الفصل السادس والثلاثون: دفن المسيح

الفصل السادس والثلاثون
دفن المسيح
23: 50- 56

إن خبر دفن المسيح في لوقا يشتمل على ثلاثة أمور: شخص يوسف الرامي (آ 50- 51). ما عمله من أجل يسوع مع حاشية كرونولوجية (آ 52- 45). صورة النسوة (اَ 55- 56) التي تنهي المقطوعة (شأنها شأن آ 49) وتفتح نافذة على أحداث صباح القيامة.
1- شخص يوسف الرامي
إن المقدّمة الرومانية تجعل من يوسف عضواً في السنهدرين (المجلس اليهودي الأعلى). استعمل مر 15: 43 لفظة "بولوتس" الملتبسة. أما هنا فزال الالتباس مع التفسير في معترضة زادها لوقا فدلّ على أن هذا الشخص لم يوافق على قرار المجلس ولا على عمله ضد يسوع (آ 51 أ). في الواقع، تبقى الجملة غامضة. فالضمير في "رأيهم" لا يسبقه ما يرتبط به. على من يدلّ "هم"؟ هناك من قال "الآخرين" فدلّ على سائر أعضاء المجلس. أما العمل (بركسيس) فهو نقل يسوع أمام بيلاطس (23: 1). ولكن عبثاً نبحث عن قرار أو حكم في خبر "المحاكمة" اليهودية.
إن لوقا يدلّ هنا، كما في مواضع أخرى، على ارتباطه بمرقس حيث مشهد السنهدرين ينتهي بحكم جماعي على يسوع بالموت (مر 14: 64). اهتمّ لوقا بأن يبرّئ ساحة يوسف. مع أنه جعله في أعلى المراتب اليهودية (كما فعل مع جملائيل في أع 5: 34- 39) ليدلّ على أن يسوع (ثم المسيحيين الأولين) لاقوا تعاطفاً لدى النخبة في إسرائيل.
جعل متّى من يوسف "تلميذاً" (27: 57). أما لوقا فهو يحتاج إلى هذه الصفة. وإذ أراد أدن يفسّر فعلته، قدّمه أولاً كـ "رجل صالح وصدّيق". يعني: توافق حياته مشيئة الله كما تعبرّ عنها وصايا الشريعة. على مثال والدَي يوحنا المعمدان (1: 6) ويسوع (2: 22- 24) وسمعان الشيخ (2: 25). وكما كان سمعان "ينتظر عزاء إسرائيل"، وكما كانت حنّة البنيّة تتحدّث عن يسوع "أمام كل الذين كانوا ينتظرون فداء أورشليم" (2: 38)، انتظر يوسف "ملكوت الله". ففي بداية الانجيل كما في نهايته، تتوافق "نخبة" إسرائيل الروحية مع الجديد الذي يحمله المسيح.
في الخطّ عينه نجد الزيادة اللوقاوية التي توضح أن الرامة، موطن يوسف، كانت "مدينة لليهود". وهكذا أبرز الانجيلي طابع يوسف اليهودي، كما سيذكر فيما بعد (أع 21: 20) "آلاف اليهود الذين آمنوا". الذين ارتدوا إلى الايمان المسيحي.
ونقدّم هنا بعض الملاحظات اللغوية. هناك "كاي ايدو" التي ترد 26 مرة في لو، 8 في أع. وعبارة "كاي ايدو أنِر" (وإذ انسان) ترد 8 مرات عند لوقا. "اونوماتي"، اسمه: 7 مرات في لو؛ 21 مرة في أع، مرة واحدة في كل من متّى ومرقس. وتغيب اللفظة بعد ذلك من كل العهد الجديد. "اونوماتي يوسف " (رج 1: 27: اسمها الناصرة). إن لفظة "بولي" تعني: إرادة، قرار، كما في أع 5: 38؛ 27: 12، 42. يوسف الرامي هو "صالح وصدّيق". هنا نتذكّر في أع 8: 2 "الأناس الاتقياء"، أولئك اليهود الذين لم يكونوا تلاميذ. فهم قد دفنوا اسطفانس. لقد انتظر يوسف ملكوت الله في وجهه المقبل كما في مر 15: 43.
2- يوسف يدفن يسوع
تنحصر محاولة يوسف لدى بيلاطس في أقلّ كلام ممكن: لا أثر لأي تحقيق قام به بيلاطس (كما يقول مر 15: 44- 45) لدى قائد المئة. ثم إن لوقا لا يقول إن بيلاطس سلّم (أو: أمر أن يسلّم) جسد يسوع. كل شيء يعود إلى طلب (سأل جسد يسوع، رج مر 15: 43 د) تنقصه بعض الجرأة التي نجدها في مر بالنظر إلى مكانة يوسف الرفيعة. لم يهتمّ لوقا بكل هذا. هو يريد فقط أن ينبّه القارئ إلى عمل يوسف من أجل يسوع.
بِمَ قام هذا العمل؟ "أنزل" (كاتايراين، هي الكلمة المخصّصة لانزال جسد عن الصليب) جسد يسوع عن الصليب. لفّه في كفن (بدون أل التعريف. لا يقول لوقا متى اشترى يوسف هذا الكفن). تحدّث مر 15: 46 أ عن شراء الكفن. أما لوقا ومتّى 27: 60 فاعتبرا هذه الحاشية نافلة. وأخيراً وضع يوسف الجسد في قبر منحوت في الصخر. واختلف لوقا عن مت ومر فزاد أن هذا القبر "لم يوضع فيه أحد بعد" (رج يو 19: 41). فلا يجب أن يلامس جسد يسوع بقايا أجساد مفككة. فجسده لن يعرف الفساد (أع 2: 27، 31؛ 13: 35).
قال مر 15: 46 ج؛ مت 27: 60 ب إن يوسف "دحرج حجراً ضخماً على القبر". أما لوقا فلم يذكر شيئاً من هذا مع أنه سيشير في الخبر الفصحي الأول (24: 2) إلى أن النسوة "وجدن الحجر قد دُحرج عن (مدخل) القبر" (رج مر 16: 4؛ مت 24: 2؛ يو 20: 1. لم يقل يوحنا شيئاً عن إغلاق القبر، شأنه شأن لوقا). نحن هنا في ظاهرة تعرية أخضع لها لوقا خبر الدفن: أغفل كل ما هو جانبي من أجل تفاصيل أخرى لها معناها في نظره.
وتأتي حاشية كرونولوجية غريبة في آ 54. أولاً، هي تقطع مسيرة خبر يجري بدونها كما من ينبوع. ثانياً: نجد فعلاً يفرض علينا أن نعطيه معنى لا نجده في أي مكان آخر. أما مضمون الجملة فهو التالي: إن ما رُوي هنا قد جرى يوم التهيئة ولدى مجيء السبت. إذن، نحن في مساء الجمعة. ولكن الفعل اليوناني الذي يعبرّ عن هذه الفكرة الأخيرة، هو "ابيفوسكاين" أي "بدأ يشعّ، يضيء" (مت 28: 1: بعد السبت، عند فجر اليوم الأول من الأسبوع).
فإذا أردنا أن نطبّق هذا الفعل على بداية السبت، أي على هبوط الليل في مساء الجمعة، تنوّعت محاولات الشّراح. فكّر بعضهم بالنجوم الأولى. وآخرون: بالشموع التي تضاء في بيوت اليهود. وعادت فئة ثالثة إلى الارامية أو العبرية (اورتا، اور) حيث يدلّ الاسم على الفجر كما في الغسق. واستعانت فئة رابعة بالعالم اليوناني حيث يبدأ النهار في الفجر وينتهي في الفجر.
قد نكون هنا أمام حاشية تعود إلى مر 15: 42. أقحمت هنا في نهاية خبر الدفن. وتأثّرت بفعل "ابيفوسكاين" في مت 28: 1. هناك من ترجم "يلوح". ولماذا لا نكون أمام معنى روحي. قمّة الظلمة في موت يسوع ودفنه، هي بداية النور الذي بدأ يشع ساعة وُضع يسوع في القبر. ما إن مات يسوع حتى قام. أما ما نعرفه يوم الأحد، فهو ظهوراته.
3- النساء ودفن يسوع
فعلَ لوقا كما فعل متّى ومرقس، فربطَ النساء الجليليات بدفن يسوع. ولكن بدل أن يستعمل حاشية مر 15: 47 (كما رفض أن يسمّي النسوة)، كرّس للنسوة جملة طويلة أراد أن يقول فيها أموراً كثيرة.
أولاً: إن هذه النسوة رافقن أولئك الذين (قبل يسوع) حملوا جثمان يسوع إلى القبر. يبدو الخبر ناقصاً، كما اعتدنا أن نرى عند لوقا (مثلاً، قبلة يهوذا، ضربة السيف). ففعل "تبع" (حرفياً: تبع نزولاً، في الموت. لا نجد هذا الفعل إلا في أع 16: 17) لا مفعول له (من يتبعن؟). لا نستطيع أن نقول "يتبعن يسوع من الجليل" كما في آ 49. وبما أننا سوف نجد هؤلاء النسوة انفسهنّ عند القبر، قد نتصوّرهن موكباً جنائزياً إلى موضع الدفن.
ثانياً: ثم لا يقال شيء عن الموضع الذي فيه انضمت النسوة إلى يوسف ومساعديه: كنّ يلاحظن الجلجلة عن كثب، من "نقطة مراقبة". كما أن في ذكر القبر الجديد اكراماً ليسوع. كذلك نقول عن وجود هذه النسوة. فهذه الجليليات اختلفن عن "بنات أورشليم" اللواتي رافقن يسوع على طريق الصلب (23: 27)، فلم يبكين ولم يندبن. فهذا الميت لا يشبه سائر الأموات. فقد أعلن أنه "سيقوم في اليوم الثالث" (9: 22؛ 18: 33). نلاحظ غياب الرجال الذين انضمّوا فيما قبل إلى مجموعة النسوة، لينظروا آخر أويقات يسوع (23: 49). فلا دور لهم في الإطار المقبل، في مشهد صباح القيامة. فالنسوة وحدهنّ جئن إلى القبر، وهذا الحدث الحاضر يهيّئ مجيئهنّ.
وكرّر لوقا في شكل مختلف بعض الشيء، ما سبق وقاله في آ 49: رافقت هذه النسوة يسوع من الجليل. ليس هذا التكرار من قبيل الصدف، كما سبق وقلنا. أما وظيفتهنّ في نهاية السفر فتقوم بالنظر إلى القبر كما في مر 15: 47 مع اختلافة هامة. حسب مرقس، عرفت مريم المجدلية ومريم أم يوسى "أين وُضع جسد يسوع". في لوقا، نظرن "كيف وُضع جسد يسوع". هذه اللمسة البسيطة تهيّىء ولْي الخبر. فالنساء لاحظن أن جسد يسوع حرم من الطيب الخاص بالاموات. وهذا ما يفسرّ عملهن اللاحق (آ 56 أ).
حين أشار لوقا إلى "عودتهن"، أغفل هنا أيضاً تفاصيل كنّا نتمنّى أن نجدها. فإذا كنا قد عرفنا أن هذه العودة انطلقت من القبر، فلا نعرف إلى أين وصلت. فلا بيت لهذه النسوة في أورشليم. فأين سيجهّزن الحنوط؟
كلَّمنا لوقا منذ الآن عن الحنوط وزاد "الاطياب" التي هيّاتها النسوة بعد عودتهن من القبر، من أجل يسوع. في مر 16: 1، لم يفكّرن في ذلك إلا صباح الأحد، وذهبن ليشترينها. أما لوقا فاستفاد من هذا التسبيق ليجعل مهلة بين تهيئة هذه الاهتمامات الجنائزية وتنفيذها. هذه النسوة اللواتي استعددن للقيام بها، لم يذهبن إلى القبر في صباح السبت. بل انتظرن يوماً كاملاً (24 ساعة) ليُتممن الطقس المطلوب (24: 1). إنهنّ يهوديات صالحات. وهنّ أمينات على حفظ الوصية التي تفرض "راحة" السبت (23: 56 ب). هذا ما ذكّرنا به لوقا: بمثل هؤلاء الاشخاص أحيطت أصول يسوع، وإلى مثلهم سيلجأ لإعلان القيامة ونقلها إلى التلاميذ الآخرين. لقد وُلدت الكنيسة من "نخبة" العالم اليهودي. إن عمل الله يتمّ في التواصل.
هذا ما أراد لوقا أن يشدّد عليه. فهو لا يهتمّ أن يعرف إن كانت تهيئة الحنوط تدلّ على تجاوز للشريعة. ومهما كان من أمر آ 54 (يوم التهيئة)، يجب أن نفترض أن السبت كان قد بدأ في نهاية الدفن. غير أن الانجيلي قد اعتبر هذا العمل شرعياً (هذا إذا كان واعياً له). وإن فرضنا أنه كان ممنوعاً في الشريعة اليهودية، في أيامه، فهذا أمر لم يعرفه لوقا ولم يهتمّ به. وإن لم يتكلّم عن شراء كما فعل مر 16: 1، فهو لم يفعل كرامة للسبت أو لأن الوسط تأخَّر. بل لكي يحتفظ في خبره بالأمور الجوهرية.
ونشير هنا بشكل عابر إلى جهل لوقا لعدد من الأمور اليهودية. مثلاً، يُعطى الاسم للولد في الختانة، لا في الولادة (1: 59). جعل الانجيل "الثور" مع "الولد"، فبدّل طريقة عرض الفتوى تبديلاً كاملاً (14: 5). وجد أموراً غير دقيقة عن "النذير" في أع 18: 18؛ 21: 23- 26. ثم كيف يمكن أن يحضر وثني بين أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة انسان (أع 22: 30؛ 25: 9: فستوس).
خاتمة
وهكذا هيّا لوقا القارئ للدخول في المشهد التالي حسب طريقة معروفة عنده. فسوف نجد النسوة أنفسهن في القريب العاجل، في خبر الأحد. ذهبن إلى القبر "مع الحنوط الذي هيّأنه" (24: 1). غير أن الخبر يتوقّف في آ 56 أ. ووجود "من... دي" يدخلنا في حدث صباح القيامة مع راحة السبت التي هي مقدّمة تليق بإعلان نور القيامة المجيدة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM