الفصْل العَاشِر
قبيلَة بَنيَامِين
19 : 1 – 21 : 25
أ- المقدّمة
1- ألقصّة الثانية التي نقرأها في مُلحق أخبار القضاة، تُحيط بها كلمات توجّه تفسيرها: لا ملك في إسرائيل، إذًا الفوضى سائدة (19: 1 ؛ 21: 25). واختار الكاتب من التقليد مثلاً يُوِضح فكرته. قِصّة من أشأم قصص الكتاب المقدّس، تتجمعّ فيها الجرائم المُرعبة، من نقْضِ شريعة الضيافة المقدّسة لأسباب بغيضة، إلى تجاوزات للأخلاق تفوق كلّ عيب، إلى تقطيع المرأة اثنتي عشرة قطعة (ف 19)، إلى حرب بين الإخوة وإفناء قبيلة بكاملها بطريقة همجيّة (ف 2) إلى "تنظيف" مدينة شرق أردنيّة واختطاف البنات فيها، وتزويجهن إلى من بقي من قبيلة أبيدت بطريقة مخيفة (ف 21) .
2- من المؤلم أن ينتهي سِفْر القضاة بهذه الصورة المُرعبة. نشمئزّ من هذه الأخبار وننفُر، ولكنّ الله لا ينفُر من أعمال البشر، لأنه يعرف ضُعفهم ومكامن الشرّ فيهم، وهو يستطيع أن يحوِّل تاريخ البشر المضطرب إلى تاريخ خلاص. ولكنّنا نتساءل: لماذا روى الكاتب هذه القِصّة؟ ألجواب: وجدها في التقليد فرواها، وما أراد أن يَكْذِبَ علينا، فيُلوّن لنا واقع الشعب بماء الورد، ويجعل الأسود أبيض. أخذ هذه الصورة الشنيعة، ليُثير في الشعب أهميّة الحاجة إلى الملك. على خطاه سيُبيّن مار بولس أنّ جميع البشر خطئوا، فأعوزتهم نعمة الله: بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت. وبإنسان واحد هو يسوع المسيح، حصلنا على نعمة الله وعطيّته (روم 12:5 ي).
3- ويبدأ الخبر بمشهد حُلْو، يجعلنا نُقابل بين اللاوي الذي أقام في إفرائيم وأخذ امرأة من بيت لحم، وبين اللاوي الذي استقبله ميخا، والذي جاء من بيت لحم وأقام في إفرائيم. كانت صعوبات بيتية ولكنّ تغلّب عليها الحبّ، وعمل حموا الرجل ما في وسعهما ليُعيدا الاتفاق بين الزوجين، ويَخْلُقا مُناخًا من الثِقة والسعادة. أحسّا الشقاء آتيًا فعملا على إبعاد ساعة السفَر لابنتهما وصهرهما، ولكنّْ الذلّ والموت كانا ينتظران المرأة في جبع.
4- نستنتج من هذا الخبر عِبْرتين. ألأولى تتعلّق بالمحنة. على بني إسرائيل أن يتنقّوا بالألم قبل أن يحصلوا على خلاص الله. ألعبرة الثانية تتعلّق بالأمانة لله. فالله في إرادته الخلاصية وحبّه الثابت (هو 8:11 ي)، يستطيع أن يُقيم بنيامين من سَقْطته ويُكثّر نَسْلَه بعد أن كاد يفنى. هذه النظرة تشدّد المؤمنين الذين عرفوا الاجتياح والحرب ودمار السامرة. الله يستطيع أن يُعيد شعبه إلى سابق عزّه، بعد أن يُجيزه في المحنة والألم.
5- كيف يبدو الخبر؟ اقتُرفت جريمة في جبع ورفض بنو بنيامين أن يسلّموا المذنبين، فنظّمت سائر القبائل حَمْلة تُعاقب فيها بنيامين. فشلوا مرّة أولى، ولكنّهم توصلوا إلى احتلال المدينة الجانية وسَحْق البنيامينيين. غير أنّهم لجأوا إلى حيلة ليُجنّبوا الزوالَ قبيلة من قبائل إسرائيل. كُتب الخبر بعد الأحداث بمدّة طويلة، فصوّر لنا الكاتب وحدة القبائل السياسية والدينية. كلّ بني إسرائيل اتخذوا قرارًا ونفّذوه " ليَكنِسُوا الشرّ إلى خارج إسرائيل". وتضخّمت الأرقام، وتعدّدت التقاليد وكثُرت التردادات. ويبقى أنّ ضُعف بنيامين على هذه الصورة غير معقول في زمن شاول، يوم كانت قبيلته مُهيمنة على سائر القبائل.
ب- تفسير الآيات الكتابية
1- جريمة جبع ونداء إلى القبائل (19: 1-30)
(آ 19: 1-10) حصل الحدث، يوم لم يكن بَعْدُ مَلِكٌ في إسرائيل (6:17 ؛ 18: 1)، مع لاويِّ أقام في إفرائيم وجاء إلى بيت لحم فاتخذ له امرأة. فزنت عليه وعادت إلى بيت ابيها إلى بيت لحم. فذهب الرجل إلى امرأته ليعود بها إلى بيته. حاول أن يؤخّره حموه فلم يقبل، وانطلق مع امرأته حتى وصلا تُجاه يبوس (يش 8:15؛ 16:18) التي هي أورشليم. (كذا كان اسمها منذ الألف الثاني ق. م.).
(آ 11- 21 ) وكان المساء، فأشار الخادم على معلّمه أن يبيتوا في أورشليم، فرفض ان ينزل مدينة مليئة بالغُرباء، وليس فيها احد من بني إسرائيل. فتوجّه اللاوي إلى جبع (التلّة، تلّة الغول) التي تبعد 6 كلم إلى الشمال من أورشليم. هي جبع شاول (1 صم 11: 4؛ 15: 34؛ اش 10: 29) أو جبع بنيامين (1 صم 13: 2، 15؛ 14: 16) أو جبع الله (1 صم 10: 5). وهي غير جبع التي تقع جنوبيّ شرقي الرامة (يش 18: 24؛ قض 20 : 33؛ 1 صم 14: 5). أمّا الرامة فتبعد 9 كلم إلى الشمال من أورشليم.
وحلّ الليل فتوقف اللاوي في ساحة المدينة (رج تك 19: 2 والملاكين عند لوط)، منتظرًا أن يستضيفه أحد سكّان المدينة. ولكنّ شيخًا غريبًا عن بنيامين (جاء من إفرائيم وأقام في جبع) أخذه إلى بيته، وقام بواجبات الضِيافة معه.
(آ 22- 30) ألجريمة والنداء إلى القبائل. هنا سيحدث مع الشيخ واللاوي، ما حدث بين أهل سادوم من جهة، ولوط والمَلاكَيْن من جهة ثانية. أراد أهل جبع أن يفتعلوا بالمرأة. رفض الشيخ باسم شرائع الضيافة، وقدّم لهم ابنته فلم يرضوا. حينئذ قدّم لهم اللاوي زوجته، فقضوا ليلتهم معها، ورموها عند عتبة البيت في الصباح. أمّا اللاوي فأخذها وقطعها اثنتي عشرة قطعة، ووزعها على القبائل، ليدعوهم إلى الانتقام من مثل هذا الفعل الشنيع.
2- شعب إسرائيل يُعاقب بنيامين (20: 1-48)
(آ 20: 1- 11) واجتمع كلّ بني إسرائيل في المصفاة في بنيامين (أي تلّ النصبة التي تبعد 13 كلم إلى الشمَال من أورشليم)، وهي غير مصفاة جلعاد (10: 17؛ 11: 111، 34؛ تك 49:31؛ هو 5: 1). وروى اللاوي عليهم ما فعل البنيامينيون في جبع. فاختاروا منهم من يذهب ليُعاقب المدينة الخاطئة.
(آ 12-18) وبدأت المفاوضات: طلب بنو إسرائيل فاعلي الشر من قبيلة بنيامين، فرفضت تسليمهم. وهكذا استعدّ بنو بنيامين للقتال من جهة، وجهّزت سائر القبائل أربع مئة ألف مقاتل وسألوا الله في بيت إيل (حيث تابوت العهد): من يصعد أولاً لمحاربة بنيامين، فأجاب الصوت: يهوذا.
(آ 19-28) حاول بنو إسرائيل مرّتين، ففشلوا مرّتين أمام بنيامين. حينئذ بكوا في بيت إيل وصلّوا وسألوا الربّ بواسطة كاهنه فنحاس: هل نخرج لمُحاربة بنيامين أم نكفّ؟ فأجابهم: إصعدوا لآنّي في غدٍ أدفعهم إلى أيديكم. بعد أن تنقّى شعب إسرائيل صار أداة بيد الله ليُعاقب بها المُذنبين.
(آ 29-32) وهنا سيتمّ دمار قبيلة بنيامين، فتلقى العِقاب الذي تستحقه. تظاهر بنو إسرائيل أنّهم هاربون نحو البرّية.
(آ 33-38) ولكنّ بني بنيامين وقعوا في الفخّ. ما إن ابتعدوا عن المدينة حتى طوقّهم بنو إسرائيل من كلّ جهة. بعل تامار (ألنخل) هي رأس الطويل الواقع شماليّ شرقي جبع.
(آ 39-48) وأُحرقت المدينة، وكان الدخان علامةً للهجوم على المدينة وعلى المقاتلين... هرب البنيامينيون إلى صخرة الرمون (أو الرمان) التي تبعد 15 كلم إلى الشمال الشرقيّ من جبع... قتلوا الذُكور، وهَدَفُهم إفناء القبيلة إفناءً كاملاً.
3- إعادة بناء قبيلة بنيامين (21: 1- 25)
أراد الكاتب أن يُبرز هنا عطف الله على كلّ قبيلة من قبائل إسرائيل، وتدخّله الخاصّ ليُعيد بناء بنيامين. ولكنّ الرجال الناجين (كانوا 600) يحتاجون إلى نساء، لهذا تزوّجوا عذارى يابيش، واختطفوا الراقصات من شيلو. اذًا نحن أمام تقليدين جمعهما الكاتب المُلهم في خبر واحد، بعد أن قام بالتنقيحات اللازمة.
(آ 21: 1-14) عذارى يابيش: اتخذ بنو إسرائيل إجراءات (8:20 ي) ضدّ بنيامين المُنَجَّس بجريمة جبع، فنفّذوا شريعة الحرام: لن يُعطوا من بناتهم أزواجا لبنيامين. وصعدوا إلى بيت إيل وبكوا، لأنّ سِبْطًا من أسباطهم زال. بنوا المذبح، قدّموا المُحرقات. وسألوا: مَنْ مِنَ القبائل لم يصعد إلى المصفاة فلا يكون مربوطًا بالقَسَم من جهة، ويستحقّ من جهة ثانية عقوبة الخيانة، لأنهم لم يُشاركوا أخوتهم في الحرب.
فتبيّن أنّ أهل يابيش جلعاد لم يصعدوا مع إخوتهم، فأرسل بنو إسرائيل من يضرب أهل يابيش بحدّ السيف. ولكن كان هناك 440 عذراء فأخذوهن وأعطوهن لرجال بنيامين الناجين، ولكنّهن لم تكنّ كافيات.
وهكذا عاد السلام بين بني بنيامين وسائر القبائل.
(آ 15-23) راقصات شيلو. ويبدأ الحدث الثاني كالحدث الأول. ماذا نفعل لنُقيم بنيامين من جديد؟ وتذكّروا العيد في شيلو (تبعد 15 كلم إلى الشمال من بيت إيل) والبنات الآتيات الى الرَقْص... وهكذا كان، إتّخذ كلّ بنياميني فتاة، ورجعوا إلى ميراثهم وبنوا المُدُن وسكنوها.
(آ 24- 25) ألخاتمة: وتعيد آ 24 الكلام عن رجوع كلّ واحد إلى أرضه. أما آ 25 فتعزو سبب كلّ هذه الفوضى إلى خَلَلٍ في تنظيم بني إسرائيل: لم يكن ملك لبني إسرائيل، ولهذا كان كلّ واحد يعمل ما يريد.
خاتمة: سرّ الروح
إليك النصوص التي تحدّثنا عن حضور الروح وقوّته، في أشخاص اختارهم الربّ ليُخلصوا شعبه.
- وكان روح الربّ على عتنيئيل فتولّى القضاء لبني إسرائيل. خرج للحرب فأسلم الربّ إلى يده كوشان رشعتائيم ملك ارام، وكانت يده قديرة عليه (3: 10).
- وحلّ روح الربّ على جدعون (6: 34)، فهاجم المديانيين والعماليقيين وانتصر عليهم.
- وكان روح الربّ على يفتاح (29:11)، وتقدم يفتاح لمُحاربة بني عمّون فأسلمهم الربّ إلى يده (11: 32).
- وطفق روح الربّ يُحرّك شمشون (25:13)، فنزل شمشون إلى حيث يُقيم الفلسطيون، وكان يطلب سببًا ليُقاتلهم (14: 4).
- وحلّ روح الربّ على شمشون، ففسخ الأسد الهاجم عليه، كما يفسخ الجَدْي ولم يكن في يده شيء (6:14).
- وحلّ روح الرب على شمشون، فنزل إلى اشقلون وقتل ثلاثين رجلاً من الفلسطيين وأخذ ثيابهم (14: 19).
- وحلّ روح الربّ على شمشون، فإذا الحبلان اللذان على ذراعه ككتّان مُشيّط بالنار، فانحلّ الوثاق عن يديه (15: 14). وبعد كلّ هذا قتل ألفًا من الفلسطيين.
الروح هو قوّة نسمة الله، وهذه القوّة تنتقل فجأة إلى أناس يستطيعون أن يتصرّفوا بقوة، بفضل هذه الموهبة المُعطاة لهم. وهذه الموهبة مصدرها الله.
والرجال الذين ينالون الروح، ليسوا مُلهمين يحصلون على أفكار جديدة وأنوار خاصّة. تقول النصوص إنّ الروح حلّ فجأة، ويأخذ الكاتب يصور عملاً حربيًا يتبعه انتصار يرجع إلى تدخّل الله. الروح هو اذن قوة تعمل، وهي متأكّدة من النجاح.
كيف يُشير الكاتب الى قوة الله وكيف يتعرّف إليها؟ بسبب طابعها الخارق الذي يتعدّى كلّ الإمكانات البشرية. وموهبة القوّة هذه ترتبط بتحرير الأرض، بعدوّ نقهره، نقتله أو نطرده. وكاتب سفر القضاة يُبيّن أنّ مثل هذا النجاح هو نعمة، وأنّ مخلّصي شعب إسرائيل ما كانوا ليظهروا كما عرفناهم. ولكنّ الله أحلّ عليهم روحه ودفعهم بنسمته وقوّاهم بقدرته، فقاموا بأعمال يَعْجَزُ عنها البشر العاديون