الفصل التاسع والثلاثون: ظهور يسوع للأحد عشر

 

الفصل التاسع والثلاثون
ظهور يسوع للأحد عشر
24: 36- 43

إن أخبار ظهور القائم من الموت عديدة في الاناجيل، أورد مت اثنين: واحداً للنسوة أمام القبر الفارغ، وآخر للأحد عشر على "الجبل" في الجليل (مت 28: 9- 10، 16- 20). وروى لوقا أيضاً اثنين: واحداً للتلميذين على طريق عماوس (24: 13- 35)، وآخر للأحد عشر ولرفاقهم في أورشليم (آ 36- 53). ونجد أربعة ظهورات في يو: الأول لمريم المجدلية أمام القبر الفارغ (20: 14- 18). الثاني للتلاميذ ما عدا توما (آ 19- 23). الثالث للتلاميذ مع توما (آ 24- 29). الرابع أمام سبعة تلاميذ في الجليل، وذلك بعد الصيد العجيب 21: 1 ي). أما نهاية مر فما زالت موضوع جدال. إن 16: 9- 20 الذي نجده في الانجيل منذ القرن الثاني يكشف ثلاثة أخبار يتراءى فيها يسوع، وقد أخذها مر من سائر الاناجيل: الأول لمريم المجدلية (مثل يوحنا). الثاني للتلميذين في الطريق (مثل لوقا). الثالث للأحد عشر (مثل متّى ولوقا).
1- مقابلة بين هذه الأخبار
حين درس الشّراح هذه الأخبار، نظروا إليها بطرق مختلفة. ميّزوا الظهورات في أورشليم عن الظهورات في الجليل. ولكن هاتين المجموعتين تتضمّنان أخباراً متفرّقة. ثم إن الظهورات في الجليل تتوقّف عند اثنين. في مت 28: 16- 20: "وأما التلاميذ الأحد عشر فمضوا إلى الجليل، إلى الجبل الذي عيّنه يسوع لهم". وفي يو 21: 1 ي: "وبعد ذلك أظهر يسوع ذاته، من جديد، للتلاميذ، على بحر طبرية" (إذن، في الجليل).
وقُدّم ترتيب آخر للظهورات على المستوى الأدبي: هناك الأخبار القصيرة. وهناك الأخبار الطويلة. ولكن هناك أخباراً متوسّطة الطول. لهذا، برز معيار تمييز آخر: الكرستوفانيا (أي: ظهور المسيح) الرسولية. أي: يظهر يسوع لمجموعة من الشهود الرسميين ليسلّم إليهم مهمّة رسولية. هذا ما نقول عن مت 28: 16- 20: "دفع إلىّ كل سلطان... إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعلّموهم". وعن يو 20: 19- 23: "كما أن الآب أرسلني، كذلك أنا أرسلكم... خذوا الروح القدس". وكذلك عن يو 21: 1 ي: يا سمعان، "إرعَ خرافي، إرعَ نعاجى". وعن لو 24: 36- 49: "ينبغي للمسيح أن يتألم وأن يقوم من الاموات في اليوم الثالث... وأنتم شهود لذلك". وعن مر 16: 14- 18: "إذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها".
ونجد أيضاً الكرستوفانيا (ظهور المسيح) الشخصية. يتراءى القائم من الموت على شخص فرد ليدلّ على يقين قيامته. في مت 28: 9- 10، دنا يسوع من النسوة وقال: "السلام لكُنّ". فدنوْنَ وأخذْنَ بقدميه وسجدْنَ له. وهكذا دللنَ على الأمل العائد إليهن فأمسكنَ بقدميه (كما يتمسّك شخص يغرق)، كما دللن على السجود أمام الرب. وفي لو 24: 13- 35 كسر أمام التلميذين الخبز فعرفاه، فرجعا إلى أورشليم وهما "يخبران ما جرى لهما في الطريق". وفي يو 20: 11- 18، قال يسوع "مريم"، فنادته "رابوني" وأرادت أن تتمسّك به كما فعلت النسوة، ولكن يسوع أرسلها في مهمّة إلى التلاميذ.
ونضمّ إلى هذه النصوص الثلاثة يو 20: 24- 29. أخبر التلاميذ توما فقالوا: "رأينا الرب". وسيكون له هو أيضاً أن يراه فيعلن: "ربي وإلهي". ولما اجترح يسوع ذاك الصيد العجيب، قال التلميذ الحبيب: "هو الرب". وطرح بطرس بنفسه في البحر ذاهباً إلى يسوع (يو 21: 6- 7). وفي مر 16: 9- 11 نعرف أن يسوع تراءى لمريم المجدلية، "فانطلقت وأخبرت الذين كانوا يصحبونه" (أي: الصحابة). كما نعرف قي آ 13- 14 أنه تراءى لاثنين منهم ذاهبين في الطريق إلى البرية.
وبمختصر الكلام، نتحدّث عن ظهورات ترافقها مهمّة. وظهورات فيها يتعرّف الشخص إلى يسوع. مثل هذا التقسيم يُبرز في الوقت عينه الفنّ الأدبي للأخبار (لاسيّما الظهورات للاحد عشر)، كما يبرز مضمونها ووظيفتها. إنّ أخبار الظهور الخاصة أو الفردية (لشخص فرد) تتميّز بفنّها الإخباري، فهي تحتفظ بإشارات ملموسة تدلّ على خبرة عاشها هذا الشخص أو ذاك. أما أخبار الظهور للأحد عشر فتتضمّن أقوالاً بشكل خاص، وشيئاً قليلاً من الأخبار. إنها بالأحرى نصوص "عقائدية" تتركّز كلها على تعليم الفصح، وعلى مدلول القيامة بالنسبة إلى يسوع وإلى تلاميذه.
سنتوقّف عند نصوص الظهور للأحد عشر، وبشكل خاص عند لو 24: 36 ي الذي هو أكثرها توسعاً، وقد انطبع طبعاً خاصاً بشخصيّة كاتبه.
2- نقد النصوص
إنّ خبر الظهور في لو 24: 36 ي يطرح عدداً من المسائل النقدية، ولا سيّما في آ 36 وآ 40. في آ 36، يكمّل النص الغربي (المخطوط البازي وعدد كبير من شهود اللاتينية العتيقة) الجملة فيقول: "في وسطهم" (وقف في وسطهم). (رج يو 20: 19). كما أن نسخات مختلفة تزيد: "وقال لهم: أنا هو. لا تخافوا". هذا ما نجده في مت 14: 27؛ مر 66: 50؛ يو 6: 20، بمناسبة ظهور يسوع على المياه. أما السريانية العتيقة والشهود الكبار في الاسكندرية (75، السينائي، الفاتيكاني...) وقيصرية البحرية، والنسخة العامة فتزيد: "وقال لهم: السلام لكم". بما أن هذه العبارة هي هي في يو 20: 19 ج، إعتبر عدد كبير من الشّراح أنها حاشية أخذت من يو ووضعت في لو. غير أنّ عدد الشهود الكبير وتوزّعهم على مختلف النسخات يجعل هذه الحاشية في مكانها في لو. ونقول أيضاً إن النقد الداخلي يوافق على الإبقاء عليها في نصّ لو: فهناك اتصالات لا شك فيها بين مقطوعة لو ويو 20: 19- 23. ثم إن "السلام" موضوع عزيز بشكل خاص على لوقا. لهذا يُذكر 14 مرة في لو و7 في أع، ساعة يذكره مت 4 مرات، مر مرة واحدة، يو 6 مرات. إذن، نظن أن هذه العبارة أصيلة كما نقرأها في لو 24: 36.
أما آ 40، (وإذا قال هذا أراهم يديه ورجليه) فهي غائبة في النص الغربي (البازي، السريانية العتيقة، معظم الشهود في اللاتينية العتيقة). ولكننا نجدها عند سائر الشهود كلّهم. بما أن هذه الآية تشبه ما في يو 20: 20 (غير أنها تذكر "رجلي" يسوع، بدل "جنبه" كما في يو)، نكون أمام مشكلة شبيهة بمشكلة آ 36، وتوزّع الشراح. منهم من تبع النصّ الغربي. ومنهم من اعتبر أن النص اللوقاوي هو أصيل، وكانت براهينهم كما يلي: تماسك الاطار، اختلاف بسيط بين لو ويو (الرجلان، الجانب). وهكذا يكون موقفنا من آ 40 شأن موقفنا من آ 36.
هنا نخرج من النصّ الذي ندرس في حصر المعنى، فنصل إلى آ 51، 52.
حين يقرأ النصّ الغربي (البازي، أكثر شهود اللاتينية العتيقة) والنسخة الأولى للسينائي آ 51، فهما يتوقفان عند "اب أوتون" (إنفصل عنهم). أما سائر الشهود فيزيدون: "صعد (حُمِل) إلى السماء". لقد اعتبر الشرّاح أننا أمام حاشية زيدت فيما بعد على النصّ. ولكن صفة الشهود وتوزّعهم يدفعاننا إلى القول بأن "هذه الحاشية" هي أصيلة في لو. لماذا "حذفها" أحد الخطّاطين؟ لأنها شكّلت أمامه صعوبة. فإن خبر أع يجعل الصعود بعد أربعين يوماً على القيامة، أما لو فيجعله يتمّ يوم القيامة. لقد أراد لوقا في إنجيله أن يدل على أن تمجيد يسوع لا ينفصل عن قيامته. أما أع فجعل من الصعود خاتمة الظهورات الفصحية وانطلاقة المهمة الرسولية التي تسلّمتها الكنيسة.
ويقرأ النصّ الغربي (البازي، السريانية السينائية، معظم شهود اللاتينية العتيقة) آ 52: "وإذ سجدوا له". رأى بعض الشّراح في هذه الزيادة تنسيقاً مع نص مت 28: 17. ولكن شهادتهم جديّة، وهي تتجاوب مع بركة يسوع (رج سي 50: 20- 21)، وتدلّ على فعلة دينية أمام الذي هو الرب في قيامته. وهكذا تبقى عبارة "سجدوا له".
تبدو بنية المقطوعة منطقيّة. فهي تتضمّن خبراً يتحدّث عن لقاء يسوع مع الأحد عشر ورفاقهم. نحن أمام مشهد تعارف يشدّد على خوف الحاضرين وارتيابهم في البداية، وعلى ما قدّم يسوع إليهم من إشارات ليقنعهم بواقع جسده: إنه هو ذاك الذي عرفوه. وما إن اقتنع التلاميذ، حتى بدأ يسوع يحمّلهم رسالة الفصح والقيامة في آ 44- 49 التي تشكّل تعليماً احتفالياً يرتبط ارتباطاً وثيقا بالكرازة. بعد أن بيّن يسوع واقع الفصح كما أعلنه هو والكتب التي يتمّها، حدّد مهمة الكرازة التي سيقوم بها الرسل.
3- وظيفة المقطع
إن وظيفة هذا المقطع في مؤلّف لوقا هي واضحة. إنها خاتمة الانجيل، شأنها شأن مت 28: 16- 20 ويو 20: 20- 23. هذا ما يدلّ عليه لوقا بإشارات عديدة، فيتفوّق على متّى ويوحنا. فهو يدلّ في آ 44 على أن زمن حضوره بينهم قد انتهى (حين كنت معكم): لقد تمت رسالته على الأرض، التي هي موضوع إنجيله.
وإذ تختم هذه القطعة خبر الانجيل، تعلن المواضيع الرئيسية في أع: موضوع الروح القدس وعمله في الكنيسة، كرازة موت يسوع وقيامته المدوّنة في الكتب، وظيفة الشهود التي يقوم بها الرسل. ولكننا بهذا تجاوزنا حدود المقطوعة التي ندرس، تجاوزنا آ 43.
هنا نتوقّف عند ثلاثة أمور: الكرونولوجيا أو تسلسل، الاحداث. الطوبوغرافيا أو موقع الاحداث، السّر الذي يقدّمه لوقا.
أ- تسلسل الاحداث
إن تسلسل الأحداث يطرح أسئلة عديدة. إذا توقّفنا عند خبر لوقا، فكل الظهورات الفصحية عند القائم من الموت، تتمّ في يوم الفصح الواحد، يوم الأحد. ولكن حين نتحقّق في النصّ نفهم أن كل هذا الواقع لا يمكن أن يتمّ في 24 ساعة. مهما كانت المسافة بين أورشليم وعمّاوس (هناك 60 غلوة، 160 غلوة. وهناك اختلاف على موقع عماوس)، فالتلميذان لم يتركا عماوس إلا بعد العشاء (24: 29- 30). فوجب عليهما حينذاك أن يعودا إلى أورشليم ويجدا الاحد عشر ويخبراهم خبرتهما. وسيتراءى يسوع بعد ذلك. فيتغلّب على شكّ التلاميذ، ثم ينقل إليهم تعليمه ويقودهم إلى بيت عنيا من أجل الصعود. فإذا أرادت الكرونولوجيا أن تكون دقيقة، يجب أن يتمّ "الصعود" في صباح اليوم التالي. هذا ما أحسّ به لوقا نفسه (أع 1: 3: يتراءى لهم مدة أربعين يوماً).
نجد أن لوقا قد أراد في خاتمة انجيله أن يجعل في يوم الفصح أصول الإيمان كلّه، وأصول كل التعليم عن القيامة. ولهذا لم يعطِ كرونولوجيا دقيقة، مع أنه يعرف كرونولوجيا أخرى هي التي يقدّمها في أع فيحدّثنا فيها عن يسوع الذي ظلّ يتراءى لرسله 40 يوماً بعد آلامه (أع 1: 3). إن التعارض بين هذه الكرونولوجيا وتلك، شغلَ بال القرّاء. وهذا ما يفسرّ غياب 24: 51 ب عند عدد من الشهود القدماء. كما قاد الشراح إلى تقديم عدد من الفرضيات المختلفة. (1) لم يعرف لوقا تقليد الأربعين يوماً إلاّ بعد أن انتهى من تدوين إنجيله. (2) أعاد لوقا صياغة مؤلّفه (لو+ أع) فأقحم أع 1: 3- 12 أو لو 24: 50- أع 1: 5، وهكذا فصل بين جزئي مؤلفه. ولكن هذين الحلّين بقيا على مستوى الافتراض. والتحرير في النص، كما يقترحه بعض الشّراح، لا يجد أي أساس في النصوص.
ما أراد لوقا أن يبيّنه في واقع الفصح هو تمجيد يسوع بشكل نهائي. فلا تعارض بالنسبة إليه بين يوم الظهورات الطويل كما نقرأه في لو 24 والاربعين يوماً من ظهورات تمّت في 40 يوماً (أع 1: 3). بين الصعود الذي يرويه يوم أحد الفصح وبين ذاك الذي يرويه بعد أربعين يوماً (أع 1: 6- 11). إن هذه الطريقة في تدوين التاريخ تدهش القارئ الحديث. ولكنها الطريقة التي يستعملها لوقا في مقاطع أخرى من مؤلفه حيث يحوّل ترتيب مراجعه. هذا ما فعل في انجيله. ق لو 4: 16- 20 (يسوع في الناصرة) مع مر 13: 53- 58؛ مت 6: 1- 6؛ ق لو 5: 1- 11 (الصيد العجيب) مع مت 4: 18- 22؛ مر 1: 16- 20. وهذا ما فعله أيضاً في أع: فصل بين 8: 4 (وأما الذين تشتّتوا، فكانوا يطوفون مبشرّين بالكلمة) و11: 19 (كان الذين تشتتوا من جراء الاضطهاد) ليمنح الرسل مبادرة حمل البشارة إلى الوثنيين. إن الأولوية المعطاة لبناء الخبر على دقة الكرونولوجيا، تتوافق مع مؤرّخين عاصروا لوقا فأهملوا الدقة الكرونولوجية. وهكذا، لن نبحث في لو 24: 36- 53 عن دقّة كرونولوجية لم يبحث عنها لوقا.
ب- موقع الأحداث
إن الطابع "المنسّق" لتسلسل الاحداث (كرونولوجيا) يساعدنا على فهم مسألة الطوبوغرافيا (موقع الأحداث). لقد جعل لوقا الظهورات في اليهودية، على طريق عمّاوس (24: 13- 31)، في أورشليم (24: 33، 49، 52). ومع ذلك فهو يعرف تقليد الظهورات في الجليل. فقد حوّل معطية مت 28: 10 ومر 16: 7 إلى ما نجده عنده في 24: 6: "قلن لاخوتي إنه يسبقكم إلى الجليل". أما في لوقا: "تذكرن ما قال لكن إذ كان بعد في الجليل". مثل هذا التحوّل يدهشنا، ولكننا نفهمه في منظار لوقا. ركّز كل ظهورات القائم من الموت في يوم أحد الفصح. وها هو يجعل من أورشليم الموضع الأهم في تاريخ الخلاص: فإليها صعد يسوع لكي يكمّل رسالته (9: 31، 51؛ 13: 33). فيها تمّ سرّ موته ومجده. ومنها انتشر الانجيل ليصل إلى أقاصي الأرض (24: 47؛ أع 1: 8).
مع أن لوقا عرف بظهورات خارج أورشليم، إلاّ أنه يدلّ على وحدة الحدث الفصحي في بساطة رسمة تركّزت كلها على مدينة الخلاص. لقد فعل هنا، كما في الكرونولوجيا، ففضّل تقديماً بسيطاً للأحداث على عرض مفصّل لكل المعطيات التي كانت في يده
ج- شهود القيامة
إن شهود القيامة هم في الدرجة الاولى "الأحد عشر". نقرأ في 24: 33 أن التلميذين "رجعا (من عمّاوس) إلى أورشليم، فوجدا الأحد عشراً. وفي أع 1: 13، نقرأ أسماء الرسل الأحد عشر. سيصبح الرقم 12 بعد اختيار متيّا (أع 1: 26). إنهّم الشهود الأول للقيامة (أع 1: 22؛ 2: 14؛ 5: 32؛ 10: 41؛ 13: 31). ولكنهم ليسوا وحدهم. فلوقا يتحدّث عن "رفاقهم" (لو 24: 33)، ويدلّ بشكل واضح على تلميذَي عمّاوس (24: 35- 36). وسيلاحظ أن متّيا قد اختير من بين أشخاص آخرين (أع 1: 21- 22). هذا يعني أنه يتوقّف عند الشهادة "الرسمية". ولكنه يعرف أيضاً شهادة تلاميذ بسطاء، كما عرف رسالة السبعين تلميذاً (10: 1- 20) مع رسالة الاثني عشر (9: 1- 6).
وفيما يخصّ شهود القيامة، إهتمّ لوقا بأن يبيّن كيف انتقلوا من الشك (اللاإيمان) إلى الإيمان. ففي خبر القبر الفارغ، جاءت النسوة فقط لكي يتمّمْنَ عملية دفن الملّقم (24: 1). جئنَ "يطلبْنه بين الأموات" (آ 5). وتحيرّنَ حين رأين القبر فارغاً. وذكرهنّ الملاكان بما سبق وقاله يسوع. حينئذٍ تسلّمْنَ البلاغ وحملنَه إلى الرسل.
وخبر عمّاوس هو حديث "تربوي" يقود هذين التلميذين إلى الإيمان الفصحي، الإيمان بالقيامة. والعلامة الحاسمة لهما ليست معجزة من المعجزات، بل فهم النصوص التي تتعلّق بالمسيح في الأسفار المقدّسة (24: 25- 26). وبهذه الطريقة عينها سار إيمان الأحد عشر ورفاقهم حين ظهر لهم يسوع. أشار لوقا إلى عدم إيمان "الرسل" حين أعلن لهم عن القبر الفارغ (24: 10- 11). ولاحظ دهشتهم ورعبهم وقلقهم وتساؤلاتهم حين ظهر يسوع لهم (آ 37- 38). وإذ أراد يسوع أن يقنعهم، جعلهم يرونه، يسمعونه، يلمسونه. ولكنّهم ظلّوا على قلّة إيمانهم وعلى دهشتهم (آ 41). فيجب بعد ذلك أن يأكل يسوع أمامهم (آ 43). وخصوصاً أن يذكّرهم بأنه أنبأ بالسرّ (آ 44 أ؛ رج آ 6- 7). وفتح أذهانهم ليفهموا الكتب (آ 44 ب- 45؛ رج آ 25- 26). وفي النهاية، بلغوا إلى الإيمان. حينئذ سلّم إليهم يسوع بلاغ الفصح والقيامة (آ 46- 48). وسوف يدلّ أع على أنهم تقبّلوا هذه الرسالة التي أوكلهم بها يسوع. وتدلّ السطور الأخيرة من لو أنهم قبلوا ربهّم: "سجدوا له وهم بفرح عظيم".
د- سرّ القيامة
هذا السرّ هو بلا شك قلب خبر لوقا. ما يظهر أولاً هو أن يسوع "حيّ" (آ 5). إنه هو ذاته الذي عرفه التلاميذ خلاله حياته على الأرض. فيداه ورجلاه تحمل آثار آلامه (آ 39- 40). جسده جسد حقيقي، ونحن نستطيع أن نلمسه. ليس بشبح ولا خيال. له لحم وعظم، ويستطيع أن يأكل (آ 39- 43). لقد ألحّ لوقا على واقعيّة جسد القائم من الموت، وهذا الإلحاح قاد عدداً من الشرّاح إلى نظرة "مادية" إلى القيامة، تقابل نظرة الجسد الروحاني عند بولس (1 كور 15: 44). ولكن لوقا يتحدّث أيضاً عن الحالة الجديدة لجسد القائم من الموت: فهو يرينا إياه ظاهراً فجأة مثل الله أو الملائكة في العهد القديم (آ 36: استي؛ رد تك 18: 2؛ دا 8: 15؛ 12: 5)، ومختفياً فجأة حين يُرفع إلى السماء (آ 51). ثم لا ننسى أن لوقا هو يوناني، لذلك لا نستطيع أن ننسب إليه نظرة مادية إلى القيامة (نتذكّر هنا الاثينيين وردّة فعلهم على كرازة بولس عن القيامة، أع 17: 32). غير أنه يعرف الصعوبة التي يصطدم بها اليونان أمام التأكيد على القيامة الجسدية (1 كور 15: 12؛ 2 تم 2: 18). من أجل هذا، شدّد لوقا على واقع جسد القائم من الموت. وإذ فعل ما فعل في خبر ظهور يسوع على الأحد عشر، فقد أراد أن يؤسّس يقين هذا الواقع على تقرير من الشهود.
أراد لوقا أن يثبّت واقع الفصح، ليقود المؤمنين إلى فهم السرّ الذي يكشفه. ونستطيع القول إن هذا السرّ يقوم جوهريّاً في سيادة يسوع الملوكية التي دشّنها يوم الفصح (22: 69؛ 24: 26؛ أع 2: 36). وحين يسلّم يسوع تلاميذه مهمَّة الكرازة بالتوبة إلى جميع الأمم (آ 47- 48)، فهو يدلّ على أنه مخلّص جميع الشعوب. وحين يعد أخصّاءه بأنه سيرسل إليهم الروح الذي وعد به الآب (آ 49؛ أع 2: 33)، فهو يدلّ على أنه يملك سلطاناً محفوظاً لله (آ 52). إن لوقا الذي اعتنى بأن يدلّ على المراحل المتعاقبة في تاريخ الخلاص، دلّ هنا على بداية حقبة جديدة: فبعد زمن اسرائيل والاعلانات النبوية (آ 44 ب- 46)، وبعد الزمن الذي كان فيه يسوع "مع أخصّائه" (آ 44 أ)، ها هو زمن الكنيسة الذي هو في الوقت عينه زمن ملك يسوع وزمن رسالة الاثني عشر.
خاتمة
يسوع هو "في وسطهم" كما كان "وسط المعلّمين" (2: 46) في الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره. هو "في وسطهم" كما كان "وسط" تلاميذه في العشاء الاخير. كان يسوع قد وعد في مت 18: 20 أنه سيكون "وسط" أخصّائه حين يجتمعون باسمه. وها هو الوعد قد تحقّق الآن مع الأحد عشر العائشين في العليّة بعد القيامة. ومجيء يسوع يعني السلام للتلاميذ، هذا السلام الذي لم تقبله أورشليم (19: 42). هذا السلام الذي أعلنه الملائكة على البشر في ميلاد المخلّص. كان في الميلاد وعداً فصار في موت المسيح وقيامته حقيقة وواقعاً. فالمسيح هو سلامنا وقد جعل من الاثنين واحداً بعد أن نقض في موته الحاجز الذي هو العداوة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM