القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل التاسع والعشرون: يسوع يدعو لاوي
 

 

الفصل التاسع والعشرون
يسوع يدعو لاوي
5: 27- 32 ؛ مت 9: 9- 13؛ مر 2: 13- 17

1- لاوي أو متى
إن خبر إظهار جديد لقدرة يسوع في العمل انتهت مرة أخرى بنداء يوجّه إلى تلميذ. قال له يسوع: إتبعني. بعد صيد السمك (5: 1- 12) "تركوا كل شيء وتبعوه "، تبعه سمعان ويعقوب ويوحنا، وها هو لاوي يترك كل شيء ويتبع يسوع. هم كانوا صيادين أما لاوي فقد كان من العشارين وجباة الضرائب.
كان العشارون ممقوتين وغير محبوبين لدى الشعب بسبب جشعهم الذي كان مضرب المثل. كانوا يجبون "العشر" من كل غلة وربح. يتفقون مع "مصلحة الضرائب " على كمية من المال يؤدّونها لها. وكل ما زاد عن هذه الكمية كان يدخل في جيوبهم. ثم كان العشارون محتقرين لأنهم كانوا يتعاملون مع الوثنيين، ولا سيّما إذا كان هذا الوثني حاكمًا للبلاد كالرومان.
واختار يسوع واحدًا من هؤلاء العشّارين ليكون من تلاميذه. إختاره من وسط مهنته النجسة. ذهب إليه، إلى مكتبه، ومن هناك اجتذبه إليه فتبعه. ولكن قبول عشّارين في الحلقة الرسوليّة لا بدَّ أن يخلق الشكوك. ويا ليته كان واحدًا فقط، فالقديس مرقس يقول في 2: 15: "كثيرون من الذين تبعوه من جباة الضرائب".
شفى يسوع المقعد رغم خطيئته، بل غفر له خطيئته قبل أن يقول له: "قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك " (لو 5: 24؛ مر 2: 9). ودعا لاوي رغم أنّه عشّار خاطئ. غفر له ودعاه ليكون له تلميذًا. لم تعد الخطيئة حاجزًا يمنع الانسان من تقبل الخلاص. فالذي يحمل الخلاص يغفر الخطايا أيضًا.
نظر يسوع إِلى لاوي، كلّمه فكفى. فنظرة يسوع وكلمته قديرتان بأن تجعلا الفرّيسي يترك كل شيء. ترك من خدمهم في الماضي، ترك مأمون (أي المال الذي به يؤمِّن الانسان على حياته، الذي تعبّد له) ترك رغباته التي انقاد لها وصار تلميذ يسوع. وكانت نتيجة نداء يسوع تبدّلاً جذريا في حياته. فيسوع حين يدعو يخلق الانسان من جديد، يعطيه قلبًا مستعدُّا لتقبّل طريقة حياة لم يعتَدْ عليها. كان سمعان صيّاد سمك، فصار صيّاد بشر يجمع الناس من أجل الملكوت. وكان بولس غيورًا على شريعة الآباء، فصار غيورًا على الإِنجيل. وهذا ما حدث للاوي.
سمّى مرقس ولوقا هذا الرسول الجديد "لاوي" فأخفيا في شكل من الأشكال أصل متى. أما متى فأحلّ اسمه محلّ لاوي وشدّد على صفته كعشّار داخل الحلقة الرسوليّة. قال في 9:9: رأى يسوع رجلاً اسمه متى فقال له اتبعني. ودعا متى يسوع إلى مأدبة دعا إليها أصحابه القدامى ليودعهم. وحين ذكر متى الرسل الإثني عشر وضع صفته قرب اسمه: متى العشّار أو جابي الضرائب. وهكذا حاول أن يتجاوز الشك الذي يمكن أن ينتج عن حياته السابقة مشدّدًا على رحمة الله التي تدعو الخطأة وخصوصًا الخطأة على ما قال يسوع في نهاية هذه المقطوعة: فجئت لأدعو الخاطئين . هو لم يدع الفريسيين الذين يعتبرون نفوسهم أبرارًا، بل العشّارين الذين يعرفون ضعفهم فلا يتّكلون على نفوسهم بل على الربّ. وكما افتخر متى بمهنته السابقة ليُبرز رحمة الله تجاهه، كذلك تذكر بولس مهنته السابقة كمضطهد للكنيسة. كان شتّامًا ومضطهدًا ولكن نعمة الله عملت فيه فصار مساويًا لسائر الرسل.
لاوي هو ابن حلفى في مرقس، وقد دعاه يسوع كما دعا الرسل الأربعة الأوّلين. رأى سمعان، قال له: إتبعني. فترك الشبكة وتبعه. ورأى اندراوس ويعقوب ويوحنا. ورأى لاوي في بيت الجباية. قال له: إتبعني. فقام وتبعه. لاوي هو جابي كفرناحوم التي كانت على الحدود بين ولاية هيرودس انتيباس وولاية هيرودس فيلبس (تترارخس تراخونتيس). هذا يعني أنّه كان معروفًا وله مكانته في المنطقة.
العشّارون هم "الخاطئون "، أي الذين يعتبرهم اللاهوت الرسميّ كذلك. وإذا عدنا إلى متى، نرى العشّارين في خانة واحدة مع الوثنيين (5: 46- 47؛ 17:18) ، مع الخطأة (9: 10؛ 11: 19)، مع الزناة (21: 31)، وهذا شرف لهم: سيكونون في رفقتهم ليسبقوا "الأبرار" إلى ملكوت الله. جعل متى ومرقس العشّارين مع الخطأة (مر 2: 15؛ مت 9: 10). ولكن لوقا أراد أن يُبطل إلصاق تسمية الخاطئين بالعشّارين فقال: "حضر عدد منَ العشّارين وغيرهم " (آ 29).
الفرّيسيون هم المنفصلون عن "الخطأة". يهتمّون بمعرفة الشريعة وبتطبيقها بحذافيرها. ابتعدوا عن الذين لا يمارسون الشريعة كاملة وعدّوهم أنجاسًا وغير طاهرين. يقول متى: الفرّيسيون. ولوقا: الفرّيسيون وكتبتهم. ومرقس: كتبة الفرّيسيين. من المهم أن نعلم أنّ الكتبة انتموا بأكثريتهم إلى جماعة الفرّيسيين.
لم يتجاسر الفرّيسيون أن يوجّهوا كلامهم إلى يسوع بصورة مباشرة. فحدّثوا الرسل عن معلّمهم متهمينه بأنّه يأكل مع العشّارين والخطأة. في نظر الفرّيسيين، إقترف يسوع خطيئتين. الأولى: جلس بصورة علنية مع الخطأة. الثانية: شارك معهم في الطعام الواحد والبركة الواحدة، وأية مشاركة بين البر والإثم. نشير هنا إلى أن لوقا يجعل التهمة في الحلقة الرسوليّة: "لماذا تأكلون وتشربون مع العشّارين"؟

2- الأساس المرقسي
أول نص إنجيلي مكتوب نعرفه هو إنجيل مرقس وعليه ارتكز لوقا في القسم الجليلي من إنجيله ليتركه خلال صعود يسوع إلى أورشليم. واستفاد متى أيضًا من إنجيل مرقس، ولكنه افترق عنه أكثر مما فعل لوقا الذي صحّح بعض الأمور الطفيفة مثل: أصحّاء بدل أقوياء قال مت 12:9 ومر 17:2: ليس الأقوياء (الذين يقدرون أن يحملوا السلاح) بحاجة إلي طبيب. أمّا لوقا فقال: ليس الأصحّاء (الذين في صحة جيّدة). نشير هنا إلى أن الكلمة الآرامية تعني في الوقت عينه من كان قوُّيا ومن كان في صحّة جيّدة.
ولكن نص متى هو توسيع وعمل تدويني لتقليد أقدم منه. نستطيع أن نكتشف هذا التقليد في آ 15- 17 التي تحيلنا مباشرة إلى حياة يسوع وطريقة عيشه في محيطه الفلسطيني.

أ- النص المرقسي.
إن مشهد نداء لاوي "على شاطئ البحر" (آ 13 كـ14) قد دوّنه مرقس ليعطي صورة لافتة عن كلمة يسوع: "ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة" (آ 17). لا شك في أنّ الإِنجيليّ وجد اسم المدعو في مقدمة لخبر المأدبة (آ 15). كما اكتشف رسمة الخبر في رواية دعوة الرسل الأوّلين، بطرس وأخيه اندراوس يعقوب وأخيه يوحنا (1: 16- 20): الوضع. رأى يسوع. دعا يسوع. أطاعه المدعو.
ومر خبر المأدبة مع العشّارين (آ 15- 17) في تطور واسع تضخم فيه التقليد المرة بعد المرة. في الأصل، كان حديث عن المشاركة في المائدة مع العشّارين. ولكن في بدايات الرسالة المسيحيّة لدى الوثنيين، إستعاد المرسَلون هذا الخبر فنقلوا من العشّارين (كان الفرّيسيون يعتبرِونهم وثنيين= خطأة) إلى الوثنيين دعوة يسوع إلى الخطأة (آ 17). وأشاروا حالا ألى الخطأة في الخبر في آ 15، 16 ب لكي تكون الفكرة واضحة. فالمقابلة مع الطبيب (آ 17) التي بها برر يسوع اهتمامه ببعض فئات من الناس، دخلت في الخبر وطبقت على يسوع الذي يُعتبر مخلص الخطأة، وهذا حين ضم مر 2: 1- 12 و15:2- 17 إلى مجموعات المجادلات الجليلية. أخيرًا ذكر مرقس نفسه التلاميذ العديدين الذين تبعوا يسوع.
إنّ التقليد الذي يتحدّث عن الوليمة لدى العشّارين بعد أن طالب يسوع بسلطان غفران الخطايا (آ 21: 1- 12) كان سابقًا لمرقس. ولكن الإِنجيلي مدّ خطوط هذا الموضوع فدلّ على أنّ يسوع يمارس تجاه العشار لاوي سلطانه بأن يغفر الخطايا، وبأن يدعو الخطأة لكي يتبعوه (آ 13- 14). فالنداء لاتباع يسوع هو في نظر الإِنجيلى نداء للخروج من ماضي الخطيئة، لا دعوة إلى أن ننفصل عن الخطأة. بل إن هذا النداء يلزمنا بالتضامن مع الخطأة لأنهم مرضى ومنفصلون. وحقّهم الوحيد في الإرتداد يتطلّب منا أن نضع حدّا لهذا الإِنفصال ليستطيعوا أن يسمعوا الدعوة إلى ملكوت الله.

ب- حياة يسوع العلنية.
نستطيع أن نعيد بناء حدث المأدبة كما يلي: "وحصل أنّه لمّا كان جالسا إلى المائدة في بيت لاوي بن حلفى، وُجد عدد من العشّارين على المائدة مع يسوع وتلاميذه. ورأى الكتبة الذين من حزب الفرّيسيين أنه يأكل معهم فقالوا لتلاميذه : إنّه يأكل مع العشّارين ". وحين سمع يسوع هذا الكلام قال: "ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة".
وفي الجدالات بين يسوع وخصومه، كما يوردها الإِنجيليّ، ينكشف مرارًا سؤال يحرّك الجماعات الأولى. ولكن تفاصيل الجدال الدقيقة (اسم الضيف الذي يستقبل، الكتبة أصحاب الميول الفرّيسية) تمنعنا من التفكير في تقديم كلمة يسوع تقدمة بسيطة في 15:2- 17. فأورد الخبر انطلاقًا من تذكر تاريخي. لاموا يسوع لأنه صار شبيهًا بالخطأة (رج مت 11: 19وز)، لأنه يخسر من "شعبيته " حين يجلس مع العشّارين للطعام فأجاب مؤكّدًا أنّ رسالته (جئت= أُرسلت من الله) تتوجّه خاصّة إلى الخطأة، أي الذين يضعونهم "رجال الدين " على هامش المجتمع. فالنداء إلى الملكوت كما يعلنه يسوع في كرازته يعني بصورة خاصّة الخطأة الضالين الذين ذهبوا إلى البعيد (لو 15: 1- 8: النعجة الضالّة)، وكل الذين يبعدهم "الأبرار" ويجعلونهم على هامش الحياة. هؤلاء لا بدّ من دعوتهم إلى مائدة الله في جماعة البشر. إنّهم خراف ضالّة نذهب في طلبها (مت 9:9).
إنّ سامعي يسوع الذين يعرفون مثله العهد القديم، يعلمون أنّ يهوه راعي إسرائيل الصالح يعتبر كل إسرائيل شعبه الذي يخصه، وهو لا يسمح أن يُرذَل عضوٌ من أعضاء هذا الشعب ويهلك. إذن، اختار يسوع بيت لاوي ليدلّ على رحمة الله الذي يريد أن يجمع شعبه كلّه بواسطة يسوع ليجعل منه شعب الله الاسكاتولوجيّ، وذلك ساعة يتأسّس الملكوت.
خبرٌ عمل فيه التقليد كثيرًا، فكيف قرأه متى الإِنجيلي (وجماعته) وكيف فسّر ظهور يسوع؟

3- التدوين المتاوي.
بدّل متى موضع شفاء المخلّع (مر 2: 1-2؛ مت 9: 1-8) فجعله لا في بيت من بيوت كفرناحوم، بل في الطريق التي تقود من بحر الجليل إلى المدينة، أي إلى مدينة يسوع الخاصّة (9: 1). وفي الطريق، حين جاء يسوع "من هناك " (آ 9) حصل نداء العشّار الذي لا يسمَّى لاوي في الإِنجيل الأوّل، بل متى.

أ- نداء متى العشّار (آ 9).
حين كان يسوع ذاهبًا من شاطئ البحيرة إلى بيته في كفرناحوم، دعا العشّار الجالس إلى مكتب الجباية. منذ ذلك الوقت صار متى من جماعة التلاميذ الذين أبرز مت 18:8 ي أمانتهم المثالية في اتباع يسوع. فالنداء غير المشروط والطاعة الفوريّة يُميّزان أخبار الدعوة في العهد الجديد ويدلّان في الوقت عينه على سلطة يسوع المواهبية التي لا تجاريها سلطة، وعلى خضوع التلاميذ لهذه السلطة خضوعًا مطلقًا.
إذا وضعنا جانبًا تبديل اسم المدعو (من لاوي إلى متى) تبدو التبديلات التدوينية طفيفة من مر 14:2 إلى مت 9:9 . اعتاد متى أن يجعل اسم "يسوع " في بداية المقطوعات. ويعود في الوصلات التدوينية إلى إشارة مكانيّة غامضة "من هناك " (أكايتن). لا يشاهد يسوع "لاوي بن حلفى" بل "رجلاً اسمه متى"، وهي عبارة من تدوين متى تمنعنا أن نرى في متى اسمًا آخر للاوي. فالتعبير يفرض علينا عكس ذلك: أن نلاحظ أن صاحب الإِنجيل الأوّل أحلَّ متى محل لاوي. أحلَّ العشّار المغمور رجلا من مجموعة الإثني عشر يسمّيه بوضوح في لائحة الرسل: "العشار" (مت 3:10).
لماذا تبديل الاسم هذا؟ يبدو الجواب واضحًا. اختلف متى الإِنجيلي عن مرقس فماثل مجموعة تلاميذ يسوع مع الإثني عشر أي لا فرق بين الإثنين، والإثنا عشر هم تلاميذ يسوع. فليس ليسوع إلاَّ إثنا عشر تلميذًا. بما أنَ لاوي غير موجود بين الإثني عشر، فيجب أن يحل محله متى.
إنّ صاحب الإِنجيل الأوّل الذي كرَّم الرسول متى إكرامًا خاصا قدّمه "كالعشّار" في مجموعة تلاميذ يسوع. إنّه نموذج عن الذين دعاهم يسوع (آ 13) الذي سُمِّي في مكان آخر: "صديق العشّارين والخاطئين " (مت 11 : 19).

ب- مأدبة للعشّارين (آ 10- 13).
وكانت وليمة للعشّارين في بيت يسوع الذي يحدّد متى موقعه في كفرناحوم. ويبدأ المشهد بعبارة توراتية: "وحصل، وكان أن" كما في السبعينية. وزاد الكاتب: "وها إن ". يلجأ متى إلى هذه العبارة في المقدمة ليصوّر أحداثا تكشف بصورة ملفتة لاهوت يسوع، أو أعمالاً تدلّ على عظمته الإلهية وقدرته. إذن، يستعمل الإِنجيلي هذه العبارة ليلفت نظرنا مسبقًا إلى مضمون خبره المهم.
شدّد متى على أنّ العشّارين والخاطئين "جاؤوا" إلى بيت يسوع. فالوضع ينتج عن ما رواه الإِنجيلي سابقًا: سمع الخطأة عن غفران حصل عليه المقعد، سمع العشّارون عن نداء وُجّه إلى متى، فجاؤوا الآن إلى ذلك الذي لا يعاملهم باحتقار مثل الفرّيسيين، بل يدعوهم إلى مائدته.
نشير هنا إلى اختلاف بين لوقا من جهة، ومرقس ومتى من جهة أخرى. نقرأ في مت 9: 10 "وكان أنّه، حين كان على المائدة في البيت، وها إنّ عشّارين ". لا يحدّد النص البيت، ولهذا ذهب بعض الشرّاح فاعتبروا أنّه بيت لاوي. ونقرأ في مرقس بطريقة أوضح: "وكان أنّه اتّكأ إلى المائدة في بيته ". إذن، أولم يسوع وتلاميذه وليمة للعشّارين والخطأة، بانتظار الوليمة العظمى، وليمة العشاء السري. أما لوقا فقال بوضوح: "وأقام له لاوي وليمة كبيرة في بيته " (آ 29). هنا نلتقي مع وليمة أخرى أولمها عشّار آخر اسمه زكّا (19: 1- 10) وانتهت في المعنى عينه: "فإبن الانسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم ".
إن المأدبة في بيت يسوع هي صورة عن الوليمة الاسكاتولوجيّة التي تحدّث عنها يسوع سابقًا: "كثيرون يأتون من الشرق والغرب ويتكّئون في الوليمة مع أبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأمّا أبناء الملكوت فيُطرحون خارجًا في الظلمة" (مت 8: 11- 12). لا يرسم متى هنا واقعًا تاريخيُّا من حياة يسوع فحسب، واقع الواعظ المتجوّل الذي يأتي مع تلاميذه إلى بيت لاوي، بل يجعل خبره في إطار الوليمة الاسكاتولوجيّة حيث تستقبل رحمةُ الله الخطأة العديدين.
حسب متى، تشكك الفرّيسيون من تصرّف يسوع، لا "الكتبة الذين من حزب الفرّيسيين " (مر 2: 16). فالمقطوعات الثلاث في هذه المتتالية تنتظم حول محاوري يسوع المتنوّعين: الكتبة حين شفى المخلّع (كما في مرقس). الفرّيسيون خلال الطعام مع العشّارين. تلاميذ يوحنا (مر: والفرّيسيون) حين طُرح السؤال حول الصوم. وهكذا برزت صراعات بين يسوع ومختلف المجموعات في إسرائيل، هذا الشعب (شعب الله) الذي أُرسل إليه يسوع فلم يجد عنده إيمان، كما أشار متى إلى هذا الأمر مرارًا. وموضوع الصراع يحدِّد في كل كلمة حالة مجموعة المعارضين (وموقفهم يرمز إلى رذل إسرائيل ليسوع)، ولكنّهم في النهاية يكوّنون جبهة موحّدة في وجه يسوع.
سأل الكتبة تلاميذ يسوع: لماذا يأكلون مع العشّارين والخاطئين؟ دوّن متى نصه بطريقة تعليميّة فأبرز جواب يسوع ليبرّر تصرّفه. شدّد على أن يسوع أجاب على سؤال الفريسيين بصفته "المعلّم ". حين كلّموا التلاميذ عنه قالوا "معلمكم "! يسوع هو معلّم تلاميذه (ومعلِّم الكنيسة التي يرسل إليها متى إنجيله)، المعقم الذي يعلّم بالكلمة والعمل، المعلّم الذي يسرّنا أن نتعلّم منه: "إذهبوا وتعلّموا" (آ 13).
إذن، ليس يسوع فقط مسيح الكلمة والعمل، بل المعلّم بالكلمة والعمل، بل المعلّم الذي توافق أعمالُه أقواله، عكس الفرّيسيين والكتبة الذين "يقولون ولا يفعلون " (مت 3:23) أراد متى أن يبيّن أنّ يسوع هو المعلّم الحقيقي الذي عنده يتوافق التعليم والعمل (رج 5: 19؛ 7: 21- 23؛ 7: 24- 27)، بل يكون التعليم والعمل واحدًا. فعلى التلميذ أن يتعلّم من يسوع وهو يقدر أن يتعلّم منه لأنّ "نيره هيّن وحمله خفيف " (11: 30)، لأن شريعته شريعة الوداعة والتواضع (11: 29).
ويبرز نص متى سلوك يسوع في شكل جديد. فالعبارة "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، بل المرضى" تبدو واضحة للجميع وهي تتحقّق في الأعمال. إنّ يسوع يعمل كالطبيب الذي يجترح المعجزات: يشفي المرضى ويترك دَين الخطأة. ويدعو سامعيه ليكتشفوا معنى عمله: "إذهبوا وتعلّموا"، يعني هذا الذي فعلته. حينئذٍ أورد متى هو 6: 6: "أريد الرحمة لا الذبيحة". هذا يعني أن ما يوجّه سلوكه هو معرفة إرادة الله التي يجب على سامعيه أن يعرفوها أيضًا ويحقّقوها كما وردت عند الأنبياء. بما أنّ اليهود يقرّون بسلطة الكتب المقدّسة، فحين أورد لهم يسوع نص هوشع لم يترك لهم أي عذر: إنّهم مُجبَرون على الإقرار بأنّ سلوكه قد أراده الله، وإلا لم يبقَ لهم إلاَّ أن يرفضوا إرادة الله.
ويعبَّر عن إرادة الله بكلمة "الرحمة". فيسوع يدلّ في سلوكه على رحمة الله لأنّه يعتني بالخاطئين: "فأنا ما جئت لأدعو الصالحين بل الخاطئين ". هنا نشير إلى أنّ لوقا زاد: "إلى التوبة" فصار كلام يسوع: "ما جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخاطئين " (آ 32). زاد هذه العبارة ليوضح موضوعًا عزيزًا على قلبه (13: 1 -5، 15: 1ي؛30:16).
إن يسوع ينجّس نفسه في نظر الفرّيسيين حين يعاشر العشّارين والخاطئين. وهذه المعاشرة تجعله غير قادر على المشاركة في الطقوس وشعائر العبادة. ولكن يسوع قلَب هذه النظرة رأسًا على عقب. قال في خطبة الجبل: "حين تقدّم ذبيحة على المذبح وتتذكّر أنّ لأخيك عليك شيئًا، فاترك ذبيحتك هنا أمام المذبح. إذهب أوّلا وصالح أخاك ثمّ عد وقدّم قربانك " (مت 23:5- 24). فالطقوس والذبائح تأتي بعد عمل الرحمة والمصالحة. والذي يقلب تراتبية القيم هذه يستحقّ توبيخ أشعيا حين قال: "هذا الشعب يكرِّمني بشفتيه، وأمّا قلبه فبعيد عنّي. فالعبادة التي يؤدّيها لي باطلة؛ والتعاليم التي يعلّمونها ما هي إلاَّ فرائض بشريّة. (مت 7:15- 9). إنّ تصرّف يسوع الذي يدلّ على إرادة الله ورحمته، يضع البشر هكذا أمام حُكم الله ودينونته. فماذا سوف يعملون؟
أي روح سيكون روح التلاميذ؟ ما الذي يجب أن يظهر أوّلاً عند الرسل؟
ما الذي يجب أن يمارسه المسيحيون الذين سمعوا نداء المسيح؟ خلال الوليمة نفهم كيف يكون تلميذ يسوع الذي يحب لوقا أن يرينا إيّاه مدعوًّا إلى الطعام (36:7 ي؛ 12: 38 ي؛ 14: 1ي؛ 19: 1ي). حين يأتي إلى بيت العشّار، فهو لا يتنجّس، بل يقدّس الذين يقتربون منه. وهكذا يقدّس التلاميذ العالم فيقدّمون الخلاص للجميع، للأبرار كما للخاطئين. إنّهم لا يهتمّون بخلاص يحصلون عليه بممارسات خارجيّة. بل بالحبّ الذي يتجرّأ على كل شيء فيصير كل شيء للجميع ليربحوا أكثر عدد ممكن (1 كور 22:9).

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM