الفصل التاسع والثلاثون: وفد يوحنا المعمدان الى يسوع

الفصل التاسع والثلاثون
وفد يوحنا المعمدان الى يسوع
لو 7: 18-23؛ مت 21: 1-6

يَروي متى ولوقا أنّ الناس رأوا يومًا عند يسوع اثنين من تلاميذ يوحنا المعمدان، أرسلهما معلّمهما يسألان يسوع: "أأنت من يأتي أم ننتظر آخر"؟ أجابهما يسوع: "إذهبا وأعلما يوحنا بما سمعتما ورأيتما: العُميُ يبصرون والعُرجُ يمشون والبُرص يطهرون والصُمّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشَّرون. وطوبى لمن لا يشكُّ فيَّ ".
ما معنى السؤال الذي طرحه يوحنا، وما معنى جواب يسوع؟ هناك علاقة بين السؤال والجواب، والواحدُ يلقي ضوءَه على الآخر. سنتوقف أوًّلاً عند سؤال يوحنا، وكيف فُسّر وكيف فُهمت عبارة "من يأتي". ثم ننتقل إلى جواب يسوع وما يقوله عن نشاطه الخيّر وعن تحذيره من الشكّ.

أ- سؤال يوحنا.
إنّ سؤال يوحنا يحيّرنا. ألا يعرف شيئًا عن شخصيّة يسوع؟ كيف نوفّق بين وفدٍ أرسله إلى المعلّم مع الأخبار الإِنجيليّة حول تيوفانيا الأردنّ (مت 3: 16 - 17 وز؛ يو 1 :32)، مع إعلانات المعمدان الواضحة في مت 14:3 ويو 1: 29- 34؟ قبل أن نطلب من النصّ الإِنجيليّ حلّ المسألة، نلقي نظرة على الشروح التي قدّمها المؤوّلون، وهي تعود إلى ثلاثة: شكّ مختلق، جهل حقيقيّ. موقفان متطرّفان، وبينهما موقف معتدلٌ يكتشف عند يوحنا المعمدان تردُّدًا ودهشةً ونَفاد صبر.

1- شكٌّ مختلق.
نجد هذا الشرح مرارًا عند الآباء. وها نحنِ نقدّم تأويل القدّيس أغوسطينس: "كان تلاميذ يوحنا يُقدِّرون معلّمهم أَجَلَّ تقدير. سمعوه يشهد ليسوع فدهشوا. وحين قرُبت ساعة موته أراد يوحنا أن ينال تأكيدًا من يسوع نفسه. قال تلاميذ يوحنا فيما بينهم: يوحنا يقول فيه أشياءَ عظيمة، أمّا يسوع فلا يقول شيئًا في يوحنا. قال يوحنا: إذهبوا وقولوا له. لا لأنّي أشكّ وارتاب، بل لتتعلّموا أنتم. إذهبوا وقولوا له: ما قلته لكم دومًا إسمعوه بآذانكم. سمعتم المنادي، تثبّتوا ممّا قاله لكم لدى الديّان. إذهبوا وقولوا له: أ أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ ذهبوا، وقالوا له ما قالوا من أجل نفوسهم لا من أجل يوحنا.
وقدّم هيلاريون ويوحنا فم الذهب وغيرُهما التفسير عينه الذي لم يعد يأخذ به الشُرّاح المعاصرون. أمَّا فحواه فهو أنّ يوحنا يعرف كلَّ المعرفة أنّ يسوع هو الآتي، وأنْ لا مجالَ لانتظار مسيح آخر. أمّا الشكّ الذي في سؤاله فلا يمثّل فكره الخاصّ، بل فكرَ تلاميذه. تظاهر بالجهل ليقدّم ليسوع مناسبة يشهد فيها بوضوح لمسيحانيّته أمام مرسَلي السابق.
ولكن هذا التفسير يصطدم بمُعطَياتِ النصّ.
أوّلاً: مناسبة الوفد معلومات تلقّاها يوحنا. أعلمَه تلاميذه بنشاط يسوع (18:7أ)؛ "سمع وهو في السجن بأعمال المسيح " (مت 2:11أ). فأرسل تلاميذه منطلِقًا ممّا سمع، لا ممّا طرحه تلاميذُه من أسئلة حول يسوع.
ثانيًا: توجّه يوحنا عَبْرَ تلاميذه بسؤاله إلى يسوع. هو الذي قال. أمّا أغوسطينس فبدَّل النصّ: إذهبوا وقولوا له. في لوقا ردّد الرسولان كلام معلّمهما: "أرسلَنا يوحنا إليك فقال ". السؤال هو سؤال يوحنا. أمّا عند متى، فيبدو يوحنا وكأنّه يتوجّه مباشرةً إلى يسوع دون الحاجة إلى مرسال.
ثالثًا: سأل يوحنا، فأرسل يسوع جوابه إلى يوحنا. فما على الرسولين إلاّ أن ينقلا الجواب: "إذهبا وأَعلما يوحنا". المرسلان هما من الوُسَطاء. أمّا السائل الحقيقيّ فهو يوحنا المعمدان.

2- جهل أو عدم فهم
وفي نقيض آخر نجد عدّة شروح تقودنا إلى نموذَجين:
النموذج الأوّل يمثله لوازي. ويتلخّص شرحه بما يلي: لا يتذكّر كاتب الإِنجيل الأوّل أنّ يوحنا عرف أن يسوع هو المسيح قبل أن يعمّده. فيستعيد حسب المَعين سلسلةً من النصوص تدلّ على أنّ يوحنا لم يشتبه في سجنه برسالة المسيح، وأنّ يسوع لم يحسب يوحنا بين الذين آمنوا بالإِنجيل. فالسؤال الذي حمَله إلى الموفَدين ليس شكُّا يتبع الإِيمان، بل أوّلُ اشتباهٍ يستيقظ في فكره حول الدور العظيم الذي يخصّ واعظ الجليل.
عرف يوحنا بعجائب يسوع فاستيقظ فيه الإِيمان. ولكن هل ننسى ما قاله متى؟ "أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ" (مت 14:3). وفي 3: 11: "أنا أعمّدكم بالماء للتوبة. وأمّا الذي يأتي بعدي فهو أقوى منّي .
النموذج الثاني نجده عند غوغيل. يقول عن المقطع الذي ندرس: نحن أمام هجوم على تلاميذ يوحنا، وهو يدلّ على أنّ معلّمهم رفض أن يخضع أمام البراهين الساطعة عن مسيحانيّة يسوع، رغم المعجزات التي صنعها.
إذن نحن لا نبحث في تقليد يعود إلى حياة يسوع العامّة، بل في جِدال مسيحي الجيل الأوّل مع تلاميذ يوحنا. وُجدت الأقوالُ المنسوبة إلى يسوع فأخذَتها الجماعة المسيحيّة وجعلتها جوابًا لسؤال يوحنا.

3- دَهشٌٌ وتردّدٌ ونَفادُ صبر.
يتّفق معظم الشرّاح المعاصرين على القول إن يوحنا دَهِشَ من موقف يسوع الذي لا يتطابق مع ما ينتظره من المسيح. ويتوزّع الشُرّاح من تردّد يوحنا في إيمانه بيسوع، إلى نفاد صبر حين رأى يسوع يتصرّف كما يفعل.

أوّلاً: تردُّدٌ حقيقيّ
قال الكردينال انيتزار في تفسيره لإِنجيل متى: ونحن حقًّا أمام "ساعة جتسيماني" في حياة المعمدان. فحسب نبوءات العهد القديم (يؤ 3: 1ي؛ عا 18:5 ي؛ ملا 3: 2 ي)، إفترضت كرازة المعمدان أنّ ظهور المسيح يوافق يوم الدينونة الأخيرة. لا يستطيع الإِنسان أن يفلت من غضب الديّان السامي إلاّ بتوبة مباشرة. غير أنّ الطريقة التي بها ظهر يسوع بدت مغايرةً لهذه النظرة. وحين كان يوحنا في سجنه وسمع بأعمال المسيح تساءل: هل يوافق هذا النشاط المسيحانيّ ما كَرز به هو في الماضي على ضفاف الأردنّ؟ لم يفهم سلوك يسوع فدخل القلَقُ إلى نفسه. وعرف المِحنةَ التي عرفها موسى وإيليّا.

ثانيًا: نَفاد صبر.
لم يعد يوحنا يقدر أن ينتظر أن لا يظهر يسوع كما ينتظره. لماذا تتأخّر ساعة الدينونة؟ قال الأب لاغرانج في إنجيل القديس لوقا: "هل تخيَّلَ الإِنجيليون الذين اعتبروا يوحنا كالسابق أنّه لم يكُن يعرف دوره؟ حتى في هذه الحالة، قد يشكّ يوحنا برسالته الخاصّة، ولا يشكّ برسالة يسوع العلويّة. هذا يعني أنّه لم يفهم طريقة يسوع فنفَدَ صبره ".
إنّ سؤال يسوع لا يعبّر عن الشكّ أو التردّد، بل عن إيمان عِيلَ صبرُه حين رأى يسوع يلعب دور المسيح بهذا الشكل. ولكن مهما يكن من موقف يوحنا، فهو يعرف كلَّ المعرفة أنّ يسوع هو المسيح.

ب- ذلك الآتي.
رغب يوحنا في أن يعرف من يسوع نفسِه هل هو الأتي أم يجب أن ننتظر آخر. معنى "أرخومانوس" ذلك الذي سوف يأتي، ذلك الذي ننتظر مجيئه. الحديث في هذا السِياق يشير إلى المسيح. عرف اليهود أنّه سيجيء لأنّ الأنبياء . قد أعلنوا مجيئه، ولكن هذه الطريقة بتسمية المسيح "ذلك الآتي" ليست مألوفةً. ولهذا نتساءل: هل نحن أمام نظريّة مسيحانيّةٍ خاصّة؟ وبشكل ملموس، هل لهذه التسمية ارتباطات بنبوءة محدَّدة؟
نبدأ أوّلاً بإشارات عامّة إلى نصوص العهد الجديد التي تتكلّم عن مجيء مسيحانيّ، عائدةً إلى العهد القديم. ثم نتفحّص معنى "الآتي" في إطار كرازة يوحنّا المعمدان.

1- نظرة إجماليّة.
أوّلاً: إنّ نبوءة إبن الانسان في دا 7 تستحقّ المكانة الأولى بالنسبة إلى هذا النصّ. في آ 13 أ نستطيِع أن نقرأ: "رأيت في رؤى الليل، فإذا مع سُحب السماء مِثلُ ابن الانسان كان آتيًا". في الخُطبة الإسكاتولوجيّة أعلن يسوع الكوارث التي بعدها" يُرى ابن الانسان آتيًا على سحاب السماء مع قدرة ومجد عظيم " (مت 24: 30؛ مر 26:13؛ لو 27:21). وأعلن يسوع أمام قُضاته: "سترون ابن الانسان جالسًا عن يمين القدرة وآتيًا مع (في متى: على) سحاب السماء" (مر 14: 62؛ مت 26: 64). إنّ التلميحات إلى "مجيء" ابن الإِنسان هذا متواترة في الأناجيل (مت 16: 27- 28 وز؛ 25: 31؛ لو 18: 8؛ 23: 42؛ أع 1: 11؛ رؤ 1:7)، وقد أثّر نصّ دانيال على ما تقوله الأمثال عن مجيء السيد الذي يطالب عبيده بالحِساب (مت 21: 40 وز؛ 24: 24- 26 وز؛ 25: 10، 19؛ 1تس 5: 2). وإذ "يجيء" ابن الابنسان من السماء، يبدو كالديّان السامي الذي يعلن حُكمًا يرتبط به المصير الأبديّ لكلّ إنسان.
ثانيًا: تبدو صورة مجيء ابن الإنسان حسب دانيال وكأنها صدى لعبارات نقرأها مثلاً في زك 14: 5: "وسيجيء الربّ إلهيّ وكلّ قدّيسيه معه ". هذا ما يقوله مر 38:8: "إنّ ابن الإِنسان يجيء في مجد أبيه مع ملائكته القدّيسين " (رج لو 26:9؛ مت 27:16). وفي مت 25: 31 نقرأ: " وحين يجيء ابن الإِنسان في مجده وكلُّ ملائكته معه ". إنّ مجيء ابن الإِنسان الإسكاتولوجيّ يُحلُ محلَّ مجيء الله شخصيًّا من أجل شعبه.
ثالثًا: إنّ وصول يسوع إلى أورشليم بصورة احتفاليّة يذكر الإِنجيليّين بقول زك 9: 9: "ها إنّ ملكك يأتي إليك وديعًا وراكبًا على أتانٍ وجحش ابن أتان (مت 21: 5؛ يو 15:12). نحن هنا أمام مجيء ملوكيّ للسيد المسيح الذي يدشّن مُلكه.
رابعًا: ويورد الخبرُ عينهُ هتافاتِ الجمع ليسوع. إنها مأخوذة من مز 118 :26: "مبارك الآتي باسم الرب " (مت 9:21 وز؛ يو 13:12). وترِدُ الآية نفسُها في فم يسوع في نهاية "رثائه لأورشليم ": "لن تَروني حتى تقولوا: مباركٌ الآتي باسم الرب " (13: 35؛ مت 23: 39).
خامسًا: وفي مَعرض دخول يسوع المنتصر إلى أورشليم، نشير إلى نصّ بيبلي آخر هو تك 49: 10. أعلنَ يعقوب المائت بشأن يهوذا: "لن يزول الصولجان من يهوذا ولا عصا الرئاسة من بين رجلَيه إلى أن يأتي شيلوه: له تخضع الشعوب. يربط بالجَفنة جحشِه وبأفضل كرمةٍ ابنَ أتانه" (آ 10- 11). لا يرجع الخبر الانجيليّ بصورة واضحة إلى هذا المقطع، ولكن هناك سِمات تتيح لنا القول أنه كان تقارُبٌ بين نصّ تك، والنصّ الانجيليّ، ولا سيما وإنّ نقاط الاتصال عديدة بين قول يعقوب وقول زكريا. ونظنّ أنّ نبوءة زك 9: 9 دوّنت لتقدّم تفسيرًا لنصّ سفر التكوين. ونقول الشيء عينَه عن حز 32:21 الذي يعلن العقاب لملك أورشليم "إلى أن يأتي ذلك الذي له الحكم فاجعله له".
ونعود إلى تك 49: 10 مع كلمة "شيلوه". قالت اليونانيّة والسُريانيّة: إلى أن يأتي ما حفظ له. وقال الترجوم: إلى أن يأتي المسيح، الملكُ المسيح. وأوضح نصّ قمراني: إلى أن يأتي مسيح البِرّ ونسلِ داود. هذا التفسير المسيحانيّ سابق لولادة المسيحية، وهو يلقي الضوء على خلفيّة خبر دخول المسيح إلى أورشليم، كما على عبارات مثل: "إلى أن يجيء الربّ (1 كور 4: 5؛ 26:11).
وهناك تفصيل يجعلنا قريبين من سؤال يوحنا. في تك 10:49، ان "طاعة" (يقهد في العبرية) النص الماسوري تقابل "الانتظار" (تقوه في العبرية، بروسدوكيا في اليونانية) في الترجمات. ولا ننسى سؤال يوحنا إلى يسوع: "أأنت هو الآتي أم يجب أن ننتظر آخر"؟
سادسًا: تتحدّث الرسالة إلى العبرانيين عن الذي يأتي فتورد نصّ حبقوق. أُمر النبيّ بأن يدوِّن الرؤية التي رآها لأنها لا تتحقق في القريب العاجل: "إن تأخرت فانتظرها. ستجيء مجيئًا (اي ستجيء بصورة أكيدة) ولا تتأخر" (حب 3:2). اللفظة التي تدلّ على "الرؤية" في العبريّة هي في صيغة المذكّر، وهي في اليونانيّة في صيغة المؤنّث. فبعد أن تحدّث نصّ السبعينيّة عن "الرؤية" تابع في صيغة المذكّر: "إن تأخر فانتظره فهو يجيء مجيئًا ولا يتأخّر". فمن يعني بكلامه؟ الأمرُ واضح بالنسبة إلى الرسالة الى العبرانيّين: إنه يعني المسيح ومجيئه. وإذ أراد الكاتب أن يزيل كلّ شكّ، زاد التعريف: "في أقرب آن يأتي الآتي ولا يبطئ" (عب 10: 37).
سابعًا: وفي إنجيل يوحنا، في ف 6 المتحدّث عن تكثير الأرغفة، رأى الجمع الآية التي صنعها يسوع فقالوا: "هذا الرجل هو في الحقيقة النبيّ الآتي إلى العالم ". واذ علم يسوع أنهم عازمون أن يأتوا ويختطفوه ليقيموه ملكًا، اعتزل أيضًا في الجبل وحده) (يو 6: 14- 15). نحن أمام النبيّ الذي سيأتي في نهاية الأزمنة ليدشّن المملكة المسيحانيّة. ولا يكتفي يوحنا بأن يقول: "الذي يأتي، بل يحدّد "الذي يأتي إلى العالم " (يو 1: 9؛ 19:3 ؛39:9؛ 27:11؛ 46:12؛ 16: 28؛ 37:18)، "الذي يأتي من السماء" (يو 3 : 31)، "ومن الله" (يو 3: 2). فالذي يأتي هو "ماسيّا" (مشيحا) (يو 4: 24) أو المسيح (يو 7: 27، 31، 41، 42؛ 11 : 27). وهو أيضًا النبيّ (رج تث 15:18، 18) الشبيه بموسى.
وهكذا حدّدنا موقع السؤال الذي طرحه يوحنا المعمدان على يسوع: "أأنت هو الآتي "؟ كما حدّدنا معنى السؤال العامّ: نحن أمام سلطان نهاية الأزمنة في وظيفتَيه كديّان سامٍ وكملك داوديّ، وعُدنا إلى نصوص التوراة وخصوصًا الى تك 49: 10 حيث ذلك الآتي هو "انتظار" الشعوب. تقارب لا بأس به، وسنستعين بكرازة يوحنا الواردة في الأناجيل لنلقي الضوء على البُعد الحقيقيّ لسؤاله الذي طرحه على يسوع .

2- كرازة يوحنا المعمدان
أَوّلاً: إذا عُدنا إلى الانجيليّين الأربعة نرى أن مهمّة المعمدان تجد تحديدًا لها في قول أش 40: 3: "صوت صارخ في البريّة: أعدّوا طريق الربّ " (مر 1: 3 وز؛ يو 1: 23). وأكمل الازائيّون الاستشهاد الكتابيّ: "إجعلوا سبلَه قويمة". نلاحظ أن أشعيا قال: "اجعلوا سُبُل إلهنا قويمة". ولكن الانجيل تحدّث عن الربّ يسوع المسيح.
وإذ أراد يوحنا أن يتكلّم عن هذا "الرب" قال: "الذي هو أقوى مني جاء بعدي، ولست أهلاً لأن أنحني وأحُلّ سير حذائه " (مر 1: 7؛ لو 16:3؛ رج أع 25:13). أمّا في مت 3: 11 فنقرأ: "الذي يأتي بعدي هو أقوى منيّ ". ويقول يو 1 :26- 27: " في وسطكم يقوم من لا تعرفونه، فهو الذي يأتي بعدي، وأنا لست مستحقًّا أن أحُلّ سَير حذائه" . إنه يأتي، هذا ما قاله أش 40: 10 "ها إن الربّ يأتي بقوّة، وذراعه تتسلّط ".
وإذ أراد يوحنا أن يفهمنا أنّ الآتي هو أقوى منه، قابل بين معموديّته، معموديّةِ الماء، والمعموديّةِ التي يمارسها الربّ في الروح والنار، وهي معموديّة هائلة ومدمّرة. ويقدّم تشبيهين: إن الآتي يشبه فلاّحًا يستعدّ لتنظيف بيدره، فيفصل القمح عن التِبن ويرمي هذا التبنَ في النار (17:3؛ مت 12:3؛ نحن أمام عقاب الخطأة، رج ار 2:51). ثم، إن الفأس على أصل الشجرة. فكلّ شجرة لا تثمر ثمرًا جيّدًا تقطع وتلقى في النار (9:3؛ مت 10:3؛ 19:7؛ رج ار 22:46).
المعنى واحد في هذين التشبيهين، وهما يُرياننا في ذلك الآتي الديّانَ السامي الذي سيكون "قويًّا" في العقاب الهائل الذي يصيب الخطأة. ويطابق مجيئُه احتدامَ غضب الله الذي يدمّر كلّ شرّ على الأرض.
ثانيًا: ونتعرّف إلى المهمّة الملقاة على عاتق يوحنا المعمدان من خلال نصّ ملا 3: 1 أ: "ها أنا أرسل ملاكي (رسولي) فيهيئ الطريق أمامي ". حدّد الانجيليّون النص بتأثير من خر 23: 20 حسب السبعينية: "ها أنا أرسل رسولي أمام وجهك ليحفظك في الطريق ". قال مر 1: 2: "ها أنا ذا أرسل ملاكي أمام وجهك ليهيئ لك الطريق ". وقال مت 10:11 ولو 27:7: "ها أنا ذا أرسل ملاكي أمام وجهك، فهو يهيئ لك الطريق قدّامك ". تقوم مهمة الرسول (الملاك) الالهيّ بإعداد الطريق لا لله نفسِه بل لذلك الذي يتوجّه إليه الله، أي يسوعَ المسيح. نحن أمام تصحيح مسيحيّ شبيه بما صنع لنص أش 3:40 او زك 14: 5 الذي قال: "سيأتي الربّ إلهي وكلّ قديسيه معه". فقال مت 25: 31: "حين يأتي ابنُ الإِنسان وكلّ ملائكته معه ". إن دور يوحنا كسابق هو أن يهيّئ الطريق لشخص ليس الله الآب.
من هو هذا الشخص؟ هذا ما نعرفه انطلاقًا من ملا 3: ا ب: "وللوقت يأتي إلى هيكله السّيدُ الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تتوقون إليه، ها هو يأتي يقول الربّ القدير". هذا الربّ الذي ليس هو "يهوه الله " يسميّه النصّ "ذلك الآتي ".
وسيصوّر لنا وَلْيُ النصّ مجيئه على الشكل التالي:" ومن يحتمل يوم مجيئه؟ من يَثبت عند ظهوره؟ إنه يصل مثل نار الممحِّص وكأشنان القصارين. يجلس ليمحّص وينقّي الفضّة، فينقّي بني لاوي كالفضّة والذهب (ملا 2:3- 3).
إن صُوَر ملاخْيَ قريبة من صور المعمدان. فالفلاّح يقطع الشجرة التي لا نفع منها ويلقيها في النار، ويَفصلُ القمح عن التبن الذي يستعمل الموادّ المنظّفة. سنجد صُوَرًا مشابهة لهذا في كرازة يسوع: حين يفسّر مثلَ الزُؤان أو مثلَ الشبكة (مت 13: 40- 43، 49- 50): "يرسل ابنُ البشر ملائكته ".
نستطيع أن نستنتج على ضوء النبوءات الاسكاتولوجيّة في العهد القديم ما يلي: يبدو أنّ المعمدان فهم رسالته كالسابق للديّان السامي، كذلك الذي يقود الخطأة إلى التوبة والارتداد للحصول على غفران خطاياهم، قبل أن يفوت الأوان. وحين يظهر "الذي يجيء بعده " في كل بهائه المرهب، ستدقُّ ساعة الحساب فلا يستطيع الخاطئون أن يفلتوا من عقابه. في هذا السِياق يصبح للسؤال "هل أنت الآتي؟ " معنى واحد: هل أنت ذلك الذي أعلن مجيئه؟ هل أنت الديّان الرهيب الذي يرسل الكافرين إلى العذاب الأبديّ؟

ج- جواب يسوع
طرح يوحنا سؤالاً واضحًا ولكن جواب يسوع بدا مَخفيًّا. فالبلاغ الذي حمله إلى موفَديْ يوحنا يبدو بشكل ملخّص لنشاطه الخيّر لدى الجموع. هو جواب يخّيب الأمل: إن المعمدان يعرف كلّ هذا، وصدى معجزات يسوع دفعه إلى أن يسأل. ولكن إذا نظرنا مليًّا نرى أن يسوع لم يتهرّب كما اعتاد أن يفعل في مثل هذه الحالات. فبلاغه مليء بتلميحات تعطيه مدلولَه الحقيقيّ.
يقوم جوهر جواب يسوع في تَعداد للأعمال الحسنة التي ينشرها بين البؤساء.

1- أعمال المسيح
يتحدّث متى عن أعمال المسيح، أي عن تلك التي تدلّ أنه المسيح المنتظر. فهناك معجزات خاصّة لها بُعدٌ مسيحانيّ، وهذا ما نجده عند متى حين دخول يسوع إلى أورشليم والهيكل. فقد أشار إلى سلسلة من الأشفية: "وجاء إليه العُرج والعُميان وهو في الهيكل فشفاهم " (مت 14:21). حينئذ هتف الأولاد: "المجد لابن داود" (آ 15). حين شفى يسوع هؤلاء تلقّى هذه التسمية المسيحانيّة. إذن، هناك مقابلة بين الأشفية التي يصنعها يسوع كشفاء المرضى وإعلان البشارة للمساكين، وصفتِه كالمسيح الآتي. هذا هو معنى البلاغ إلى الذي أرسله يسوع إلى يوحنا المعمدان.

2- الخيرات المسيحانيّة (آ 22)
إذا عُدنا إلى متى نرى أنّ يسوع شفى أعميَين (مت 27:9- 31). كما شفى مخلّعًا فقال له:" قم واحمل سريرك واذهب " (مت 9: 1- 8). وعبارة "البرص يطهرون " تدلّ على ما نقرأ في مت 8: 1- 4. ولكننا لا نجد مثلاً عن الصُمّ الذين يسمعون (رج مر 32:7، 37؛25:9) لأن لفظة "كوفوس " تدلّ عنده على الخُرس (مت 9: 32- 33؛ 12: 22؛ 15:- 30- 31) وروى متى شفاء ابنة يائيرس في 23:9- 26. والبشرى التي تصل إلى المساكين تشير إلى التطويبات.
ولكن الوضع يختلف عند لوقا. لقد روى تطهّر البُرص (12:5- 16) وشفاء المخلّع (17:5- 26) وإقامة ابن أرملة نائين (7: 11- 17)، وأورد التطويبات (6: 20 ي). ولكنه لم يذكر الصُمّ ولا العُميان. ولهذا جاءت حاشية تدلّ على هذا النصّ: "في تلك الساعة شفى يسوع كثيرًا من المصابين بالأمراض والعاهات والذين فيهم أرواحٌ شرّيرة، وأعاد البصر إلى كثيرين من العُميان " (آ 21). هذه الزيارة لها معناها، وهي تدلّ على أنّ يسوع أتمّ كلّ الأعمال المذكورة في جوابه إلى يوحنا.
غير أنه لا يكفي أن تكون هذه الوقائع المذكورة حقيقيّةً لكي يجد يوحنا الجواب على سؤاله، ثمّ لا ننسى أنّ النصّ لا يذكر نشاطًا هامًّا في حياة يسوع وهو إخراج الشياطين.
إذن نبحث عن شيء آخر. إن جواب يسوع يلمّح إلى نبوءات أشعيا؛ لا إلى مقطع محدّد، بل إلى عدّة نصوص.
في الآيات التي أوردها يسوع، هناك عبارة "المساكين يتلقَّون البشارة". هذه هي السِمة الأهمّ والأعمّ، وهي تلخّص سائر الآيات. هي لا تدلّ على نشاط عجائبيّ بالمعنى الحصريّ، ولهذا فهي تدهشنا. فالفعل "اوانجاليزوماي" نجده في أش 61: 1- 2 ونحن نقرأه كما في السبعينيّة: "روح الرب عليّ لأنه مسحني. أرسلني لاحمل البشارة إلى المساكين، لأشفي منكسري القلوب، لأعلن للأسرى تحريرهم، وللعميان استعادة النظر، لأخبر بسَنَة نعمة من الرب ويومِ جَزاء، لأعزّي المحزونين ". لا نجد في النصّ العِبريّ ذكرًا للعميان، بل فَي النصّ اليونانيّ الذي كان توراة المسيحيّين في الكنيسة الأولى.
ونجد مع هذا النصّ الرئيسيّ نبوءاتٍ أشعيائيّة أخرى تصوّر الأزمنة المسيحانيّة. نقرأ في أش 35: 5- 6: "حينئذ تنفتح عيون العميان، وتسمع آذان الصُمّ. حينئذ يقفز الأعرج كالغزال ويتوضّح لسان الأبكم ". ذكر أشعيا العميان والصُمّ والعُرج وسيذكر الموتى في 19:26 "سيقوم الموتى والذين في القبور سينهضون ". ونورد ايضًا أش 29: 1- 19 الذي يتحدّث عن الصُمّ والعميان والمساكين: "وفي ذلك اليوم يسمع الصُمّ أقوال الكتاب . وتبصر عيون العميان الذين في الدَيجور والظلام. يزداد المساكين فرحًا وبهجةً بالرب، والذين لا رجاء لهم يمتلئون سرورًا".
لم يبقَ إلا البرصُ الذين لا يتكلّم عنهم أشعيا، ولكن بما أنّ شفاءهم هو "تطهير"، نتذكّر أش 8:35: "ويكون هناك مَسلكٌ طاهر، يُسمَّى الطريقَ المقدّس ".
وهكذا اتخّذ جواب يسوع إلى يوحنا كلّ معناه. لم يكتفِ يسوع بكلمة "نعم " تماثله مع "القويّ " الذي انتظر يوحنا مجيئه الرهيب. بل أورد شهادات عن نشاطه الخيّر. عرف به المعمدان، ولكن يسوع اختار كلماته ليفهمه أنه باهتمامه بالمتأَّلمين يُتمّ المواعيد التي تشير إلى المسيح. عَمِلَ عَمَلَ المسيح، إذن لا شكّ في أنه مَن انتظر السابقُ مجيئه.

د- الشكّ
وجدنا الجواب على سؤال يوحنا في تَعداد الأعمال المسيحانيّة التي صنعها يسوع الذي يتمّ هكذا نبوءة أشعيا. ولكن يسوع لا يكتفي بالاجابة عن سؤال طرح عليه. فزاد: "طوبى لمن لا يتشكّك بسببي، هنيئًا لمن لا يفقد إيمانه بي " (23:7= مت 11: 6). زيادة مهمّة. ونستطيع القول إنّ المخلّص ذهب أبعد ممّا طلب منه، فكشف الباعث العميق الذي دفع السابق إلى إرسال تلميذَيه. بعد أن اجَاب يسوع على السؤال الواضح، فكر بالعواطف الخفيّة التي يمكن أن يولّدها جوابه.

1- تحليل الآية
هناك أوّلاً حرف العطف "كاي " (الواو) قبل التطويبة: "وطوبى أيضًا". إن الإِنسان الذي يعلنه يسوع سعيدًا (يهنئه، يطوبّه) يشارك المساكين في الخيرات المسيحانيّة.
وكلمة "ماكاريوس " (طوبى، هنيئًا) تشير إلى سعادة الذين أُتيح لهم أن يشاركوا في الخلاص المسيحانِيّ، في ملكوت الله. إن عبارة "المساكين يتلقَّون البشارة" تقابل التطويبة "هنيئًا للمساكين، لأن لهم ملكوت الله ". لقد جعلَ يسوعُ مع الذين ينعمون بتدبير الخلاص، ذلك الذي لا يتشكّك بسببه، وإن لم يكن مسكينًا أو مريضًا.
وتبدو التطويبة في صيغة المفرد. إنها تتوجّه بصورة خاصّة إلى يوحنا المعمدان. كما أنها تبدو بشكل شَرط. لو أنه فقد إيمانه! إن يسوع يشجعّ بهذه الصورة المعمدان لئلاّ يتشكّك من تصرّف يسوع الذي يعامل الضعفاء والخطأة بالرحمة.
وفعل "تشكّك " يعود إلى اليونانيّة "سكانداليون " الذي يدلّ على الفخّ والحاجز والحجر الذي نعثر به. وفي المعنى المجازيّ، الشكّ هو كلّ ما يسبّب سقوطًا على المستوى الدينيّ أو الأدبيّ.
قد يستطيع أن يكون يسوع مناسبة شكّ ليوحنا. فلقد كان كذلك بالنسبة إلى مُواطنيهٍ في الناصرة، وقد تشكّكوا بسببه (مر 3:6؛ مت 57:13): لم يَروا فيه إلا إنسانًا عاديًّا فلم يؤمنوا به. وفي جتسيماني تشكّك الرسل أنفُسهم بسبب يسوع (مر 27:14- 29؛ مت 26: 31، 33): تزعزعوا في إيمانهم (لو 32:22). هنا نتذكّر كلمة سمعان الشيخ في لو 34:2: "إن هذا الطفل قد جعل لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيلَ وعلامةً للمخالفة). فالذين لا يؤمنون بيسوع، يصبح يسوع لهم مناسبةَ سُقوط. إن سعادة الازمنة المسيحانيّة الموعود بها لمن لا يفقد إيمانه بيسوع، تخصّ في النهاية ذلك الذي يؤمن بيسوع، فلا تزعزعه الصعوبات التي يصطدم أيمانهُ بها.
سأل يوحنا يسوع عن شخصه، فأجاب يسوع متحدّثًا عن العميان والمساكين: جوابٌ غيرُ مباشَر يصوّر علامات حضور المسيح، ولا يقول شيئًا عن المسيح. وتأتي آ 22: "لمن لا يشكّ في". إن الموقف الذي يتّخذه كلّ واحد منا بالنسبة إلى يسوع يجعلنا بين السعداء الذين يشاركون في خيرات الأزمنة المسيحانيّة. أكَّد القسم الأوّل أنّ الأزمنة المسيحانيّة بدأت. والتنبيه الأخير جعل شخص يسوع في قلب أزمنة الخلاص هذه. والتحذير من الشكّ هو قريب من قول آخر: "من يستَحْيِ بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، يستَحْيِ به ابن البشر" (مر 38:8؛ رج مت 33:10؛ لو 26:9؛ 9:12). إن خلاص كل واحد منّا يرتبط بشخص يسوع. فهو ذلك الآتي الذي ننتظره.

2- مِحنة يوحنا
هناك شيء يصعب قَبولُه في البلاغ الذي وجّهه يسوع إلى السابق: إنه يدعوه بان لا يتشكّك بسببه. وهذه الصعوبة لا تكمن في الصفة المسيحانيّة التي يتمتّع بها ذلك الذي يقوم بهذه الأعمال. فالسؤال الذي طرحه يوحنا يفترض أنه مستعدّ أن يرى في يسوع المسيح المنتظر. ثم لو أنَّ يسوع أراد ان يُفهم يوحنا أنه المسيح، لدعاه لا أن يتشكّك بل أن يَلِج معنى رسالتِه العميق ويؤمن بها.
إن الصعوبة تكمن في ما يؤكّده بلاغ يسوع بوضوح: إنه يصوّر نشاط يسوع المسيحانيّ. يقدّم عرضًا للطريقة التي بها يحقّق يسوع دوره كمسيح. سأله يوحنا عن صفته المسيحانيّة، فشدَّد يسوع على طبيعة هذه المسيحانيّة، وإن يكن أكّد واقع هذه المسيحانيّة بصورة غير مباشرة. قال يسوع: دور المسيح يقوم بأن يخفف عن التُعسَاء. أجل قد يتشكّك يوحنا، لا لأنّ يسوع هو المسيح، بل بالطريقة التي بها يتصوّر مهمّته كمسيح.
هناك تعارُضٌ بين صورة الديّان الرهيب الذي أعلن يوحنا مجيئه، وصورةِ المخلّص الرحوم الحنون التي نكتشفها في جواب يسوع. نحن نجد هذا التعارض في تصرّف يسوع. سأله عظيمُ الكهنة ليعرف هل هو المسيح ابن المبارك. لم يكتفِ يسوع بأن يجيب: نعم. فلو فعل لتضمّن جوابُه القبول بالدور السياسيّ الوطنيّ الذي يلتصق بهذا اللقب. ففِعلُ التشديد على الطابع السامي لرسالته يجعل منه الديّانَ السامي لكل البشِر (مر 14: 61- 62 وز). وحين أعلن بطرس مسيحانيّته، تحدّث يسوع أيضَا عن ألامه، فتشكّك بطرس واحتجّ (مر 29:8-33 وز). فمحنة يوحنا تشبه محنة بطرس في قيصريّة فيلبس، ومحنة الرسل حين أُوقف يسوع (مر 27:14، 29). إن فكرتهم عن دور يسوع المسيحانيّ هي ناقصة، وهي لا تتوافق مع ما يعتبره يسوع جوهر رسالته.
وهناك مقابلة مع يونان الذي حمّله الله بلاغ "غضب ": عليه أن يُنبئ بدمار نينوى. ولكن أهل نينوى ارتدّوا إلى الله، فتخلّى الله عن تهديده. وهكذا لم تتحقّق نبوءة يونان. تشكّك يونان:" علمت أنك إله رؤوف رحيم طويل البال كثير الرحمة ونادم على الشر، ولذلك بادرت إلى الهرب" (يون 4: 2). لقد تشكَّك رسول الغضب الإِلهيّ من رأفة الربّ الذي لم يُرد أن يضربه وكان للمعمدان الاختبارُ عينُه: أُرسل ليعلن برء منفذِ مآثر الله ضدّ الخطأة، فاكتشف مسيحًا لا يستعمل قدرته إلا ليشفي المرضى ويسامح الخطأة. تحيّر وكاد يضيع، فأرسل إليه يسوعُ كلمة تشجيع في المحنة الروحيّة التي يجب عليه أن يجتازها.
لا ينتج شكُّ يوحنا من مسيحانيّة يسوع المتضمّنة في جواب يسوع. فالخطر يأتي ممّا يقوله يسوع بوضوح عن الطريقة التي بها تظهر هذه المسيحانيّة. انتظر المعمدان شيئًا آخر. ما انتظره هو ما وعظَ به يوم اعتبر نفسَه مُرسَلاً من الله ليعلن للخطأة ساعةَ العقاب القريبة. فالذي أعلن مجيئَه هو هنا: من هذا القبيل، يبدو جوابُ يسوع واضحًا وضوحًا كافيًا لكي يطمئنه. ولكن تبلبل يوحنا حين رأى يسوع يفهم دوره بطريقة لا توافق ما قاله. أمّا الشرح الذي قدّمه يسوع، فعودة إلى أشعيا الذي وجدت كلماتُه تتمّتَها في عمله الخيّر. ولم يقل شيئًا عن الأقوال المهدّدة التي شدّد عليها المعمدان، فاكتفى بأن يدعوه أن لا يتشكّك، أن لا يترك إيمانه يتزعزع: "هنيئًا لمن لا يفقد إيمانه بي ".

خاتمة:
لم يُرد يسوع أن يعفي السابق من المحنة التي سيمرّ فيها الرسل بدورهم. فعِثارُ الرسل سيكون عِثارَ الصليب. آمنوا بيسوع واعتبروه المسيح الموعود، وانتظروا ظهور مجده البهيّ. ولكن حين حدّثهم يسوع عن اتضّاعه وآلامه وموته المُذِلّ، لم يفهموا. وتذمّر بطرس. وحين أكّدت أحداث الجمعة العظيمة إنباءاته كاد إيمانه يتزعزع.
أدرك يوحنا الطابع المتساميّ لدور ذلك "الآتي ". وعرف فيه الديّانَ الذي يقطع الشجرة التي لا تحمل ثمرًا، وينقّي بيدره فيرمي في النار التبنَ، ويغطّس الخطأة في عِمادِ النار والروح. ولكن المسيح الذي هو هنا يتصرّف مثل عبد الله الذي لا يكسر القصبة المرضوضة ولا يطفئ السراج المدخّن (مت 12: 20= اش 3:42). وهو يعلن أن المسيح "جاء يطلب ويخلّص ما قد هلَك " (لو 19: 10). ويحدّد رسالته فيقول: "أرسل الله ابنه لا ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم) (يو 12: 47). دوره هو دور طبيب النفوس يريد أن يعيد الصحّة إلى مرضى الروح، إلى الخطأة (مت 9: 12 وز). لم تأتِ الساعةُ التي فيها يفصل الزؤانَ عن القمح (مت 13: 29-30). وبدل أن يفكّر يسوع بمعاقبة الخطأة وتدمير الشرّ، فهو يكرّس حياته ليخفّف عن المتألمين ويرسل النور إلى العُميان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM