الفصل الحادي والأربعون: قيامة المسيح في إنجيل لوقا

 

الفصل الحادي والأربعون
قيامة. المسيح في إنجيل لوقا

1- بنية الفصل
إن رواية ظهورات يسوع القائم من الموت في لو 24: 13- 48، يحيط بها خبر اكتشاف القبر الفارغ (24: 1- 12) وخبر الصعود (24: 50- 53). هدفها هدفان كما يقول لوقا نفسه في بداية أع (1: 3- 8): تقديم البراهين على القيامة وبالتالي تأسيس إيمان التلاميذ (24: 36- 43). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تسليم الرسل مهمة الشهادة، وبالتالي حمل الإنجيل إلى جميع الأمم (آ 44- 48).
نستطيع أن نقسم لو 24: 13- 48 على المستوى الأدبي، إلى مقطعين كبيرين: ظهور لتلميذَيْ عمّاوس (آ 13- 35). ظهور للرسل ولرفاقهم المجتمعين معهم في العلية (آ 36- 48). وتنطبع بنية المجموعة (24: 1- 48) بوجود ثلاثة مواضيع تعود في كل من الأخبار التي تؤلف هذا الفصل. فبالنسبة إلى اكتشاف القبر الفارغ، بالنسبة إلى ظهور يسوع على تلميذيْ عمّاوس أو على الأحد عشر، نجد في كل مرة ما يلي: علامة، ظهور، تفسير الكتب المقدسة. مع فارق بسيط بالنسبة إلى القبر: تراءى ملاكان عند القبر، ولم يتراءَ يسوع نفسه.
أما فيما يخصّ بنية هذا الفصل، فنلاحظ عناصر متوازنة. من جهة، ذهب بطرس إلى القبر، ولكن مسيرته لم تصل به إلى فعل إيمان، وخاب أمل الرسل (آ 12). ومن جهة ثانية، رأى بطرس يسوع فآمن الجميع تجاه شهادته (آ 34).
نية هذا الفصل ظاهرة، ومع ذلك فهي تطرح عدداً من المسائل الأدبية لا بدّ من الاجابة عليها إذا أردنا أن نكتشف التعليم الذي أراد لوقا أن ينقله إلينا.
2- المسائل الأدبية
نتوقف هنا عند قسمين: تماسك النصوص، الفن الأدبي.
أ- تماسك النصوص
حين نقرأ النصّ قراءة أولى ينتابنا شعور بالطراوة والراحة. ولكن حين نتمعّن فيه، نحسّ بالصعوبة، لا سيّما حين نقابل خبر لوقا مع الملخَّص القصير الذي قدّمه لنا مر 16: 1- 20. ماذا كانت ردّة فعل الاحد عشر، حين رجع التلميذن من عمّاوس إلى أورشليم؟ حسب مر 16: 13: "لم يصدّقوهما هما أيضاً". وقد سبق لهم فلم يصدّقوا شهادة النسوة. حين سمعوا مريم المجدلية تقول لهم إن يسوع حي وإنها رأته، لم يصدّقوها (آ 10؛ رج لو 24: 11: "كان هذا الكلام عندهم بمنزلة الهذيان، ولم يصدّقوهنّ").
كنا ننتظر ذات ردّة الفعل في خبر لوقا. ولكن يبدو وكأن التلميذين لم يكن لهما الوقت الكافي لكي يدليا بشهادتهما. فالأحد عشر ورفاقهم يؤمنون (منذ الآن) بالقيامة ويعلنون إيمانهم (24: 33: قام الرب حقاً وظهر لسمعان). ومع ذلك، حين يظهر لهم يسوع بعد ذلك الوقت بلحظات، لم يريدوا أن يصدّقوا. حينئذٍ يوبّخهم يسوع توبيخاً قاسياً (آ 26- 38). يبدو أننا لا نجد تماسكاً ظاهرياً على مستوى النصوص.
ولكن نتساءل: أما لاحظ مر عدم التماسك هذا؟ وإذ أراد أن يتجنّبه، أحلّ محل فعل إيمان التلاميذ المجتمعين في العلِّية، حاشية تتناسق مع سياق الخبر. كان لوقا قد كتب: "هذه هي الحقيقة! الرب قد قام وظهر لسمعان". أما مرقس فكتب: "لم يصدّقوهما (تلميذَي عمّاوس) هما أيضاً". ولكن كيف نفهم حينئذٍ خيار لوقا، وأية قيمة تاريخية ننسبها إليه؟ ونزيد أيضاً "تعارضه" مع نفسه فيما يتعلّق بكرونولوجيا الأحداث.
نعرف حسب أع، أن الصعود حصل بعد القيامة بأربعين يوماً (أع 1: 13. وحسب الإنجيل الثالث، تمّ الصعود في مساء يوم الفصح والقيامة. نقرأ في لو 24: "في اليوم الأول من الاسبوع" (آ 1، جئن مع الفجر إلى القبر)... "وفي ذلك اليوم عينه" (آ 13، كان اثنان منهم)... "وقاما على الفور" (آ 33، في تلك الساعة، في ذلك الوقت)... "وفيما هم يتحدّثون" (آ 36، وقف هو نفسه)... "ثمّ قال لهم" (آ 41: هل عندكم طعام)... "ثمّ خرج بهم نحو بيت عنيا"... "ورُفع إلى السماء" (آ 50- 51). حين نقرأ كل هذه الرواية نحسّ تارة أننا أمام كتاب ليتورجي، وطوراً أمام نصّ موجز ومجرّد من كل الصور. ونعود إلى التفاصيل:
* مسافران يسيران في الطريق. يعودان إلى بيتهما. إنضمّ إليهما مسافر ثالث، دخل في الحديث معهما، سألهما. "وقفا واجمين، كئيبين" (آ 17). كيف احتفظ التقليد خلال سنوات عديدة بتفاصيل يمكن أن نهملها؟ المهمّ أن "الراوي" قد شعر بالدهشة التي سبّبها سؤال يسوع، بحيث توقّفا عن السير، لا سيّما أنهما لم يكونا مندفعين فيه. ظنّ البعض أننا أمام برهان يدلّ على أن لوقا سمع الخبر من أحد المسافرين (ربما كليوبا). ولكن أما يوجد تفسير آخر يدلّ على أن لوقا انطلق من التقليد وروى خبره بطريقة بارعة؟ فالمهمّ ليس التفاصيل، بل التعليم اللاهوتي الذي سوف نستخلصه.
* ورُوي الوصول إلى عمّاوس بطريقة حيّة. "ولما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها، تظاهر بأنه قاصد إلى مكان أبعد" (آ 28). يرى لوقا أن يسوع منذ لقائه بهما تظاهر بأنه يجهل موضوع حديث هذين المسافرين (آ 17). لن نتساءل كما فعل البعض عن "صدق" يسوع حين تظاهر بأنه يجهل: نحن أمام جمالات أدبية توافق نواميس الفنّ التاريخي الذي عرفه لوقا في أيامه. أعاد الإنجيلي الثالث خبره بفن كبير منطلقاً من معطيات حملها إليه التقليد.
* وكلمات المسافرين اللذين توجّها إلى يسوع: "إبقَ معنا. فإن المساء أقبل والنهار قد مال" (آ 29). لن نأخذ هذا الكلام بشكل حرفي وكأن شاهداً سجّله! لقد استعمل لوقا عبارة تهذيب عرفها الشرقي واستعملها مع ضيوفه ليدعوهم إلى البقاء عنده. هكذا لا نستطيع أن نستخلص نتائج حول ساعة وصول المسافرين إلى عمّاوس، أو حوله المسافة التي تفصل هذه القرية عن أورشليم. كل ما نستطيع القول هو أن لوقا يظهر فنَّه البارع في تقديم الرواية.
* ونجد صعوبة أخرى في آ 30 التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى. "ولما اتكأ معهما، أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما" (آ 30). إننا نجد العبارة ذاتها مع اختلافات طفيفة في أخبار تكثير الارغفة والعشاء السرّي (مت 14: 19؛ 15: 36؛ مر 6: 41؛ لو 9: 16؛ يو 6: 11. ثم: مت 26: 26؛ مر 14: 22؛ لو 22: 19؛ رج 1 كور 11: 24). لقد أراد الإنجيليون المقابلة بين العشاء الأخير وتكثير الارغفة ليفهمونا أن معجزة تكثير الخبز ترمز إلى الافخارستيا، وهذا ما أراده لوقا حين قارب بين 24: 30 والنصوص الموازية عن تكثير الارغفة والعشاء الأخير. إذن، لقد أراد لوقا أن يقيم رباطاً بين الأحداث الثلاثة: تكثير الارغفة، العشاء الأخير، العشاء مع تلميذَي عمّاوس. وهنا يُطرح سؤال لا نستطيع التهرّب منه: هل تناول يسوع في عمّاوس طعاماً عادياً، أم احتفل بالافخارستيا؟ إذا أخذنا بالمعنى الافخارستي، عدنا إلى نصوص أع التي تتحدّث عن "كسر الخبز". ما يميّز المسيحيين الأولين هو أنهم كانوا "مواظبين على كسر الخبز" (أع 2: 42). إذن، لسنا أمام طعام عادي. وإن 1 كور تدلّ على أهمية المشاركة في الخبز الافخارستي كسرّ الوحدة بين المسيحيّين (10: 16- 17).
ب- الفن الأدبي
لم يكتفِ لوق بنسخ وثائق وصلت إليه أو تسجيل شهادة، بل قدّم لنا أيضاً تفسيراً لاهوتياً للوقائع التى أوردها. لا شك في أنه لم يعتنِ بالتمييز بين الواقع وتفسيره. هذا عمل شراح الكتاب المقدّس.
سبق لنا وأشرنا إلى فنّ لوق كراوٍ بارع. ورأينا أيضاً أن إعلان التلاميذ المجتمعين في العليّة ساعة رجوع كليوبا ورفيقه، لا يتوافق كل الموافقة مع السياق. ثم إن لقب "ربّ" لم يحمل المعنى الذي سيكون فيما بعد في الكنيسة. إنه يدلّ على لاهوت المسيح. والظرف "حقاً" يبرز هذا التأكيد كما في إعلان قائد المئة (23: 47: حقاً، كان هذا الرجل باراً). كل هذا يجعلنا نظن أننا أمام عبارة فعل إيمان عرفتها الكنيسة ساعة دوّن لوقا إنجيله.
هذا التفسير يسنده نصّ رئيسي في رسائل بولس. عاد الرسول إلى تقليد الكنيسة وإلى سلسلة من الشهادات عن قيامة المسيح كمعطية أساسية للايمان (1 كور 15: 1- 5). أشار بولس، على مثال لوقا، إلى ظهور يسوع لبطرس (آ 5. لا نجد مثل هذا التلميح في أي نصّ آخر). وذكر "اليوم الثالث". وحدّد أنّ ما حدث قد حدث بحسب الكتب المقدّسة. من هنا الاهمية التي اخذها هذ التفصيل الكرونولوجي (لو 24: 7، 21، 46؛ 1 كور 15: 4). وشدّد بولس، شأنه شأن لوقا، على أن موت يسوع أتمّ الكتب (24: 7، 26- 27، 46؛ 1 كور 15: 3- 4).
قد يكون بولس ينبوع لوقا. وقد يكونا كلاهما قد استقيا من ينبوع واحد. فكلاهما لا يملكان معلومة أخرى عن ظهور المسيح لبطرس، إلا عبارة اعتراف إيماني: لم يجد لها لوقا إطاراً أفضل، فجعلها في إطار عودة تلميذَي عمّاوس. أما بولس فأشار إلى الظهور لبطرس قبل الظهور للأحد عشر (1 كور 15: 5). إن مضمون التأكيد الذي يورده لوقا لا يخسر شيئاً من قيمته التاريخية. ولكنه يبدو بشكل شهادة وتعبير عن إيمان أوضح من إيمان يوم القيامة. فالتشديد على "اليوم الثالث" هو أيضاً ثمرة تأمّل طويل على شفاه المسافرين (آ 19- 20)، وقد استلهم الكرازة الرسولية التي توردها خطب أع 21: 22- 23؛ 10: 38- 39). وما يلفت النظر بشكل خاص هو موضوع إلقاء مسؤولية موت المسيح على اليهود وحدهم و"تبرئة" بيلاطس ويهوذا (يوضاس). ق لو 24: 20 مع أع 3: 13- 14؛ 4: 10؛ 5: 30؛ 7: 52؛ 13: 27- 29. والحديث عن موسى يعود بنا أيضاً إلى الكرازة الرسولية: نبيّ بالقول والعمل (24: 19؛ ق أع 7: 22؛ رج 3: 23؛ 7: 37 حيث يقابل يسوع مع موسى). إذن، نقدر أن نرى في خطبة تلميذَي عمّاوس بناء لوقاوياً نسج بها معطيات ينبوعه القليلة بواسطة معطيات أوسع جاءته من الكرازة الرسولية. هذا ما يوافق نواميس الفن التاريخي في عصره.
وهل نظن أن يسوع أعطى في أحد القيامة ثلاثة دروس كتابية؟ درس أعطاه الملاكان للنسوة (آ 6- 7). درس أول أعطاه يسوع للتلميذين على طريق عمّاوس (آ 27). درس ثانٍ أعطاه يسوع أيضاً للاحد عشر ورفاقهم المجتمعين في العفية آ 44- 47). عاد لوقا مراراً إلى الموضوع نفسه، واستعمل لفظة "جميع" (كل)، وهذا ما يدعونا إلى تفسير خبره بشكل واسع: إنه يورد في خطبة واضحة ما كان في البداية متضمّناً في الوقائع.
كل هذه الملاحظات تساعدنا على التمييز تميّزاً أفضل بين النواة التاريخية للوقائع التي أوردها الإنجيلي، وعمله الادبي واللاهوتي، ووعي الكنيسة خلال عشرات من السنين لحقائق إيمانية دلّت عليها الوقائع.
3- النواة التاريخية
أ- واقع القيامة
إن الواقع العظيم الذي هو في قلب خبر لو 24 هو المعلن في آ 6: "قد قام". وكل الباقي يتوخّى أن يقدّم لنا شهادات من أجل هذا الواقع، ويستخلص من هذه الشهادات النتائج.
إن الشهادات المؤدَّاة لقيامة المسيح، تتأسّس بشكل رئيسي على الظهورات. هناك أمور جانبية وتفصيلية. أما الواقع المركزي فمسند اسناداً متيناً. هناك ظهور الملاكين للنسوة وشهادتهما التي لا تردّ. وظهور يسوع لتلميذَي عمّاوس أمر لا شكّ فيه. لم يعرفا يسوع حالاً، ولكنهما احتاجا إلى علامة فأعطيت لهما. سنعود إلى هذه العلامة فيما بعد. ولكننا نلاحظ منذ الآن أن حضور يسوع وعلامة اعطاها عن نفسه كانا ضروريين ليقودا هذين التلميذين من عمق يأسهما إلى "التعرّف" إلى المسيح الحيّ. ولكن لوقا يعرف أن هذا الظهور ليس ببرهان. فالظهور الذي يقدّمه كدلالة متينة هو الظهور قي العقية.
هذا الظهور تمّ في مساء الفصح حسب الاشارات الكرونولوجية في لو 13: 36، وحسب ما يقوله أيضاً يو 20: 19: "في مساء ذلك اليوم عينه، في اليوم الأول من الاسبوع". وزاد يوحنا تفصيلاً يساعدنا على فهم السبب الذي لأجله حسبَ التلاميذُ يسوعَ أولاً بأنه خيال. قال: "كانت الابواب مغلقة خوفاً من اليهود، حيث كان التلاميذ". لا شكّ في أنهم يخافون أعداء يسوع. بعد أن قتلوا يسوع، قد يحاولون أن يفنوا تلاميذه. ويسوع كان قد نبّههم إلى ذلك. "إذا كانوا اضطهدوني، فسوف يضطهدونكم أيضاً" (يو 15: 20). إن الابواب المغلقة تدلّ على أن جسد يسوع القائم من الموت، يفلت من نواميس العالم المادي. فالمسيح دخل بقيامته إلى عالم جديد. وهذا التحوّل يتيح لنا أن نفهم لماذا لما يعرفه تلميذا عمّاوس ولا الرسل ورفاقهم في العلّية.
ثمّ، يقول لوقا، إنهم خافوا، كما خافوا حين جاء إليهم يسوع ماشياً على الماء (مر 6: 47- 50). ليس من قبيل الصدف أن يتصرفوا بالشكل عينه في كلا الظرفين: فالسير على المياه لم يكن فقط علامة عن قدرة الله، بل صورة مسبقة عن حالة يسوع القائم من الموت.
لا ندهش أمام حيرة التلاميذ وقلقهم، أن يظنوا نفوسهم أمام خيال. فيسوع هذا النبيّ العظيم، يمكنه أن يظهر مثل صموئيل في عين دور (1 صم 28: 8 ي). لهذا، بدأ يسوع فأعطى علامات تبرهن أنه هو حقاً: "أنظروا يديّ ورجليّ. أنا هو" (آ 39). ويثبت دقّة هذا التفصيل ما يقول الإنجيل الرابع الذي يذكر جراحات يسوع لا يديه وجنبه (يو 20: 20- 29).
لا يكفي أن يتعرّف التلاميذ في الظهور إلى الذي كان ميتاً. عليهم أن يتأكدوا أنهم ليسوا أمام خيال، بل أمام كائن قد قام حقاً. من هنا جاء التشديد على الاتصال بجسد يسوع: "جسّوني وانظروا، فإن الروح لا لحم له ولا عظم كما ترون لي" (آ 39). لا يجهل يوحنا هذه الاهتمامات، ولكنه يذكرها في رسالته الأولى (1: 1): "هذا الذي هو من البدء، هذا الذي سمعناه، هذا الذي رأيناه يعيوننا، هذا الذي شاهدناه، هذا الذي لمسته أيدينا من كلمة الحياة".
ولم يكتفِ يسوع بأن يجعل تلاميذه اللامؤمنين يلمسون جسده: إذ أراد أن يعطيهم برهاناً عن واقع قيامته، طلب منهم طعاماً. "فقدّموا له قطعة من السمك المشوي، فأخذ وأكل أمامهم" (آ 41- 43). وقد أكّد على صدق هذه الطعام أع 1: 4 ويو 21: 9- 13، إلا إذا كنا أمام طعام آخر أخذه يسوع مع تلاميذه بعد قيامته. إن تكرار هذا الأمر ليلفت النظر حقاً.
لا نستطيع هنا أن نستعيد الابولوجيا (عمل الدفاع) المسيحي. فهذه الملاحظات تكفي لكي تبرز البُعد التاريخي للوقا عن واقع القيامة.
ب- متى كانت الظهورات
لا نستطيع أن نقبل بالكرونولوجيا التي يقدّمها لوقا في ف 24. فهي تتعارض مع أع 1: 3، وتعيد إلى مدى يوم واحد أحداثاً لم تتمّ في هذه الفترة القصيرة من الوقت. ولهذا، يتفّق الشّراح على القول بأن لوقا "كثّف" في إطار يوم واحد كلَّ الأخبار المتعلّقة بالقيامة.
فالقارئ المعتاد على الإنجيل الثالث، قد عرف حرّية لوقا في التعامل مع الأحداث. فمريم التي جاءت إلى اليصابات لكي تساعدها ساعة ولادة ابنها، قد عادت قبل الولادة (1: 56- 57). في الواقع، هي لم تعد إلا بعد الولادة. وهناك خبران مكثّفان نجدهما في رسالة يسوع في الناصرة: ثلاثة أحداث قد جُعلت في حدث واحد (4: 16- 30). وهناك صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 27) الذي يتضمّن عدداً كبيراً من التعاليم توزّعت في الواقع على كل حياة يسوع العلنية.
ج- عشاء عمّاوس
هنا نعود إلى عشاء عمّاوس الذي احتفل به المسيح مع تلميذين في مساء ذلك الفصح. قال بعضهم: هو عشاء عادي. فوجود يسوع يكفي، فلماذا الحاجة إلى السّر. ولكن يبقى أن "كسر الخبز" الذي قام به يسوع يذكّرنا بالعشاء السريّ. لسنا هنا على مستوى "التاريخ" و "التقرير الصحافي" لما حدث. فلوقا يقرأ لقاء الربّ مع تلميذَيه من خلال ليتورجيا افخارستية. هذه هي الطريقة الحالية لكي نلتقي بها الربّ اليوم: نسمع كلامه نشارك في عشائه. هكذا اعتاد المسيحيون الأولون أن يفعلوا (أع 2: 42).
د- مهمّة الرسل
إن مهمّة الشهود التي سلّمها يسوع إلى رسله قبل الصعود، تنتمي إلى النواة التاريخية في المقطع (آ 48). إنها هدف الخبر كله. والصعود هو الخاتمة قبل أن يكون الذروة (آ 50- 53). إذا كان القائم من الموت قد أعطى لرسله براهين ملموسة عن قيامته، فلأن هذه البراهين كانت ضرورية لتتمّة هذه المهمّة.
وقدّم سائر الإنجيليين تأكيدات لافتة أيضاً. فحسب متّى، يسوع أرسل رسله ليبشّروا كل الأمم خلال ظهوره على "جبل" في الجليل (28: 18- 20). وحسب يوحنا، منذ ليلة الفصح أعطى يسوع تلاميذه الروح القدس وسلّم إليهم رسالتهم (20: 21- 23). وخلال ظهوره في الجيل، سلّم إلى بطرس مهمة رعاية الخراف (21: 15- 17). إن هذا التلاقي في العمق، رغم الاختلاف على مستوى عرض الأمور، يدلّ على "تاريخية" الواقع الأساسي الذي هو القيامة.
4- التعاليم اللاهوتية
أ- الإيمان
أعلن بولس مع كلّ الكرازة الرسولية أن قيامة المسيح هي الموضوع المركزي في الإيمان المسيحي. والارتداد إلى المسيح يعني أن نتوجّه إلى "النور"، إلى "الحي" (24: 5)، إلى القائم من بين الاموات. فعلى كل واحد منا أن يسير مسيرة التلاميذ يوم الفصح لكي يكتشف المسيح الحيّ اليوم في كنيسته.
أولاً: قلّة الإيمان
"في صباح اليوم الأول"، لم يؤمنوا بيسوع. وهذا حقيقي إلى درجة أنهم لم يعرفوه حين تراءى (رؤي، جعلهم يرونه) لهم. "أمسكت أعينهما عن معرفته" (آ 16): وهذه الملاحظة تجري على الذين كانوا في العلّية كما على التلميذين الذاهبين إلى عمّاوس. لم يكن هذا نتيجة عمل خارق من قبل الله الذي اغمض عيونهم. بل نقصٌ في إيمانهم، قلة إيمانهم. فقسمات الوجه لم تَعُد تكفي لأن نتعرّف إلى شخص المسيح رغم قرب التلاميذ منه خلال حياته العلنية: هذا ما حدث للرسل، لسائر التلاميذ، لمريم المجدلية (24: 16؛ 24: 37- 38؛ يو 20: 14). فمسافرا عمّاوس ظلا يعتبران يسوع نبياً، نبياً عظيماً، شبيهاً بموسى (19). هو "نبيّ"، ولكنه ليس النبيّ المنتظر. كان اليهود قد قالوا: "مات ابراهيم والانبياء، أيضاً" (يو 8: 52). ويسوع كان واحداً منهم. إنه يشبه زكريا الذي قتل بين المذبح والهيكل (لو 11: 50- 51). هو "يسوع الناصري" الذي قتله اليهود أيضاً (24: 19- 20). يا لخيبة الأمل! حين الخروج من مصر، دلّ موسى على أنه رجل "مقتدر في القول والعمل" بعد أن خلّص شعبه من العبودية. ويسوع بأعماله (معجزاته) وتعليمه المليء بالمواعيد لم يكن أقل منه. ولكننا انتظرنا أن يخفص إسرئيل بدوره (آ 21) من تسلّط الرومان. ولكن التلميذين جهلا رسالة يسوع الحقيقية (9: 31). فموته الذي به افتدى العالم، بدا لهما فشلاً ذريعاً. إن انتظار التلميذين لم يكن يختلف عن انتظار الشعب اليهودي (رج أع 1: 6). وأملهما بخلاص زمني وسياسي قد دُمّر بشكل نهائي.
كانا حزينين، واجمين، مكتئبين (آ 17). حين بكت مريم المجدلية عند القبر، كان سبب حزنها حبّها للمعلّم (يو 20: 11- 15). أما ينبوع حزن التلاميذ فهو يختلف، ولهذا يوبّخهما يسوع: "ما أبطأ قلوبكما عن الإيمان... لمَ هذا الاضطراب، ولمَ هذه الهواجث تنبعث من قلوبكم" (آ 25، 38)؟ ويسوع، خلال رسالته على الأرض، سبق ووبّخهم على قلة إيمانهم. مثلاً، ساعة العاصفة على البحيرة: "لماذا أنتم خائفون، يل قليلي الإيمان" (مت 8: 26)؟ إن الخطر الذي أحدق بهم، وظهور يسوع بقدرته، هما درس لا يجب أن ينسوه: فكما نام فيما مضى في القارب، ها قد نام الآن على الصليب بضمع ساعات. رقد في القبر (23: 46) ولكنه الآن قد "استيقظ" (24: 6).
فمنذ دفن المسيح، لم يعد التلاميذ يؤمنون. بل هم يرفضون أن يؤمنوا حين جاءت النسوة وحملن الخبر بأن القبر فارغ وأن ملاكين ظهرا لهنّ وقالا بأنه حيّ (آ 23). وحده بطرس (سيكون معه يوحنا في يو 20: 2 ي) تحرّك فركض إلى القبر ليتحقّق بنفسه من الخبر. لاحظ أن جسد يسوع ليس هنا. لم يبقَ إلا الأكفان. ولكن رغم ذلك، لم يقتنع بطرس. أجل، ليس القبر الفارغ في حدّ نفسه برهاناً عن القيامة. إنه علامة وحسب.
ثانياً: دور العلامات
ولكن العلامات ليست باطلة. فقد تلعب دوراً حاسماً في ولادة الإيمان. وقد تكون ضرورية لكي نتعرّف إلى يسوع بعد القيامة. ولكنها تكون واضحة أو غامضة، لأنها ترتبط باستعدادات الانسان الداخلية. فالخاطئة التائبة اكتفت بأن يناديها يسوع باسمها: "مريم" (يو 20: 16). واكتفى يوحنا برؤية القبر الفارغ (يو 20: 8) أو بالصيد العجيب (يو 21: 4- 7). وتلميذا عمّاوس عرفاه عند كسر الخبز. أجل، نحتفظ بالعلامة، ولا نشدّد على طبيعة العلامة المعطاة (24: 30- 35). فقد احتاج الرسل إلى علامات ساطعة: رؤية جراح يسوع، لمس جسده، السمك الذي كله أمامهم (20: 39- 43).
لهذا، لا يجب أن يكون ظهور يسوع ضرورياً. لهذا يوبّخ تلاميذه لأنهم لم يؤمنوا قبل ظهوراته. فهذه الظهورات لا تلغي ضرورة العلامات، بحيث تبدو العلامات أهمّ من الظهورات. "طوبى للذين لم يروني وآمنوا". هذا ما قاله يسوع لتوما (يو 20: 29). فقبل القيامة كانت العلامات الطريق الطبيعية للإيمان (يو 2: 23؛ 20: 30- 37). وهكذا يوضح الإنجيل الرابع ما تضمنه لو 24 على مستوى الإيمان.
انبثقت ضرورة العلامات من واقع يقوله إن "التعرّف" إلى يسوع ليس تعرّفاً إلى رجل عادي. إنه فعل إيمان (آ 35- 41). نحن هنا أمام معرفة لا تتوقّف عند بشرية المسيح. هذا كان صحيحاً خلال حياته العلنية على الأرض. أما الآن فلم يعد كذلك بعد أن مرّ في الموت والقيامة. هذا ما وجب على المجدلية أن تفهمه حين ظهر لها: تمسّكت به. ولكنه أفهمها أن وضعه بعد القيامة لم يعد شبيهاً بوضعه قبل آلامه وموته.
ثالثاً: الكتب المقدسة
ما زال يسوع يوبّخ تلاميذه، كما سبق له ووبّخ اليهود لأنهم يطلبون الآيات، يحتاجون إلى العلامات. إذن، ما هو الينبوع الذي يجب أن يجري منه إيمانهم؟ هذا ما ردّده لوقا بشكل ظاهر: شهادة الكتب المقدسة هي كافية. فمنذ زمن بعيد، أعلن موسى والانبياء وصاحب المزامير (وسائر الكتب) كل ما تمّ "في هذه الأيام" (آ 18). ويسوع بنفسه شرحه لتلاميذه، ولكنهم لم يفهموا: "ما أقصر أبصاركما... ذلك ما قلت لكم إذ كنت معكم، إنه لا بدّ أن يتمّ جميع ماكُتب عني" (آ 25، 44؛ رج آ 6- 7).
إن الفكرة القائلة بأن موسى قد شهد للمسيح، تنتمي إلى التقليد الإزائي، وهذا ما يدلّ عليه خبر التجلّي. أشار متّى ومرقس إلى أن موسى وإيليا ظهرا وأخذا يتحدّثان مع يسوع. أما لوقا فكان واضحاً: "أخذا يتحدّثان عن ذهابه (خروجه، عبوره إلى الآب في الموت) الذي سيتمّ في أورشليم". نحن هنا في تلميح واضح إلى سرّه الفصحي (9: 31؛ ق 24: 14- 20). وتفرّد لوقا فاحتفظ بكلمة ليسوع حيث أعطيت شهادة موسى والانبياء شهادة مقنعة مثل شهادة من يقوم من الموتى. قال ابراهيم للعازر: "عندهم موسى والانبياء، فليسمعوا لهم" (آ 1: 27- 31). وسيشدّد يوحنا الإنجيليّ أيضاً على شهادة موسى بالنسبة إلى يسوع. قال يسوع لليهود: "إن كنتم تصدّقون موسى، فصدقوني أنا أيضاً لانه كتب عني. ولكن أن كنتم لا تصدّقون كتاباته فكيف تصدّقون أقوالي" (يو 5: 46- 47؛ رج 2 كور 3: 15- 17)؟ ولكن لوقا وحده عاد إلى هذا الموضوع في خبر القيامة.
لم يكن موضوع شهادة موسى للمسيح خاصاً بلوقا. ونقول الشيء عينه عن تتمّة الكتب. عند مرقس لم يفهم الرسل أن على المسيح أن يتمّ النبوءات بموته وقيامته (مر 9: 10- 32؛ رج 4: 13؛ 6: 52؛ 7: 18؛ 8: 17- 21، 23؛ 10: 38). إن شهادة مرقس تتحدد في الحدث عينه. أما شهادة متّى فتستفيد بشكل أوسع من ثمار تأمّل الكنيسة بعد الفصح. لهذا نجد في مت سلسلة من نصوص العهد القديم وجد فيها المسيحيون الأولون انباءات عمّا تحقّق في يسوع. لهذا كانت الردّة التي تميّز مت: "وحصل هذا لتتمّ كلمة النبي".
لم تكن كتابات بولس إخبارية، شأنها شأن الأناجيل. ومع ذلك، غاص الرسول في أسفار العهد الجديد يبحث فيها لا عن انباءات بما حدث ليسوع، ولا عن صور ورموز (رج 1 كور 10: 1 ي)، بل يطلب فيها تعاليم تلقي ضوءاً لاهوتياً على سرّ المسيح. لهذا عاد إلى الأسفار الأولى في سفر التكوين (روم 5).
وأقام لوقا ويوحنا رباطاً جديداً بين الكتب المقدسة والقيامة. أكّد يوحنا أن الكتب لن تُفهم إلاّ بعد القيامة، ساعة يتمجّد يسوع ويرسل الروح القدس (يو 2: 22؛ 12: 16؛ 13: 8؛ 14: 26). يعلن يوحنا هذه الاضاءة، ولكنه لا يروي كيف تمّت، لأنها لم تتحقّق إلا بعد العنصرة وبشكل تدريجي. أما لوقا فقال خلال الظهورات إن يسوع "فسّر في كل الكتب ما يعنيه" (24: 27). لم يعطِ القائم من الموت فهم الكتب هذا في خطبة وحسب، بل في الحدث الفصحي الذي أزاح في لحظة واحدة الظلال عن استعداد امتدّ على أجيال. لم يتوخّ لوقا أن يورد إيراداً حرفياً كلمات الملاكين للنسوة، وكلمات يسوع لتلاميذه بعد القيامة، بل أن يفهمنا هذه الحقيقة الرئيسية وهي أن الكتب المقدسة لم تسلّم كل سّرها إلا بعد القيامة وعلى ضوء القيامة. فالنور بدأ يظهر يوم الفصح. وسيتابع المؤمنون عمل فهم الكتب على مدّ حياة الكنيسة.
لهذا، لا إفادة من التساؤل عن النصوص التي ذكرها يسوع لتلاميذه خلال ظهوراته. لقد اكتفى لوقا بإشارات عامة إلى الأجزاء الكبرى في التوراة (24: 44): الشريعة، موسى، الانبياء، المزامير. لا شكّ في أن لوقا فكّر في نصوص محدّدة سيذكرها في سفر الأعمال. مز 16: 8، 11 (أع 2: 24- 28؛ 13: 34- 37)؛ مز 2: 7؛ أش 55: 3 (أع 13: 32 34)؛ مز 118: 22 (أع 4: 11)؛ يوء 3: 1- 5 (أع 2: 16- 21)...
رابعاً: ظهور الربّ
كان باستطاعة الكتب المقدّسة أن تكفي كأساس غير متزعزع للإيمان بيسوع. إن إيمان التلاميذ قد ضعف. لهذا تراءى لهم يسوع "وفتح أذهانهم ليفهموا الكتب" (آ 45). "ما إن عرفاه حتى اختفى" (آ 31). "وانفصل عنهم" (آ 51). بعد اليوم، يجب أن يعيشوا في الإيمان. فيسوع ظهر لتلاميذه، لا ليعزّيهم، بل ليدعوهم إلى الإيمان. فالفرح الحسيّ بحضوره يدوم لحظة. بعد ذلك يختفي. قال المسافران إلى عمّاوس: "كان قلبنا يضطرم فينا حين كان يحدّثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب" (آ 32؛ رج آ 41).
كل مرة تراءى المسيح في المجد، كان ترائيه عابراً، فدام الوقت الضروري لكي يتعرّف إليه الشهود. ففي التجليّ، ما إن أبصر الرسل الثلاثة موسى وإيليا بجانب يسوع، حتى سقطوا إلى الأرض بتأثير من مخافة دينيّة. وحين نهضوا، لم يشاهدوا أحداً إلا يسوع وحده وقد عاد إلى وجهه البشري الطبيعي (مت 17: 1- 8 وز). وعند القبر الفارغ، أرادت مريم أن تجلس عند قدمي يسوع كالتلميذ مع معلّمه. أرادت أن تتمسّك به. ولكنه منعها فوضع حداً لحضور عرفته في الماضي وأرسلها إلى التلاميذ تحمل بشرى القيامة (مت 28: 9- 10؛ يو 20: 17).
حين جلب الانفصال خسارة الإيمان، وُلد الحزن والقلق (آ 17، 38). أما الذي يحرّك الإيمان، فهو يخلي الانسان في الفرح (آ 52) والسلام (آ 36). حين دخل يسوع إلى العلّية قالت للرسل: "السلام لكم"، فأعطاهم السلام المسيحاني الذي وعدهم به قبل موته (يو 14: 27). لم يعطهم هذه "التحية" المعروفة في الشرق، بل سلاماً ناله بموته على الصليب، ومصالحة للبشرية مع الله في دمه (روم 5: 1، 10؛ 2 كور 5: 18- 19).
خامساً: بشارة يحملها الرسل
إن المسيح مات وقام من أجل جيمع البشر؛ فإلى جميع البشر يجب أن تصل البشارة لكي يخلصوا جميعاً. ولكن بعضاً قليلاً من الناس عرف واقع القيامة: النسوة، تلميذا عمّاوس. وهناك الرسل الذين اختيروا ليكونوا شهوداً (آ 48). قال بطرس في بيت كورنيليوس: "نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات" (أع 10: 41). لهذا، تمادى لوقا فروى بالتفصيل البراهين التي أعطاها يسوع عن قيامته. فعلى شهادتهم يرتكز إيمان الأجيال المقبلة.
في الأخبار المتعلّقة بالقيامة ميّز لوقا بين ما يعني الرسل وما يعني سائر التلاميذ. من الواضح أن تلميذَي عمّاوس ليسا من عداد الأحد عشر (آ 33). كان واحد منهما اسمه كليوبا. أما الثاني فوجوده هنا من أجل الشهادة. ولكن شهادتهما لم تقنع الأحد عشر ورفاقهم، كما لم تقنعهم أيضاً شهادة النسوة (آ 11). فإيماننا يستند بالدرجة الأولى إلى إيمان الرسل والأنبياء (أف 2: 20).
وبين الرسل كان لبطرس مكانة فريدة. احتفظ لنا لوقا بقول للمسيح يتنبّأ على الدور الذي يلعبه في دراما الآلام. "سمعان، سمعان. إن الشيطان طلب أن يغربلكم كالحنطة، ولكني صلّيت من أجلك لئلا يسقط إيمانك. ومتى عدتَ فثبّت أخوتك" (22: 31- 22). وإذ أراد لوقا أن يبيّن لنا أن هذه النبوءة قد تمت، تحدّث عن ظهور المسيح لبطرس قبل ظهوره في العلِّية. ثم أورد نصاً بدا فيه إيمان بطرس ينبوع إيمان الآخرين، ولو على حساب تماسك الخبر في الظاهر. "في الحقيقة، قام الرب وتراءى لسمعان" (آ 34). إن فعل الإيمان هذا الذي نقله التقليد الليتورجي كقطعة مستقلّة، قد أقحمه لوقا في قلب خبره فرنّ في آذاننا كشهادة الكنيسة المجتمعة وصرختها الموجّهة إلى يسوع.
إن شموليّة الإنجيل هو موضوع يبرزه لوقا في مؤلّفه (لو+ أع). يظهر في نشيد سمعان ساعة استقبل الطفل الالهي: "رأت عيناي خلاصك الذي أعددته لجميع الشعوب، نوراً يضيء في الأمم" (2: 20- 32؛ رج أش 42: 1- 6، 49: 6). ونجد صدى لهذه الفاتحة "النبويّة" خطبة يسوع الأخيرة بشكل تضمين واحتواء: "وأن يُكرز باسمه بالتوبة لمغفرة الخطايا، في جميع الأمم، ابتداءً من أورشليم" (آ 47). عرف متّى ومرقس هذا القول الرئيسي ليسوع، فأورداه في الخطبة عن دمار الهيكل (مت 24: 14؛ مر 13: 10). أخذ لوقا هذا القول من موقعه الطبيعي الذلك نجد فجوة بين 21: 13 و21: 14)، وجعله فيما بعد لكي يُبرز أهمبه القيامة في إعلان الإنجيل (رج أع 1: 22؛ 2: 33؛ 3: 15؛ 4: 33؛ 5: 32...).
غير أننا نتساءل عن النبوءة التي فيها اكتشف لوقا أن الكرازة بالإنجيل تبدأ في أورشليم. هنا نتذكر دور أورشليم التي هي الموضع الذي فيه تتركّز دعوة شعب الله (أش 2: 2- 3؛ 19: 16- 26؛ مز 2: 87..). إن أورشليم تُجمل في ذاتها العالم اليهودي. كما أن رومة تُجمل في ذاتها العالم الوثني. ولهذا ينتهي أع حين تصل كلمة الله مع بولس في رومة. إنطلقت من أورشليم ووصلت إلى أقاصي الأرض، إلى رومة.
وهكذا نجد أن لوقا جعل على شفتَي المسيح القائم من الموت (أو الملائكة) تقاليد أعطاها يسوع قبل قيامته ووضّحتها الفقاهة الرسولية. فالرسل استعادوا الفقاهة التي علّمها المعلّم نفسه وتوسّعوا فيها. وهكذا بيدو التقليد الذي حمله الإنجيل الثالث متيناً جداً لأنه يعكس تعليم الرسل.
ب- المحبة والمشاركة
أولاً: المحبة
إن خبر تلميذَي عمّاوس، شأنه شأن خبر المجدلية، لا يتوخّى فقط أن ينقل إلينا شهادة، بل أن يحرّك قلوبنا وعواطفنا. هذا ما يفسّر وجود التفاصيل التفسيرية. ففي رأي يوحنا، اسم "مريم" كما تلفظ به يسوع هو علامة، علامة حبّ شخصي يصل إلينا، كما أحبّ الراعي خرافه (يو 10: 3: يناديها بأسمائها). وفي رأي لوقا، إن قلب التلميذين اللذين أبطأا في مسيرة الإيمان (آ 25)، احتاج قلبهما إلى بعض النار (آ 32). إنه قلب كل واحد منا. فالمؤمن لا يذهب إلى المسيح فقط بعقله، بل بقلبه وكل كيانه.
ثانياً: المشاركة
إن العشاء مع القائم من الموت لعب دوراً هاماً في فكر الجماعة الأولى. فحسب أع 10: 41، شدّد لوقا على أن يسوع أكل مع تلاميذه بعد القيامة، فكان هذا الطعام كفالة لسلطة الرسل. وحدثت الظهورات خلال العشاء، فدلّت على ارتباطها بالعشاء السري. فالمسيحيون يجتمعون من أجل الافخارستيا في جوّ من الفرح مؤسّس على يقين القيامة، ووحدة المسيح مع أخصّائه الآن، ووحدة المدعوين بعضهم مع بعض.
في هذا العشاء، مع الرب القائم من الموت، تمّت النبوءة التي قالها يسوع: "إشتهيت شهوة بأن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألمّ. فاني أقول لكم: لن آكله قبل أن يتمّ في ملكوت الله" (22: 15- 16). وتمّت نبوءة أخرى أوردها لوقا بعد خبر تأسيس الافخارستيا وإعلان خيانة يهوذا: "أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي فتأكلون وتشربون إلى ما مائدتي في ملكوتي وتجلسون على عروش لتدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر" (22: 29- 30).
وحين كان يجتمع التلاميذ بعد القيامة للاحتفال بالافخارستيا، كانوا يتذكّرون ولا شكّ العشاء الأخير وغداءات يسوع القائم من الموت مع تلاميذه. كما كانوا يتذكّرون مواعيد يسوع حول الوليمة المسيحانية (12: 35- 37؛ 14: 15- 24؛ رج مت 22: 2- 14؛ 25: 1-13).
إن الشعور بالفرح والمشاركة الأخوية حيث كانوا يحتفلون بالليتورجيا الافخارستية، وحيث وعت الكنيسة مدلول العشاء السري وغداءاتها مع يسوع. كل هذا أثر على تدوين الأخبار المتعلّقة بالقيامة. وهذا ما يفهمنا لماذا كتب لوقا خبر تلميذَي عمّاوس في إطار الاحتفال بالافخارستيا: فبعد المشاركة في خبز الكلمة، كانت مشاركة في جسد المسيح ودمه.
خاتمة
حين نقابل لوقا مع سائر كتّاب العهد الجديد، نرى أنه أكثرهم إطّلاعاً على التقاليد الفصحية التي عرفت في النصف الثاني من القرن الأول. فهو يعرف مت ومر، كما أطلع على التقاليد اليوحناوية. عرف المواضيع اللافتة في الفقاهة الأولى كما نجدها في سفر الأعمال (ف 2: 10) والرسائل البولسية، كما اتصل بجماعة أورشليم فكانت له معلومات شخصية نجد آثارها في 1 كور 15.
روى التقليدُ الإزائي ظهورات حصلت في الجليل. ولكن هذا لا يتجاوب مع ما يريد لوقا أن يتوسّع فيه. إنه يختار، واختياره يرتبط بوجهتين: تعليمية وتاريخية. توسّع في معطيات تقليدية تشير إلى الوضع السماوي للقائم من الموت والبعد الديني لحدث القيامة. ولاحظ الطابع الفجائي للظهور على "الأحد عشر"، كما أبرز اختفاء المسيح السري عن تلميذَي عمّاوس. وإذ أراد أن يبيّن أن القيامة تتجاوب مع مخطّط الله الخلاصي، عاد إلى شهادة الكتب المقدّسة، فارتبط هكذا بموضوع توسّعت فيه الكرازة الأولى والتعليم الرسولي. وأخذ من الفقاهة الرسولية المبدأ القائل بأن الفصح يدشّن عهد الخلاص النهائي. وإذ أوضح أن أورشليم صارت، بواسطة القيامة، مركز إسرائيل الجديد، استلهم الانبياء فقدّم فكرة أوردها بطرس في خطبته في الهيكل (أع 3: 22- 26: موسى قال: سيقيم لكم الرب الاله من بين اخوتكم نبياً مثلي، فله تسمعون) وبولس في خطبته في أنطاكية بسيدية (أع 13: 32- 33؛ 38- 39). وهى أن الوعد الذي كان للآباء قد حقّقه الله لنا حين أقام ابنه يسوع من بين الاموات.
هذا على المستوى العقائدي. وعلى المستوى التاريخي؟ لقد قدّم لنا لوقا معطيات عديدة عن الأحداث التي تلت القيامة. ولاحظ بشكل خاص الظروف التي دفعت الرسل من اللاإيمان إلى "الدهشة"، ومن عدم الفهم إلى الإيمان.
هكذا تبدو قيامة المسيح في إنجيل لوقا ولا سيّما في حدث تلميذَي عمّاوس وظهور يسوع على الأحد عشر. والمواضيع التي طرحها خلال إنجيله، سنجدها في ف 24. وما قاله في البداية عن الفرح والخلاص والنظرة الشاملة إلى الخلاص، سنجده في النهاية. صعد الرب يسوع وترك تلاميذه يحملون البشارة بالتوبة إلى جميع الأمم. لم يكونوا حزينين لفراقه، بل "رجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، وكانوا بلا انقطاع في الهيكل يباركون الله".

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM