الفصل الأربعون: يوحنا المعمدان ويسوع
 

 

الفصل الأربعون
يوحنا المعمدان ويسوع
7: 24-25؛ مت 11: 7-19

جمع لوقا هنا ثلاثة مقاطع من التقليد عن المعمدان. إنطلق من عظمة يوحنّا ليحدّثنا عن عظمة يسوع. في المقطع الأول، طرح المعمدان سؤالاً في رسالة يسوع (18:7- 23). في المقطع الثاني أعطى يسوع رأيه في رسالة يوحنّا وبالتالي في رسالته هو (24:7- 30). وفي المقطع الثالث تحدّث يسوع عن موقف الشعب تجاه يوحنّا وتجاهه هو (7: 31- 35)، بعد أن رسم شخصيته في عبارة قصيرة: "صديق العشّارين والخطأة".

1- نظرة يوحنّا إلى يسوع.
موضوع هذه المقاطع الثلاثة هو إستقبال الشهود، إستقبال يوحنّا وإستقبال يسوع. يوحنّا هو النبيّ وحامل تقليد إسرائيل وهو يطرح سؤالاً حول الشهادة عن يسوع. فيسوع لا ينفصل عن تاريخ شعبه وعن الشهود الذين أُعطي لهم أن يأكلوا ويشربوا معه (أع 10: 41). ولكن تقليد إسرائيل هذا لم يتعرّف إلى ذلك الآتي (آ 19) يفتقد شعبه ويزورهم. ثم إن المتكئين مع إبن الإِنسان إلى مائدته هم العشّارون والخطأة (آ 34). هذه هي إرادة الله (آ30). من هنا التأكيد الجذري: من لا يقبل يوحنّا أعظم مواليد النساء، من لا يقبل صغار الملكوت (أي التلاميذ) يحتقر مخطط الله.
في نصّ لوقا (18:7- 23) نرى أن يوحنّا عرف من تلاميذه بأفعال يسوع، فأرسل يسأل. لم يقل لنا بوضوح كما في مت 2:11- 10 إن يوحنّا هو في السجن. أما في متّى، فالسؤال المطروح يدلّ على شك حقيقي، على ارتيابه:
لم يرَ يوحنّا في نشاط يسوع (الذي هو عبد الله) الخيِّر (مت 8- 9) عملَ الديّان الإِلهي الذي جاء يُنقي بيدره والذي بشّر يوحنّا بمجيئه القريب (مت 3: 10- 12). أما نظرة لوقا فمختلفة بعض الشيء: أرسل الوفد إلى الربّ وردّد مرتين: هل أنت هو الآتي؟ الآتي هو ابن الإِنسان كما في دانيال (13:7) وهو المسيح الملك في زك 9:9؛ 14: 5؛ مز 26:118. والسؤال الذي طرحه يوحنّا في الإِنجيل الثالث يعبّر عن تقليد إسرائيل النبويّ: هل يسوع هو ذلك الذي يتمّم النَبوءات؟
إن جواب يسوع إلى الوفد والعودة إلى أشعيا أمر طبيعي عند متّى بعد أعمال قدرة يسوع: شفى الأعميين والمخلّع والأبرص والأصمّ الأخرس وأقام الصبية التي ماتت. كل هذا قد تمّ، وهو يدلّ على أن يسوع هو المسيح المنتظر. فابن الإِنسان جاء يدين العالم بقدرته على الشفاء. أمّا لوقا فأظهر يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين "في تلك الساعة"، فدلّ على أن هذا يحقّق الآن البرنامج الذي قدمّه في الناصرة (18:4). وهكذا يشدّد لوقا على آنيّة الخلاص: أُعلنت البشارة للفقراء (7: 22). فالمسيح الذي هو يسوع نعرفه بإحسانه من أجل الصغار. إنه المسيح. ولكن لا كما تخيله يوحنّا إنطلاقًا من أقوال نبويّة تدلّ عليه على أنه الديّان السامي. والخطوة التي يجب إجتيازها بين النظرتين عن دور المسيح ستكون مناسبة للتنبيه الذي ينهي البلاغ الذي أرسله يسوع إلى يوحنّا.
أعلن يسوع تطويبة جديدة تشكّل نداء إلى يوحنا لئلا يعثر في إيمانه بسبب الذي قال عنه سمعان الشيخ إنه سيكون "سبب سقوط وقيام عدد كبير في إسرائيل، إنه سيكون علامة معارضة دائمة" (2: 34). أن نرى في يسوع ذلك الآتي يفترض أننا نتقبّل بالشكر علامات ذلك الذي يُعلن البشارة للفقراء كلّهم. فعلى يوحنّا وكل تقليد إسرائيل الذي يُمثّل، أن يروا ذلك المسيح الذي يتمّم المواعيد ويفجِّر رجاءهم فيجعله يتسع وسع العالم.

2- قيمة شهادة يوحنّا.
ويطرح السؤال: هل تجاوز الوضع يوحنّا النبيّ؟ ما قيمة شهادته بعد أن جاء المسيح؟ سيحدّد يسوع في الخطبة التي يلقيها في الجموع (آ 24- 25) دور شهادة يوحنا وبُعدها.
بدأ فحدّد موقعه في تيار إسرائيل النبويّ وطلب من محاوريه أن يتذكّروا: ما الذي دفعهم إلى البرية حيث أعلن يوحنّا معمودية التوبة (3: 2-3)؟ أفضول باطل؟ هل اجتذبهم الغنى؟ كلا. فالنبيّ يعظ عن التجرّد (3: 10 ،14). وهو الذي سمتّه الكتب المقدّسة "ملاك الله " (رج ملا 3: 1؛ خر 23: 20). إن يوحنّا هو قمّة ونهاية هذا التقليد الطويل الذي لا نستطيع أن نلغيه. وفي الوقت عينه يمثّل عتبة العالم الجديد (رج 16:3: "يجيء من هو أقوى منّي "؛ 16:16: "بقيت الشريعة وتعاليم الأنبياء إلى أن جاء يوحنّا، ثم بدأت البشارة بملكوت الله "؛ أع 1: 5: "يوحنا عمّد بالماء، وأمّا أنتم فتتعمدون بالروح القدس " (رج 16:11).
كلّ شيء جديد. دخل الخطأة والعشّارون في مخطّط الله فقبلوا معموديّة يوحنّا. ولكن الذين اعتبروا نفوسهم أبرارًا، أي الفريسيّون ومعلّمو الشريعة، فرَذلوا يوحنّا ورذلوا معه مخطّط الله. وهكذا إستحال عليهم أن يتعرّفوا إلى يسوع. فالذين رذلوا يوحنّا رذلوا يسوع أيضًا. أمّا الذين قبلوا يوحنّا فلم يجعلوا مسيرة الله إليهم باطلة.
هذا الكلام يتوجّه إلى معاصري يوحناّ، إلى كل إنسان. فالذي ليس بيهوديّ، عليه أن يقبل الدعوة بأن يدخل في تاريخ بدأ في تقليد غير تقليده. إذن، عليه أن يتقبل تقليدًا غريبًا لا يستطيع أن يتهرّب منه. عليه أن يلتقي يسوع عبر شهود أكلوا وشربوا معه، عبر العشّارين والخطأة، عبر الصغار الذين صاروا أصدقاء يسوع ورفاقه. وهذا واضح من خلال مثل الأولاد القاعدين في الساحة، وهو المثل الذي به ينهي يسوع خطبته. يقابل فيه بين "الشعب " (آ 29) و"هذا الجيل " (آ 31). إن معنى هذه اللفظة الأخيرة في عد 13:32 ("الجيل الذي فعل الشر")؛ تث 1: 35 ("لن يرى أحد من هذا الجيل الشرير الأرض الصالحة")، 22:9؛ مز 95: 10 ("مللت من ذلك الجيل وقلت: هم شعب قلوبهم في ضلال ")، معناها المتفرّد. " أمّا في نظر يسوع فهي تدلّ على البشرية كلّها. أو بالأحرى على هذه البشرية الرائحة إلى الهلاك. فالمثل لا يصيب فقط الفرّيسيّين وعلماء الشريعة في ذلك المكان، بل كل إنسان يتردّد في أن يرى النعمة التي يقدّمها له يسوع.
و"الشعب " في لوقا يتميز عن التلاميذ وعن رؤساء العالم اليهودي. إنه مؤلّف من اليهود، إنه إسرائيل الذي عاصر المسيح وعاصر الإِنجيلي. بعضهم قبل الإِيمان، والعدد الكبير ظلّ على رفضه (4: 16- 30). فيه يدخل يسوع وفيه يتجذّر الخلاص المسيحانيّ الذي يراه لوقا في امتداد العهد القديم.

3- مديح يوحنّا (24:7-28).
أ- درس النصّ.
تحدّثت آ 18- 23 (مت 11: 1- 6) عن يسوع وعن رسالته. أمّا الآن فتتحدّث عن رسالة يوحنّا المعمدان. بعد أن أجاب يسوع على سؤال مرسلَيْ يوحنّا، سأل الجمع ليعرف فكرهم قبل أن يعلن فكره. ويبدأ حوار صغير. يطرح المعلّم أسئلة ويقدّم بنفسه الأجوبة. أشار إلى الجموع التي اجتذبتها كرازة المعمدان إلى البريّة (رج مت 3: 5 وز) فسأل عن السبب. وقدّم ثلاثة شروح، مع العلم أن الشرحين الأوّلين وُضعا هنا ليُبرزا الشرح الثالث: يذهب الناس إلى يوحنا لأنهم يعتبرونه نبيًّا. بعد ذلك، يعبّر يسوع عن رأيه. "أقول لكم " (آ 26). ويزايد على رأي الجموع: "أكثر من نبيّ ". وبرّر تأكيده باستشهاد من الكتاب المقدّس.
قام لوقا ببعض التصليحات في نص مت 7:11- 9. إمتنع عن تكرار لفظة "ناعمة" فأحلَّ محلَّها الثياب الفاخرة وتحدّث عن العائشين في الترف. هذا يدلّ على المناخ الشهواني الذي يسيطر في قصور الملوك وبصورة خاصة لدى الملك الذي يتحدّث عنه الإِنجيل، إن السامعين يكتشفون في هذه الصور تلميحات إلى احداث قريبة. إن يوحنّا الذي قاوم هيردوس أنتيباس لم يكن ذلك الطبع المتقلّب الذي ينحني أمام الملك كالقصبة أمام ريح البريّة. ولم يكن من هؤلاء المتزلّفين أمام الملك. إنه النبيّ.
ويرد في آ 27 (مت 11: 10) استشهادٌ لقرأه أيضًا في مر 1: 2، وهو يعود إلى ملا 3: 1. تأثرت بداية النصّ بما في خر 23: 20 ("هأنا أسيّر، أرسل، أمامك ملاكًا يحفظك في الطريق") ونص ملا 3: 1 "أمام وجهي" أي أمام وجه الربّ، صار: "أمام وجهك " أي أمام وجه يسوع. هذه القراءة تشهد لإيمان الجماعة الأولى التي ترى في يسوع لا المسيح وحسب، بل الربّ الذي يأتي.
كتب مت 11: 11: " لم يُقَم في مواليد النساء" (أي لم يُقِم الله، أو: ما ظهر). تجنّب لوقا هذه الطريقة الساميّة. قال: "ليس في مواليد النساء من هو أَعظم من يوحنّا" (آ 28). ولكن الأصغر (= يسوع) في ملكوت الله هو أعظم منه " (= من يوحنّا). تتوافق هذه القراءة مع اهتمامات الإِنجيليّين الذين يبينون لتلاميذ يوحنّا كرامة يسوع وكرامة يوحنّا. فيسوع الذي خضع لعماد يوحنّا واستعاد تعليمه عن التوبة (مت 3: 2= 17:4) بدا وكأنه أقل من يوحنّا، ولكنّه في الواقع "أقوى" (مت 3: 11) منه. وبعد هذا، طبّقت الجماعة على كل تلميذ ما قالته عن المعلّم. نحن لسنا هنا أمام قداسة المعمدان الشخصية، بل أمام تفوق التدبير المسيحيّ على الشريعة والأنبياء بمن فيهم يوحنّا المعمدان.

ب- يوحنّا نبيّ.
شعرت الجموع أن يوحنّا نبيّ. بّتهم يسوع في تفكيرهم. وأشار الإِنجيليّون بوضوح منذ البداية إلى أنهم يتكلمون الآن عن يوحنّا: "تحدّث يسوع للجموع عنٍ يوحنّا" (آ 24؛ مت 7:11). بعد أن تنبه القارئ سيفكر بيوحنا وُيدرك حالاً التعارض بين التفسيرين اللذين أعطاهما يسوع، وبين السبب الحقيقي الذي لأجله تتقاطر الجموع إلى البرية.
والتعارض واضح بصورة خاصة في الحالة الثانية. الحديث عن زيارة لإِنسان يلبس الثياب الناعمة يدفعنا إلى أن نفكر بلباس المعمدان: "وكان يوحنّا يلبس ثوبًا من وبر الجمال، وعلى وسطه حزام من جلد" (مت 3: 4). فالثياب الناعمة تُبرز ثوب يوحَنّا الخشن الذي يدلّ على ثوب إيليّا (2 مل 1 :8). أجل يوحنّا هو نبيّ بلباسه الخارجي.
وتُذكر القصبةُ التي تهزها الريح. القصبة تتزعزع، تتحرك. أما يوحنّا فثابت لا يتزعزع. إنه قريب من النبيّ آرميا: "كلِّمهم بكل ما آمرك به. لا تفزع منهم لئلاّ أفزعك أمامهم. جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمودًا من حديد وأسوارًا من نحاس فتواجه البلاد كلّها: تواجه ملوك يهوذا والأمراء والكهنة والشعب. يحاربونك ولا يقدرون عليك لأني معك لأنقذك " (إر 1: 17- 19).
إن النبيّ يتكلّم باسم الله، فعليه أن ينتظر معارضة البشر، ولكن لا يحق له أن يرتجف من تهديداتهم: الله معه، وقوة روحه تجعله لا يتزعزع. وهذه الثقة بالنفس هي سمة تميّز يوحنّا المعمدان وتجعله في خط الأنبياء العظام في الماضي. أجل، يوحنّا هو نبيّ. هذا هو رأي معاصريه، وهذا ما تشهد عليه عدّة مقاطع من الإِنجيل. أراد هيرودس "أن يقتله، ولكنّه خاف من الشعب الذي كان يعدُّ يوحنّا نبيا" (مت 14: 5). سأل يسوع وجهاء أورشليم: من أين تأتي معمودية يوحنّا، أمن السماء أم من الناس (مت 25:21)؟ حينئذٍ تحيّر محاوروه. كيف ينكرون الأصل السماويّ لرسالة المعمدان: سيجلبون عليهم غضب الشعب "لأنهم كلّهم يعدّون يوحنّا نبيًّا" (مت 26:21). فهو كنبيّ قد نال "من السماء" التعليم الذي يعلنه. إنه مرسل الله والمتكلّم باسمه. هذا هو شعور الجمع، ويسوع يوافق على هذا الرأي. ولكنّه يريد أن يذهب أبعد من ذلك فيدلّ على عظمة يوحنّا المعمدان التي لم تكن عادية.

ج- أعظم من نبّي.
لم يتعجّب سامعو يسوع حين قال لهم عن يوحنّا "إنه أعظم من نبيّ ". لقد استشفّوا شيئًا من عظمة يوحنّا هذه: "وكان الشعب ينتظر ويتساءلون كلّهم عن يوحنّا: أما هو المسيح " (لو 3: 15)؟ أن يكون أكثر من نبيّ! إذن هو المسيح شخصيًّا؟ ولكن يوحنّاّ احتجّ على هذا الكلام: "ما أنا الذي تظنّون أني هو" (أع 13: 25). سأله الفريسيّون، فأنكر إنكارًا قاطعًا: لستَ المسيح ولا إيليا ولا نبيّ آخر الأزمنة (يو1: 19- 25؛ رج 28:3).
وأخذ يسوع موقفًا من كلّ هذا. أجل، يوحنّا هو أعظم من نبيّ. ولكن من هو إذن؟ وإذا كانت عظمته تتجاوز عظمة الأنبياء، فبمَ تقوم هذه العظمة؟ شرحها يسوع عائدًا إلى الكتب المقدّسة: "هذا الذي كتب عنه: ها أنا أرسل ملاكي أمام وجهك وهو يهيئ طريقك أمامك ". يشير هذا الإِستشهاد إلى مقطعين من التوراة. أوّلاً: ملا 3: 1: "ها أنا أرسل ملاكي (رسولي) فيتفحّص الطريق أمام وجهي ". ثانيًا: خر 23: 20: "ها أنا أرسل ملاكي أمام وجهك ليحفظك في الطريق ". الرسول الذي يتكلّم عنه ملاخي هو إيليا (ملا 23:3) الذي يعود إلى الأرض ليهيئ مجيء الله الآتي ليدين العالم. والرسول الذي يتكلّم عنه سفر الخروج هو ملاك الربّ: يقود الشعب ويحميه في مسيرته عبر البريّة. إن الإِستشهاد الإِنجيليّ يربط بصورة خاصة نصّ الخروج بنصّ ملاخي الذي يعود إليه في مكان آخر ليدلّ على أن المعمدان لعب دور إيليّا (مت 14:11؛ 17: 10- 13). ولكن لا نهمل نصّ سفر الخروج. فيوحنّا في رسالته كالسابق، لا يلعب فقط دور إيليا، بل دور الملاك الذي يقود الشعب إلى أرض الميعاد.
ويوحنّا كونه "نبيّ العلي " "يسبق الربّ " (76:1) "بروح إيليا وقوّته " (17:1). وقد دلّ على نفسه بمقابلة تحدّد، دوره تحديدًا عجيبًا: "أنتم أنفسكم تشهدون بأني قلت: ما أنا المسيح، بل رسول قدّامه. من له العروس فهو العريس. وأمّا صديق العريس فيقف بجانبه يُصغي فرحًا لهتاف العريس. ومثل هذا الفرح فرحي وهو كامل " (يو 28:3- 29).
إن العريس يتسلّم العروس من صديقه. وهذا ما حصل ليوحنا الذي يريد أن يمّحى أمام من هو أعظم منه. لعب دوره كصديق فأدّى خدمة أرفع من خدمة الأنبياء الذين يتفوق عليهم: لم يُعلن فقط مجيء الآتي ويهيئ له الدرب، بل حمل إليه شعبًا مستعدًّا، ودشَّن له الزمن المسيحانيّ.
تأتي عظمة يوحنّا الفريدة من رسالته كالسابق. وحين نحدّد دوره بهذا الشكل ندلّ في الوقت عينه على أن ذلك الذي هيَّأ له الدرب هو الربّ بالذات، هو المسيح. فالذين يؤمنون أن يسوع هو حقًا ذلك الآتي، يقدرون وحدهم أن يقرّوا بالمكانة التي تعود إلى يوحنّا المعمدان في تدبير الخلاص.

4- الصبيان في ساحة المدينة (7: 31- 35).
هذا هو الشعب: صبيان في ساحة المدينة لا يعرفون أن يكتشفوا علامات نعمة الله. لم يكتشفوا يوحنّا ولن يعرفوا أن يكتشفوا يسوع. فعناد المعاصرين ونزواتهم تظهر في حُكمهم على يوحنّا ويسوع. وجدوا أن المعمدان قاسٍ، يعيش عيشة تقشّف فاعتبروه مجنونًا. ورأوا أن يسوع لا يتحلّى بالقداسة التي تفصله عن الخطأة فاعتبروه إنسانًا يستفيد من الحياة، ويصادق العشّارين والخاطئين. كان يوحنّا رسول التوبة والإِرتداد إلى الله. وجاء يسوع فأعطى الخلاص للجميع، ولا سيّما للذين اعتبروا من الهالكين فيئست منهم جماعة إسرائيل.
ووراء الإِثنين، وفي أساس عملهم يتحدّد موقع قرار خلاصي. يوحنّا هو المعمِّد. هو نبيّ آخر الأزمنة، وهو يهيئ الدرب للذي يحمل الخلاص. يسوع هو ابن الإِنسان. معه تبدأ نهاية الأزمنة. فالله أعطاه كل قوة وسلطان وكرامة وملك. أعطاه ملكًا لا يزول على كل الشعوب والقبائل والألسنة، أعطاه ملكًا لن يُدمَّر أبدًا (دا 7: 14).
هنا يأتي مثل الأولاد الذين لا يعجبهم عجب. يصوّر هذا المثل القصير لعبة أولاد. يلعب الصبيان "لعبة العرس" فيرقصون والبنات "لعبة الجنازة" فتبكين كما تبكي النساء على رأس الميت. لا تمييز بين راقصين يعبّرون عن فرحهم وبين باكيات يندبن ميتهن. كلّهم يلعبون معًا ولا يتفاهمون.
ويُبدي يسوع غضبه من خلال هذا المثل: أنتم تُشبهون هؤلاء الأولاد وصغارة نفوسكم لا تُحتمل. تتصرّفون كالأولاد ودينونة الله قريبة. أجل، لم يفهموا التعليم الذي أعطي لهم، فلم يدركوا معنى حياة يوحنّا القشفة، ولا موقف يسوع البهيج الذي يعلن الفرح المسكوني (7 29، 34). هذا النقص في التمييز منعهم من التعرّف إلى شهود النعمة، ومن قبول شهادتهم.
وتأتي خاتمة ملغزة: "لكن الحكمة يبرّرها جميعُ أبنائها". هذا ما يقول لوقا (آ 35). أما مت 19:11 فيقول: "الحكمة تبرّرها أعمالها". نحن هنا أمام "أعمال المسيح " (مت 2:11) التي سمع بها يوحنّا المعمدان وهو في سجنه. إن أعمال الله تشهد أنه بار في جميع ما يعمل عبر يوحنّا، وخاصة عبر يسوع مهما كانت معارضة هذا الجيل قوّية (مت 16:11). يسوع هو حكمة الله (مت 42:12؛ 1 كور 1: 24)، وأعماله تبرّره. أمّا حكمة هذا الجيل فعملت على رذل يوحنّا المعمدان ثم المسيح، وبالتالي على رفض مخطّط الله الخلاصي.
أمّا نصّ لوقا فقد يعني: إن أبناء الحكمة (= المؤمنين) برَّروا (أعطوا حقَّ) الله حين آمنوا بالمسيح. عند ذاك نعود إلى آ 29: "كل الشعب الذي سمع، حتى العشّارون، برّروا الله (أقرّوا بصدق الله) فتعمّدوا بمعموديّة يوحنّا". أي عرفوا إرادة الله وعملوا بها.
نشير هنا إلى أن لوقا لا يماثل بين يسوع والحكمة (لا يقول إن يسوع هو حكمة الله). فالحكمة تمثّل بالأحرى تماسك مخطّط الله الخلاصي (رج 11: 49). نحن هنا أمام استقامة المخطط الإِلهي الذي يصبح جليًّا للذي يقبله. و"أبناء الحكمة" هم الشهود المتنبّهون إلى مخطّط الله، إلى خلاص الله.
فالذين أدركوا معنى مجيء المسيح بعد أن عرفوا دورَ يوحنّا، أي الشعب والعشّارون (آ 29) والفقراء (المساكين) الذين تلقّوا البشارة (آ 22)، كلّ هؤلاء "برّروا الله " (آ 29) ومخطّط حكمته. عمليًا: شهدوا شهادة صادقة بارتدادهم لمجيء ابن الإِنسان الذي أعلنه تقليد إسرائيل النبويّ.

خاتمة
قد تبدو طرق الله عبر تاريخ الخلاص صعبة الفهم علينا، ولكنّها ليست إعتباطيّة. إنّها حكمة الله. جاء يسوع بطريقة لم يتخيّلها تلاميذ يوحنّا، ولم يعلَمها الفريسيّون وعلماء الشريعة، ولم تنتظرها أحزاب إسرائيل المختلفة.
وجاء يوحنّا بطريقة تختلف عما تصوّره إسرائيل. لم يكن يوحنّا إيليّا الراجع، بل شخص آخر يشبه إيليّا. وتختلف الكنيسة عمّا يريدها الناس أن تكون. والقدّيسون هم غير ما يظنّهم الناس.
فإبن الحكمة وحده يتعرّف إلى الحكمة الحقيقيّة، إلى حكمة الله في أعماله. إبن الحكمة هو الذي ولدته الحكمة، حوَّلته، تسرّبت إليه فجعلته يفكّر مثلها ويحكم حكمها.
أن يكون الشعب البسيط قد رأى في يوحنّا السابق للمسيح، ولم يشكّ ولم يضعف إيمانه بسبب يسوع، كل هذا ليس عمل البشر بل عطيّة الله. هذه هي الحكمة التي يعطيها الله. لهذا يَرفع الربّ نشيدَ شكره للربّ الذي أخفى هذا عن الحكماء والفهماء (10: 21). إن الحكمة البشرية لا تكفي لكي نعرف مخطّط الله الخلاصي ونقبل بهذا المخطّط. الله وحده يوحي إلينا بذلك.
هناك عبارتان تكمّل الواحدة الأخرى. الأولى: طوبى لمن لا يشك فيَّ. الثانية: الحكمة يبرّرها أبناؤها. فالحكم البشري المحض يتشكك من قرار الله الخلاصي، ولكن حكمة الله تبرّر هذا القرار. فإذا أراد الإِنسان أن يتعرَّف إلى الخلاص في يوحنّا ويسوع، إحتاج إلى حكمة الله، إلى أن يتخلّى عن تفكيره البشري. عليه أن يبدّل نظرته، أن لا يحسب نفسه مرجع كلّ شيء. عليه أن يخرج من نفسه ليستنير بنور الله وكلمته. عليه أن يتخلّى عن حكمته ويصير طفلاً. فملكوت الله يُعطى للأطفال.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM