آلام يسوع وقيامته :" ملحق"

 

ملحق
من يسمع كلامي
6: 46- 52

تنتمي هذه الآيات إلى خطبة يسوع التي تمتدّ على ثلاثة أقسام: مجموعة التطويبات (طوبى، هنيئاً) والتويّلات (الويل). ثم توسيع فقاهي يبدأ في آ 27 ويتوجّه إلى "السامعين" فيدعوهم إلى محبّة الأعداء والامتناع عن كلّ دينونة. والقسم الثالث يتطرّق إلى فضيلة السماع: مَن يسمع كلامي ويعمل به. مَن لا يسمع كلامي ولا يعمل به.
1- قراءة إجماليّة
قدّم لوقا هنا في إنجيله خطبة كبيرة ليسوع، توجّهت بشكل خاص إلى التلاميذ. هي خطبة تجسّد في نظره تعليمات أعطاها يسوع لهؤلاء الأشخاص الذين سيكونون في الجليل الشهود لكرازته وتعليمه وأشفيته. إعتاد الشراح أن يسمّوا هذه الخطبة "عظة السهل" (هضبة، مكان منبسط) (6: 17)، ويقابلوها مع "عظة الجبل" في مت 5- 7. في متّى، توجّه الكلام إلى الجمع وإلى التلاميذ (5: 1: رأى الجموع. دنا تلاميذه. أخذ يعلّمهم). أمّا في لوقا فتوجّه إلى التلاميذ في أيام يسوع، ولكنه لم ينسَ تلاميذ يسوع على مرّ العصور. لم ينسَ كنائسنا وما فيها من مؤمنين.
الخطبة اللوقاويّة أقصر من الخطبة المتاويّة التي تزيدها بـ 107 آيات وربّما بـ 109 آيات. ورغم اختلافات عديدة بين الخطبتين، هناك أساس واحد يعود إلى المعين الذي استقى منه متّى ولوقا. أمّا التشابهات بين مت ولو فتبرز في النقاط التالية: (1) الموضوع: التعليم حول السلوك المطلوب من التلاميذ، من الجموع. (2): التطويبات. (3) المضمون: ما نجده عند متّى نجده عند لوقا. تتّخذ كلمات يسوع بُعداً اسكاتولوجياً. وهناك محبّة القريب بل محبّة الأعداء. (4) الخاتمة: مثَل البيتين مع نداء إلى السامعين بأن لا يكتفوا بالسماع، بل ينتقلوا إلى العمل. (5) مناسبة الخطبة: في بداية حياة يسوع الرسوليّة، وقبل شفاء ابن قائد المئة. (6) الموضع: "ألقيت" خطبة متّى على الجبل، ففعل يسوع كما فعل موسى. أمّا في لوقا، فقد "ألقيت" بعد أن نزل يسوع من الجبل إلى سهل يصله بالعالم كلّه.
إنّ عظة السهل هي نموذج عن كرازة يسوع بحسب القدّيس لوقا، ولهذا نحن نقرأها داخل إنجيل لوقا كلّه. بدت كتعليم يتوجّه إلى التلاميذ، فتوخت تحديد طريقة حياة يعيشونها. ولكنها ارتبطت أيضاً برسالة يسوع كما نجدها في الإنجيل الثالث: جاء ليبشِّر المساكين والسجناء والعميان والمسحوقين في أيامه (رج 4: 18). في المقطع السابق أبرز لوقا في الشعب المتجمّع حوله أولئك الذين يريدون أن سمعوا له (6: 18: جاؤوا ليسمعوه). والآن، ها هو يقدّم يسوع متجاوباً مع ندائهم. وما قرأناه في 6: 18 يجد صداه في 6: 27: "أقوله لكم أيها السامعون". وفي 6: 47: "كل مَن يجيء إليّ ويسمع كلامي".
كلمات يسوع في هذه الخطبة تتوجّه إلى الإنسان في وجوده اليومي. غير أن التطويبات والتويّلات تجعلنا في بُعد اسكاتولوجي، في بُعد يتعدّى بعض الشيء الحياة اليوميّة. ونلاحظ في آ 39- 40 (أعمى يقود أعمى) صورة عن وضع الكنيسة في أيام لوقا، وانعكاساً لتعليم خاطئ يعطيه بعض المعلّمين للتلاميذ. تجاه هذا، يشدّد 6: 40 على أن التلميذ لا يمكن أن يكون أفضل من معلّمه. إنّ هدفه، كل هدفه، أن يكون مثل معلّمه الذي هو في النهاية يسوع المسيح.
2- قراءة تفصيليّة
هناك قسم أول في خطبة السهل في حصر المعنى (6: 27- 36)، وهو يتحدّث عن محبّة الأعداء. وقسم ثان (آ 37- 42) يمنعنا من دينونة الآخرين. وقسم ثالث (آ 43- 45) موضوعه الشجرة وثمرها، كصورة عن أعمال الإنسان الصالحة والطالحة. والقسم الرابع (آ 46- 49)، موضوع درسنا، يتحدّث عن البيت الذي يدلّ على حياة الإنسان.
كيف تدعونني (آ 46)؟ هنا يبدأ القسم الأخير من عظة السهل، ويشدّد على ضرورة العمل بأقوال يسوع. هو يقابل مت 7: 24- 27 الذي يختتم بدوره عظة الجبل. تأتي هذه العبارة بشكل مقدّمة لنمثل الذي سيعطيه يسوع. قال متّى: "ليس من يقوله لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات، بل مَن يعمل إرادة أيي الذي في السماوات" (مت 7: 21). كانت عبارة لوقا أصيلة، فأعاد متّى صياغتها.
"يا ربّ، يا ربّ". إن يسوع يرذل التلميذ الذي يكتفي بمعرفة خارجيّة به، بعلاقة سطحية معه. إنّ هذا التعليم يقدّم على مستوكما العلاقة مع يسوع، وهي علاقة التلميذ بمعلّمه. أمّا متّى فيتحدّث عن الرباط بالمسيح وكأنه "دخول إلى الملكوت". أجل، أن نقول: يا ربّ، يا ربّ، أمر صالح في حدّ ذاته. وهو ضروري. غير أنه لا يكفي. فاعتراف الشفتين يجب أن يقابله اعتراف الحياة الملموسة في أعمال يراها الناس ويمجّدون الله الذي في السماء.
تحدّث متّى عن إرادة الله، يعني متطلّباته في الحياة اليوميّة. أمّا لوقا فشدّد على العمل بما يقوله يسوع. هذا يعني أن كلمات يسوع هي تعبير عن إرادة الله. ومَن عمل بها عمل بإرادة الله. وهنا نفهم معنى فعل "عمل". لسنا فقط أمام ممارسات خارجيّة وإن كان للمارسات الخارجيّة دورها في الشهادة لله. ولسنا فقط أمام عواطف باطنيّة، وإن كان الداخل هو الذي يشرف على الخارج، وإن كان من قلب الإنسان يخرج الشّر والخير. حين يتحدّث النصّ عن "عمل" فهو يدلّ على أفعال تلزم الإنسان كلّه في المحيط الذي يعيش فيه.
"كل مَن يأتي إليَّ" (آ 47). هناك ثلاث مراحل: يأتي. يسمع. يعمل. هذا هو الوجه الحقيقيّ للتلميذ. هناك أولاً المجيء. قال يسوع للتلميذين اللذين تبعاه: "تعاليا وانظرا" (يو 1: 39). "فجاءا". وإذ أخبر اندراوس أخاه بطرس "جاء به إلى يسوع" (يو 1: 42). والخطوة الثانية التي شدّد عليها لوقا هي السماع. فمن يسمع الكلمة هو كالأرض الطيّبة التي تثمر ثلاثين وستين ومئة. فمن يسمع كلام الله هو سعيد شرط أن يعمل به. والخطوة الثالثة هي العمل. إنها تكلّل مسيرة المؤمن. وهي الغاية التي طلبها أولئك الذين جاؤوا إلى يسوع من أجل الشفاء من أمراضهم (6: 18).
"رجل بنى بيتاً" (آ 48). تحدّث متّى عن بيت ضعيف البناء. يأتي السيل فيجرفه. وعن بيت بُني على الصخر. "نزلت المطر، سالت الأودية، عصفت الرياح" (مت 7: 24)، فلم يسقط. أمّا لوقا فطبّق المثل على المحيط اليوناني (لا المحيط الفلسطيني) الذي يعيش فيه. هناك يجب أن يحفر الباني ويعمّق الأساس لأننا لسنا أمام سيل وحسب، بل أمام سواقي تجري بصورة متواصلة.
تحدّث متّى عن الإنسان الجاهل الذي لا يرتكز على الله، بل ينكر الله كما قال مز 14: 1. وعن الإنسان العاقل الذي يعارض في سفر الأمثال البليد والكسول والمستهزئ، الذي تنقصه الحكمة والفطنة. ولا ننسَ أنّ الحكمة ترافق مخافة لله. أما لوقا فتحدَّث فقط عن رجلين يسمعان، فيعمل الواحد ويتكاسل الآخر. واحد يجعل لبيته أساساً عميقاً، والآخر يبنيه بدون أساس البتّة.
على ماذا يدلّ السيل والنهر؟ على الأضرار التي تحدثه المياه الغامرة في حياة الإنسان. على ما يسميّه لو 8: 14 "الهموم والغنى وملذّات الحياة الدنيا" التي تمنع الأرض من إعطاء الثمر. المياه تدلّ على الاضطهاد الذي يصيب المؤمن، تدلّ على المحن (المياه الغامرة) التي تحل به. قد يحسب نفسه في أمان، ولكنه غافل عن نفسه. ينهار ذاك البيت، كما تنهار حياة التلميذ الذي تجاهل نداء يسوع وتعليمه.
لا ننسَ هنا مفهوم البيت في عالم الكتاب المقدّس. يقول مز 127: 1: "إن لم يبنِ الرب البيت، فعبثاً يتعب البنّاؤون". والبيت هو اكثر من بناء خارجي صُنع بالحجر والطين والخشب. إنه يدلّ أيضاً على العائلة بأفرادها، على القبيلة، على السلالة الملكيّة. وفي الإنجيل، يدلّ "البيت" على بيت الله، على الكنيسة. هذا هو معنى مر 9: 33: "وإذ كان في البيت سألهم" عمّا كانوا يتجادلون في الطريق. وهكذا لن يعود البيت يدلّ فقط على حياة التلميذ وارتباطها بتعليم يسوع، بل يدلّ أيضاً على الكنيسة وعلى جماعة الله.
خاتمة
هذا المئل وما فيه من صورتين تتعارضان، صورة البيت المبنيّ على الصخر، وصورة البيت المبنيّ على الرمل، هذا المثل يختتم خطبة "السهل" كلّها. هل نحن مستعدّون، أفراداً وجماعات، أن نبني بيتنا على صخرة الله، على أساس يسوع المسيح؟ في بداية هذا القسم كان سمعان بطرس قد قال: "لأجل كلمتك ألقي الشبكة" (5: 5). وهنا نستطيع أن نردّد القول عينه. فإذا أردنا أن نكون أمناء لدعوتنا كشهود لله، إذا أردنا أن نصطاد البشر للحياة، يجب أن نترك كل شيء ونتبع يسوع. يجب أن نرتدّ إلى تعليم التطويبات، ونجذّر شهادتنا في مصير ابن الإنسان. هذا ما عاشه اسطفانس، أول الشهداء، الذي امتلأ من الروح القدس، فكان التلميذ الحقيقيّ الذي تبع يسوع حتى النهاية، حتى الموت. وعلى مثال معلّمه أسلم روحه بيد الله من أجل الشهادة للمسيح ولإنجيله. هكذا بنى حياته. هكذا بنى الكنيسة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM