة من القَلَق والفوضى، وكان خير الضَيَاع بارزًا في الأفُق. هدّد كلّ من صفنيا وحبقوق وإرميا الشعب بخسارة كلّ شيء، ولكنّ الكاتب الاشتراعي سيُغذّي الأمل في قلب الشعب. كما أنّ الربّ، بعد عهد القضاة، إختار له ملكًا مثل داود بحسب قلبه، هكذا يستطيع أن يُقيم "ملكًا مسيحًا"، فيُقيم على الأرض مملكة الله.

4- ألإطار التاريخي
يتطرّق كتاب صموئيل إلى الفترة الواقعة بين بداية المَلَكية في بني إسرائيل ونهاية مُلْك داود. غير أنّه لا يُعطينا لوحة كاملة عن الأحداث، ولهذا نحتاج إلى بعض عناصر من تاريخ الشرق العام.
أقامت قبائل بني إسرائيل في كنعان، وظلّت الواحدة مستقلّة عن الأخرى. إحتلّت كلّ واحدة قسمًا من الأرض، فاستثمرته ودافعت عنه بوجه الأعداء. وإذا كبر الخطر الخطر كانت تقوم بأعمال مُشتركة، كما حدث مع دبورة وباراق (قض 4: 1ي). ولكن دبورة تشتكي من القبائل الذين لبثوا على الحياد، ولم يُعينوا إخوتهم (قض 15:5-17). كانت مُحاولة أولى لتأسيس المَلَكية مع جدعون وأبيملك (قض 8-9)، باءت بالفشل، لأنّ الشعب نقصه كلّ تنظيم سياسيّ، فما كان لهم إلا وحدة العِرْق ووحدة الدين التي تتجلّى في احتفالات حول تابوت العهد.
ولكن في نهاية فترة القضاة، أطلّ خطر هدّد بني إسرائيل كلّهم. كان سببه الفلسطيون الذين جاؤوا من كريت (كفتور؛ رج تث 23:2، عا 7:9 ؛ ار 47: 4) مارين في أسية الصُغرى. شاركوا شعوب البحر في هجومهم على مصر، وأقاموا في بداية القرن الثاني عشر ق. م. على شاطىء كنعان وشيّدوا فيها خمس حواضر: جت، عقرون، أشدود، أشقلون، غزّة، وحاولوا التوسعّ في عمق البلاد، فاصطدموا ببني إسرائيل. إنتصر الفلسطيون في أفيق (4: 1ي) فانفتحت أمامهم البلاد العُليا، وأخذوا تابوت العهد، راية تَجَمعُّ بني إسرائيل، وهدموا معبد شيلو، ووضعوا يدهم على قِسْم كبير من البلاد.
وتزايد الخطر، فهدّد وجودَ شعب إسرائيل الذين فهموا أنّهم لن يستطيعوا أن يتجنبّوه، من دون عمل مُشترك بقيادة رئيس واحد. وَعُوا الحال التي وصلوا إليها، فتحرّك فيهم شعور وطني دفعهم إلى المُطالبة بالمَلَكية على غرار الشعوب المجاورة. فبنو أدوم لهم ملكهم، وبنو عمون وبنو موآب لهم ملكهم وكذلك الحواضر الأرامية. تطوّرت الأمور تدريجيًا: بدأ صموئيل في خطّ "القضاة". إختاره الربّ وحلّ عليه روح الربّ، فعمل أعمالاً عظيمة. ولكن جاءت القبائل، فنادوا بشاول ملكًا عليهم بعد انتصاره على العمّونيين (11: 1ي). وهكذا وُلدَت المَلَكية في بني إسرائيل.
وبدأت على أثر ذلك حرب التحرير، فدَحَر شاول الفلسطيين (14: 1ي) من الأرض الجبلية التي أقام فيها بنو إسرائيل، فارتدوا إلى السهل. وهكذا ستدور المعارك، فيما بعد، على حدود أرض بني إسرائيل: في وادي البطمة (17: 1ي) أو في سهل يزرعيل (الجلبوع؛ رج ف 28؛ 31). وكانت معركة أخيرة مع الفلسطيين انتهت بهزيمة نكراء: مات شاول، وهرب بنو إسرائيل أو اختبأوا، وتقدّم الفلسطيون إلى بيت شان، فشَطروا البلاد شَطْرين. وهكذا فَشل أوّل ملك في إسرائيل، فما استطاع أن يُنْقِذَ شعبه.
ولكن داود أمسك المِشْعَل وتابع الطريق. كان قد هرب من وجه شاول، ولجأ إلى الفلسطيين، فأقامه بنو يهوذا ملكًا عليهم (2 صم 2: 1ي)، وظلّ خاضعًا للفلسطيين. أمّا قبائل الشمَال، فأقامت ملكًا لها في شخص ايشبوشت (2صم 2: 8-9 أو اشبعل 1 أخ 33:8) بن شاول، وكاد الجنوب يُقاتل الشمَال، إلا أنّ موت ايشبوشت جمع بني إسرائيل كلّهم حول داود الذي فرضته شهرته، فنادى به كلّ بني إسرائيل ملكًا عليهم (2 صم 5: 1ي).
كان لمَلَكية داود طابع قُدسيّ، جاءه من نعمة الله وفَضْله. فقد اختاره الله منذ صباه، وهيأه ليحلّ محلّ شاول. وقد منحه الله حسًّا سياسيًا، ففهم أنّ الوحدة لا تتمّ إلا إذا تحرّر المَلك من مُنازعات القبائل. وهكذا جعل عاصمته في أورشليم التي احتلّها، ونقل إليها تابوت العهد، فجعل فيها مركز الحياة السياسية والدينية لبني إسرائيل، ثم أحاط نفسه بجيش دائم من المُرتزقة.
بعد ذلك دحر داود الفلسطيين، فأخضع مُدُنهم لسلطانه، وجنّد بعضًا مدنهم في حرسه. ثم وحّد البلاد فامتصّ ما بقي من أرض كنعان: أورشليم، مُدُن جبعون، وسهل يزرعيل، وبيت شان. وخضعت له أرض عمّون وموآب وأدوم، وامتدت سيطرته على أرام الجنوبية. وهكذا بدت أرض القبائل الاثنتي عشرة: يعيش فيها بنو إسرائيل وبنو كنعان خاضعين لسلطان واحد، وتُحيط بها بلدان تابعة لها. هل أسَّس داود إمبراطورية واسعة دامت بعده؟ كلا، فالنجاح كان سريعًا، وجاء مُرتبطًا برجل ارتبطت به الوحدة الوطنية. ولكنّ داود هو ملك يهوذا وملك إسرائيل (2 صم 5: 5)، وفي جيشه تتمّيز وحدات يهوذا عن وحدات إسرائيل. ولهذا مزّقت المنازعات عهد داود. ثار أبشالوم فوجد عَضَدًا له عند رجال إسرائيل (2 صم 15: 6، 13)، وحاول شابع البنياميني أن يقلب الشعب على مَلِكه: كلّ إلى خيمته يا إسرائيل، لا نصيب لنا مع داود (2 صم 20: 1ي). هذا الكلام سيقوله يربعام بن ناباط (1 مل 12: 16)، فيقسم مملكة داود وسليمان مملكتين منفصلتين: مملكة الجنوب أو مملكة يهوذا، ومملكة الشمال أو مملكة إسرائيل.
ويمكننا أن نوجز هذه الفترة ببعض محطات تاريخية تقريبية:
حوالي 1050 معركة أفيق. موت الكاهن عالي.
حوالي 1030 شاول ملك.
حوالي 1010 معركة الجلبوع. موت شاول. داود ملك.
حوالي 970 موت داود.

5- وجوه وحكايات
في هذا القرن الحادي عشر، جاء الوضع السياسي مؤاتيًا لنهوض الممالك الصغيرة ونموّها، بعد أن انشغل الجباران بأمورهما الداخلية. فالشَمال عرف هيمنة القبائل الأشورية مع تجلت فلاسر التي ما عتّمت أن زالت. فدبّت الفوضى والدمار في عالم البابليين. والجَنوب يعيش انقسامًا. فبعد آخر رعمسيس انقسمت مملكة الفرعون قسمين. وضع اسمنديس يده على شماليّ البلاد، وأسسّ في تانيس السلالة الحادية والعشرين، بينما حكم الجنوب رئيس الكهنة، وجعل عاصمته في تيبة. أمّا في أسية الصُغرى (تركيا اليوم)، فبعد زوال مملكة الحثيين، لم تعد الأناضول تشكّل أيّ خطر على الممالك المجاورة. وهكذا استطاعت ممالك ارام وفينيقية وكنعان أن تنمو وتكوّن ذاتها. كما استطاع داود أن يكوّن مملكة واسعة، ستنتقل الى ابنه سليمان قبل أن تنقسم، وسيُبرم معاهدة مع الفينيقيين فيُفيد منهم على المستوى الاقتصادي والثقافي، لأنهم كانوا أصحاب مدنيّة مُتقدّمة.
أحداث جرت في تلك الفترة من الزمن، دوّنها كاتب عاش في ظلّ الملك، فحاول أن يُظهر الوجه المُشرق لكلّ عهد من العهود، وعاد فقرأها من بعده الحكماء والمعلّمون، بل أعادوا صياغتها على ضع العصر الذي عاشوا فيه. وأخذت هذه الأحداث تتمحور حول شخصيات قليلة، مخلفّة وراءها التفاصيل العديدة، مُشدِّدة على الوجهة اللاهوتية الأساسية، وعلى الملكية في فترة من فترات تاريخ بني إسرائيل، لتهيّئ العاصمة التي يُبنى فيها الهيكل، وعلى الجماعة التي ستخدم الربّ في هيكل أورشليم، دون سائر المعابد في أنحاء الأرض المقدسة.
أحداث سينظر إليها الكاتب الاشتراعي من زاويته الخاصّة، وهي تفترق عن نظرة المؤرخ الكهنوتي الذي اهتمّ أول ما اهتم بأورشليم المدينة المقدسة، بالملك داود الذي نظّم العبادة فيها، وبالكهنة الذين سيتوالون على الخدمة فيها. ما يهمّ المؤرخ الكهنوتي هو سلالة داود، ولهذا لم يُطِل الحديث عن شاول، وذَكَر القليل من تاريخ مملكة إسرائيل. أمّا الكاتب الاشتراعي، فأعطى لمملكة الشمال مكانتها في تاريخ شعب الله، بل ظلّ يتحدّث عن مملكة يهوذا، بعد دمار السامرة، على أنّها تمثّل بني إسرائيل كلّهم حتى المشتتين منهم في مصر أو بابل أو غيرهما من الأقطار.
أحداث تأمّل فيها الكاتب الاشتراعي، فدوّنها في كلّ أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، وسيُعرّفنا في كتاب صموئيل إلى أشخاص يعجّون بالحياة، ويرسم لنا لوحة فيها الكثير من الألوان والغنى.
هناك يوآب الشجاع الأمين، والبطل المُخيف الذي لا يستغني عنه داود، وهناك أبنير الشجاع الفَطِن. وهناك رجال عديدون اشتهروا بمآثرهم وأعمالهم الباهرة. مفيبوشت المسكين، ابن شاول، كان لُعبة بيد أبنير، قبل أن يموت في ظروف غامضة، فدفع موتُه كلَّ قبائل إسرائيل الى أن تتّحد تحت إمرة شخص واحد. وأبشالوم الشاب الجميل والطموح، ينفرّنا منه بسبب عجرفته وضهوّره الذي لا يعرف الشفقة. وكان كهنة مثل عالي الشيخ الجليل والضعيف معًا، واحيملك (1 صم 21: 1ي) الذي استضاف داود، فكلفّه عمله الموت له ولأهل بيته (1 صم 18:22 ي)، وصادوق السياسي المحنّك. وكان أنبياء أمثال جافى وناتان، اللذين تكلما بحرية مع الملك، وقالا له كلمة الله بشجاعة وجُرأة.
ونتعرّف إلى نساء عديدات في كتاب صموئيل. حنّة أم صموئيل، هي المرأة التقية وصاحبة الإحساس الرقيق. كنّة الكاهن عالي ماتت وهي تضع طفلها، حين سمعت أن تابوت عهد الله قد أُخِذ (1 صم 4: 19 ي). عرافة عين دور زارها شاول في كهفها (1 صم 7:28 ي). ونساء داود: ميكال ابنه شاول التي أحبّها أولاً ثمّ نبذها (2 صم 16:6 ي)، ابيجايل الأرملة الغنية التي فتنت قلب الملك (3:25 ي)، احينوعم (1 صم 25: 43)، معكة (2 صم 3:3)، حجيت (2 صم 3: 4) أبيطال (2 صم 3: 4)، عجلة (2 صم 3: 5). ولا ننسى بتشابع امرأة أوريا الحثيّ التي أوصلت ابنها سلمان إلى سدّة الملك، بحنكتها في السياسة. وهناك وجوه اخرى مثل تامار الفتاة المذلولة (2 صم 13: 1ي)، وهناك المرأة الحكيمة في تقوع، ألتي أرسلها يوآب، فحدّثت الملك بشأن ابشالوم (2 صم 14: 2 ي)، ورصفة، أرملة شاول (2 صم 3: 7) التي سترى ابنيها يُصلبان أمام عينيها (2 صم 21: 8 ي).
ولكن كتاب صموئيل يلقي الضوء خاصة على أربعة وجوه: صموئيل، شاول، يوناتان، وخاصة داود.
شخصية صموئيل تملأنا إعجابًا، لأنّه كان عظيمًا. هو النبي الذي لا يُساوم، الذي يلعب دورًا لا يُحبّه الناس ألا وهو إعلان المصائب والنكبات وتهيئة أشخاص يلعبون دورًا موقتًا. شدد الكتاب على دوره السياسيّ والدينيّ، وأوجز نشاطه النبويّ، ورسم سريعًا ملامحه كعرّاف وراءٍ في بني إسرائيل.
ونعيش مأساة شاول، ألرجل البسيط في عيشه، الذي كان ملكًا على مثال قُضاة بني إسرائيل. قَبِلَ به الشعب فاختاره، وتبعه بطلاً يُجابه المخاطر فلا يهابها، وحاكمًا لا يهتم لمظاهر الأبّهة والغنى. هيأ الطريق لداود، صغّره المؤلف ليكبِّر شخصية داود، وبقي بالنسبة إلينا صورة الإنسان الذي اختاره الله لعمل كبير، ثم اختار داود لينفّذ مخططه في شعبه. إنّه سرّ الربّ في خلائقه.
مات يوناتان مع والده شاول في ساحة الحرب والهزيمة، فعاش مأساة والده حتى النهاية، وهو صديق داود النبيل. إبتسامته صريحة وعِشْرته حلوة وهدؤه لا يُعكّره حتى الموت. لم يَخُن داود في حياته. فحفظ له داود الوفاء بعد موته: دَفنَ عِظامه في أرضه (2 صم 12:21 ي)، وصنع رحمة إلى ابنه وعَبْدِه (2 صم 9: 1ي).
أمام داود اختفى يوناتان وتوارى، لأله أحبه (1 صم 16: 21، أحَبّ شاول داود. ومن لم يُحِبّ داود؟ ألله نفسه أحبّه، وهو الذي نظر إلى قلبه لا إلى عينيه يوم اختاره (1 صم 16: 7). كان داود بطلاً، ولكنّه كان إنسانًا كسائر الناس. عرف رغبات الناس فكشف لنا عن أعماق قلبه. كان عنيفًا وضعيفًا، عرف الحبّ، ومن أجل حبّه لم يتورّع عن القَتْل. كان سخيًا في تصرّفاته ولم يكن دومًا متجردًا.
كان حاد الذكاء، بل عبقريًا، وهذا لم يمنعه أن يكون فَطِنًا، فيحسب حسابًا لكلّ شيء. كان صاحب إرادة لا تَكِلّ، صَلْبًا قاسيًا يتحدّى الصِعاب، ولكنّه كان صبورًا، يحتاط للأمور ويتكيّف معها. وفوق ذلك كان ذا شعور رقيق بالنسبة إلى بيته وإلى أولاده وأصدقائه، وقد قاده شعوره هذا الى الضعف والتراخي، لا سيّمَا مع أولاده.
تعلّق بربّه في كلّ ظروف حياته. فكان أمينًا له، مُؤمنًا به، تقيًا يسير بحسب وصاياه، ويعرف أن يتوب ساعة تتغلّب عليه الخطيئة. ويكفيه مَدْحًا أن يكون الربّ "اختاره على وَفْق قلبه، وأمره أن يكون رئيسًا على شعبه " (2 صم 14:13).

6- ألتعليم الذي يده في كتاب صموئيل
أولاً: ولكن، هل جُعل كتاب صموئيل في قانون الكتب المقدسة، لأنّ فيه تعليمًا للمؤرّخين؟ كلا، بل لأنّ فيه تعليمًا دينيًا يتوجّه إلى بني إسرائيل، ثم إلينا نحن المسيحيين شعب الله الجديد، ووَرثة بني إسرائيل الروحيين. أمّا التعليم فيتطرّق إلى الصعوبات التي تعترض إقامة مملكة الله على الأرض. كانت قِمّةً مع داود، سبقها فَشَل ذريع مع شاول، وتبعتها خيانات ملوك تعاقبوا، فجرّوا على الأمة غضب الله ودمارها.
ثانيًا: ألموضوع الرئيسي في كتاب صموئيل، هو المَلكية وما في هذا النظام من أخْذ وردّ. إذا كان الربّ ملك إسرائيل، فما هو دور كلّ مَلِك بشري؟ ويعارض صموئيل المَلَكية باسم الله، ليدلّ على أنّ سُلطة الإنسان تتبع من سلطة الله، وعلى أنّ المَلَكية في بني إسرائيل لا تنبع من الشعب بل من إرادة الله الذي اختار شاول ورذله، ثمّ اختار داود وثبّت مُلْكه. شاول هو المسؤول، هو موضوع سؤال من قبل الشعب: طلبوه من الربّ فأعطاهم أيّاه رجلاً لا نظير له في الشعب. يزيد طولاً على الجميع من كتفه فما فوق (10: 23- 24)، ولكنّ تعدياته على وصايا الله، جعلت الله يرذله، ويُقيم مكانه داود الخاضع لوصاياه، المُلتمس وجهه دائمًا.
ثالثًا: كان داود أمينًا للربّ، وسيكون الربّ أمينًا له، فيجعل بيته يدوم إلى الأبد، ومُلْكه ثابتًا إلى الدهر (2 صم 16:7). هذه الفكرة الدينية حدّدت مكانة كتاب صموئيل في تاريخ الخلاص. سيخطأ داود، سيخطأ الملوك بعده، وستزول أورشليم في نكبة سنة 587، ولكنّ الشعب ما زال متعلّقًا بوعد الله لداود، وسينتظر بثقة وطيدة مجيء ابن لداود يُقيم مملكة الله على الأرض. وسيكون المسيح ذلك الملك المثالي، فيأتي في ملء الزمن، مولودًا من امرأة تحت الناموس، (غل 4: 4) ويكون ابن داود وابن إبراهيم (مت 1:1).
رابعًا: وتنقل تقاليد كتاب صموئيل عن الملك داود، أخبارًا تهزّ مشاعر الشعب أجيالاً عديدة. داود الشاعر مُرنّم إسرائيل العذب (2 صم 23: 1 بحسب السريانية) ومُنغّم (أو مُطْرب ومغّني) مزامير بني إسرائيل (بحسب العبرانية)، وقد نسبت إليه المزامير. على أثر نبوءة ناتان تغذّى الرجاء المسيحاني بالوعود المُعطاة لبني داود، فقال عاموس (9: 11): أقيم مسكن داود الذي سقط. وقال هوشع (3: 5): يرجع بنو إسرائيل ويطلبون الربّ إلههم وداود ملكهم (رج يش 9: 1-6؛ 11: 1-9). وقبل دمار أورشليم يُعلن ارميا (30: 9): يتعبّد الشعب للربّ إلههم ولداود الذي أقيمه ملكًا لهم، ويقول باسم الرب: أقيم لداود نبيًا صدّيقًا يكون ملكًا حكيمًا، يُجري الإنصاف والعدل في الأرض، وفي أيّامه يكون الخلاص لبيت يهوذا (ار 23: 5-6؛ رج 33: 15-17). وخلال أيّام المنفى تنبأ حزقيال عن مجيء داود جديد، يرعى قطيع الربّ ويرئسه، فيجعلهم يسلكون في أحكام الربّ، ويحفظون رسومه ويعملون بها (حز 37: 24-25). بعد الرجوع من المنفى وعدنا زكريا (8:12) بملك شبيه بداود، يسير أمامهم مثل رسول الله. وذكّرنا المزمور 4:89-5 بوعد الرب: قطعت عهدًا مع مختاري، حلفت لداود عبدي: أثبت نسلك الى الأبد. أبني عرشك إلى جيل فجيل. وأنشد لنا يشوع بن سيراخ سيرة صموئيل (13:46- 20) وداود (47: 2- 11) ألرجل القويّ التقيّ الذي أعطاه الله عهدًا ملكيًا، وعرشًا مجيدًا في إسرائيل.
خامسًا: أمّا المؤرّخ الكهنوتي فيجعل داود محور كتابه: كلّ ما سبقه منذ آدم يقتصر على بعض سلسلات الأنساب، أمّا خبر مُلْكه فيحتلّ ثلث الكتاب. عرف المؤرخ كتاب صموئيل؟، ولكنّه اختار مواد كتابه بحسب الهدف الذي وضعه أمامه: أسقط كلّ ما يقلل من قيمة بطله كنزاعه مع شاول وخطيئته مع بتشابع والمشاكل العائلية والثورات التي قامت عليه. أورد إحصاء داود للشعب، وهو عمل خاطىء، فربطه بشراء الأرض التي سيقوم عليها الهيكل (1 أخ 8:21). فداود لم يفكرّ فقط ببناء الهيكل (كما يقول 2 صم 7: 11)، بل وضع التصاميم وجهّز مواد البناء، وأوكل إلى ابنه سليمان أمر تحقيق المشروع. ثم نظّم بالتفصيل وظائف الكهنة (1 أخ 22-29). حدّثنا كتاب صموئيل عن وجه "تاريخي" لداود، أمّا كتاب الأخبار، فرسم لنا مَلِكًا مثاليًا لدولة تيوقراطية يكون الله ملكًا فيها دون مُنازع.
سادسًا: وجاء العهد الجديد، فأعلن أنّ صورة داود تحقّقت في شخص يسوع المسيح ابن داود (مت 1: 1؛ لو 2: 4؛ روم 1: 3؛ 2 تم 2: 8؛ رؤ 5: 5؛ 22: 16: من نسل داود)، ألذي وُلدَ في بيت لحم (يو 7: 42). فناداه أعمى أريحا: يا يسوع ابن داود، إرحمني (مر 10: 7)، وهتفت له الجموع يوم الشعانين: هوشعنا لابن داود. تبارك الآتي باسم الرب، هوشعنا في العلى (مت 21: 9، 15). أمّا نصوص كتاب صموئيل الواردة في العهد الجديد فقليلة جدًا. هناك ثلاثة تُلْمِحُ إلى نبؤة ناتان (أع 2: 30؛ كو 1: 15؛ عب 1: 5)، ونصّ (مر 2: 25-26) يُلْمِحُ إلى وجود داود عند احيملك في نوب (1 صم 21: 2-7؛ رج تث 3:12-4): دخل بيت الله وأكل خُبز التَقدِمة.
غير أنّ كتاب صموئيل يبقى حاضرًا من خلال كلّ حديث يبدو فيه داود صورة للمسيح الذي اختاره الله ومسحه وأرسله ليُقيم ملكوته على الأرض

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM