الفصل الأربعون: تأمّل بين الفصح والعنصرة

الفصل الأربعون
تأمّل بين الفصح والعنصرة
24: 44- 53

"كان الأحد عشر ورفاقهم" مجتمعين حين "وقف يسوع نفسه فجأة في وسطهم" (لو 24: 33- 36). هذا ما قاله القديس لوقا عن ظهور للقائم من الموت. عرّف يسوع بنفسه إلى تلاميذه، ووجّه إليهم تعليماته الأخيرة قبل أن يأخذهم إلى بيت عنيا لينفصل عنهم ويرتفع إلى السماء (34: 50- 51). أما الآيات التي سنتوقّف عندها (24: 44- 53)، فهي تشكّل القسم الثاني لخبر الظهور هذا، وهي تنهي الإنجيل الثالث متوقّفة عند ذكر صعود الربّ.
وإليك تصميم هذه الدراسة:
- نحدّد موقع النصّ بالنسبة إلى المقطع الذي يدخل فيه. ونقابل بصورة سريعة هذا الظهور للرسل كما يعرضه لوقا مع التقاليد الفصحية التي نقرأها في سائر الأناجيل.
- نقابل نهاية الإنجيل الثالث مع بداية أع، لأن النصّين يذكران بوضوح صعود الربّ إلى السماء. ولأن التقليد ينسب هذين النصّين إلى الكاتب عينه.
- نقرأ النصق ونحاول شرحه.
1- خبر فصحي
أ- خبر لوقا
نبدأ فنلقي نظرة سريعة إلى ف 24 ونستخرج عناصر الخبر: اكتشاف القبر الفارغ على يد النسوة. شهادتهنّ لدى الرسل. انطلاق بطرس المسرع إلى القبر (آ 1- 12). "خبر عمّاوس" (آ 13- 35). الظهور الأخير للرسل (آ 36- 53). ونلاحظ أيضاً الإشارات الدقيقة التي تربط بين مختلف المواد الإنجيلية وتبرزها في وحدة تامّة. ولقد شدّد الشرّاح على هذا الأمر منذ زمن بعيد، وهو أن كلّ الأحداث الواردة تجري يوم الفصح، "في اليوم الأول من الاسبوع" (رج 24: 1، 13، 33، 36). وإذا بحثنا عن كل الوسائل، نستطيع أن نتخيل ليلة كاملة بين بداية الخبر ونهايته، إذا اعتبرنا أن تلميذَي عماوس انطلقا في طريق العودة إلى أورشليم عند هبوط الليل. وأنه كان عليهما أن يقطعا مسافة ستين غلوة (الغلوة تساوي 185 متراً. وهناك اختلافة تتحدّث عن 160 غلوة) ليلتقيا بالرسل (24: 13- 33). ولكن هذا التفصيل لا يهمّ لوقا. وهو لا يقوله لنا هل حصل الصعود في الليل أم في النهار. ما يهمّ لوقا هو أن يضمّ في نظرة واحدة مجمل أحداث ما بعد الفصح، ولهذا جمعها كلّها في يوم واحد، على الأقل ظاهرياً.
هذا ما نسمّيه وحدة الزمان: 24 ساعة. وهناك أيضاً وحدة المكان. فكلّ الأحداث الواردة هنا تقع في أورشليم أو على الأقل في اليهودية. فالظهور لتلميذَي عمّاوس هو الحدث الذي يبعدنا اكبر مسافة عن أورشليم. ومهما يكن من أمر، فظهور يسوع الوحيد للرسل، ذلك الظهور المذكور هنا، يتمّ في أورشليم نفسها (24: 33- 36)، ويُختم في الجوار المباشر للمدينة المقدّسة (24: 50 ي).
ونتوقّف أخيراً بصورة خاصّة عند هذا الظهور للرسل (24: 36- 53) فنشدّد على وحدة الخبر الداخلية. قد تكون هناك وقفة بين آ 43 وآ 44 ("فأخذ وأكل معهم، ثمّْ قال لهم")، ولكننا ما زلنا في خبر الظهور نفسه. وإذا أردنا أن نفسرّ خاتمة النصّ ولا علينا أن نعود إلى المقطوعة كفها لنبقى أمناء لأهداف الإنجيلي.
هكذا تبدو التقاليد الفصحية كما نقرأها في الإنجيل الثالث. يبقى علينا أن نقابلها مع التقاليد الفصحية التي نجدها في سائر الأناجيل.
ب- مقابلة مع سائر الأخبار الإنجيلية
إذا توقّفنا عند تحديد موضع ظهورات يسوع الممجّد على أخصّائه، تنقسم الأناجيل إلى مجموعتين: حدثت هذه الظهورات في الجليل بالنسبة إلى متّى ومرقس ويو 21. وحدثت في أورشليم أو في جوارها بالنسبة إلى لوقا ويو 20. لقد كانت لنا مناسبات لنبيّن التوازي بين لوقا ويوحنا (مثلاً، خبر حُكم رومة على يسوع في لو 23: 2- 7، 13- 25 ويو 18: 29؛ 19: 16)، لا سيّما في خبر الآلام (ف 22- 23).
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن لوقا عرف وتبع (ساعة أراد) التقليد الإزائي. فخبر الفصح عنده، كما عند متّى، لا يتضمّن إلا ظهوراً وحيداً للأحد عشر، وهذا الظهور جاء بعد ظهور لتلاميذ ليسوا من الاثني عشر (النسوة أو تلميذا عمّاوس). إذن، الرسمة هي هي. ويورد لوقا، شأنه شأن الإنجيليين الإزائيين الآخرين، "بلاغ الملاك" في بداية الخبر (رج مر 16: 5- 7؛ مت 28: 2- 7؛ لو 24: 4- 7). غير أننا ندرك بالنسبة إلى هذه السمة الأخيرة، الطريقة الشخصية التي بها يشتغل الإنجيل الثالث المعطيات الأولى. توافق متّى ومرقس: حين ظهر ملاك القبر للنسوة صباح القيامة، أمر رسله بأن يذهبوا إلى الجليل حيث ينتظرهم يسوع: "هو يسبقكم إلى الجليل. وهناك ترونه كما قال لكم" (مر 16: 7؛ رج مت 28: 7). عرف لوقا هذا البلاغ الملائكي، واهتمّ بالحفاظ على "الجليل" رغم كلّ شيء. ولكن إذا كان على يسوع أن يظهر للرسل في أورشليم، لا على شاطئ بحيرة طبريّة، فالضرورة تفرض على لوقا بأن يبدّل في التقليد. ولهذا نقرأ: "إنه قد قام. أذكرن ماذا قال لكنّ حين كان بعدُ في الجليل" (24: 6). لاحظنا وحدة الخبر في البداية، وها نحن نستعيدها هنا مع كل متطلّباتها. فإذا احتاج لوقا، عالج بحرّية التقاليد القديمة ونسّقها حسب مخطّط خاصّ وفكرة لاهوتية سنعود إليها.
غير أن هناك ملاحظة أخرى تفرض نفسها علينا: من الخطأ أن نظنّ أن لوقا اهتمّ باللاهوت وأهمل التاريخ والمعلومات التي جمعها قبل أن يدوّن مؤلّفه (لو+ أع). لا شكّ في أنه يفرض على خبره الفصحي إطاراً حدّده مسبقاً. ولكنه يعرف كيف يحتفظ لا داخل هذا الإطار بالتفاصيل الدقيقة والجذّابة. لن نتكلّم عن متتالية عمّاوس التي هي خاصّة به. ولكننا نشير على الأقل إلى أن الظهور للأحد عشر عنده يتفوّق على ما في متّى على مستوى التفصيل والإيضاح. وهو يحتفظ بتفصيل خاصّ ("قطعة من السمك المشوي" 24: 42؛ رج يو 21: 9) نجده في الجليل لا في أورشليم. قد يقال إن خاتمة النصّ عاديّة (24: 44- 53)، ولكن لوقا يقدّم لنا التاريخ هنا كما في كل إنجيله. وقد أراد. أن يعرض الوقائع التي تحمل مغزى، فجمع من أجل هدفه كل التقاليد التي وقع عليها.
2- خبران للصعود لدى لوقا
إعتاد الشراح أن يقرّبوا بين خاتمة الإنجيل الثالث وبداية أع. ففي كلا النصّين يُذكر حضور القائم من الموت وسط أخصّائه، ويُذكر الصعود. يعود النصّان إلى الكاتب الواحد، كما يقول الترتيب، وإن أع تكمّل الخبر الذي بدأ به لو ووجّهه إلى تاوفيلوس (رج 1: 3؛ أع 1: 1). ولكن، إذا كان الكتابان يرتبطان بكتاب واحد ويهدفان إلى تكوين مؤلف واحد، فكيف نفسّر هذا التداخل بين أع ولو؟ كيف نفسّر استعادة أع لخبر الصعود؟
أ- صحّة النصّين
هناك نقّاد يظنون أن لو وأع كانا في البدء كتاباً وحداً. قُسما في النصف الأول من القرن الثاني، ففصل أع عن الخبر الإنجيلي. حينئذٍ قام "الناشر" ببعض "الاصلاحات" التدوينية، فأمّن للإنجيل الثالث خاتمة ولسفر الأعمال مقدّمة. ونستطيع أن نتخيّل الأمور حسب أبسط الفرضيّات التي قدّمها أحد الباحثين: جاء أع 1: 6 بعد لو 24: 49 في الخبر. إذن، تمّ القطع في النصّ الأول بين هاتين الآيتين. وقام التدخّل التدويني اللاحق باستعادة عدد من العناصر من الإنجيل (أو من مكان آخر) فدوّن مقدّمة (أع 1: 1- 5). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لخّص أع 1: 6- 11 ليحصل في خاتمة الإنجيل على الآيات الحالية الأربع المخصّصة للصعود. إذن، نصّ الإنجيل حول الصعود هو نصّ متأخّر وقد دوّنته يدّ لا نعرف صاحبها.
إن هذا النصّ اللوقاوي الأصلي المزعوم يقدّم فائدتين. الأولى: لا يذكر إلا تاريخاً واحداً للصعود (يوم الفصح. لا 40 يوماً بعد الفصح حسب أع 1: 3). الفائدة الثانية: يصوّر صعود يسوع في رسمة واحدة هو الصعود المشاهدي والمحدّد في أع 1: 9- 11 لا الاعلان اللاهوتي البسيط عن ارتفاع يسوع في لو 24: 51. ولكن هذه الفرضيّة التي تحاول أن تنسّق النصوص تفتقر إلى أساس، لأنها لا تستطيع أن تستند إلى شاهد واحد في النصوص. فتقليدُ المخطوطات يُجمع على النصّ الذي بين أيدينا. وبالتالي يعارض هذه الفرضية. ثم إن النقد الصحيح يفضِّل القراءة الأصعب، لا تلك التي تبسِّط النصوص وتقتل أصالتها. والنصّ الأصعب هو لو 24 وأع 1. يبقى علينا أن نبحث عن تفسير مقبول لموضوع الصعود الذي يرد في المرجعين.
نودّ أن نشير هنا إلى عبارتين قصيرتين في لو 24 أغفلتهما المخطوطات. الأولى، في آ 15: "ورُفع إلى السماء". الثانية، في آ 52: "سجدوا له أو أمامه". غابت هاتان العبارتان أيضاً عن اللاتينية العتيقة والترجمة السريانيّة السينائية، ولكنهما وُجدتا في أكبر عدد من الشهود. ومهما يكن من أمر، فغياب ذكر الصعود (آ 51) يجد ما يفسرّه أكثر من زيادته في النصّ، وذلك بسبب الصعوبة التي يثيرها وقتُ الصعود في أع 1: 3. أمّا سجود الرسل (آ 52) فهو يرتبط بالنمطيّة الكهنوتية التي استعملها لوقا عائداً إلى سي 50. إذن، نحتفظ بكل نصّ هاتين الآيتين (آ 51- 52) مع العبارتين: ورُفع إلى السماء. وسجدوا له.
ب- مقابلة بين خبر لو وخبر أع
نحن أمام خبرين لوقاويين عن الصعود. يبقى علينا أن نستخلص الاستنتاجات الرئيسية من المقابلة بينهما. كيف نفسّر أن يكون لوقا قد جعل الصعود تارة ليل الفصح أو غداته، وطوراً بعد أربعين يوماً؟ الخبر الأول متحفّظ وخفيّ فلا نراه. أما الخبر الثاني فيفترض سيناريو مهيباً. كيف نجمع هذين العرْضَين؟
قُدّمت في الماضي تفاسير سريعة: حصل لوقا على معلومات إضافية بين الوقت الذي فيه دوّن إنجيله والوقت الذي دوّن فيه أع. أو: استُودع لوقا تقليدين فرفض أن يدمجهما، فوضع الواحد بإزاء الاخر كما يفعل المؤرّخ الصادق. ولكن هذا لا يوافق موافقة كلّية ما نعرف عن أساليب لوقا الأدبية. نحن نكون قريبين من فكره إن رأينا في هذه الدبتيكا التي هي على ملتقى الإنجيل والأعمال، تفسيرين اثنين لتمجيد يسوع.
في لو 24، يختم الصعود حياة يسوع والإنجيل بارتفاع المسيح إلى السماء. نحن أمام نظرة لاهوتية. عاد يسوع إلى مجده مع جسد سماوي "روحاني" لا تناله الحواس البشرية على الأرض وأمامه تنحني كل ركبة. إن هذا التمجيد منذ يوم القيامة يدلّ على الغلبة السماوية التي حازها المسيح. هي حقيقية وإن غير منظورة.
في أع 1، تمجيدُ المسيح دشّن زمن الكنيسة ورسالتها. فالمسيح الذي ارتفع إلى السماء في بشريّته المؤلّهة والقائمة من الموت، ظهر أيضاً مرات عديدة لرسله ليثبّتهم في إيمانهم ويرسلهم في مهمّة نشر الإنجيل. وسمّي وداعه الأخير وآخر ظهور تاريخي ورسمي بعد الفصح، سمّي في اللغة الليتورجية "الصعود". إنه تقديم واقعي وتاريخي وحديث لسرّ الصعود، إنه الوجه البشري للصعود. يبقى على التلاميذ المجتمعين أن يطرحوا على نفوسهم السؤال التالي: "ماذا يجب علينا أن نعمل"؟ أراد لوقا أن يشدّد على أهمية هذا الانطلاق الأخير الذي كان استعدادً مباشراً للفصح ولانطلاقة الكنيسة.
وبمختصر الكلام، أنهى لوقا بهذه الطريقة الخبر الإنجيلي وبدأ تاريخ الكنيسة الرسولية. تغيرّت النظرة وإن كان الواقع هو هو. أما نحن فنبيّن أن لو 24: 50- 53 يشكّل خاتمة الإنجيل الطبيعيّة، ويفتح الطريق لتوسّعات أع 1: 9- 11 التي تتناسق معه ولا تعارضه.
ج- العلاقات بين التجليّ والصعود
نستطيع أن نقابل في مؤلّف لوقا بين التجليّ (لو 9) والصعود (أع 1) على ضوء لو 24. هناك نقاط عديدة مشتركة: الجبل، والرجلان اللذان يحيطان بالمسيح، السحابة الالهية والمجد، الخروج الذي يتمّه المسيح (أو انخطافه)، نمطيّة موسى وإيليا، شهادة "رؤيا بطرس" (تعود إلى بداية القرن الثاني) التي تضمّ الخبرين.
ولنعد الآن إلى التقاليد الفصحية في لو 24. أنزل الإنجيلي خبره في إطار كرونولوجي يتألّف من 24 ساعة، وهو يجعل صعود المسيح في الليلة التي تلت القيامة. ولا ننسى أن لوقا افترق عن متّى ومرقس فجعل مشهد التجلّي يقع في الليل. أشار إلى نعاس الرسل وإلى أنهم لم ينزلوا من الجبل إلا في اليوم التالي (9: 32- 37). وهكذا نستنتج أن التجلي هو في نظر لوقا صورة مسبّقة عن الصعود. دخل يسوع في مجده الالهي ثم خرج منه. هذا ما حدث في التجلي. أما لا ساعة التمجيد الفصحي والصعود، فدخل في هذا المجد بصورة نهائية، ولن يظهر بصورة احتفالية إلا في المجيء الثاني (باروسيا).
3- قراءة النصّ الإنجيلي
أ- تكملة الكتب المقدسة (24: 44)
بعد الآيات السابقة التي كانت إخبارية، قدّم لنا الإنجيلي في هذه الآيات يسوع الذي يعطي بنفسه لرسله تعليماته الاخيرة، وصيّته الروحية. يسوع هو الذي يتكلّم. ولكن يلفت انتباهنا حالاً هذه العبارة: "إذ كنت بعدُ معكم". نحن نجد في هذه الكلمات صدى الوجدان المسيحي في الكنيسة الاولى. فيسوع كان خلال حياته العلنية وحتى الصليب، حاضراً لأخصّائه حضوراً أرضياً وتاريخياً. أما الآن فهو حاضر حضوراً ممجّداً. هو حضور واقعي وإن يكن من نوع آخر. منذ الآن لم يعد هنا كما كان من قبل، ونحن نستشفّ أن ذكر الصعود في الآيات الأخيرة سيؤكّد هذا الاعلان بصورة أساسية.
إذا عدنا إلى الإنجيلي الرابع الذي عاش زمناً طويلاً من هذا الحضور السّري ليسوع الممجّد والذي أعاد قراءة التقاليد الإنجيلية على ضوء هذه الخبرة الجديدة، نرى يسوع يتكلّم بالطريقة عينها قبل آلامه (يو 14: 25: "قلت لكم هذه الاشياء وأنا مقيمٌ معكم"). نحن أمام عودة إلى الوراء: فبعد حدث الفصح، عاد الإنجيلي إلى وقائع حياة يسوع العلنية ليكتشف كلّ مدلولها. حينئذٍ فرض حدث الفصح نفسه عليه بكل قوّته. وهذا ما يدلّ عليه النصّ الذي نقرأ في حركة مستمرّة بين عالم سيكولوجي وعالم روحاني (24: 6؛ يو 2: 17، 22؛ 12: 16). لقد تذكّر لوقا برفقة كنيسة عصره، وتأمّل في النصوص والأحداث، وقابل بين الوقائع، فتعمّق في سرّ المسيح. وتيقّن أنه حصل على كل هذا من قِبَل الربّ فقدّم لنا شخص يسوع وجعله يتكلّم أمامنا.
إن واقع الفصح يقابل ما كان يسوع قد أعلنه سابقاً. ونحن نستطيع أن نكتشف هذه "الاقوال" في النصوص الإنجيلية الحاليّة، وفي الإنجيل. الثالث بالذات (رج 9: 22، 44؛ 17: 25؛ 18: 31- 33؛ 22: 37). ولكن الإنجيل كلّه قد قادنا إلى الاسبوع المقدّس، إلى الآلام والقيامة، إذن، لا بدّ من العودة إلى مجمل التقاليد الإنجيلية، بل إلى مجمل الكتب المقدسة: "ناموس موسى، والانبياء والمزامير". تدلّ هذه العبارة على مجمل أسفار العهد القديم. لا شك في أن يسوع عاد في كرازته إلى الكتب المقدّسة. وبعد الفصح، تذكّر الرسل ما فعله معلّمهم فبحثوا في النصوص عمّا يساعدهم على تقديم الوقائع. وهكذا استغلّ العهد الجديد العهد القديم، ولا سيّما في الكرازة الأولى في أع وفي مقاطع أخرى قال فيها لوقا عن يسوع إنه "أتمّ" ما كُتب عنه (4: 21؛ أع 1: 16؛ 3: 18؛ 13: 27).
ب- فهم الكتب المقدّسة (24: 45)
كان يسوع قد فسّر الكتب المقدسة لتلميذَي عمّاوس، اللذين قال لهما: "ما أقصر أبصاركما عن الفهم، وما أبطأ قلوبكما في الإيمان" (24: 25- 27). وهنا يتوجّه التفسير إلى الأحد عشر فيرتدي أهميّة خاصة. تدرّج الرسل على يد يسوع، وعليهم ألقيت مهمّة الشهادة الرسميّة في الكنيسة. وسيقدّمهم لنا أع كشهود اختارهم يسوع مسبّقاً وظهر لهم بعد قيامته (رج أع 10: 40 ي). ولكننا سنعود إلى صورة الرسول كما يرسمها لوقا.
ونشدّد مرّة ثانية على أن يسوع نفسه، يسوع القائم من بين الأموات، هو الذي فتح ذهن اخصّائه ليفهموا الكتب. هذا يعني أن حدث الفصح بدّل الامور كلّها بالنسبة إلى الرسل. حينئذٍ أخذ التاريخ وجهاً جديداً، والكلمات مدلولاً جديداً. هذا ما أدركه بولس، ذلك الرابي الذي ارتدّ على طريق دمشق، فكتب أن المسيح جاء ينزع الحجاب الذي كان يُعمي البصيرة، ويمنع المؤمن من أن يفهم العهد القديم (2 كور 3: 14- 16).
ج- الآلام والقيامة كما أعلنتها الكتب المقدّسة (24: 46)
نتذكر هنا نصوصاً عديدة: إنباءات الآلام الثلاثة (9: 22؛ 9: 44- 45؛ 18: 31- 24). قسمٌ من بلاغ الملاك صبيحة الفصح (24: 7). إعلان يسوع على طريق عمّاوس (24: 25- 27). يسوع هو الذي يتكلّم، وهو يتكلّم عن نفسه في صيغة الغائب (لا يقول: ينبغي لي أن أتألّم، بل ينبغي للمسيح)، وهذا ما يدهشنا.
"هكذا كُتب". تشدّد النصوص الأخرى على الضرورة التي وجد فيها يسوع نفسه بأن يموت ليقوم. قال: "لا بدّ أن يتمّ جميع ما كتب عنّي" (آ 44). فالتقابل بين الكتب القديمة وواقع الآلام والقيامة ليس وليد الصدف. هذا ما أراده الله وأعلنه مسبقاً في الكتب المقدسة. قرأها الرسل فساعدتهم قراءتها على تقبّل الآلام التي صدمتهم في البداية. وستساعدهم الكتب أيضاً على قبول القيامة. فهم منذ الكرازة الأولى التي أوردها أع، أعلنوا أن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله الآباء وإله الكتب المقدّسة، قد أقام يسوع من بين الاموات (أع 3: 13، 5: 30).
دخلت كلمة يسوع في إطار فصحي فارتبطت بفهم الكتب المقدّسة (آ 45). ولكنّ الكلمة عينها التي جاءت في إطار حياة يسوع العلنيّة، إصطدمت بتلاميذ لا يفهمون (9: 44؛ 18: 34). أمّا سبب هذا التصوّر فهو خِبرة الفصح. ولكن هناك إشارة أخرى ستساعدنا على فهم هذا التفصيل: ففي أخبار الحياة العلنية أعلن "ابن الانسان"، أنه ذلك الذي يتألمّ ويقوم. وملاك القبر الذي يورد كلمة يسوع نفسه يحتفظ بهذه التسمية (24: 7). أما هنا، كما في خبر عمّاوس (24: 26)، فيسوع القائم من الموت لا يسمّي نفسه "ابن الانسان" بل المسيح. وهذا يدلّ على تطوّر في الإيمان الرسولي. فحدث الفصح أدخل الرسل في سّر يسوع كله، ولا سيما في سرّ مسيحانيته. وحين أقام الله يسوع جعله "رباً ومسيحاً"، كما قالت الكرازة الأولى (أع 2: 36).
إن واقع ظهورات يسوع بعد يوم الفصح يفسّر تفسيراً طبيعياً العبارة: "قام في اليوم الثالث". ولكن هذا التحديد الكرونولوجي قد احتفظت به التقاليد القديمة، وقرأت إعلاناً عنه في العهد القديم. وهكذا اتّخذ هذا التفصيل بُعداً مسيحانياً. من هنا كانت العبارة الكاملة: "ولكن، إلى أي نصوص عاد المسيحيون الأوَّلون؟ إلى يون 2: 1؛ 2 مل 20: 5 وهو 6: 1- 2.
د- الخلاص للجميع، باسم يسوع (24: 47)
حين رفع الله يسوع أعطاه "الاسم الذي هو فوق كلّ اسم"، أعطاه اسم "الرب" الذي يحمله وحده، والذي يُدعى جميع البشر إلى إكرامه وإعلانه (فل 2: 9- 11). "فباسم يسوع" سيُعلن الخلاص، لأننا حين نقبل اسمه، نتّحد بعمله الالهي الذي ظهر وتحقّق لا موت يسوع وقيامته، ونجد الحياة فيه. وهذا ما تعلنه باستمرار الكرازة الرسولية في أع. والرسل أنفسهم سيشفون المرضى ويعمّدون التائبين "باسم يسوع".
إن النصّ الذي. ندرس لا يتوسّع في الخلاص بيسوع المسيح، بل يشير إليه فقط من الواجهة السلبية. هو يتحدّث عن "التوبة لغفران الخطايا". يبدو أن الإنجيل يشدّد على الشرط الضروري، لكي يكون عمل الله فاعلاً في حياة الانسان. الانسان هو خاطئ، فعليه أن يتوب، أن يبذل حياته (ميتانويا).
"كل الأمم" مدعوّة إلى الخلاص، "كل الأمم التي تحت السماء" (أع 2: 5). يراهم لوقا يوم العنصرة. إنهم باكورة كرازة الرسل ولا سيّما القديس بولس. فهناك نصوص نبويّة تتحدّث عن الخلاص الشامل (مثلاً أش 49: 6). ولقد ربط لوقا الخلاص المسيحي الشامل بإرادة المسيح وحدث الفصح. ونلاحظ أيضاً أن إنجيل متّى ينتهي هو أيضاً بهذا الارسال "إلى جميع الأمم" (مت 28: 19).
ويحدّد لوقا أن "الكرازة الرسولية" تنطلق من أورشليم. هذه هي نظرته اللاهوتية التي نكتشفها في الإنجيل وفي أع. فجزء كبير من حياة يسوع العلنيّة يبدو بشكل صعود إلى أورشليم. وهناك سينخطف يسوع من هذا العالم (9: 51). بعد قيامته، لن يترك يسوع أورشليم ولن يظهر إلا في المدينة المقدسة أو في جوارها. ويُبرز لوقا هذه الوحدة، فيجعل كلّ الظهورات تحصل في اليوم عينه، في يوم الفصح. وعلى الرسل أن لا يغادروا أورشليم قبل أن ينالوا الروح القدس (24: 49). حينئذٍ تستطيع الكرازة أن تبدأ والكنيسة أن تنطلق من "أورشليم، إلى كل اليهودية والسامرة، وحتى أقاصي الأرض، (أع 1: 8). هكذا بيني لوقا مؤلّفه فيبيّن لنا كيف أن الخلاص للبشر ينبع من هذا العمل الواحد والوحيد الذي حقّقه الله في يسوع المسيح الذي مات ومُجِّد.
هـ- الرسل شهود يسوع المسيح (24: 48)
نقرأ هنا لقب "الشهود" المُعطى للتلاميذ بفم يسوع. وسنجد العلاقة واضحة في أع 1: 8 بين الشهادة والرسالة.
إذن، سيكون الرسل الشهود، وسيقدّمون نفوسهم كذلك خلال كرازتهم. هم لا يقدّمون افتراضات ولا يكرزون بأمور أسطورية، بل يعلنون أموراً تاريخية. إن الرسالة تتجذّر بالضرورة في الخبرة. فمن أراد أن يكون شاهداً للقيامة، وجب عليه قبل ذلك أن يكون قد رافق يسوع منذ عماده على يد يوحنا حتى اليوم الذي فيه رُفع (أع 1: 21- 22). ولكن هذا لا يعني أن شهادة الرسل عن يسوع هي فقط شهادة تاريخيّة. إنها تعلّقٌ إيماني. وهم يقدّمون نفوسهم كـ "المؤمنين". وجب عليهم أن يتركوا براهينهم البشريّة ومنطقهم المحدّد ليقبلوا بالقيامة وبسّر يسوع كله. ويخبرنا الإنجيل أن هذه المسيرة التي قادتهم إلى الإيمان لم تكن سهلة وبسيطة (24: 11، 38، 41؛ 24: 25).
و- الروح القدس المنتظر (24: 49)
قال يسوع: "أنا أرسل إليكم ما وعد به أبي". لم يسمّ الروح القدس، ولكن النصّ الإنجيلي يعنيه (رج أع 1: 4 ي). فعطية الروح ستكمّل عمل المسيح قبل أن يتشتت الرسل. وسيتوسّع إنجيل يوحنا (القريب من إنجيل لوقا) في هذا الموضوع في "الخطبة بعد العشاء السّري".
وعد الله الآب بالروح. وسوف نرى بطرس يستعين بنصّ من يوئيل ليفسّر حدث العنصرة (أع 2: 16 ي). ويمكننا أن نقول أيضاً إن الروح يأتي من الآب (يو 14: 16، 26). ولكن يمكننا أيضاً أن نقول إن يسوع هو الذي أرسله، بقدر ما وجب على موت يسوع وتمجيده أن يسبقا هذه العطيّة (رج يو 16: 7). وبقدر ما لا يدلّ حضور الروح إلا على حضور يسوع الممجّد نفسه (رج 1 كور 15: 45؛ 2 كور 3: 17- 18).
سيقول لنا يوحنا إن الروح يفهمنا الحقيقة كلها (يو 14: 26؛ 16: 13). أمّا في نظر لوقا، فالروح قوّة (أع 1: 8). "قوّة من العلاء". ليست قوّة طبيعية وهذا ما يعلن مسبقاً المشاريع الرسولية الكبيرة التي سيرويها سفر الاعمال.
ز- صعد المسيح إلى السماء وهو يبارك أخصّاءه (24: 50- 51)
ذكّرتنا الآيات السابقة، بشكل تعليم وُضع على شفتي يسوع، معنى أحداث الآلام والقيامة ودعوتها العميقة، كما أشارت إلى عطيّة الروح التي صارت ممكنة بفضل تمجيد يسوع. ولكن، أن يكون يسوع قد تمجّد، فهذا ما شهد له خبر الظهور الذي يبدأ في آ 36: "وقف هو نفسه في وسطهم". وهذا ما تردّده الآيات الأخيرة.
"إنفصل عنهم ورُفع إلى السماء": يُبرز لوقا هنا وجهة أخرى من اختبار الرسل. فالطابع الفريد لظهورات القائم من الموت، جعلهم يفكّرون بظروف حياة يسوع الجديدة، كما جعلهم يفكّرون بالاختفاء النهائي لهذا الحضور السريّ. ففهموا أن هناك فصلاً بين هذا العالم الذي يعيشون فيه والعالم الالهي الذي دخل يسوع فيه، وهو السماء التي منها ستنحدر "قوّة من العلاء". ذكر لوقا الصعود بصورة سريعة، وسيتوسّع فيه في أع محتفظاً ببعض التفاصيل. وسيأتي ملاك فيفسّر المشهد، وتصبح "نواحي بيت عينا" "جبل الزيتون" (أع 1: 12) الذي منه رجع التلاميذ إلى أورشليم.
يبدو خبر الصعود في أع كمقدّمة لمشهد العنصرة المهيب، كمدخل إلى تاريخ الكنيسة التي ستعيش بعد الآن في "غياب" يسوع. منذ الصعود تتوجّه أنظارنا إلى الكنيسة. ونحن نجد في نهاية لوقا علامة عن انتشار الكنيسة حين يأخذ يسوع رسله إلى خارج أورشليم. ولكننا نجد خصوصاً هذه النظرة المسمّرة على يسوع الذي هو ذلك الكاهن الاعظم الذي يرفع يديه فيبارك شعبه الساجد له (سي 50: 20 ي).
ح- وبارك الرسل الله ومجّدوه (24: 52- 53)
كان الرسل في البدء قد شكّوا وارتابوا. لا يجهل لوقا هذا التقليد، ولكنّه لا يشدّد عليه، بل هو يريدنا أن ننساه. فموقف الرسل الأخير هو موقف السجود الذي يعبرّ عن إيمان نهائي بيسوع، إيمان اكيد من نفسه، إيمان يولّد الفرح والمديح والمباركة.
وهكذا ينتهي خبر لوقا بطريقة منفتحة وفي إطار عبادي مع ذكر واضح للهيكل وليسوع رئيس كهنته الحقيقيّ. هذا هو تفسير الصعود في إطار من التمجيد. لقد انتقل التأمّل عند الإنجيلي من الخبر إلى المديح، ومن التاريخ إلى الليتورجيا. بدأ الإنجيل في جوّ الفرح (1: 14، 28؛ 2: 10). وها هو يحدّثنا في النهاية عن الرسل الراجعين "بفرح عظيم". بدأ بنشيد المباركة والتعظيم على لسان زكريا ومريم العذراء وسمعان الشيخ (1: 64- 68؛ 2: 28؛ رج 2: 3، 10)، وأرانا في النهاية الرسل "يباركون الله". بدأ في الهيكل مع زكريا (1: 5 ي) وانتهى على مشهد الرسل الذين "كانوا بلا انقطاع في الهيكل".
خاتمة
تأمّلٌ بين الفصح والعنصرة: هذا هو عنوان دراستنا. إنطلق لوقا من التقاليد القديمة فرجع بالفكر إلى زمن الفصح ليقدّم لنا تأمّلاً لاهوتياً. قَبِل بالإيمان تمجيد يسوع وفكّرَ فيه، فاكتشف مدلوله العميق. ونحن سنعود إلى شهادة الذين رأوا. ونبقى مقتنعين بأن إيماننا الفصحى لا يبقى حيّاً إن لم يتغَذَّ بالأسفار المقدّسة، إن لم يرجع إلى التاريخ المقدّس كلِّه. ونعلن عن رغبتنا في عطيّة الروح القدس فنعيش في الفرح، ونبارك الله من أجل رحمته وقدرته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM