الفصل الخامس والثلاثون: موت يسوع

 

الفصل الخامس والثلاثون
موت يسوع
23: 44- 49

إن اللوحة الثالثة في رسمة الجلجلة الكبرى (23: 44- 49) توجز ما نجده في مر 15: 33- 41، تعيد ترتيبه وتحوّله بعض الشيء. تتألف هذه المقطوعة من أربعة عناصر. الأول (آ 44- 45) يصوّر المعجزات الخارجيّة التي سبقت موت يسوع. الثاني (آ 46) يعيدنا إلى يسوع، إلى موته وهو يتلو صلاته. هذه هي ذروة خبر الحاش والآلام. الحنصر الثالث (آ 47- 48) يرى نتائج ما حصل على الحاضرين. والرابع والأخير (آ 49) يعدّ القارئ للأخبار المقبلة ويرسم خطأ يحدّد نهاية القسم. وهذ ما نراه بسبب التوازي الذي يوحّده مع آ 55 وآ 56 أ.
1- معجزات خارجية
لم يحتفظ لوقا من تعداد الساعات عند مرقس إلا بذلك الذي يشير إلى الظلمة. فالتحديد ضروري لإبراز الطابع العجائبي للظاهرة. إنطلق لوقا من حاشية مر 15: 33 وقام ببعض اللمسات فيها. زاد على الوقت لفظة "تقريباً، نحو". "وكان نحو الساعة السادسة" (أي الظهر). هذه طريقة معروفة عند لوقا. في 3: 23: لما باشر يسوع تعليمه "كان له نحو ثلاثين سنة". في 9: 14، كان الآكلون "نحو خمسة آلاف رجل". في التجليّ: "بعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام" (9: 28)؛ رج 22: 41، 59؛ 23: 44 (ق مر 1: 33: وعند الساعة الثالثة)؛ أع 1: 15؛ 2: 41؛ 10: 3؛ 19: 7.
إمتدّت الظلمة "تقريباً" من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، من الظهر إلى الساعة الثالثة بعد الظهر. وزاد لوقا في آ 45 أ عبارة "لأن الشمس قد كسفت". فالفعل "اكليباين" يعنى: توقّف، زال (16: 9؛ 22: 32؛ عب 1: 12، رج مز 102: 28). ولكن مع الشمس والقمر، يدلّ على الكسوف والخسوف. هل فكّر لوقا بهذا الأمر؟
غير أن هناك اعتراضات ضدّ هذا الإحتمال. قيل: كان على لوقا أن يعرف مثل سائر الناس أن الشمس لا تكسف في تمام البدر. وأن كسوفها لا يمتد ثلاث ساعات. وأنه إذا أراد أن يتحدّث عن معجزة، وجب عليه أن يستغني عن اللغة العلمية. وهكذا نكون أمام استعمال غير تقني لفعل "اكلايباين"، كما في السبعينية (أش 60: 20؛ أي 31: 26؛ سي 17: 26 "31"؛ 22: 11).
هذا ما فهمه النسّاخ والمترجمون، وقد أرادوا أن يبرّئوا لوقا من خطأ، ويبعدوا عن الأناجيل ملاحظات الخصوم الهازئة. ففضّلوا أن يكتبوا: الشمس "أظلمت". هذا ما نجده في المخطوطات المصرية (اسكوتستي)، في السريانية العتيقة وفي البسيطة (حشك أو حسخ)، في اللاتينية العتيقة (أوبسكوراتوس). في الواقع، هذا التصحيح يظلم الإنجيلي. فإن كنا أمام كسوف، فلماذا هذه الزيادة التي تكرّر ما قيل، وهذه ليست عادة لوقا؟ ولكن ما يفهم عند الإنجيلي الثالث هو إرادته بأن يشرح المعجزة. هل أخطأ حين جهل الزمن الدقيق لعيد الفصح (خلاله جرت الآلام، 22: 1، 15)، أو شروط كسوف الشمس أو الأمرين معاً، فالأمر ما زال معقولاً. إذن، نحن أمام "معجزة"، وهذه المعجزة هي: كسوف الشمس. نحن هنا أمام شرح كما اعتاد لوقا أن يفعل. يتحذث عن "القوة" (ديناميس). عاد مر 5: 30 مرة واحدة إليها (أحسّ بالقوة التي خرجت منه). رج لو 4: 36 (يأمر بسلطان وقدرة)؛ 5: 17 (قدرة الربّ)؛ 6: 19 (كانت قوة تنبعث منه)؛ 9: 1؛ أع 3: 12؛ 4: 7؛ 6: 8؛ 10: 38. في لو 21: 26 نقرأ: "لأن قوات السماء تتزعزع". هذا شرح للآيات التي سبقت (ق مر 13: 25؛ مت 24: 29: يقول فقط: تتزعزع بدون "لأن").
لقد تصّرف لوقا ككاتب هلنستي في هذا المجال. أراد فيلون الإسكندراني أن يشرح ضربة الظلمة في مصر (خر 10: 21- 29) ففكّر في تكثيف خارق للغيوم، في كسوف شمس لم يكن كالعادة. أما يوسيفوس المؤرّخ فتحدّث عن عبور البحر الأحمر وترك قرّاءه يختارون بين مشيئة الله الفاعلة بشكل مباشر، وظاهرة جاءت بالصدفة كما حدث لجيش اسكندر. قال المؤرّخ هذا، دون أن يلغي طابع العناية عن الخلاص الذي منحه الله لشعبه في هذا الظرف.
هذان المثلان وغيرهما (تماثيل تعرق دماً، تبكي، تتنهّد) تفهمنا زيادة لو 23: 54 أ: هو لا يعارض واقع المعجزة، ولكنه يخفّف الصدمة عن قرّائه: إذا كانت المعجزات علامات إلهية، فلا تعارض نواميس الطبيعة. إنها تتمّ حسب الطبيعة.
عندما نفسّر الأمور بهذا الشكل، تتوافق ظاهرة الظلمة مع إحدى القراءتين الممكنتين لعبارة "على الأرض كلها". إذا كانت هذه "الارض" في نظر لوقا هي الكون كلّه (كما في 2: 14؛ 5: 24؛ 12: 49، 51؛ 18: 8، 21: 25، 35)، لا أرض إسرائيل (كما هو الأمر في مت ومر)، فالمعجزة بشكل كسوف تكون موافقة. ثم إن هذه الوجهة الكونية تلتقي مع كليشيه أدبي عرفه العالم القديم وبالتالي لوقا. غير أن الإنجيلي لا يكتفي بأن يورده، بل يعطينا مفتاح المعجزة. فهذه "الظلمة" لا تنفصل عن كلمة تلفّظ بها يسوع قبل أن يمسكه الحرس فيصبحوا أداة "قدرة الظلمة" (22: 53). فبدل أن نعود إلى أع 2: 17- 20 حيث يورد بطرس النبي يوئيل فينشد مجيء الأزمنة الأخيرة لاجئاً إلى الظواهر الكونية بما فيها الظلمة، يدلّ سياق خبر الآلام على الطريق الواجب اتباعها. لقد بدأت "قوة الظلمة" تعمل منذ دخل الشيطان في يوضاس (22: 3). وما زالت تتابع عملها خلال الحاش. وقد وصل عملها إلى الذروة ساعة مات يسوع على الصليب. نحن أمام قوة كونية، ومع ذلك فهي تعمل من أجل خلاص العالم.
في مر، إرتبطت المعجزة الثانية بموت يسوع. أجل، إن انشقاق حجاب الهيكل هو النتيجة المباشرة لهذا الموت. أما لوقا، فضمّ هذه الظاهرة إلى الظلمة، وحدّد موقعهما قبل هذا الموت. لماذا؟ اعتاد لوقا أن ينقل أموراً من مكانها ليعيد ترتيبها بحسب مخططه (مثلاً، جعل كل ما يخصّ يوحنا المعمدان في 3: 1- 20، وهكذا لن يعود إليه). وهناك سبب آخر وربّما أهمّ: كيف يجعل من رمز التنجيس والتدمير نتيجة مباشرة لموت يسوع (هل هو الحجاب الخارجي أو حجاب قدس الأقداس، هذا ما لا يهتمّ له لوقا). في هذا المجال، لا يلغي يسوع عبادة الهيكل التي ما زال يمارسها تلاميذه الأولون. إنه "بيت صلاة" ويستحقّ كل إكرام (19: 45- 46). قال عنه يسوع إنه "بيت أبي" (2: 49) والموضع المميّز للتعليم الذي يعطيه (19: 47). زال الهيكل في كارثة سنة 70، فنال العقاب الإلهي. ولكن لا شيء يشير إلى العبادة في الهيكل كموضوع لوم (هاجم اسطفانس نظرة إلى الهيكل لا تليق بالله. ثم إن لوقا يعتبر أن الله لا ينحصر في مسكن صنعته يد البشر، أع 7: 48- 50؛ رج 1 مل 8: 27؛ 2 أخ 6: 18). لهذا حين نضمّ هذه المعجزة الثانية (انشقاق حجاب الهيكل) إلى الظلمة نجعلها ترتدي رمزية مماثلة (لا نرى عند لوقا يسوع مصلّياً في الهيكل. هو المعلّم في الهيكل لا الآتي إلى الحجّ والصلاة). حين أصاب انشقاقُ الحجاب الهيكل، مسكن الله، دلّ برمزيته على عمل الشرير الذي وجدناه في الظلمة والذي يعمل للمرة الأخيرة قبل موت يسوع. إن هذا الهجوم الأخير هو في الواقع انتصار الله.
2- صلاة الاستسلام
ترك لوقا صلاة يسوع كما أوردها مرقس ومتّى عائدين إلى مز 22. ذكر مر 15: 34-37 صرختين سبقتا حالاً موت يسوع. أما لوقا فاحتفظ بصرخة واحدة. قال مر 15: 37: "أما يسوع فأرسل صوتاً عظيماً، وأسلم الروح". أما لوقا فجعل من هذه الصرخة التي لم يعبّر عنها الإنجيلي، تعبيراً عن صلاة حارة (23: 46) إعتاد أن يتحدّث عنها لوقا في إنجيله (صلاة يسوع في 3: 21؛ 6: 12؛ 9: 18، 28؛ 10: 21؛ 11: 1؛ 22: 42).
إن صلاة يسوع الأخيرة هي إيراد مز 31: 6 (حسب السبعينية). زيدت لفظة "أبت". وحلّ الحاضر محل المضارع: الآن، أنا أستودع روحي. هذه الصلاة التي يتلوها اليهودي عند المساء، كما يقول التلمود، قد عرفتها ليتورجية المجمع والجماعات المسيحية في أيام لوقا. وجاءت في فم يسوع تعبيراً عن عطيّة حياة يسوع لله، للآب (يسمّي لوقا الله "الآب": 10: 21= مت 11: 25- 26؛ لو 11: 2= مت 6: 9؛ لو 22: 42= مر 14: 36؛ لو 23: 34).
كان مرتل المزمور رجلاً باراً: لاقى الإحتقار والتجديف. هدّد في حياته، فسلّم إلى "يد" (قدرة، حماية) الله ما بقي له من نفَس (روح، بنفما). طلب منه أن يدافع عنه لكي يظلّ على قيد الحياة. وفي وضع يسوع، كان هذا النفَس (بنفما، الروح) آخر شهقة لدى شخص يموت. هذا ما يدلّ عليه الإتصال مع الفعل التالي: "اكسابناسن": أسلم الروح. أخرج آخر أنفاسه.
إن يسوع لا يموت بشكل منفعل، وكأنه يقاد. فقد أراد أن يكون آخر إكرام يقدّمه لله في تقوى بنوية: إنه يردّ إلى الله أبيه نفَس الحياة الذي أعطاه إياه.
3- نتائج موت يسوع في الحاضرين
فعل لوقا كما فعل متّى ومرقس، فأورد اعتراف قائد المئة الروماني، الذي يُشرف على صلب يسوع (23: 47). جاءت المقدّمة أقصر ممّا في مر 15: 39 أ (رآه قائد المئة القائم بإزائه) فدلّت على يد لوقا حين تحدّث عن "تمجيد الله" (2: 20؛ 5: 25- 26؛ 7: 16؛ 13: 13؛ 17: 15؛ 18: 43؛ 23: 47؛ أع 4: 21؛ 11: 18؛ 21: 20). نجد هذا "التمجيد" ست مرات من أصل ثمانٍ كردّة فعل على نشاط يسوع العجائبي (5: 25، 26؛ 7: 16؛ 13: 13؛ 17: 15؛ 18: 43؛ رد أع 4: 21). ولكن ما يدلّ عليه دوماً هو نتيجة حدث خارق نرى فيه عمل الله.
وحين دلّ لوقا هنا على سبب هذا التمجيد بعبارة غامضة "ما جرى" (إسم الفاعل في الصيغة الحيادية غاغونوس: 8: 34، 35، 36؛ 24: 12؛ أع 4: 21؛ 5: 7؛ 13: 12؛ مع "غانومينون" في 23: 47؛ أع 12: 9)، لم يركّز (كما فعل مر 15: 39) الإهتمام على يسوع، بل اقترب من مت 27: 54 (رأوا الزلزلة، وما جرى) الذي تحدّث أيضاً عن الزلزال (هزّة أرضية). لقد كان قائد المئة شاهداً لما جرى (رج 8: 34: رأى الرعاة ما جرى. لسنا فقط أمام لفت نظر كما في 5: 20؛ 8: 47؛ 9: 47، 54؛ 17: 15؛ 18: 24؛ 22: 49).
نحن هنا أمام ثلاثة أمور: الظلمة، إنشقاق حجاب الهيكل، صلاة يسوع في صيحة عظيمة. ومع ذلك، قال لوقا كلمة "عامة" (ما جرى). فما هو غير عادي امتزج مع ما يبني الجماعة، فأثار إعجاب قائد المئة الذي مجّد الله.
هنا نشير إلى البحث عن المعقول عند لوقا. قال مت 4: 8: "أخذه إبليس إلى جبل عالٍ جداً، وأراه جميع ممالك الدنيا ومجدها". أية قمة نستطيع أن نرى منها العالم كله؟ قال لو 4: 5: "أراه في لحظة جميع ممالك الدنيا". لو 6: 29: "من أخذ رداءك لا تمنعه من ثوبك". يؤخذ الرداء ثم الثوب. أما مت 5: 40 فقال: "من أخذ ثوبك، خلّ له الرداء". قال مت 11: 2: "لما سمع يوحنا، في السجن، بأعمال المسيح، أوفد". من أعلم يوحنا؟ أليسوا تلاميذه؟ لهذا قال لو 7: 18: "وأخبر يوحنا تلاميذُه". إنحصر انقطاع يوحنا عن الخبز والخمر (7: 33؛ رج مت 11: 19: لا يأكل ولا يشرب) (رج مر 1: 6؛ مت 3: 4). نحن لا نرى الزهور تنمو (12: 27؛ رج مت 6: 28). وقد لاحظ لوقا البرق (17: 24؛ ق مت 24: 27) الذي يلمع من طرف فيصل إلى طرف آخر.
هذا هو اهتمام لوقا هنا في اختيار عبارة اعتراف يجعلها في فم قائد المئة تختلف عمّا في مت ومر. جعلا على شفتي الضابط الوثني فعل اعتراف مسيحي بيسوع: إنه "ابن الله". أما لوقا فأعلن: "في الحقيقة، كان هذا الرجل باراً". إن الصفة "ديكايوس" قد تعني "البريء" كما في السبعينية (يوء 4: 19؛ يون 1: 14؛ أي 2: 23؛ 17: 8؛ مز 1: 11؛ 6: 17. في العبرية: نقي). في هذه الحالة، يكون كلام الضابط امتداداً بعد موت يسوع لقول كرّره بيلاطس خلال المحاكمة (23: 4، 14- 15، 22). ولكن هذا التأويل يلقى اعتراضات من داخل الإنجيل نفسه (ما قيل عن يسوع يقال عن المسيحيين. نلاحظ هنا صيغة لوقا الدفاعية).
إذا تطلّعنا إلى استعمال الصفة في مؤلّف لوقا (لو+ أع)، نلاحظ أنه لا يعطيها معنى "بريء" (غير مذنب) بل معنى "الأمين، الخاضع لإرادة الله" (1: 16- 17؛ 2: 25؛ 5: 32؛ 14: 14؛ 15: 7؛ 18: 9؛- 20: 20؛ 23: 50؛ أع 10: 22؛ 24: 15). ويبدو الأمر واضحاً خصوصاً في أع، حيث يصبح "ديكايوس" إسم جنس ويعطى ليسوع كلقب (أع 3: 14: القدوس والبار؛ 7: 52؛ 22: 14). في كل هذا توافقَ لوقا مع النظرات المسيحانية كما نجدها في الكتاب المقدّس والعالم اليهودي القديم (إر 23: 5؛ زك 9: 9؛ مزامير سليمان 17: 32).
إن الضابط الروماني يقدّم على الجلجلة صوته ليقرّ بأن يسوع هو ذاك الذي عاش حياته حسب إرادة الله، وأنه ما زلّ حتى النفَس الأخير. وهو يمجّد الله الذي فعل ما فعل في يسوع. وهكذا أحيطت حياة يسوع بالتمجيد: منذ ولادته (2: 14، 20) حتى موته على الصليب.
وزاد لوقا على ردّة فعل الضابط، ما قالته الجموع في تلك المناسبة (23: 48)، فاختلف عن سائر الإنجيليين. نحن نعرف أن "الشعب" حاضر هنا، على الجلجلة (23: 35) حيث تبع يسوع (23: 27). إختلف عن سائر الأشخاص الذين أظهروا عداوة ليسوع، فاكتفى بأن "ينظر" دون أن يقول شيئاً. هذا الموقف يدل على تطوّر بالنسبة إلى الموقف ذاته الذي وقفه "الشعب" أو "الجموع" (على الجلجلة وأمام بيلاطس، الشعب هو الجمع والعكس بالعكس)، خلال مشهد المحاكمة الذي رأسه بيلاطس. وهو يهيّئ القارئ أيضاً ليلاقي الشعب ذاته بعد موت يسوع.
نرى هنا أنه ينظر، يشاهد. ونعرف أنه اجتمع لهذه الغاية (الأداة "سين"، "مع" مع الفعل). لقد انتهى المشهد وعاد كل واحد إلى بيته. ولكن ها هو الشعب يبدّل موقفه فجأة. فنظره (مثل نظر قائد المئة) قد أدرك العظمة في "ما جرى". غير أن هؤلاء الناس هم مخطئون: طالبوا بصلب يسوع بصراخ عظيم. إذن، نحسّ في مقالة قرع الصدور أكثر من طقس حداد. نجد فيه تعبيراً عن توبة. ويثبت هذا الإستنتاجَ الأخير صلاة العشّار في 18: 31: قرع صدره وهو يصرخ: "إرحمني يا الله، أنا الخاطئ". ونحن هنا على الجلجلة أمام خطأة تائبين (نجد في الترجمات حواشي على آ 48: تبكي الجموع على شقائها. تنظر إلى دمار أورشليم كعقاب لخطاياها). وهكذا نكون أمام موضوع عزيز على قلب لوقا (10: 13، 11: 32؛ 3: 3، 5؛ 15: 7، 10: 16: 30؛ 17: 3، 4؛ أع 2: 38؛ 3: 19)، وإن لم نستطع أن نتكلّم عن توبة بالمعنى الحصري للكلمة، فقد بقي موضع لنداء الرسل بعد الفصح (أع 2: 38؛ توبوا وليعترف كل منكم بخطاياه، 3: 19). ولكن لوقا جعلنا منذ الآن نستشفّ أن موت يسوع يقود في الحقيقة إلى التوبة. بدأت آثارها في الإنجيل، وتفتّحت في سفر الأعمال.
4- نحو الأخبار المقبلة
إن نهاية هذه المقطوعة (آ 49) تلتقي ونهاية المقطوعة التالية (23: 55- 56) بعدد من الألفاظ المشابهة: رجِع (آ 48، 56). النسوة (آ 49، 55). تبع (آ 49، 55). "من الجليل" (آ 49، 55). نظر (آ 49، 55).
ماذا تقول الحاشية عن النساء التلميذات (23: 49 ب: تبعنه من الجليل)؟ إذا قابلناها مع مر 15: 40- 41 فهي تلفت انتباهنا أولاً بإيجازها. إنها ملخّص لنصّ مرقس. لا نجد أي إسم علم، بل تسمية إجمالية بدون ذكر أسماء. هذا مع العلم أن لوقا أعطانا تفاصيل لم يذكرها أحد عن نساء رافقن يسوع في تنقّلاته. ونقول الشيء عينه عن 23: 55 (ق مر 15: 47؛ كانت مريم المجدلية...). ولكن في 24: 10 سيتذكّر لوقا اللائحة التقليدية. قد يكون لوقا أغفل الأسماء في 23: 49 و23: 55 لأنه لم يجد لائحة سابقة. فاللائحة في مر 15: 40، 47 تختلف عمّا في مر 16: 1.
جزأ مرقس مسيرة النساء مع يسوع في مرحلتين: في الجليل، وخلال الصعود إلى أورشليم. أما لوقا فجمع كل شيء في جملة واحدة وحركة واحدة: نساء تبعن يسوع "من الجليل". ستتكرّر هذه الحاشية فيما بعد (23: 55 أ) فتدلّ على اهتمام الإنجيلي بأن يضمّ هؤلاء الأشخاص إلى المسيرة التي قادت يسوع من الجليل موطنه إلى الموضع الذي يكرّس ذروة رسالته الخلاصية. فاللواتي عشن حتى النهاية المسيرة على خطى يسوع، سيكنّ أول من ينال بشرى القيامة ويعلننها. هذه الإمتيازات ظهرت من خلال نشاط تلك النسوة في جماعات عرفها الإنجيلي. وقد يكون البعض حاول أن يعارض "هذه الإمتيازات"، فأعاد لوقا الأمور إلى نصابها.
ولكن يا المقطع الذي ندرس، جاءت النسوة في الموقع الثاني. فقد سبقهنّ الرجال. هناك "غنوستوي"، أشخاص معروفون من يسوع، أصدقاؤه. إشارة غامضة كما في 2: 44 (بحث يوسف ومريم عن يسوع بين الأقارب والمعارف أو الأصدقاء)، ولكنها إشارة مدروسة. أغفل لوقا الحديث عن هرب التلاميذ حين أوقف يسوع. وقد عرف بواسطة مراجعه أننا لن نجد أحداً منهم ليشهد صلب المعلّم. لا تشير المراجع إلاّ إلى النسوة. فإن حاول أن يُدخل التلاميذ هنا، عارض ما يعرفه الناس في الجماعات. غير أن لوقا حاول رغم كل شيء أن يعوّض عن هذا النقص.
كان مرقس قد كتب أن التلاميذ "تركوا" يسوع "وهربوا كلهم" (بنتس) (14: 50). أما لوقا فقال: "كل أصدقائه" (بنتس، يحبّ لوقا لفظة "كل") شهدوا آلامه. إن مثل هذا الكلام يريد أن يبني الجماعة حوله شجاعة المجموعة حتى النهاية. فهؤلاء النالس من رجال ونساء ليسوا عند الصليب، تحت الصليب (ق يو 19: 25-27)، بل يقفون عن بعد، كما كان الشعب واقفاً من قبل. وكانوا مثله ينظرون إلى ما يحدث. ذكر مر 15: 40 كلام مز 38: 12 (حسب السبعينية): "أقاربي وقفوا بعيداً عنّي". وهذا ما لم ينسه لوقا في هذه المناسبة حين جعل أصدقاءه يقفون عن بُعد.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM