الفصل السابع والثلاثون: ليس هو هنا، بل قام

الفصل السابع والثلاثون
ليس هو هنا، بل قام
24: 1- 12

يؤكّد الشّراح مراراً أن تصميم مؤلّف لوقا (أي الإنجيل والأعمال) هو تصميم جغرافي، هو مسيرة منطلقها أورشليم. فمن الجليل حيث دشّن يسوع الكرازة بالإنجيل، صعد إلى أورشليم فتابع عمله فيها، وهناك مات وقام وصعد إلى السماء، ومن هناك سيرسل الروح القدس على الرسل. ومن أورشليم انطلق الرسل يكرزون بالإنجيل في كل المسكونة، فوصلوا إلى رومة عاصمة العالم الوثني.
ولكن لماذا تبدو لنا أورشليم نقطة اتصال الأمكنة؟ لأن قيامة المسيح هي أولاً وبصورة أعمق نقطة اتصال الأزمنة. هذه هي عقدة التاريخ كلّه، هذا هو الواقع الذي يعطي سائر الوقائع معناها. فأقوال الانبياء وشريعة موسى والمزامير، بل تعاليم يسوع نفسه، لا تُفهم إلا على ضوء القيامة. كل شيء يؤول إلى هذه التتمة،  ولوقا  لا يني  يورده  قبل القيامة (9: 22، 30- 31، 44، 51؛ 18: 31- 33؛ 22: 37) وبعدها (24: 6- 7؛ 25: 27؛ 44: 46).
فالأخبار المتعلّقة بقيامة يسوع تكوّن إذن قمّة مؤلّف لوقا وقلبه. هي لا تحتل في إنجيله إلا يوماً واحداً. فأمام تلاميذ لا يفهمون، أعطى يسوع براهين ملموسة عن قيامته: القبر فارغ، الملائكة يؤكّدون أنه قام حسب الكتب. وظهر هو نفسه "فكسر الخبز" وأظهر جراحه، بل أكل مع تلاميذه. ولمّا تثبّت إيمانهم، أرسلهم إلى العالم ووعدهم بالروح القدس، ثم ارتفع إلى السماء.
من كل هذه المجموعة، يبدو القسم الأول وحده مشتركاً بين الأناجيل الأربعة. يورده لوقا، ولكنه يبقى شخصياً كعادته. يصحّح التقليد الذي قدّمه مرقس ومتّى، فيذكر ملاكين لا ملاكاً واحداً. ويزيد تفاصيل لها معناها: اطرقن بوجوههن إلى الأرض. ويُلغي ما يُفرض عليه أن يبذله في تصميمه. فالاشارة الى الجليل انتقلت إلى منظار مختلف كل الاختلاف. جعل لائحة النسوة لا في بداية الخبر بل لا أواخره، وفسّر معطيات سابقة حول زمن شراء (الطيب): كان ذلك في نظره يوم السبت. إذا عدنا إلى مر 16: 1 نرى أن النساء اشترين الطيب مساء السبت. وقال يوحنا إن التطييب تمّ قبل الدفن (يو 19: 39- 40). أمّا متّى فلا يتكلّم عن الطيب ولا عن الحنوط. هذا التفصيل الكرونولويجي لا يهمّنا كثيراً. ولكن إذا أردنا أن نعيد الترتيب "التاريخي" للأحداث، نرى أن التقليد الذي يمثّله يوحنا هو أقرب إلى المعقول. فكيف تذهب النسوة إلى القبر من أجل تطييب يسوع في ساعة لن يجدن فيها من يساعدهنّ على دحرجة الحجر؟ ألم يفكّرن بهذا الحاجز وهنّ في الطريق؟ ثمّ، أما تأخّرن ليقمن بتطييب الجسد؟ أمّا إذا كان التطييب قد تمّ حالاً حين وُضع الجسد في القبر، فنفهم حسب عوائد الشرق أن تستعجل النسوة بالعودة إلى القبر ليبكين يسوع (مت 28: 1). إن "إنجيل بطرس" وهو سفر منحول يعود إلى القرن الثاني، يضع على شفاههنّ: "لم نستطع أن نبكيه ونقرع الصدر عليه يوم صُلب، لهذا سنفعل الآن عند قبره".
وإن لوقا يبسّط الأمور: لا يذكر ردّة الفعل الأولى لدى النساء كما ذكرها مرقس (16: 8: لم يقلن لأحد شيئاً) ولا عن خوفهنّ (مت 28: 8). بل أرانا النسوة يركضن ليحملن البشارة. ويكمّل متّى ومرقس في تفصيل يرتدي في عينيه أهمّية كبرى. لقد لاحظ بطرس هو أيضاً أن القبر كان فارغاً. هكذا اعتاد صاحب الإنجيل الثالث أن يتصرّف بحرّية بالمراجع التي بين يديه مستنداً إلى تقاليد خاصّة به.
1- ليس ههنا (24: 1- 5 أ)
انتهى الاسبوع اليهودي بالسبت، يوم الراحة (تك 2: 2؛ خر 20: 8- 11). "اليوم الأول من الأسبوع" هو غير السبت. ويبدو آن هذا اليوم حل سريعاً محلّ السبت لدى المسيحيين كيوم راحة وصلاة. إنه يوم الأحد. سمّي يوم الربّ: ولقد أظهر المسيح أنه "الربّ " يقيامته من بين الاموات (رؤ 1: 10).
لا يكتفي لوقا بتحديد اليوم، بل الساعة التي تمّ فيها هذا الحدث المهمّ الذي سيرَونه. سنجد هذا التفصيل عند الازائيين، ولكن بعبارات أخرى. قال لوقا: "مع الفجر" (آ 1). أمّا مرقس فيوضح: مع طلوع الشمس (مر 16: 2). وقال مت 28: 1 "حين بدأ اليوم الأول يسطع" أي حين طلوع نجمة الصبح (رج لو 23: 54).
إن النساء اللواتي ذهبن إلى القبر هنّ اللواتي تبعن يسوع من الجليل، ورافقهنّ يوسف الذي من الرامة حين قام بعمل الدفن (8: 1- 3؛ 23: 55). سيُعطينا لوقا أسماءهنّ في نهاية الخبر، وكأنه توقيع خفيّ عك شهادتهنّ (آ 10).
إذا قرأنا مرقس نجد أن النسوة كنّ يسرن وهنّ قلقات: "من يدحرج لنا الحجر"؟ وأغفل لوقا هذا السؤال الذي زاده الإنجيلي الثاني لكي يشدّد على ما في الخبر من إثارة. ولكنه سؤال غير معقول، على الأقل في ذلك الوقت لأنه كان على النساء أن يطرحنه قبل أن ينطلقن إلى القبر. واكتفى لوقا بإيراد الواقع: "وجدن الحجر مدحرجاً عن القبر (أو من أمام القبر)".
كنّ في حيرة. دخلن إلى القبر المفتوح ونظرن. ورافق هذه الحيرة قلق واضطراب حين لاحظن شيئاً آخر: "ما وجدن جسد الربّ يسوع". وتساءلن عن سبب هذا الاختفاء. قال مرقس ومتّى: أعلن لهنّ الملاك قيامة يسوع. وبعد هذا لاحظن فعلاً أن الجسد لم يكن هنا. وهكذا تثبّتت أقوال الملاك. أمّا عند لوقا فقد لاحظت النسوة غياب جسد يسوع، قبل آن يعرفن معنى هذا الاختفاء، وقبل أن يرين ملائكته: تدخّل الملاكان ليفسّرا لهنّ السّر.
إتبع متّى تقليد مرقس فتحدّث عن ملاك واحد. وفعل لوقا كما فعل يوحنا فذكر ملاكين (مستنداً إلى مرجعه) سيظهران ساعة الصعود (أع 1: 10). يصوّرهما وكأنهما "رجلان عليهما ثياب برّاقة". هذا يدلّ على أصلهما السماوي.
رأت النسوة الملاكين فارتعبن. تلك هي ردّة فعل البشر العاديّة أمام ظهور سماويّ (رج 1: 1؛ 12، 29- 30، 65...، خر 19: 21؛ 33: 20؛ 1 مل 19: 13...).
"أطرقت النساء بوجوههن إلى الأرض". ونتساءل عن السبب. لو كنّ بعد خارج القبر، لسهُل علينا أن نفهم حركتهن. كانت أبواب القبور اليهودية قليلة الارتفاع، وقد انحنى (وطّى رأسه وخفضه) بطرس ليبصر ما. في الداخل (24: 12؛ يو 2: 5- 11). ولكن ليس هذا هو المعنى. والفعل المستعمل هنا غير المستعمل في آ 12. فالموقف هو رمزيّ. وإذا أردنا أن نفهم بُعده كلّه، نقرّبه من موقف التلاميذ حالاً بعد الصعود. قال لنا لوقا: ظلّوا هناك وعيونهم شاخصة إلى السماء (لو 1: 10). والنسوة ذهلن وخارت منهن القوى. ولكن كان عليهنّ بالأحرى لا أن ينكّسن الرؤوس، بل أن "ينتصبن ويرفعن الرأس، لأن الخلاص قريب" (رج 21: 28). لم يُهزم المسيح، وهنّ لم يُهزمن أيضاً. بعد هذا، لماذا نبقى على مستوى العالم الأرضي، وعند معرفة المسيح بحسب الجسد (رج 2 كور 1: 17، 5- 6 أ)؟ فالأرض التي تحفظ الموتى لم تقدر أن تحتفظ به (أع 2: 24- 28؛ 13: 24- 37). ولكن حين يرتفع إلى السماء، لن نبقي عيوننا شاخصة إليه في انتظار سلبيّ (لا نفعل شيئاً) لرجوعه. يجب أن نعمل على الأرض من أجل ملكوت الله؟ يجب أن نذهب إلى أقاصي الأرض لنشهد لقيامته (أع 1: 8- 11).
2- بلاغ الملاكين: "قد قام" (24: 5 ب- 8)
هذا هو الإعلان العظيم والخبر السارّ، هذه هي البشرى: يسوع قام. ولكن قبل أن يستعيد لوقا كلمات متّى ليعلن هذه الحقيقة (آ 6 أ)، فهو يعبرّ عنها بمدلولات بولسية ويونانية: كانت صورة اليقظة والنهوض (اغايرو)، فزاد لوقا. مدلولاً لاهوتياً هو مدلول الحياة (رج روم 5: 6؛ 9: 10؛ أع 25: 19): "لماذا تطلبن الحيّ بين الاموات"؟ وسيضع لوقا كلمة الحياة على شفاه تلميذَي عمّاوس اللذين لخّصا بلاغ الملاكين: أخبرت النسوة "أنه حيّ" (24: 23).
يا العهد القديم، الحيّ هو الله نفسه (عد 14: 21- 28؛ تث 32: 40). يهوه هو الاله الحيّ (تث 5: 26؛ حز 5: 11). والمؤمن يحلف بالله الحيّ (1 صم 19: 6). هو وحده ينبوع الحياة، هو وحده سيّد الحياة (تك 2: 7؛ 1 صم 2: 6). لهذا نستطيع أن نعطي لفظة حيّ كل قوّتها فنترجم: "لماذا تطلبن الحيّ (وكأنه اسم علم) بين الاموات"؟ بدل: لماذا تطلبن من هو حيّ (وكأن المفردة صفة من الصفات)؟ وإذا فهمنا إعلان الملائكة على هذه الصورة، تضمّخ باللاهوت البولسي واليوحناوي الذي سيماثل بين المسيح والحياة (يو 1: 4؛ 11: 25؛ 14: 6)، الذي يسمّي يسوع ينبوع الحياة (يو 10: 10؛ روم 5: 10؛ 1 كور 15: 45؛ رج يو 3: 36؛ 1 يو 5: 11). حدّد اليونانيون اللاهوت بالخلود وعدم الموت، وقالوا إن البشر هم "مائتون". فاستعاد لوقا هذا التعارض. كان قد استعمل في آ 3 عبارة قويّة جدّاً: "الربّ يسوع". فلا شيء يمنعه من أن يحمِّل كلمة "الحيّ" مضمون إيمان الكنيسة بالوهيّة المسيح التي تشهد لها القيامة.
ثمّ إن كلمات الملاكين تتضمّن لوماً وعتاباً: نسيت النسوة النبؤءات المتعلّقة بآلام المسيح وقيامته. وسينال تلميذا عمّاوس (آ 25- 26) والرسل أنفسهم (آ 38) اللوم نفسه. توجّه هذا العتاب إلى النساء فذكّرنا بذلك الذي وجّهه يسوع إلى أمّه يوم وجدته في الهيكل: "لماذا تطلبانني" (لو 22: 49)؟ من يعرف يسوع، يرى أين يبحث عنه. بحثت عنه النسوة حيث لا يمكن أن يوجد إطلاقاً. حين يموت رجل عاديّ، نبحث عنه بين الموتى، ولا غرابة في الأمر. ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى يسوع: إن رؤية القبر الفارغ تكفي النساء ليفهمن: ليس هو هنا.
لو آمن التلاميذ حقّاً بأقوال الانبياء، وبأقوال يسوع نفسه، لما كانوا تحيرّوا أمام موته، وأمام اكتشاف القبر الفارغ. كان متّى قد اتخذ خبر مرقس وزاد عليه تذكيراً بالنبوءات. فكيف يمكنه أن لا يقدّم القيامة كمكمِّلة للنبوءات، هو الذي أسند دفاعه (ابولوجيا) إلى تكميل النبوءات في يسوع؟ ولكنه اكتفى بتلميح عام: "قام كما قال" (مت 28: 6). أمّا لوقا فأورد إحدى هذه النبوءات بفم الملاكين، وبيّن على دفعتين كيف أن يسوع طبّقها على نفسه أمام التلاميذ (آ 25- 27؛ 44: 46).
وقال الملاكان للنسوة: "أذكرن...". ولكن إذا عدنا إلى الأناجيل، نرى أن التلاميذ، لا النسوة، هم الذين سمعوا يسوع ينبئهم بآلامه وموته. فهل نتخيّل أن النسوة سمعن هذه الانباءات أو أن التلاميذ ردّدوها على مسامعهنّ؟ يكفي لوقا أن يعرف أن هذه النبوءات وُجدت في إنجيله. لهذا زاد على الإنباءة الأولى: "ضعوا هذه الكلمات في آذانكم" (9: 44؛ ق مر 9: 31؛ مت 17: 22). مثل هذا التنبيه يقابله: "اذكرن".
أما تحديد "اليوم الثالث" الذي نجده في 9: 22، فهل نعتبره جملة عارضة أم نقطة أشار إليها الانبياء؟ وإن أخذن بالموقف الثاني، فهل يأتي نصّ من العهد القديم يربط هذا التحديد؟ اختلفت الشّراح، ولكن ما يمكن القول هو أن الكنيسة الرسولية أعطت لنصَي هو 6: 2 ويون 2: 1 بُعداً مسيحانياً، لم يكن لهما في المعنى الحرفيّ.
لم يكن عتاب الملاكين للنسوة بلا فائدة: فقد تعرّفن في القبر الفارغ إلى تكملة النبوءات، وآمنّ أن يسوع قد قام. وحين وضع يوحنا بحضرة الواقع نفسه آمن هو أيضاً (يو 20: 8 ب- 9). فموضوع التذكير بالأقوال النبوية التي تلفّظ بها يسوع، وفهمها التلاميذ بعد القيامة، هذا التذكير هو نقطة اتصال بين الإنجيل الثالث والإنجيل الرابع (يو 2: 17، 22؛ 7: 39؛ 16:12، 13: 7؛ 16: 12- 13).
3- نقل البلاغ إلى تلاميذ لا يؤمنون (24: 9- 11)
إذا عدنا إلى مرقس ومتّى نرى أن الملاك أرسل النسوة ليعلنَّ البشرى للتلاميذ. ولكن مرقس (الذي هو أقرب إلى الواقع التاريخي) يقول إنهن فررن وهنّ مرتعدات ومنذهلات (مر 16: 8). إهتمّ مرقس بهذا التفصيل، لأنه يشكّل صدى لمواضيع عزيزة على قلبه مثل: عدم فهم التلاميذ لتعليم الربّ، والأمر الموجّه إليهم بالسكوت ("أوصاهم أن لا يقولوا لأحد عنه شيئاً"، مر 8: 30). تعدّى متّى هذه النقطة وأبرز فرح النسوة اللواتي أسرعن ليحملن الخبر إلى التلاميذ (مت 28: 8- 10). أمّا لوقا فلم يذكر ظهور يسوع للنسوة (رج آ 24)، بل أخبر ظهوراً آخر لتلميذَي عمّاوس.
إعتاد لوقا أن يشدّد على عواطف الأشخاص الذين يتحدّث عنهم: الفرح أو الخوف (1: 12، 14، 65؛ 2: . أمّا هنا فهو لا يتكلّم عن عواطف النساء ليبرز واقعاً جوهرياً هو أيمانهنَّ. لسنا أمام حركة عفويّة وسطحيّة ننسبها إلى سرعة التصديق عند البشر (كما حدث للرسل)، بل أمام إيمان مؤسّس تأسيساً ثابتاً على غياب جسد يسوع، على كلمة الملاكين، على شهادة الكتب المقدسة، على شهادة يسوع نفسه.
"أخبرن التلاميذ الأحد عشر والآخرين كلّهم بما حدث" (رج آ 23). نلاحظ لفظة "الأحد عشر" المعتبرة كموصوف، والمستعملة من دون المفعول "التلاميذ". وهذا، أمر خاص بلوقا. ق مت 28: 16 ولو 24: 9، 33؛ أع 2: 14. أما مر 16: 14 فهو ملخّص عن لو 24: 36 د. إن تسمية "الاحد عشر" تقابل تسمية "الاثني عشر" وتهيّئ هنا خبر انتخاب متيا (أع 1: 15- 26). لم يصل الخبر إلى الأحد عشر وحدهم. لا شكّ في أن الرسل هم الشهود الرسميّون لقيامة المسيح (رج أع 1: 21- 22). ولكن لوقا اهتمّ بان يبيّن أن هذه الرسالة ليست محصورة فيهم. فبجانب الاثني عشر، هناك "السبعون" تلميذاً الآخرون الذين تسلّموا هم أيضاً مهمّة نشر الإنجيل (10: 1- 16). يمثّلهم كشهود للقيامة تلميذا عمّاوس (آ 9: 22، رج آ 33- 35؛ 1 كور 15: 6).
شهادة النسوة شهادة ثابتة: إرتبط إيمانهم بالواقع، وها نحن نتعرّف إلى كل واحدة منهن باسمها. هنّ اللواتي تبعن يسوع من الجليل: مريم المجدلية، وحنّة إمرأة كوزي قيّم هيرودس (8: 2- 3)، ومريم أم يعقوب التي يذكرها مرقس (16: 1). أما صالومة (مر 16: 1) فهي غير معروفة، ولهذا لم يذكر متّى اسمها. أمّا لوقا، فأحلّ محلّها حنّة التي يعرفها قرّاؤه، والتي تمثّل شهود القيامة.
هل نستطيع أن نرغب في شهود مهيّئين أكثر من هؤلاء النسوة لنؤكّد أن المسيح قام حيّاً من القبر؟ لقد شاهدن الدفن، ونظرن إلى إلقبر، ورأين الطريقة التي بها وُضع الجثمان (23: 55). شدّد لوقا على هذه الأمور اكثر من سائر الإنجيليين. غير أن متّى يورد معطيات إضافية ليبرهن أن التلاميذ لم يسرقوا جسد يسوع (مت 27: 62- 66؛ 28: 11- 15). ولكن شهادة النساء لم تكفِ رغم قيوخها، لتقنع التلاميذ الذين انهارت عزيمتهم. قالوا: هذه أخبار نساء، هذا وَهْم وهذيان.
4- وذهب بطرس إلى القبر (24: 12)
تزعزع بطرس وحده بالخبر، وأراد أن يتحقّق ممّا جرى. جهل مرقس ومتّى هذا الحدث، أما يوحنا فأورده بتفاصيل لم يعرفها لوقا، وجعل بجانب بطرس "التلميذ الآخر" (يو 20: 2- 10). هل لخّص لوقا (أو أحد التلاميذ) خبر يوحنا، أو هل توسّع التقليد اليوحناوي في ما قاله لوقا؟ سؤال محيِّر، ولا سيّما وإن خبر لوقا يتضمّن مفردات لوقاويّة ومفردات يوحناوية. كان للأوساط اليوحناوية أسبابهم الواضحة ليخبروا بزيارة يوحنا إلى القبر وبفعل إيمانه. أمّا لوقا فلم يهتمّ بهذا الخبر، لا لأنه لم يعرفه (رج آ 24: "بعض رفاقنا")، ولكنه فضّل تركيز انتباه القارئ على بطرس. ردّات الفعل سريعة عند بطرس. لهذا أسرع إلى القبر ولاحظ أن جسد يسوع قد اختفى. فلم تولّد عنده هذه الملاحظة إلا الدهشة والتعجّب. وحار في أمره وما عرف ماذا يقول. أمّا الإنجيل الرابع فيوضح أن رفيقه آمن، وبيّن لنا بالتالي أن بطرس لم يؤمن بعد بالقيامة. أمّا لوقا فظلّ متحفّظاً: أراد أن يشدّد على أهميّة دور بطرس، لا على ضعفه وتردّده.
خاتمة
إن الصدمة التي أحسّ بها بطرس وهو الشاهد المباشر والفاعل في آخر أحداث حياة يسوع على الأرض، تؤثّر اليوم أيضاً على قارئ إنجيل مرقس (16: 10- 14). وُضع يسوع في القبر، فبدا وكأن كل شيء تحطم، بل زال من الوجود. فالقيامة هي بداية خلقٍ جديد وبداية مطلقة.
وعاد متّى إلى الوراء: نظر إلى الأمور بإيمان الكنيسة التي أعلن ديمومتها وثباتها (مت 16: 18). لم يتوقّف على تصوير تردّد التلاميذ أمام القائم من الموت. فهو يشير إشارة عابرة إلى هذا الوضع فيقول: "ولكن بعضهم ارتابوا" (مت 28: 17). ولا يظهر يسوع إلا ليجعل من التلاميذ الشهود المباشرين لقيامته، وليسلّمهم مهمّة حمل الإنجيل وتعميد الناس. كلّ شيء يجري بين جبل الخطبة الأولى، خطبة التطويبات في الجليل، وجبل الجليل الذي فيه أرسل تلاميذه يكرزون ويعمّدون في العالم كله (مت 28: 16- 20). فالجليل هو في نظر متّى رمز إلى أقاصي العالم الوثني (رج مت 4: 15- 16).
وعاد لوقا إلى الوراء أيضاً فأعطانا نظرة إجمالية ستمتدّ في أع، حتى إقامة الكنيسة في رومة. لم يعد موت يسوع هوّة عميقة، إنه استسلام الإبن الذي ينام بين يدي أبيه (23: 46) ليستيقظ بعد هذا بقليل. ليس الموت انقطاعاً، إنه نقطة اتصال ومنعطف في مسيرة المخطّط الالهي. إنه مسيرة مستمرّة وهي لا تخطئ هدفها: "أما كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام ليدخل في مجده" (24: 26)؟ فالموت والقيامة قد أعلنت عنهما الشريعة والانبياء والمزامير، وقد أعلن عنهما يسوع نفسه: "ذلك ما قلت لكم إذ كنت بعدُ معكم. إنه لا بدّ أن يتمّ جميع ما كتب عنيّ في ناموس موسى، وفي الانبياء والمزامير" (آ 44).
وسيذهب يوحنا إلى أبعد من ذلك. فيسوع هو في نظره ذلك المرتفع والممجّد منذ آلامه. لهذا لا يشدّد يوحنا على براهين القيامة، بقدر ما يشدّد على عطية الروح القدس بيد المسيح الممجّد، وهي عطيّة ضرورية لنفهم تعليم يسوع نفسه، وهي عطيّة ترتبط بعطية الحياة (أو الحيّ) القائمة من الموت (آ 5 ب).
امتدح يوحنا إيمان الذين يؤمنون، مع أنهم لم يروا المسيح القائم من الموت (يو 20: 29). وأعطانا لوقا مثلاً عن هذا الإيمان في شخص النسوة اللواتي آمنّ دون أن يرين يسوع، وأخذن بكلمة الملاكين (ق يو 20: 8). فالقبر الفارغ هو العلامة التي يمكن أن نلاحظها بحواسنا. وتأكيد الملاكين هو ما نؤمن به. نكتشف كلامهما فنكتشف من خلاله تكميل الكتب المقدسة.
بالإضافة إلى ذلك، ليس الإيمان بالقيامة تعرّفاً إلى واقع تاريخي وحسب. فالقيامة تصل بنا إلى نفس شخص القائم من الموت، فنرى فيه لا حيّاً من الأحياء، بل الحيّ نفسه، وابن الله، والربّ (24: 3- 5).
هذا الإيمان هو إيمان الكنيسة المؤسّسة على بطرس. وبطرس هو في نظر لوقا الشاهد الأول على القيامة. منحه الربّ ظهوراً خاصّاً تحقّق منه التلاميذ يوم الفصح (آ 34)، وذكره بولس في بدء اللائحة التي تورد تقليد الكنيسة عن القيامة (1 كور 15: 5). وباسم الاثني عشر، سيعلن بطرس القيامة منذ العنصرة (أع 2: 14- 36؛ 3: 12- 26؛ 4: 8- 12). غير أن ظهور يسوع لبطرس ليس إلاّ وجهة من الاختبار الفصحي الذي عاشه هذا الرسول. فانطلاقه إلى القبر يمثّل وجهة ثانية. فرؤية القبر الفارغ وشهادة النسوة لم تحرّكا في قلبه الإيمان. ولكن يسوع ظهر له. ولما عاد "ثبّت إخوته" (22: 32).
تلك هي أسس إيماننا في يسوع الحيّ والربّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM