القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الثلاثون: جدال حول الصوم

الفصل الثلاثون
جدال حول الصوم
5: 33-39

يردُ الجدال حول الصوم في الأناجيل الازائيّة الثلاثة (5: 33- 39- مت 9: 14- 17= مر 18:2- 22). وهو جزء من سلسلة تتضمّن خمسة جدالاتٍ جليليّة: شفاء مخلّع كفرناحوم (17:5- 26= مت 9: 1- 18- مر 2: 1- 12)، وليمة مع الفريسيين (5: 27: 32= مت 9- 13= مر 2: 13- 17)، جدال حول الصوم (17:5- 26= مت 9: 1- 8= مر 2: 1- 12)، قطف السنابل يوم السبت (6: 1- 5= مت 12: 1-8= مر 23:2-28)، شفاء الرجل ذِي اليد اليابسة (6:6- 11= مت 9:12- 14= مر 3: 1- 6). جُعلت هذه الجدالات في بداية رسالة يسوع العامّة، وكان لها امتداد مع جدالات أخرى وقعت في نهاية رسالة يسوع في أورشليم: السلطة المعطاة ليسوع (20: 1- 8= مت 21: 23-27= مر 11: 27-33)، الجزية لقيصر (20: 20- 26= مت 22: 15- 22= مر 13:12- 17)، قيامة الأموات (20: 27- 40= مت 22: 23- 33= مر 12: 18- 27)، الوصيّة الأولى والعظمى (10: 25- 28= مت 22: 34- 40= مر 28:12- 34)، أصل المسيح وعلاقته بداود (20: 41 -44= مت 22: 41- 46= مر 12: 35- 37). ففي الحالين، جدالاتِ الجليل وجدالاتِ أورشليم، نحن أمام نصوص تكوّنت قبل أن تدخل في التقليد الازائيّ، وجمعت فكان لها البعدُ عينُه. ونلاحظ أنّ الهيرودوسيّين يرتبطون بهيرودوس دون أن نستطيع تحديد هذا الارتباط. هم يظهرون مرّتين في الانجيل، في السلسلة الأولى (مر 3: 6)، وفي الثانية (مر 13:12= مت 22: 16). وراح بعض الشُرّاح (دانيال) يقابل بينهم وبين الأسيانيّين.
نقرأ المجادلات الجليليّة في الأناجيل الازائيّة الثلاثة وفِى الترتيب عينِه، مع أمر خاصّ بمتى وهو أنّ المجادلات الثلاث الأولى ترِد في ف 9، والمجادلتَين الأُخرَيَين في ف 12. نحن سنتوقّف عند المجادلة الثالثة حول الصوم
إن الحديث عن الصوم واختطاف (ارتفاع) العريس يحملان لنا تعليمًا عقائديّا عن يسوع وتصرفاته: إنه المسيح السامي الذي يُدعى إلى تحقيق مسيحانيّته بشكل متواضع على مثال عبد الله (عبد يهوه).
سنتعرّف إلى ما يسمّى التاريخَ التكوينيّ للأناجيل الازائيّة: وُلدت في حضن الكنيسة، وتألّفت من موادَّ كانت موضوع كرازة قبل أن تُكتب. من هذا القبيل، تكيّفت أقوال يسوع وأعماله وحاجات الجماعة، واستُعملت لحلّ المسائل التي تطرَح عليها.
نتوقّف أوّلاً على المسائل الأدبيّة، ونقوم ثانيًا بتفسير النصّ، ثم نقدّم الخاتمة.

1- المسائل الأدبيّة
هناك المقطع عن الصوم ومثلان يرافقانه: الثوبُ العتيق، الخمرة العتيقة. مرقس هو أطول الازائيّين (2: 18- 42). يبدأ بعبارة "كانوا صائمين " (لا نجد ما يقابلها عند مت ولو). هذا يَعني أنّ تلاميذ يوحنا والفريسيّين اعتادوا أن يصوموا، أو أنهم كانوا صائمين في ظرف محدّد، صومًا تقليديُّا، ولكنه اختياريّ. فالصوم الوحيد الذي تفرضه الشريعة على الجميع هو صوم يوم التكفير (كيبور) العظيم الذي مارسه ولا شكّ يسوعُ وتلاميذه.
مَن هم الذين سألوِا يسوع؟ يقول النصّ: جاء. قد يكونون بعضَ الناس، وقد يكونون تلاميذ يوحنا والفريسيّين المذكورين سابقًا في نهاية آ 019 إن الكلمات "ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا" هي تكرار الفكرة التي يعبّرُ عنها السؤال السابق، وهذا أمر خامس بمرقس. وتأتي العِبرة في آ 22: "تُتلف الخمر والزِقاق معًا". أمّا متى ولوقا فقالا: تَسيلُ الخمرة وتتلف الزِقاق (الأوعية).
أمّا متى (9: 14) فربط حدَث الصوم بالوليمة عند لاوي بواسطة الأداة "حينئذٍ" أو الفاء (توتي اليونانيّة)، وهذا الظرف التاريخيّ معقول كما قال بعض الشرّاح. إنّ متى العشّار الذي احتقره الفريسيّون مرارًا قد وضع خمرته المعتّقة أمام هؤلاء الصُيّام المحترفين. واعتبر آخرون أنّ هذه الأداة جزء من أسلوب متى الأدبيّ (ترد توتي 92 مرّة في مر، 15 في لو)، وهي لا تدلّ على رباط زمنيّ.
من يسأل يسوع هنا؟ تلاميذ يوحنا. في آ 15، لا يقول يسوع ان رفاق العريس لا يستطيعون أن يصوموا، بل أن يكونوا في الحِداد، أن يحزنوا (بنتايو) ما دام العريسُ معهم.
ويوضح لوقا النصّ (33:5) فيربط المقطع عن الصوم بالوليمة لدى لاوي. لام الفريسيّون والكتبة تلاميذ يسوع لأنهم يأكلون مع العشّارين والخطأة، فأجاب يسوع: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخاطئين " (5: 31- 32). وأردف الانجيليّ: "أما هم فقالوا له: "تلاميذ يوحنا... ". وهكذا قدّم لوقا السؤال حول الصوم، فيبدو ان الحديث تواصل دون توقّف. إذن، الذين سألوا يسوع هم فريسيّون وكتبة، واعتراضهم يختلف عمّا نجد في مرقس: هم يتحدّثون لا عن صوم آنيّ يقوم به تلاميذ يوحنا، بل عن أصوام متكرّرة، بل عن صلوات متكرّرة، وهذا أمرٌ لم نكن لننتظره. والشكل الذي يتّخذه جواب يسوع في آ 34 يبدو نقدًا مباشرًا للفريسيّين الذين يحاولون أن يتسلّطوا على الناس: "هل تستطيعون أن تجعلوا رفاق العريس يصومون "؟ (قال مرقس: "أيستطيع رفاق العريس أن يصوموا"؟).
ويقدّم لوقا مثل الثوب بطريقة غريبة. في متى ومرقس، تُستعمل رُقعةٌ من نسيج جديد (غير مطروق) من اجل ثوبٌ ممزَّق، وهذا ما يحدث في الحياة اليوميّة. أمّا لوقا فيفترض أننا نخزُق ثوبًا جديدًا لنَرقَع ثوبًا عتيقًا، وهذا أمر غير معقول.
ما يقول به الشُرّاح هو أن الانجيل الثالث انطلق من إنجيل مرقس وحوّله. فأمّا مر 18:2 فترك القارئ متحيّرًا حول المعنى الدقيق للنصّ: صوم اعتادَه الناس، أو يقومون به في ظرف محدّد؟ بَتَّ لوقا المسألة. لا نجد في الانجيل الثاني ارتباطًا كرونولوجيًّا وجغرافيًّا بين هذا المقطع وما يجاوره. أمّا لوقا فجعله في بيت لاوي، والمناسبةُ وليمةٌ أولمها ذاك اللاوي ليسوع (5: 29). قال مر 2: 20 "في ذلك اليوم " بعد أن قال في بداية الآية "ستأتي أيّام ". أزال لوقا هذا التنافر وجعل صيغة الجمع في الموضعين: "يصومون في تلك الأيّام ".
يبدو مثلا الثوبُ والزُقاق في مرقس وكأنهما مَزيدان على الجدال حول الصوم. أمّا لوقا فربطهما بالسياق السابق بواسطة هذه الكلمات: "وقال لهم هذا المثل ". إذا كان لوقا حوَّل مُعطيات مثَل الثوب (نخزُق ثوبًا جديدًا لنرقع ثوبًا عتيقا)، فقد أراد أن يشدّد على الرباط مع ما سبق وما لحِق: إن الرقعة الجديدة التي يتحدّث عنها متى ومرقس هي شيء قليلُ القيمة. أمّا الثوب الجديد الذي يتحدّث عنه لوقا فهو يعود بنا إلى التدبير الجديد، على مثال كلام يسوع عن زمن العرس أو النبيذ الجديد الذي نضعه في الأوعية الجديدة.
استعمل مر 22:2: تَلِف (أبو ليمي) فقط فقال: "تُتلف الخمر والزقاق معًا" أمّا لوقا فاستعمل فعلين: الخمرة تسيل والأوعية تتلف. وفي هذه الآية عينها، إن الجملة التي تبدأ مع "والآ" تُقدّم كمعترضةً، وهذا ما يجعل النهاية تستغني عن فعل آخر: لا يضع أحدٌ الخمرة الجديدة في أوعية عتيقة، بل (توضع) الخمرة الجديدة في أوعية جديدة. أمّا لوقا فلا يعتبر الجملة التي تبدأ مع "وإلا" وكأنها معترضة: "يجب أن توضع الخمرة الجديدة في زِقاق جديدة".
وما هو معنى آ 39 الخاصّة بلوقا (لم ترِد في الكودكس البازي واللاتينية العتيقة)؟ "وما من أحدٍ يشرب خمرة عتيقة (معتقة) ثم يرغب في الجديدة فيقول: الخمر المعتّقة هي الأطيب ". ما يبدو غريبًا للوهلة الأولى هو أنّ هذا القول يبدو وكأنه يستحسن النظام العتيق، وهذا ما يعارض فكر يسوع. ولهذا قال بعضهم: إن الخمرة المعتّقة، وهي الأفضل، تمثّل تعليم يسوع، وهذا ما يجعلها تدلّ بطريقة المفارقة على النظام الجديد. كيف نفسّر هذه الظاهرة؟ تلقّى لوقا هذا القول من التقليد، فوضعه هنا لارتباطه بالموضوع (صورة الخمرة). فإن فهمنا هذا الكلام بالنظر إلى السِياق السابق، نجعله تحسّرًا من يسوع على عدد من سامعيه الذين يستصعبون الانفتاح على النظام الجديد. إنهم يشبهون أُناسًا اعتادوا الخمرة العتيقة، فما عادوا يريدون أن يشربوا من الجديدة. وهناك تفسير آخر. تعلّمنا الخبرة العاديّة أننا نكون على حقّ حين لا نتخلّى عن الخمرة المعتّقة لنأخذ الخمرة الجديدة. إذن، نحن لا نشرب في الوقت عينِه خمرة معتّقة وخمرة جديدة، كما لا نُمزّق ثوبًا جديدًا لنَرْقَعَ ثوبًا عتيقًا. هذا يعني ان تعليم يسوع يفرض علينا ان نتخّذ موقفًا. إنه يرفُض المساومة.
ما هي علاقة متى بمرقس؟ يبدو أنّ مرقس يقدّم النُسخة الأولانيّة، وإن وجدت أمور قديمة في متى، مثلاً، سائلو يسوع (تلاميذ يوحنا في متى. ويزيد مرقس: الفريسيّون). وما هي علاقة متى بلوقا؟ هناك توافُقات سلبيّة (غياب العناصر عينِها) وإيجابيّة (وجود الكلمات والجمل عينِها). قال مر 2: 19 ب: "ما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا". أغفل متى ولوقا هذه العبارة لأنهما اعتبرا الجواب واضحًا. ويتوافق متى ولوقا ضدّ مرقس حين يستعملان فعلين بدل فعل واحد هو "تَلِف " فيقولان: "تراق الخمرة وتَتلَف الأوعية". ويستعمل مت 16:9 ولو 5 :36 فعل "إبيبالو" (ألقى على، وضع، جعل) ضدّ مر 2: 21 "إبيربتو" (رقَع، خاط). يبدو أنّ متى ولوقا يرتبطان بمرجِع مشترك يختلف عمّا نجده في مرقس، وقد يكون متى السامي كما ترجم إلى اليونانيّة.
يبقى أن نقول كلمة عن الغنى الأدبيّ لهذا المقطع. نضع جانبًا مثلَي الثوب والوعاء لأنهما يُشيران إلى انقطاع مع الماضي يبدو أكثرَ جَذريّة من جواب يسوع حول الصوم. اعتبر لوازي أننا أمام سؤالين: واحدٍ يتعلّق بتلاميذ يوحنا وجد جوابَه بالمقابلة مع العريس؛ وآخرَ يتعلّق بالفرّيسيّين وجد حلاًّ له في المثلين اللاحقين. وقال تايلور: إن هذين المثلين هما بقيّة أخبار تلفّظ بها يسوع، لم يعد يذكر التقليد ظروفها وإطارها التاريخيّ. وبما أنهما يتحدّثان عن نُظُم اليهوديّة المتحجرة والتي لا تتوافق مع الروح الجديد، ارتبطا مع الجدال حول الصوم بحقبة دينية لا بدَّ من أن نتجاوزها.
ونتوقّف خصوصًا عند المجادلة حول الصوم. نحن أمام خبر حيّ قدَّمه الازائيّون بصورة مقتضبة، فجاء مغايرًا للاخبار الطويلة في الانجيل الرابع. لا تفاصيل، لا تحديدات جغرافيّة وكرونولوجيّة، لأن ما يَهُمّ الكاتب هو تقديم كلام الربّ بشكل يؤثر على حياة الجماعة. هنا نتذكّر خبر الدعوة (مر 1: 36- 20) أو تقدمة الأرملة (مر 12: 41- 44) أو يسوع عند مرتا ومريم (لو 10: 38- 42).

2- تفسير النصّ
يبدو معنى المقطوعة حول الصوم واضحًا. ولكن الصعوبات عديدة، ونحن سنعالجها الواحدة بعد الأخرى. أوّلا: السؤال المطروح على يسوع. ثانيًا: الجزء الأوّل من جواب يسوع، أي إن الوضع الحاليّ للتلاميذ لا يتوافق مع الصوم. ثالثًا: القسم الثاني من جواب يسوع، أي في أيّ معنى سيفرض الوضع المقبل على التلاميذ بأن يصوموا.


أ- السؤال المطروح على يسوع
في لوقا، سُئل يسوع عن الصوم خلال وليمة عند لاوي. ويبدو أنّ متى يوافق لوقا مع وصلة آ 14 (فدَنا إليه تلاميذ يوحنا). إن الكرازة المسيحية الأولى قرّبت بين الحدَثين. إِكتشفت علاقة بينهما، مع أن الواقع يختلف من حدث إلى آخر. من جهة، لا يسبّب الطعام شكًّا إلا لأنه يؤخذ مع الخطأة. من جهة ثانية، يطرَحُ على بساط البحث الطعامُ (هل نأكل، أم لا نأكل؟) في حدّ ذاته، ويعتبر معارضًا لممارسة الصوم. وبما أننا أمام تمييز بين تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع، فهذا يعني أننا لسنا في الأيام الأولى لرسالة يسوع.
من هم أصحاب السؤال المطروح على يسوع، ومن هم الذين يعارضون تلاميذه؟ إن لوقا يضع السؤال في فم الفريسيين والكتبة الذين تشكّكوا حين رأوا يسوع يأكل مع العشارين والخطأة (5: 30: يقول لوقا: العشارون وكتبته). صُدِم الفريسيون لأن يسوع لم يأخذ بممارستهم للصوم. وهذا أمر معقول، لهذا اتّفق الازائيّون على القول إنهم انضمّوا إلى تلاميذ يوحنا، وطرحوا السؤال على يسوع. ولكن متى ينسب هذا السؤال عينَه إلى تلاميذ يوحنا. أمّا لوقا فيقول إن الفريسيّين سألوا يسوع، ثم يجعلهم يتحدّثون عن الفريسيّين في صيغة الغائب. ويذكر مرقس تلاميذ الفريسيِّين مع تلاميذ يوحنا. ولكن الفريسيّين ألَّفوا حزبًا لا مدرسة، ولم يكن لهم تلاميذ بحصر المعنى. نقول مع شُرّاح عديدين إن لفظة "الفريسيّين " جعلت مع تلاميذ يوحنا، مع العلم أننا في الاصل أمام مقابلة بين تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع (مر 27:11 ي) يوم شكّلَ الفريقان فئة واحدة، وما عادا يتميّزان إلاَّ في قضيّة الصوم. وهذا الوضع هو معقول في أيّام يسوع، أو على الأقلّ بعد موته بزمن قصير.
وزاد لوقا موضوع الصلاة على موضوع الصوم. هذا ما فعل أيضًا في 11: 1 قبل أن يقدّم الصلاة الربيّة. أمّا هنا فأدخل الصلاة، لأنّ الصلوات المتواترة والأصوام تميّز بالأحرى الفريسيّين لا تلاميذ يوحنا.
ويبدو السؤال غريبًا في متى. يتساءل تلاميذ يوحنا لماذا يصومون: "لماذا نصوم نحن والفريسيّون وتلاميذك لا يصومون " (مت 9: 14)؟ ألا يعرفون لماذا يصومون؟ هذا أسلوبٌ ساميٌّ يميّز إنجيلِ متى. والصوم الذي يتحدّثون عنه، هل هو صوم محدّد، ام إن التلاميذ اعتادوا ألاَّ يصوموا؟ حينئذ يكون اليوحناوّيون من الصائمين الكبار كالفريسيّين، أو نكون أمام صوم اختياريّ. هنا يُطرح السؤال: ما هو الباعث على الصوم عند هذه الفئة وتلك؟

ب- إعلان يسوع
أوّلاً: القسم الأول: التلاميذ لا يصومون الآن
يؤكدّ القسم الأوّل من إعلان يسوع أنّ الوضع الحاليّ للتلاميذ لا يتوافق والصوم. "أيستطيع رفاق العريس أن يصوموا (مت: أن يحزنوا) ما دام العريس معهم "؟ والجواب هو كلا. وقد اعتبره متى ولوقا كافيًا. أمّا مرقس فزاد: "لا يستطيعون أن يصوموا". نشير إلى أن هذه العبارة المرقسيّة سقطت من بعض المخطوطات اليونانيّة، واللاتينية العتيقة، واللاتينيّة الشعبيّة (4 مخطوطات)، والسُريانيّة البسيطة (3 مخطوطات). ولكن النص هو في مكانه، وهو يدلّ على طريقة مرقس في الكتابة (رج مر 1: 32، 45؛ 8:2؛ 11: 16؛ 12: 23، 41؛ 13: 19؛ ق مع النصوص الموازية).
قال النصّ: "ما دام العريس بينهم ". هذا ما يوجّه أبصارنا إلى زمن العُرس، وحضورِ العريس دون أيّ تلميح إلى ما يحصُل بعد. ولكن الجواب السلبيّ الذي يتبع عند مرقس يُزيل كلّ التباس من المعنى. هم لا يستطيعون أن يصوموا ما دام العريس معهم. هذا يعني أنّه سيتركهم، وحينئذ يصومون.
"رفاق العريس هم أبناء الُعرس أو بنو خِدْر العرس (اوي اويوي نومفوس) "بني ها- حوفه" (من دون الواو، ح ف هـ). بنو البشر هم البشر، وابن مئة سنة تعني: عمرُه مئة سنة. و "أبناء خدر العرس" هم كل المدعوّين الى العرس او الشبّان الذين يرافقون العريس خلال العيد (قض 14: 11). يهتفون بزرع الفرح بين المدعوّين، يُعفَون من بعض الممارسات ومنها الصوم. كان العرس يدوم سبعة أيّام، وكان العريس مِحورَ الاحتفالات يحيط به شباب (رفاق العريس) يقدّمون له خدماتِهم خلال هذه المدّة.
شبّه يسوع حضوره وسط البشر بزواج: هو العريس، وتلاميذُه هم رفاق العريس: مع مجيء يسوع بدأ عهد الخلاص المسيحانيّ. إن زمن حضور يسوع وسط البشر هو زمن السعادة التي أنبأ بها اش 35: 5- 7 يوم يُشفى العميان والصُمّ والعُرج والبُكم، وتسيل المياه الحيّة (7: 22= مت 11: 5؛ يو 4؛ 14؛ 37:7- 39). هو زمن تحرُّر فيه يسمع الفقراء والمظلومون البشارة، فيه تُفتَح السجون حسب اشِ 61: 1- 2 (لو 18:4- 19). إنتهى عالم قديم يشبه ثوبًا عتيقًا لا يستحقّ أن نرْقَعه، أو وعاءً قديمًا لا يمكن استعماله بعد الآن. حين جاء المسيح بين البشر حمل إليهم بهجة زمن العرس. فالخمرة الجديدة تسيل أنهارًا (يو 2: 1- 11). ونضج حصادٌ وفير وهو ينتظر الحصّادين (10: 2- مت 37:9؛ يو 35:4- 38) وشجرة التين التي تعرّت في الشتاء وبدت كأنها ميتة، اخضرّت من جديد ونبتت أوراقها (مر 13: 28).
وكل هذا لأنّ المخلّص الاسكاتولوجيّ قد جاء أخيرًا. فيسوع هو الراعي الذي يجمع الخراف المشتّتة (32:12؛ مت 15: 24)، والطبيب المرسَل إلى المرضى ليشفيهم (مر 17:2 وز)، والمعلّم الذي يُدخل تلاميذه في أسرار الله ومشيئته (1: 21- 22)، والمرسل الذي يدعو الناس إلى الوليمة المسيحانيّة (14: 15- 24)، والمهندس الذي يشيّد معبد نهاية الأزمنة (مر 58:14؛ مت 18:16؛ يو 19:2)، والملكُ الذي يدخل منتصرًا إلى المدينة المقدّسة (مر 11: 1- 10 وز). هذه الصور (مع صورة العرس) كانت تقليديّة لدى الأنبياء، وهي تدلّ على عهد النعمة. استعادها يسوع وطبّقها على نفسه، فدلّ على أنه جاء ليحمل إلى البشر الخلاص النهائيّ في شخصه.
أيستطيع رفاق العريس أن يصوموا ما دام العريسُ معهم؟ أيُعقَل أن نفرض صومًا على أشخاص يحضرون العرس؟ إذن، من المستحيل أن نجعل التلاميذ يصومون ساعةَ يحمل إلى المعلّم فرحَ الخلاص النهائيّ. نسب العهد القديم إلى يهوه (الربّ) اسم العريس منذ أيّام هوشع، وقرأ التقليد اليهوديّ مز 45 قراءة مسيحانيّة. كما رأى في نشيد الأناشيد شخص المسيح الذي يمثّل يهوه.
قال مرقس ولوقا: لا يستطيعون أن يصوموا. وقال متى: لا يستطيعون أن يحزنوا، أن يلبسوا الحِداد. أيشير النصّ في فم تلاميذ يوحنا إلى حداد لَحق سجن يوحنا (مت 2:4) أو موته (مت 14: 1- 12)؟ نحن أمام تعبير عنِ الحزن لا عن التنّسك والاماتة.
ومهما يكن من أمر، نستطيع أن نقرأ النصّ على الشكل التالي: بسبب العلاقات الحميمة بين يوحنا وشموع، ظنّ تلاميذ المعمدان أنّ تلاميذ المسيح سيشاركونهم في صومهم. أجاب يسوع: لم يكن معلّمكم العريسَ المسيحانيّ. الآن جاءت ساعة الخلاص النهاِئيّ الذي دشنه العريس المسيحانيّ. وزاد يسوع: ولكن هذا العريس سوف "يُرفع " يومًا، كما حدث لمعلّمكم. في ذلك الوقت يصوم تلاميذه. نحن هنا أمام افتراض لا بأس به، وسنحاول البحث فيه.

ثانيًا: القسم الثاني: التلميح إلى موت عبد الله قتلاً.
حين يُرفعَ العريس يصوم التلاميذ. ما معنى هذا الرفع، هذا الاختطاف؟ ما هي طبيعة هذا الصوم الذي يربطه يسوع بهذا الحدث؟
إن فعل "ابايرو" يعني في صيغة المعلوم: رفعَ وأخذ ثم ابتعد. وفي المجهول: أخذ، خُطف، رُفع...
ماذا يقول عن اختطاف العريس؟ يشير يسوع إلى أنّه سيُنتزَع من هذا العالم بعد أن يُقتل فلمّح إلى اش 8:53 الذي يتحدّث عن استشهاد عبد الله: "بالضيق والقضاء أُخذ (في العبرية). أُخذت حياتُه عن الأرض" (في السبعينيّة). وتقول فئة ثانية: نحن أمام تنبُّؤ خفِيّ عن الآلام. ويعتبر آخرون أن يسوع يفكر بالزمن الذي فيه سيترك تلاميذَه. فالعبارة "حين يؤخَذ منهم العريس " تقابل "ما دام العريس معهم ". واختفاء يسوع يدلّ على صعوده أو على موته.
يتفّق الشُرّاح على ربط هذا المقطع الانجيلىّ بسرّ الآلام. نحن أمام تنبُّؤ من قبل يسوع، وإن يكن هذا التنبّؤُ خفيًّا غامضِّا، لن يفهمه التلاميذ إلا فيما بعد. في ذلك الوقت جمع يسوع في شخصه وُجهتين لا يتوافقان في الظاهر عن انتظار الأنبياء الاسكاتولوجيّ. من جهة، أشار إلى أنّ حضوره وسط البشر يدلّ على مجيء حِقبة النعمة، وأيام الزواج النهائية وهجوم الفرح الذي لا يُقلقه شيءٌ ولا أحد. ومن جهة ثانية، فتح أمامنا نِظرةً معارضة ومؤلمة: كما أنّ تلاميذ المعمدان خسِروا معلّمهم، كذلك سيخسَرُ تلاميذ يسوع معلّمهم. هذا يعني أن مجيء المسيح يدلّ على إقامة ملكوت الله في نهاية الأزمنة. ولكن هذا الحدث يتضمّن مراحل: فيسوع هو ابن الانسان السامي والمجيد كما تحدّث عنه دانيال، ولكنه سيُرذَل ويعرف موت الذلّ على مثال عبد الله قبل أن يبلغ انتصارَ صباحِ الفصح.
أجل ، لِم يحتَج يسوع إلى فشله الرسوليّ في الجليل، ليفهم أن مهمّته هي أن يحقّق مهمّة عبد الله المتألّم. هذا ما ظهر في مشهد العِماد، وهو يتّضح في القول حول العريس المسيحانيّ.
ونزيد أيضًا ملاحظة: إن "اختطاف " يسوع في لو 9: 51 ينطبق في الوقت عينه على الآلام والصعود، وكذلك فعل "رِفع " الخاصّ بالإِنجيل الرابع (يو 3: 14؛ 28:8؛ 12: 32، 34) يرتدي معنَيين. من جهة يدلّ على رفع يسوع الماديّ على الصليب، ومن جهة ثانية على ارتفاعه الروحيّ، أيّ صعوده وتمجيده (أش 13:52). وإنّ اختطاف العريس في مر 2: 20 يلمّح إلى انتزاع يسوع النهائيّ من هذا العالم بسرّ الصعود.

ثالثًا: الصوم الذي يلي ارتفاع العريس
أعلن يسوع: حين يُرفَع العريس يصوم التلاميذ. هناك ثلاثة تفاسير لهذا الصوم الذي سيمارسه التلاميذ في الزمن الذي يلي موت يسوع. الأوّل التفسير القانونيّ: أقام يسوع شريعة الصوم التي ستسير عليها الكنيسة فتتذكّر آلام المعلّم. الثاني، التفسير النبويّ الذي يقول به عدد كبير من الشُرّاح: تنبّأ يسوع عن صوم تلاميذه بعد أن يترك هذا العالم، ولكنّنا نعود هنا إلى التفسير الأوّل، لأنّ كلّ كلام ليسوع يتعلّق بسلوك التلاميذ، هو بمثابة وصيّة في نظر الجماعة المسيحيّة.
الثالث، التفسير الرمزيّ. إن لفعل "صام " معنى رمزيّا. إن جواب يسوع ينقل الجدال على مستوى غير مستوى محاوريه. هو ليس بمستعدّ لأن يناقش مسألة الصوم، ولا أن يساوم معهم في هذا المجال فيما يتعلّق بالمستقبل. ولكنه يستفيد من الظرف ليكشف عن نفسه لهم ويجعلهم يدركون، من خلال الصور، ما يعني حضوره وغيابه في قلب البشريّة. فحضوره كوليمة عرس تنفي الحزن والحرمان. وسيأتي يوم يتوقّف هذا الحضور. حينئذ "يصوم " التلاميذ صومًا غيرَ الذي يصومه اليوحنّاوّيون. إذا كان حضور يسوع الحالي يحمل إلى البشر فرحًا من نوع فريد، فغيابه يمثّل لهم حرمانًا فريدًا أيضًا.
إن هذا القول يعبّر عمّا يعني للرسل الأوَّلين موتُ يسوع قبل فرحة القيامة العظيمة. الصوم هو علامة، والفكرة التي وراءها ستحتلّ المكانة الأولى كما يقول تايلور في تفسيره للقديس مرقس. لا شكّ في أنّ هناك صومًا جسديّا بالنسبة إلى تلاميذ يوحنّا كما إلى تلاميذ يسوع. غير أنّ هناك مقابلةً بين نظام قديم ونظام جديد كما يقول مثلاَ الثوبِ العتيق والخمرةِ المعتّقة.
ما يَهُمّ يسوع ليس فقط أن يحدّد ممارسات مقبلة في الجماعة المسيحيّة، وإن يكن تحدّث عن الصوم وفائدته في مت 16:6- 18 ومر 29:9 (لا يطرد الا بالصلاة والصوم). ما يَهمُّه هو أن يشدّد على العلاقة السريّة التي تربط مصير التلاميذ بمصيره. ففي مت 9: 15 الصوم يقابل الحزن والحِداد. وهكذا نكون أمام موقف نفسانيّ لا أمام ممارسة جسديّة. المسيح هو الآن هنا. والتلاميذ يتمتعون بفرح يشبه فرح الأعراس. وحين يؤخذ عنهم بعد دراما شرِسَة وبغيضة، ستبدأ المحنة بالنسبة إليهم، سيبدأ "صوم روحي " حقيقي يعبّر عنه في المناسبة بصوم جسديّ من نوع جديد، سببُه الابتعادُ عن العريس المسيحانيّ. إن الرباط الذي يشُدّ التلاميذ إلى شخص معلّمهم هو من القوة بحيث يختبرون غيابه كحَرقة تشبه حَرقة حبيب نشيدِ الأناشيد.
ولن يمتدّ هذا الصوم الروحيّ فقط من الجمعة العظيمة إلى أحد القيامة. فالمحنة ستدوم ما زالت الجماعة في حجّها على هذه الأرض. وهذا الوقت يوافق السفر الطويل الذي قام به السيد في مثَل الأمناء (19: 12 ي) أو الوزنات (مت 25: 14 ي)، أو انتظار العريس الليليّ في مثل العذارى (مت 25: 1ي). إن زمن الصوم هو الوقت الذي فيه نبذل الكثير لنشارك في إقامة ملكوت الله.

3- خاتمة.
إن هذه المقطوعه عن الصوم تحمل لنا غنًى تعليميًّا حقيقيًّا:
أوّلاً: إنها تشكّل شهادة بليغة جدًّا عن وعي يسوع أنه المسيح المتسامي. إنه المسيح الذي يتجاوز ممارسات التقشّف التقليديّة، فيعلن أن لا قيمة لها إلا بالنسبة إليه (حضوره يُلغيها وغيابه يعيدها). إنه مسيح ينسُب إلى نفسه دور العريس المسيحانيّ الذي أُعطي عادةً ليهوه في العهد القديم.
ثانيًا: وحين يعلن يسوع أنه المتسامي، فهو يدلّ بكلمات خفيّة على أنه عبد الله الذي اخذ بعد حكم ظالم وانتُزع من أرض الأحياء (أش 8:53).
ثالثًا: يبدو يسوع متّحدًا دومًا مع تلاميذه منفصلاً عن الجمع، ولا سيما في إنجيل مرقس. التلاميذ هم الذين "يتبعون " يسوع الذي "هم معه "، ويشكّلون النواة الأولى للكنيسة. ما يَلفِت النظر في مقطوعة الصوم هو الطريقة التي بها يضمّ يسوع ضمًّا حميمًا مصيرَه إلى مصير تلاميذه، وهكذا يجعل نفسه في قلب وجودهم: هنا نتذكّر كلمةً قالها يسوع وأوردها الإزائيّون الثلاثة: "أمّا الفقراء فهم عندكم دائمًا أبدًا، ومتى شئتم، أمكنكم أن تحسنوا إليهم، وأمّا أنا فلست معكم دائمًا أبدًا" (مر 7:14 وز). ففي العهد الجديد، ما زالت تشرف على حياة الإنسان الأخلاقية المتطلّبات الأساسيّة التي عبّرت عنها الوصايا العشْرُ والأنبياء. ولَكن كلّ شيء يتّخذ معنى جديدًا مع شخص يسوع: نحن نصوم بسبب يسوع، وحين نخدم الفقراء إنما نخدمه هو كما يقول مت 25: 31- 46.
نحن هنا ولا شكّ أمام صوم جسديّ. ولكنّنا بصورة خاصّة أمام صورة للوجود الأرضي تحياه الجماعة المسيحيّة بين الصعود والمجيء الثاني. إنها حِقبة ألم يُثيرها الابتعادُ عن العريس المسيحانيّ، والرغبة الحارّة بأن نجده من جديد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM