الفصل الحادي والأربعون: صديق الخطأة
 

 

الفصل الحادي والأربعون
صديق الخطأة
7: 36- 8: 3

نصّ جميل، بل من أجمل نصوص لوقا وهو يخرج من النبع، من قلب هذا النبيّ الذي لا يحمل كلمة الله بفمه فقط، بل بكلّ حياته. نصّ متشعّب سندرسه ونكتشف شفافيّته التي قدمها لنا لوقا من خلال عناصر حملها إليه التقليد.
بعد أن نضع هذه المقطوعة في سياقها، ندرسها ونكتشف عناصرها. وفي النهاية نقرأ الخبر كما دوَّنه لوقا.

أ- سياق النصّ.
كلّنا يعرف أن لوقا يتبع مسيرة إنجيل مرقس، ولكنه يُقحم على دفعتين نصوصًا خاصة به أو مشتركة بينه وبين متّى. النصّ الذي ندرس هو جزء من هذه القاطعة التي تبدأ في 6: 20 وتنتهي في 3:8. وهى تتضمّن جزئين. الأوّل (20:6- 49) هو "الخطبة في السهل " والمؤلفة من عناصر مشتركة بين متّى ولوقا. الثاني (7: 1- 3:8) يُورد سلسلة من الأخبار بعضها خاص بلوقا. ويبدو هذان الجزئان وكأنهما تفسير على مستوى العمل لما قاله كلاوبا على طريق عمّاوس: "كان يسوع نبيًّا قديرا في القول والعمل عند الله والشعب كلّه " (24: 19). وكما أن متّى أتبع "خطبة الجبل" بسلسلة من عشر معجزات، كذلك فعل لوقا فصوّر لنا يسوع أوّلاً كالقدير في القول (6: 20- 49)، وثانيًا كالنبيّ القدير في العمل (7: 1؛ 3:8).
ينتظم هذا الجزء الثاني حول شهادة يوحنْا المعمدان ليسوع (18:7- 35). قبل هذا يرد خبران يرويان شفاء خادم الضابط (7: 1-10) وإقامة ابن ارملة نائين (7: 11-17). وبعد هذا نقرأ خبرًا عن الخاطئة. كلّ هذا يؤلف وحدة متماسكة. والأمر واضح بالنسبة إلى المعجزات والشهادة. طرح يوحنا من سجنه على يسوع سؤالاً: سؤال مؤثّر من عند ذلك المتألّم من أجل الكلمة، ومشجّع بالنسبة إلينا حين يهاجمنا الشك بحضور الله وعمله. والسؤال هو: "أأنت هو الآتي... " (20:7)؟. وتصرّف يسوع هنا كما في خطبته التدشينية في مجمع الناصرة. أجاب يوحنا مُوردًا نصًّا من النبيّ أشعيا (19:26؛ 35: 5- 6؛ 61: 1). ولكنّه أحلّ "الأعمال" محلّ العبارة "اليوم تمّ هذا". قال لوقا: "وشفى يسوع في تلك الساعة كثيرًا من المصابين بالأمراض " (7: 21). وهكذا برهن ليوحنّا ولتلميذيه انه حقُّا ذلك الآتي، لأنه يُتمّ الكتاب.
والمعجزتان اللتان رواهما لوقا تبدوان وكأنّهما عنصر من عناصر البرهنة: شفاء خادم الضابط، ثم إقامة شاب في نائين، وهذا خبر خاص بلوقا. وأمام هذه الآية الأخيرة هتفت الجموع: "قام نبيّ عظيم بيننا" (7: 16). إذن يسوع هو هذا النبيّ الذي أعلنته الكتب والذي هيّأ له يوحنّا الطريق.
ولكن كيف استُقبل هذا النبي؟ حين رجع موفدا يوحنّا، قال يسوع: البعض، أي كلّ الشعب وبالأخصّ المحتقرون، العشّارون "برّروا" الله، قالوا إنه على حقّ حين قبلوا أن يعتمدوا من يد يوحنّا. أما الآخرون، أي الفرّيسيّون وعلماء الناموس فرفضوا هذا العماد وبيّنوا أن مخطط الله باطل وعديم الجدوى بالنسبة إليهم.
نحسّ هنا وكأن كلّ شيء قد قيل. وإن حدث الخاطئة يبدأ جزءًا آخر. ولكن إذا أمعنّا النظر اكتشفنا أن العنصرين الرئيسيّين اللذين أشرنا إليهما سابقًا ما زالا موجودين هنا. فالسؤال الذي يطرحه الفرّيسي على نفسه هو: "لو كان هذا الرجل نبيًّا لعرف من هي هذه المرأة. فأجابه يسوع بعمل قام به: غفر خطاياها. وهذه الخاطئة التي يعتبرها سمعان أحقر الناس، قد استقبلت هذا النبي استقبالاً عجيبًا. إذن، هذا الخبر جزء لا يتجزّأ من المجموعة.
نجد في هذا النصّ منهجًا أدبيًا متواترًا عند لوقا: إنه يؤلّف أخباره في لوحتين. في اللوحة الأولى يبيّن كيف أذن الكتب المقدّسة تتمّ بيسوع وفي يسوع فنكتفي بما تقول لنا. وتأتي اللوحة الثانية بشكل سؤال يعيد طرح الموضوع، فيبيّن لنا لوقا أن الطريقة التي بها أتمّ يسوع الكتب المقدّسة هي أجمل وأعمق من كلّ ما يمكننا أن نأمل به أو نتخيّله. ونأخذ مثل خبر البشارة (26:1- 38). أعلن الملاك لمريم أن ابنها سيكون من نسل داود، وابن الله العليّ فيتم نبوءة أشعيا (ف 7) والأقوال التي قيلت في ابنة (مدينة) صهيون. هذه هي اللوحة الأولى. وتأتي اللوحة الثانية مع سؤال مريم فيكشف الملاك أن الابن سيكون أعظم من هذا: سيكون ابن الله. ونقول الشيء عينه عن محاكمة يسوع أمام المجلس الأعلى لليهود (السنهدرين). أورد متّى ومرقس سؤال عظيم الكهنة ليسوع، ولكن لوقا جعل السؤال سؤالين. الأوّل: هل أنت المسيح؟ والثاني: هل أنت ابن الله؟ فقدّم يسوع جوابين. هو أوّلا ابن الإِنسان والمسيح وابن داود. وهو ثانيًا ابن الله في المعنى الحصري للكلمة (66:22-70).
والتأليف عينه حاضر في هذه المقطوعة. فمعجزات يسوع دلَّت على أنه النبيّ المنتظر، لأنه يتمّ الكتب المقدّسة. وهكذا اعترف به الفقراء والخاطئون. ويتابع لوقا (في لوحة ثانية) أن يسوع هو نبيّ في معنى لم يُسمع به، لأنه يمارس سلطة الله عينها: إنه يغفر الخطايا. لم يستقبله فقط العشّارون، بل أحقر الناس الذين تمثّلهم هذه المرأة التي هي بالنسبة إلى سمعان: "الخاطئة".
وصل لوقا إلى هذه النتيجة جامعًا العناصر المشتّتة. ونحن سنحاول أن نكتشفها.

ب- عناصر النصّ
1- عناصر تطرح سؤالاً
أولاً، 7: 36- 39. لوقا يقدّم لنا الأشخاص.
نحن في وليمة فخمة، والمدعوون متمدّدون على الأسرَّة. وفِعلَة المرأة التي تقبّل قدميّ يسوع المبللتين بدموعها وتمسحهما بشعرها غير المربوط، هذه الفعلة غير مقبولة في عقلية الناس. ولكن قد نفهمها. أما وضع الزيت (أو الطيب)، أو العطر) على القدمين فهذا ما يُدهشنا. فالطيب هو للرأس لا للقدمين. وإذا قلنا إنها وضعت الزيت على القدمين، فلماذا تمسحهما بشعرها؟ هنا نفكّر بمشهد دهن آخر أورده متّى ومرقس ويوحنّا: مريم التي من بيت عنيا صبّت على رأس يسوع (كما يقول متّى ومرقس) أو على قدميه (كما يقول يوحنّا) قارورة طيب. فما هي العلاقة بين هذين المشهدين؟

ثانيًا، 7: 40- 43.
يدخل هذا المثل بصورة طبيعيّة في الخبر، ويبدو معناه واضحًا. فالمثل يتضمّن عادة مقابلة بين شيئين. الأوّل نجده في المثل والثاني في الخبر الذي يليه: "كما أن الذي يُترك له القليل يُحب قليلاً، والذي يُترك له الكثير يُحب كثيرًا، كذلك... ".
يبدو الحُبّ في هذا الخبر كنتيجة للمغفرة لا كسبب لها. كنّا ننتظر الحديث عن عرفان الجميل. وقال آخرون: لا نجد في الآرامية كلمة تدلّ على عرفان الجميل فجُعل مكانها لفظة "الحبّ ". المهمّ ليست اللفظة، بل تطبيق المثل كما سوف نرى.

ثالثًا، 7: 44- 49: هل نحن أمام تطبيق المثل أم وَلْي الخبر؟
نلاحظ أوّلاً أنّ الرباط بين الخبز والمثل ليس متماسكًا. فالتعارض في المثل هو بين "كثير" و"قليل " والآن هو بين "كل شيء" و"لا شيء" (ما سكبت أمامي). والمفردات مختلفة. نتكلّم هنا عن "غفران الخطايا" أما المثل فاستعمل مفردة خاصة بلوقا (ترد 3 مرّات في إنجيله و 4 في أع ) وبولس: "عفا عن الدين ".
والصعوبة الكبرى هي في آ 47. كنّا ننتظر تطبيق المثَل على الشكل التالي: أنت يا سمعان أظهرت قليلاً من الحبّ، هذا يدلّ على أنه تُرك لك القليل. وإذا كانت هذه المرأة أظهرت كثيرًا من الحبّ، فهذا يدلّ على أنه تُرك لها الكثير.
وتبدو آ 44-46 وكأنّها تسير في هذا المعنى فتقدّم لنا علامات الحبّ التي أظهرتها المرأة ولا مبالاة سمعان. ولكن خاتمة آ 47 تدهشنا. فإذا أعطينا الاداة "هوتي" المعنى السببي العادي نحصل على الترجمة المنتشرة في أوساط عديدة: "لهذا أقول لك: غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا " (أظهرت كثيرًا من الحب).
وتجاه المعنى الواضح للمثل، يصبح الحبّ الآن سبب المغفرة. ولهذا تُربط الاداة "اوتي" (لأن) بعبارة "أقول لك ": "لهذا أقول لك إن خطاياها غُفرت لأنها أحبّت كثيرًا". وبعبارة أخرى: لأنها أظهرت حبًّا كثيرًا، لأني أُلاحظ هذا الحبّ أستطيع أن أقول لك: غُفرت خطاياها. نجد هنا معنىً متماسكًا مع المجموعة وان لم يكن المعنى الأول الذي يبرز لنا. وهناك ترجمة تشدّد على مجّانيّة عمل يسوع: "غفر لها الكثير فأحبّت كثيرًا". بدأ يسوع فغفر، حينئذ بدأت تحبّ حبًّا صحيحًا.
تتألّف آ 47 من شطرين. الأوّل، 47 أ (غُفرت..، لأنها) يبدو متماسكًا مع الخبر. و47 ب (من يغفر له القليل) مع تذكيرنا بالحبّ القليل يحيلنا بالأحرى إلى المثل.
ثمّ إننا. لا نجد في آ 48- 49 الألفاظ التي نجدها في المثل، بل تلك التي نجدها في خبر إنجيليّ آخر هو شفاء المخلّع (17:5- 26). يتبع لوقا مرقس، ولكنه يبتعد عنه في بعض المفردات. فالكلمات في الشفاء هي تلك التي نجدها هنا.
لو 7 لو 5
آ 1-35: يسوع يعلّم ويشفي آ 17: وكان يسوع في احد الأيّام يعلّم...
وقدرة الرب تشفي
آ 37: وها ان امرأة آ 18: وها ان أُناسًا يحملون مخلَّعًا
آ 48: ثمّ قال: مغفورة خطاياك آ 20: وإذ رأى إيمانهم قال: يا رجل، مغفورة لك خطاياك
آ 49: فأخذ الذين على المائدة يقولون آ 21: فأخذ الكتبة والفرّيسيون يفكّرون. من هذا
في نفوسهم: من هذا الذي يغفر الذي ينطق بالكفر (التجديف)؟ من يقدر أن
الخطايا يغفر الخطايا إلاّ الله وحده
آ 50: ولكنه قال للمرأة:
ايمانك (رج 5: 20) خلّصك
آ 40: فأجابهم يسوع وقال آ 22: وعرف يسوع أفكارهم فأجاب وقال
(وهنا يأتي المثل) (وهنا يأتي الشفاء)
لا شكّ في أنّنا لاحظنا التشابهات على مستوى الرسمة العامة كما على مستوى المفردات.

رابعًا، 7: 50 خاتمة الخبر كلّه
تبدو هذه الآية وكأنّها بعيدة عن الموضوع. عالج الخبرُ والمثلُ موضوع الخطيئة والغفران والحبّ. وينتهي يسوع هنا في موضوع الإِيمان والخلاص.
ماذا نستنتج من هذا التحليل السريع؟ يبدو أن لوقا ألَّف هذه المجموعة منطلقًا من عنصرين وُجدا من قبل، هما المثل والخبر. وقد أعاد صياغتهما بالنظر إلى اللاهوت الذي يقدّمه لنا.

2- مثل المديونين
مثل معروف يحمل مقابلة. ولكن ما كان معناه في فمّ يسوع، وفي أيّ محيط من حياة الجماعة تكوّن؟ قيل أننا أمام مسألة الرسالة إلى اليهود والوثنيّين. الأمر ممكن.
هناك كلمة خاصة بلوقا: "عفا (حرفيًّا: صنع نعمة، تحنّن) عن الدين"، لا "ترك ". حين استعمل جذر "النعمة" الذي يميّز الله، أراد أن يوجّه أنظارنا إلى المعنى الذي نعطيه لهذا الخبر: إن الذي ينعم على إنسان ويعفيه من دينه لا يمكن إلاّ أن يكون الله نفسه. وما يلفت النظر هو أن هذه المفردة تستعمل مرّتين في هذا المقطع (آ 42- 43) ومرّة ثالثة في خبر الأشفية التي أتمّها يسوع أمام عيون مرسلَيْ يوحنّا. هنا بدل لوقا أيضًا نصّ مرقس فقال: "وأعطى لعميان كثيرين نعمة النظر" (7: 21، أي البصر). هذا يُبرز الرباط الذي أشرنا إليه أعلاه بين خبر الخطأة والشهادة المرسلة إلى يوحنا. ولكنّه يوجّهنا أيضًا نحو خاتمة الخبر: إن يسوع هو الذي "صنع هذه النعمة" (تحنّن)، فنسب إلى نفسه عملاً إلهيًّا خاصًا، كما سيفعل فيما بعد حين يغفر الخطايا.

3- خبر الخاطئة
إذا اجتزأنا من هذه المقطوعة آ 40- 43 (المثل) وآ 47 ب، يبقى الخبر متماسكًا إن من جهة النصّ وإن من جهة المفردات. فهو يدور حول فكرة محدّدة: "هل يسوع حقًا نبيّ" ؟ يطرح سمعان هذا السؤال، ولكّنه لا يعرف كيف يجيب عليه لأنه نسي (أو: هو لا يستطيع أن يتخيّل) معطية المسألة: "لو كان هذا الرجل نبيًّا لعرف من هي هذه المرأة: هي خاطئة" (آ 39). فمن الواضح بالنسبة إليه أنه لو عرف يسوع لما سمح لهذه المرأة أن تلمسه: فالإِنسان يتنجّس إن لمس خاطئة أو جثّة أو خنزيرًا. فأجابه يسوع: أعرف من هي. ولأني أعرف حقُّا من هي أسمح لها أن تأتي إليّ، لأني "جئت من أجل الخطأة".
من المعقول أن يكون المعنى الأوّل للآية 47 أ في الخبر: "غُفر لها لأنها أحبّت ". لاحظ يسوع هذا الحبّ في فعلات المرأة، فأعلن أن الحبّ يغفر الذنوب أو هو أقلّه الأساس الضروري الذي عليه يُبنى غفران الله. ولهذا فهو يلتفت إلى الخاطئة ويستنتج: "غُفرت خطاياها" (آ 48). هذه الجملة ليست إعلانًا لواقع بل "حلَّة" من الخطايا. فكأنّي بيسوع يقول لها: "أنا أحلك من خطاياك ".
إن هذا التأكيد الهادئ الذي رنّ في آذان سامعيه اليهود بدا وكأنه كفر وتجديف: "من هذا الذي ينطق بالكفر؟ من يستطيع أن يغفر الخطايا إلاَّ الله وحده" ؟ هذا ما فكّر به الفرّيسيّون حين شفى يسوع المخلّع (5: 21). الله وحده يغفر الخطايا، وقد وعد بذلك في نهاية الأزمنة، ساعة يأتي ليقيم ملكوته ويقطع ميثاقًا (عهدًا) جديدًا (ار 31: 34؛ حز 36: 25- 32 ؛ دا 9: 24).
وتبدو لنا آ 49 كخاتمة لهذا الخبر: "من هو هذا الرجل الذي تصل به الأمور إلى حدّ غفران الخطايا" ؟ هل نحن أمام تساؤل أم مديح؟ نقرأ مثلاً نهاية حدث تهدئة العاصفة. هتف التلاميذ: "من هذا؟ حتى الرياح والأمواج (البحر) (يأمرها) فتطيعه ". إن معجزات عديدة تجد ذروتها في مديح الله. فلماذا نحن هنا أمام تساؤل؟
إذا كان يسوع تصرّف كالله نفسه، فلماذا لم يُعلن التلاميذ لاهوته؟ مثل هذا التساؤل يتجاهل المحيط الذي عاش فيه يسوع. كيف يَعبد اليهودي من يحسبه إنسانًا؟ ونلاحظ أن ذروة الخبر ليست في المديح، ولكنها تترك النظر معلقًا بيسوع. وَجد الشهود نفوسَهم أمام تأكيدين لا يقدرون أن يعبّروا عنهما دون أن يخونوا إيمانهم بالله الواحد أو اليقين الذي يفرض نفسه عليهم، فتركوا السؤال يتفجّر من أعماق قلوبهم: "من هو هذا الرجل" ؟

4- مسائل تاريخيّة
لا بدّ لنا هنا من طرق مسألة النقد التاريخيّ. نقول إن في أساس هذه المقطوعة عنصرين: المثل والخبر. فأيهما سبق الآخر فضمه إليه أو كوَّنه؟ هناك افتراضات عديدة. ولكنّنا نقول مع عدد كبير من الشُرّاح إن المثل والخبر قديمان معًا. فنحن نجد موضوع "الدائن " في عدد من الأمثال. مثلاً، الوكيل الخائن في 16: 1- 9، والمديون الذي لا شفقة في قلبه في مت 23:18- 37. وخبر المرأة التائبة التي تعبّر عن حبّها ليسوع نجده في خبر المرأة الزانية (القريب من لوقا) في يو 8: 1- 11. وهكذا أخذ لوقا المثل والخبر وجعلهما في بناء وضع فيه لاهوته.
وما هي العلاقة بين خبري الدهن بالطيب اللذين احتفظت بهما الأناجيل: الخاطئة في لوقا، ومريم من بيت عنيا في متى ومرقس ويوحنا؟ نحن ولا شكّ أمام خبر واحد عالجه كلّ إنجيليّ بطريقته الخاصّة. أغفل لوقا خبر "بيت عنيا" في إطار الآلام، لأنه سبق له ورواه حين تحدّث عن الخاطئة في بيت سمعان الفرّيسي. ولنا مثل عن طريقة لوقا في خبر الصيد العجائبيّ: رواه يوحنا بعد القيامة (يو 21: 1- 11) أمّا لوقا فجعله في البدء حين ترك الرسل كل شيء وتبعوا يسوع (5: 1-11).
هناك إختلافات بين المشهدين (الخاطئة، ومريم) في التفاصيل كما في العمق. في الأول، نحن أمام غفران الخطايا المرتبط بحبّ عبّرت عنه امرأة تجاه يسوع. في الثاني نحن أمام إكرام يقدَّم ليسوع قبل دفنه. ولكن سيأخذ المشهد الأوّل من المشهد الثاني بعض العناصر والعكس بالعكس. في بيت عنيا، جاءت إمرأة إلى يسوع وهو في بيت سمعان وضمَّخت رأسه بالطيب: هكذا يُكرَم الضيف. وعند الفرّيسي عبّرت إمرأة خاطئة عن ندامتها فبكت على قدمي يسوع، ثم خافت لأنها تجرأت ففعلت ما فعلت، فمسحت بشعرها دموعها عن قدمي يسوع: موقف ندامة معروف. وبعد هذا امتزجت التفاصيل: سمّي الفريسي سمعان، وصلت الخاطئة مع قارورة طيب صبّتها على قدمي يسوع. وسيروي يوحنّا أن مريم التي من بيت عنيا صبّت الطيب على قدمي يسوع ومسحتهما بشعرها (لوقا قريب من يوحنّا).
مهما يكن من أمر هذا البناء، لا بد لنا من أن نقرأ النصّ كما وصل إلينا في إنجيل لوقا. لقد كشف لنا النقد الأدبيّ التبديل الذي قام به الإِنجيليّ، وهذا ما يساعدنا على فهم فكرته.

ج- حب الخاطئة هو علامة غفران منحه يسوع
كشفت لنا دراسة القرائن أهميّة هذه المقطوعة. تساءل يوحنا المعمدان: هل يسوع هو حقّا النبيّ الآتي؟ أجاب يسوع بمعجزات تُتم الكتب. لم يخطئ الوضعاء. قبلوا معمودية يوحنا فتبرّروا أي عملوا إرادة الله فرضي الله عنهم. وها هم يهتفون الآن: "ظهر فينا نبيّ عظيم " (16:7).
وقال لوقا: هذا جميل، ولكنّي سأريكم أجمل من هذا. سأبيّن لكم كيف أن يسوع هو نبيّ في معنى لا يمكنكم أن تتخيّلوه. ولكنكم تدخلون هنا في سرّ يكشفه الله وحده، لأن أحدًا لم يعرف حكمة الله إلا الذين أعطي لهم أن يصيروا تلاميذ الله، أبناءه. إذا قبلتم بسرّ يسوع صديق العشّارين والخطأة، إذا رضيتم بأن تكونوا بجانب الخاطئة لتنالوا غفران خطاياكم، حينئذ تبرّرون الحكمة (تدلّون على أنها صادقة) لأنكم صرتم ابناءها (رج 35:7).

1- جاءت خاطئة إلى يسوع (36:7- 39)
يتفرّد لوقا فيبيّن لنا على ثلاث دفعات يسوع مدعوًا عند الفرّيسيّين. لم يأتِ يسوع من أجل طبقة إجتماعيّة واحدة، بل من أجل فئة من الناس هم الخطأة، أي الذين يقرّون بعجزهم عن أن يخلِّصوا أنفسهم بأنفسهم وينتظرون خلاصهم من عند الله، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، فرّيسيّين أم عشّارين...
"وها ان إمرأة خاطئة". لا يقول النصّ شيئًا عن هويّتها. لا نستطيع أن نقول، رغم ما قالت بعض التقاليد، إنها مريم المجدليّة أو مريم بيت عنيا. أخفى لوقا اسمها فلماذا نريد أن نعلنه؟ هو لا يقدّم لنا سيرة شخص من الأشخاص، بل تعليمًا من تعاليم يسوع. لقد عرفت المدينة هذه المرأة بأنها خاطئة. وها هي قد جاءت إلى بيت إنسان فرّيسي، إنسان يحاول ان ينفصل عن الخطأة. ولماذا جاءت؟ بعد أن أحسّت بنظرات الاحتقار أو الحسد ثقيلة عليها، هل التقت يومًا، شأنها شأن الشاب الغنيّ، نظرة حبّ لا نظرة احتقار أو شهوة ؟ قال لوقا: "وإذا بامرأة... "
وصلت... تلبّد الجوّ، وموقفها زرع الحيرة. إنحنت خلف يسوع تقبّل قدميه وتغمرهما بدموعها. وخافت من جرأتها ووقاحتها، فقامت بفعلة غير لائقة: حلَّت شعرها ومسحت به قدمَيْ يسوع. إن الحبّ يقوم بأعمال لا تهتمّ باللياقات. هي هنا وكل الأنظار موجَّهة إليها.
كانت ردّة الفعل عند الفريسيّ داخلية. "قال في نفسه ". وكأن في قوله توبيخًا ليسوع: "لو كان هذا الرجل نبيًّا". قالت بعض المخطوطات: لو كان هذا الرجل النبي (المنتظر). هذه الأختلافة تدلّ على ما أحس به الكتبة: ليسوا أمام نبيّ من الأنبياء، بل أمام المسيح.
وأظهر يسوع حنانه فجعل النظرات العاتبة تتحوّل عن المرأة إليه. لم تكن المرأة لتتحمّلها، لهذا أخذ يروي خبرًا يجتذب اهتمام الحاضرين.

2- المثل (7: 40- 43).
"فأجاب يسوع وقال لسمعان ". حين نقابل هذا الخبر مع خبر المخلّع نلاحظ تبدّلاً واضحًا في ترتيب الخبر. هناك يجيب يسوع على سؤال سري طرحه الفريسيون: "من هو هذا"؟ فيورد "برهانًا" خارجيًا، يقدّم معجزة الشفاء. هنا كل شيء داخلي. كلَّنا يعلم أن هدف المثل أن يجعل الشخص يفكّر بوضع يعيشه ولا يعيه. كم يصعب علينا أن نكون موضوعيين حين ننظر إلى نفوسنا. إذن يقدّم المثل لنا خبرًا عن حياتنا ولكنَّ الراوي يرويه وكأنّه يفكّر بآخر. نؤخذ بمعقولية الخبر فنحكم حكمًا موضوعيًّا، هو في الواقع حكم على نفوسنا. هذا ما حصل لداود يوم قدّم له ناتان مثلاً (2 صم 12: 1ي): "هذا الرجل يستحق الموت ". قال له ناتان: "أنت هو هذا الرّجل ". وهذا ما حدث للفرّيسي حين حكم على المثل، فأعلن له يسوع: "بالصواب حكمت ". وكأنه يقول له: "حكمت حكمًا صائبًا على نفسك ".
الفرق مهم بين ترتيب حدث المخلّع وهذا النص. لسنا أمام "برهان " يأتي فيما بعد لكي يُقنع السامع. بل أمام حكم على وضعنا الداخليّ قبل أن نسمع كلمة الوحي. إذا أردنا أن نُدرك شيئًا من هذا السرّ لا نستطيع أن ندرسه من الخارج. يجب أن نحسّ أنّنا معنيون بالأمر، أن نعرف أن هذه هي الحياة التي نعيشها. لن يكون الإِيمان متماسكًا إلاَّ من داخل الإِيمان. وحينئذ نفلت من النظرة القانونية المتحجرة: لسنا أمام دين نفيه، وإلاّ أصبح موقفنا أمام الله موقف التاجر. نحن أمام نعمة الله وحنانه: فالدائن يظهر حنانه، ينعم علينا فيعفو عن الدين، كما أنعم يسوع على العميان فأعاد إليهم النظر.
إن دخول المثل في الخبر مهم. وهو سيحوّل وَلْيَ الخبر.


3- ولي الخبر (7: 44- 49).
يحسّ السامع (والقارئ) أنّه الآن معني بالخبر. هو يعرف أن ما أمامه هو مغامرته الروحيّة الشخصيّة. لهذا يستطيع يسوع أن يعيد الى المرأة أنظار الحاضرين التي تجدّدت: لن يحكموا عليها بعد الآن، بل يتأملون عمل الله فيها: "أنت ترى هذه المرأة". وأفهم يسوع سمعان أنّه أظهر له حبًّا قليلاً. لا شك في أنّه لم يتجاوز حدود التهذيب تجاه ضيفه، ولكنّه لم يقدّم له علامات الاكرام التي توجَّه الى الضيوف الكبار. أما الخاطئة فغمرته بالإِكرام العميق مدفوعة بحبّها.
وأعلن يسوع: "لذلك أقول لك: غُفرت خطاياها الكثيرة لأنّها أحبّت كثيرًا". الحبّ هو نتيجة الغفران وعلامته. وهكذا يصبح الخبر امتدادًا لتعليم الأنبياء. مثلاً يرى حزقيال الميثاق الجديد فيعلن بفم الله: "أجمعكم من كل البدان... أحوّل قلب الحجر إلى قلب من لحم. أضع روحي فيكم فتكونون لي شعبًا وأكون لكم إلهًا. حنينئذ تتذكّرون سلوككم الشرّير" (حز 36: 25- 31).
ويتوجّه الخبر إلى هذا الإِستنتاج: "من هو هذا"؟ وهكذا يعود بنا الإِنجيليّون دومًا إلى السؤال الأساسي. ويهتمّ لوقا بأن يركّز نظرنا على شخص يسوع: فالتعلق بيسوع المسيح لا يستند إلى أعماله ومعجزاته، بل إلى شخصه. والسؤال المطروح ("من هو هذا") يطرح علينا وان كنّا نقول منذ الفصح: هو إبن الله. فسرُّه غني جدًا بحيث يطرح علينا دومًا أسئلة جديدة حتّى ينميّنا في معرفتنا له.
إنطلق لوقا من نصينّ مخلتفين فقدّم لنا خبرًا مرتبًا لا نستطيع أن نقرأه دون أن نحسّ أنّه يتوجّه إلينا ويطلب منّا جوابًا: هذه هي مغامرتنا الروحيّة نقرأها في الفرّيسي والخاطئة. كل واحد منّا يعرف أنّه أمام يسوع، خاطئ نَعِم بالغفران لقد حصلنا على جواب السؤال الذي طرحه الفرّيسي: "لو كان هذا الرجل نبيّا لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه: إنّها خاطئة". أجل يسوع يعرفنا، يعرف أنّنا خطأة ولهذا يأتي إلينا لأنّه صديق الخطأة. ولكنّنا نعرف أيضًا أنّنا لا نقدر أن نأتي إليه إن لم نرتدّ، إن لم يحدث فينا إنقلاب، إن لم نرغب بالبعد عن الخطيئة. فحبّه كحبّ الدائن، بل يتعدّاه بصورة لا محدودة. حبّه يعيد إلى من يتقبّله نقاوة القلب. والحب الذي نظهره له هو عرفان جميل لحبّه لنا قبل ان نحبّه.
إنّ هذا الخبر الغني يوجّهنا إلى قلب سرّ اللقاء مع يسوع المسيح. ولهذا لم يتردّد لوقا في أن يوسّعه، فزاد الجملة الأخيرة التي تشكّل خاتمته الحالية.

4- الخلاص بالإِيمان (7: 50)
"إيمانك خلّصك " أورد الإِزائيّون الثلاثة قول يسوع هذا حين شفى نازفة الدم (مر 5: 34 وز) ونجده عند لوقا في نصينّ آخرين خاصينّ به: خبر الخاطئة (7: 50) وخبر شفاء البرص العشرة (19:17).
كان لوقا تلميذ بولس فتعرّف الى الحرب التي قام بها معلّمه في خط الهلينيين لكي تقر الكنيسة في "مجمع " أورشليم بالمبدأ القائل: نحن لا نخلص بما نقوم به من أعمال (الشريعة، رج فل 9:3: "بري أنا") بل بما يقوم الله فينا من أعمال. الإِيمان هو تعرّف الى الخلاص الذي يعطينا الله إياه في المسيح وشكران على هذا الخلاص.
حين زاد لوقا هذه الجملة جعل من موقف هذه المرأة رمزًا للموقف المسيحي. ونحن نستطيع أن نقابل هذا الموقف مع موقف مريم العذراء. قدم لنا لوقا مريم كإبنة صهيون الملبيّة كل التلبية لنداء الله. فصارت على مثال إبراهيم أم المؤمنين (لا يستحيل شيء على الله، 1: 37؛ رج تك 14:18). ولكن هذا النموذج قد يثبط عزيمتنا لأن مريم هي بلا خطيئة، هي الإستعداد الدائم. وقدّم لنا لوقا في فم هذه الخاطئة كلمة الإِستعداد للإِنطلاق في حياة جديدة نالت الخلاص. بيّن لنا ما يستطيع الله أن يفعله في بتول تستسلم إليه بكليتها في الإِيمان. وأرانا هنا ما يقدر الله أن يفعله في قلب خاطئ ينفتح كل الإِنفتاح على حبّه.
غير أن هذا الخلاص ليس شيئًا فرديًّا وجامدًا. فالخلاص الذي يمنحه الله يدفعنا إلى الإِنطلاق. فكما قال يسوع لنازفة الدم التي شُفيت وللسامري الذي طهر من برصه، ها هو يقول للخاطئة: "اذهبي". الفعل الذي استعمله لوقا هنا عميق جدًّا، فهو يدل على "صعود" يسوع الى أورشليم، إلى السرّ الفصحي وهو يتوزع كل القسم الأخير من إنجيله. الإِيمان هو في نظره دفع وزخم. يجعلنا ننطلق مع المسيح إلى الصليب والمجد.

5- ملخص عن نشاط يسوع (8: 1- 3).
ويوقف لوقا خبره، كما اعتاد أن يفعل، ليقدّم لنا لوحة إجمالية صغيرة، ليقول لنا أين وصلنا في الخبر. هذه اللّوحة هي خاتمة هذا الخبر
"وسار يسوع بعد ذلك في المدن والقرى، يعظ ويبشّر بملكوت الله ". وهكذا يُجمل لوقا في هذا الجزء نشاط يسوع. أولاً، عمله كواعظ، ككارز. ففعل "كاروساين " يدلّ على وعظ المعمدان ووعظ التلاميذ في الجماعة. لسنا أمام خطبة بل أمام نداء (وصرخة وهتاف) يطلقه المنادي الذي يسبق الملك ويدلّ عليه. ومفردة: "انجل " (أعلن الإِنجيل، أعلن البشرى) تدلّ على تعليم ترافقه أشفية كما قال اشعيا. فالخلاص يصل إلى الفقراء في أجسادهم كما في قلوبهم.
"وكان يرافقه التلاميذ الإِثنا عشر وبعض النساء". يقدّم لنا لوقا مسبّقًا لوحة صغيرة عن الجماعة المسيحيّة الأولى. لم يخترعها الرسل بعد الفصح. إنّها إمتداد لما بدأ به يسوع. فالكنيسة المسيحية ليست واقعًا نبت بعد الفصح، فإخترعت يسوعَ الإِيمان من أجل قضيّتها. قد وُجدت قبل الفصح، وتألّفت من الإِثني عشر الذين كانوا معه، رافقوه. ويتحدّث لوقا عن النساء. لهن دور في الكنيسة الأولى. وسيقول في سفر الأعمال إن الكنيسة لا تتألّف فقط من الرسل الإِثني عشر بل من تلاميذ عديدين (منّا نحن) سيلعبون دورًا هامًّا في نشر الإِنجيل.
واهتمَّ بولس بحضور النساء. كنَّ محتقرات في أيّامه فاشركهنَّ يسوع في الخدمة الرسولية وكانت مريم المجدليّة أول المنادين بالقيامة. تقول أ3: "يخدمنه ". هذا الفعل يدلّ في سفر الأعمال على نشاط الرسل الاثني عشر (أع 1: 17، 25) ونشاط السبعة (أع 6: 1) الذين اهتموا بالعالم اليوناني. وقبل هذا، صوَّر الفعل موقف يسوع الأساسي نفسه: "لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم " (مر 45:10). وقد قال في قلب سرّه الفصحيّ: "انا بينكم كمن يخدم " (27:22). قد تعني هذه الخدمة إعانة المؤمنين في حاجاتهم. وهكذا يدلّ على موقف المسيحي الأساسي الذي يسير على خطى يسوع فيخدم الله وأخوته.
ويوضع لوقا فكرته هنا. لا يرتبط هذا اللقب الكريم بالاستحقاقات. فالنساء اللواتي يرافقن يسوع قد انتُزعن من سلطان الشيطان: أَمسكهنَّ بالخطيئة وربما بالمرض. فالذين يحيطون بيسوع ليسوا من أصحاب الصحة الجيدة. كانوا موضوع شفاء فحملوا آثار ضيقاتهم السابقة. لم يكونوا أشخاصًا معروفين ومشهورين إلا بخطاياهم. رافقوا يسوع فلم يكن لهم ما يفتخرون به إلا يسوع الذي كان موضع افتخارهم.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM