الفصل الثامن والثلاثون:الربّ يسوع مع تلميذي عماوس

الفصل الثامن والثلاثون
الربّ يسوع مع تلميذي عماوس
24: 13- 35

إن خبر ظهور يسوع القائم من الموت على تلميذَي عمّاوس، كما رواه مطوّلاً لو 24، يعدّ من أجمل صفحات الإنجيل ومن أغناها على المستوى العقائدي. سنهتمّ هنا في المضمون اللاهوتي، ولكننا نتفحّص أولاً الخبر في ذاته ونحدّد فنّه الأدبي. وسوف نلاحظ أن هذا البعد اللاهوتي للمقطع يرتبط بخبر يعتبر أنه يروي الأحداث كما وقعت. لهذا، سنتساءل عن واقعيّة هذه الأحداث. إذن، ندرس أولاً الفن الأدبي، ثم الحقيقة التاريخية، وأخيراً المدلول التعليمي.
1- الفن الأدبب
أ- بعض المقابلات
إذا أردنا أن ندرك إدراكاً ملموساً الفن الادبي لمقطوعة تلميذَي عمّاوس، نعود إلى بعض المقابلات مع نصوص أخرى. ونبدأ الأولى مع قانون الإيمان الذي يورده بولس فى 1 كور 15: 3- 5 ويعتبره خلاصة كرازته: "إنني قد سلّمت إليكم أولاً، ما قد تسلّمت أنا نفسي، أن المسيح قد مات من أجل خطايانا، على ما في الكتب، وأنه قُبر، وأنه قام في اليوم الثالث، على ما في الكتب، وأنه تراءى لكيفا (بطرس) ثم للاثني عشر".
حين أملى مار بولس هذا النصّ، لم يخترعه. بل اكتفى بأن يستعيد كلاماً قديماً حدّد التقليدُ تعابيره. وهذا ما يجعلنا نظنّ أن هذا "النؤمن" القصحي يرجع إلى أورشليم. وقد ردّدته سائر الكنائس ولم تبدّل شيئاً فيه.
إن خبر تلميذَي عمّاوس يتضمّن إعلاناً قريباً من إعلان إيمان بولس هذا. هي كلمات الرسل الذين أعلنوا قيامة يسوع في آ 34: "قام الرب حقاً وظهر لسمعان".
ونستطيع أن نقيم تقاربات أخرى بين أقوال التلميذين ليسوع (آ 19- 24: ما يتعلّق بيسوع الناصري الذي كان نبياً مقتدراً في الفعل والقول...) وجواب يسوع للتلميذين (آ 25- 27: كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام ويدخل إلى مجده) من جهة. وبين التعليم الفصحي الذي نجده في الخطب الرسولية في سفر الأعمال من جهة ثانية. فالتلميذان يتحدّثان بشكل موجز عن رسالة يسوع وعن صلبه في ألفاظ هي ألفاظ الكرازة الأولى. "ما حصل ليسوع الناصري الذي كان نبياً... كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكّامنا للقضاء عليه بالموت، وصلبوه" (آ 19- 20). وحين بدأت كرازة الرسل لليهود حول موت يسوع، أبرزوا دوماً خطيئة الشعب اليهودي وخطيئة رؤسائه. نقرأ في أع 2: 23: "يسوع الناصري الانسان الذي أيّده الله لديكم". وفي 3: 13- 15: "إن إله ابراهيم... مجّد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه.." (رج 4: 10؛ 5: 30؛ 7: 52؛ 13: 27- 30).
إحتفظا من رسالة يسوع العلنيّة بأعمال قدرته، "بالمعجزات والعجائب والآيات التي أجراها الله على يده" (أع 2: 22؛ رج 10: 38). وتذكّرا أيضاً موسى الذي بسببه سُمّي يسوع "نبياً" (آ 19؛ رج تث 18: 15). وتحدّثا عنه كالفادي: "كنا ننتظر أنه هو الذي يفتدي إسرائيل" (آ 21؛ رج أع 7: 35). وتابع التلميذان خبرهما فتكلّما عن اكتشاف القبر الفارغ وعن الرسالة التي حمّلها الملاكان إلى النسوة بأن يسوع هو حيّ (آ 23). نجد هذه العبارة الأخيرة في ملخّص للكرازة الفصحية في فم بولس: "حول انسان اسمه يسوع، قد مات ويدّعي بولس أنه حيّ" (أع 25: 19).
ولكن يسوع هو الذي سيعرض حدث القيامة (آ 25- 27). إنطلق من الكتب المقدسة. إنطلق من النبوءات: "كان يجب على المسيح أن يقاسي هذه الآلام ليدخل في مجده" (آ 26). إن موضوع البرهان الكتايي يعود في آ 46: "هكذا كُتب: إنه ينبغي للمسيح أن يتألمّ، وأن يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث". وهذا ما سيكون أيضاً موضوعاً تتوسّع فيه الكرازة الرسولية عائدة إلى الكتاب المقدّس. وتدلّ آ 27 على النهج المفروض من أجل هذا التوسّع: "بدأ مع موسى، وجال على جميع الانبياء، ففسّر لهما ما يختصّ به في الاسفار كلها".
تبع العرض ترتيب التوراة في قسماتها الثلاث الكبرى. وسيكون الأمر هكذا في الشروح التي يقدّمها يسوع لرسله في آ 44: "لا بدّ أن يتمّ جميع ما كُتب عني في ناموس موسى وفي الأنبياء والمزامير" (تبدأ المزاميرُ مجموعة "الكتب" والجزء يدلّ على الكلّ). وذاك كان النهج الذي سارت عليه الكرازة الرسولية (أع 2: 33- 36؛ 3: 18، 24؛ 10: 43؛ 17: 3؛ 26: 22؛ 28: 32).
إذن، حين نعود إلى الفن الأدبي، يبدو من السهل أن نربط بعض عناصر مقطوعة تلميذَي عمّاوس بعبارات الكرازة الرسولية أو أفعال الإيمان التى تكرّست في الوعظ والكتابة. غير أن هذه العناصر لا تمثّل إلا جزءاً بسيطاً من الخبر: حوار يسوع مع التلميذين، إعلان الرسل للتلميذين اللذين وصلا إلى أورشليم. من الواضح أن الخبر في مجمله ينتمي إلى فنّ أدبي مختلف جدّاً. فحين يكون الإنجيلي أمام إعلان الإيمان أو الكرازة، وجب عليه أن يكتفي بأن يستعيد عبارات تقليدية. أما حين يدوّن خبره، فهو حرّ في اتخاذ الوسائل لكي يقدّم الأحداث بشكل يوافق نظرته الخاصة.
ب- ظهورات يسوع للرسل
وإذ نبقى في سياق القيامة، نحاول أن نقابل بين أخبار ظهور يسوع لرسله (24: 36- 49؛ أع 1: 3- 8؛ رج مت 28: 16- 20؛ يو 20: 19- 23، 24- 29؛ 21: 1- 14). الرسمة هي هي: يحضر يسوع فجأة. فيشكّ الرسل ويرتابون. حينئذٍ يدعوهم يسوع إلى التأكّد من واقع جسده. ثم يبيّن لهم آثار جراحاته (24: 39 أ؛ يو 20: 20). ويدعوهم إلى لمسه (24: 39 ب؛ يو 20: 27)، بل يأكل معهم (24: 43؛ أع 1: 4، 10: 41؛ رج يو 21: 9- 12). وما إن يقتنع الرسل، حتى يحدّثهم يسوع عن الرسالة المحفوظة لهم (24: 48؛ أع 1: 8؛ مت 28: 18- 20؛ يو 20: 21- 23؛ 21: 15- 17).
لا شكّ في أن هذه الاخبار تتجاوب مع اهتمامين إثنين لدى الذين يروونها. يظهر يسوع لرسله ليسلّم إليهم مهمّة، وهي تجعل منهم أسس الكنيسة. غير أن هذه المهمّة تتضمّن شهادة، وهذه الشهادة لن تفعل فعلها قبل أن يقتنعوا بواقعيّة القيامة. لهذا يذكر الإنجيل شكوكهم، لأن هذه الشكوك فرضت عليهم بأن يرتكزوا على براهين أكيدة بأنهم لم يكونوا أمام سراب أو خيال.
هذا الاهتمام هو قريب من ذاك الذي ميّز الكرازة الرسولية أو اعتراف الإيمان في 1 كور 15. فذكرُ قيامة يسوع يتبعه ذكرٌ لظهورات نَعِم بها الرسل. وهكذا شكلت هذه الظهورات للمسيحيين الأساس المباشر لإيمانهم بالقيامة. أما فيما تبقّى، فالخبر عارٍ من الصور الجليانية: تجرّد من كل تفصيل لا فائدة منه. فالهدف الذي وضعه الإنجيلي أمامه حين روى هذه الظهورات، هو أن يبيّن أن الإيمان المسيحي يرتكز على أساس متين.
أما خبر تلميذَي عمّاوس فهو جواب على سؤال آخر. هو لا يقدّم برهاناً عن حقيقة يسوع، ولا يعطي إشارة إلى واقع قيامته. بل يحدّد لوقا أن قوّة منعت عينَي التلميذين من معرفة يسوع (آ 16): مثلُ هذا الوضع لا يوافق ما يريد أن يؤكّده شهود عيان. وحين عرف التلميذان يسوع عند كسر الخبز، اختفى عنهما.
من الواضح أن هذا الخبر لم يدوّن ليبرهن عن حقيقة ما. فهدفه ليس هدفاً دفاعياً (أبولوجيا). وهو لا يرغب أن يبيّن الأساس المتين للايمان المسيحي. فالإنجيلي يروي، وهو يجد لذة في روايته. إنه يجعلنا نحقق بحبِّ التلاميذ لمعلّمهم وحنان يسوع تجاههم. يكلّمنا لوقا فنحسّ أنه هو أيضاً اشتعل حبّاً ليسوع، فيؤثّر فينا هذا الحبّ. وكل مرة نعيد قراءة هذا الخبر، يجتذبنا تيار حبّ المخلّص الذي يحيط بالخبر كله. لسنا هنا بعد في مجال إيمان يبحث عن براهين، بل نكتشف بإعجاب حبّاً بشرياً رقيقاً تجاه يسوع، ووجهة من الوجهات التي تدلّ على تعلّق المسيحيين الأولين به.
ج- خبر المجدلية
قابلنا خبر تلميذَي عمّاوس مع الكرازة الرسوليّة في أع ومع فعل الإيمان في 1 كور 15 مثلاً. ثم قابلناه مع ظهورات يسوع للرسل. وها نحن نقابله مع ظهور يسوع لمريم المجدلية في يو 20: 11- 17. لن نحاول أن نبحث عن الفروقات، بل على التشبهات، لا سيما وأن الخبرين يعودان إلى فن أدبي واحد. وهناك أيضاً طريقة الإخبار: فخبر ظهور يسوع لتلميذَي عمّاوس يبدو قريباً جداً من خبر ظهور يسوع لمريم لمجدلية. وهذا ما سوف يساعدنا على اكتشاف البُعد التعليمي للحدث الذي نتأمّل فيه الآن.
نبدأ فنقول إننا لا نستطيع أن نعتبر هذين الخبرين "خبرَي ظهور". فما قيل هنا لا يتلاقى مع أهمية ظهور يسوع لرسله. المهم ليس واقع الظهور في حدّ ذاته، وليس أن يأتي يسوع، يكون حاضراً، يدلّ على نفسه. فبالنسبة إلى مريم المجدلية كما إلى تلميذي عمّاوس، لا يكفي أن يكون يسوع هنا. يجب أن نتعرّف إليه. وسيشدّد النصّ على الساعة المؤثّرة التي فيها يتعرّف إلى يسوع أولئك الذين يحبّونه.
الوضع دارماتيكي هنا وهناك. أمام القبر الفارغ، مريم تبكي. هي تبكي بكل الحبّ الذي يعمر في قلبها تجاه يسوع. هي لم تستطع بعد أن تكتشف جثمانه. إنه بعيد عنها كل البعد مع أنه بقربها. وتلميذا عمّاوس هما في طريق فارغة يتحدّثان عن يسوع. هما ضائعان، متحيرّان، هما حزينان، وكآبتهما ترتسم على وجهيهما. جاء يسوع. إقترب، إنه هنا وهو يكلمها. أما هما فلم يعرفاه.
لا بلاغة ساطعة في هذين الخبرين، وبساطتهما تمسك بجوارحنا. وتنمو العاطفة فينا حتى الساعة الحاسمة التي فيها يعرّف يسوع بنفسه. هنا، لا حاجة إلى العبارات الطويلة. في الخبر الأول، أكتفى يسوع بفعلة بسيطة: كسر الخبز. وفي الخبر الثاني، اكتفى بكلمة واحدة: "مريم".
لا يتوخّى الإنجيلي في كلا الخبرين أن يبرهن عن أي شيء. إنه يروي لنا خبرتين، ويرويهما بطريقة لا يمكنها إلا أن تحرّكنا، إلا أن تدفعنا للدخول في قلب الذي عاشهما. خبران لا يتوجّهان إلى العقل، بل إلى الشعور والعاطفة. وبفضلهما سنفهم أن الحدث الفصحي لا يفرض نفسه فقط على إيماننا على أساس براهين تبقى موضوع تساؤل، بل على ذاتنا كلها، على كل حياتنا وشعورنا. إنه يحوّل وجودنا ويعطيه معنى جديداً.
هكذا نكون في هذين الخبرين أمام فن أدبي يسمَّى: الخبر المؤثّر، الخبر الذي يقدّم عبرة من أجل بناء الجماعة. فالذي يروي لا يتوخّى أن يقدّم المعلومات لسامعه، أو يربطه بما حدث. بل يريد أن يعطيه خبرة معاشة، وهذا يعني فناً رفيعاً لدى الراوي. لسنا فقط في معرض إيراد الوقائع كما جرت. بل إبراز هذه الوقائع بشكل يؤثِّر فينا.
بهذه الطريقة نتبنّى شعور التلميذين الذاهبين إلى عمّاوس وهما مكتئبان. بهذه الطريقة ندخل في الوضع الدراماتيكي الذي يعيشان فيه. وكيف هيّأنا لهذا كله؟ تردُّ إلى نهاية الخبر نتيجة كلمات يسوع عليهما. بعد ذهاب يسوع، قالا: "أما كان قلبنا مضطرماً فينا حين كان يحدثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب" (آ 32)؟ قدّم لنا لوقا معطيات تاريخية، ولكنه لم يكن فقط مؤرّخاً، بل مرسلاً وواعظاً وحامل بشارة. تاريخه هو تاريخ ديني وقد كتبه من أجل بناء الجماعة. وهو لا يكتفي بأن يعرّفنا بالحدث الفصحي، إنه يحاول أن يدخله إلى قلوبنا.
2- الحقيقة التاريخية
أ- خبر تفرّد فيه لوقا
لا نستطيع أن نكتفي بالطابع المؤثّر في خبر تلميذَي عمّاوس، بل يجب أن نتساءل عن تاريخيّته.
تفرّد لوقا فحدّثنا عن ظهور يسوع القائم من الموت على كليوبا ورفيقه (هما إثنان، من أجل الشهادة). لا شك في أن هناك تلميحاً إلى هذا الحدث في مر 16: 12. ولكن يبدو أن هذ النصّ هو ملخّص متأخّر لخبر لوقا. وقانون الإيمان في 1 كور 15 يعدّد ظهورات المسيح كما يلي: "تراءى أولاً لكيفا، ثم للاثني عشر، ثم في مرة واحدة لأكثر من 500 أخ معاً، بعضهم ما زال حياً، وبعضهم مات، ثم تراءى ليعقوب، ولجميع الرسل، وأخيراً لي أنا وبولس" (آ 5- 8). أما ظهورات يسوع لتلاميذه في الإنجيل الرابع فهي كما يلي: ظهور أول مساء الفصح، ظهور ثانٍ بعد ثمانية أيام، ظهور ثالث على بحيرة طبرية (21: 14). لا يتحدّث لوقا عن الظهور للمجدلية الذي أورد خبره، ولا عن الظهور لبطرس الذي تتحدّث عنه 1 كور، ويلمّح إليه خبر تلميذَي عمّاوس. لهذا، يبدو غريباً للوهلة الأولى أن لا يقول متّى ولا يوحنا ولا بولس كلمة واحدة عن ظهور يسوع للتلميذين، يوم الفصح، خلال ساعات طويلة.
نحن نفهم هذا الصمت حين نعرف أن التقاليد المسيحية التي وصلت إلينا هي تقاليد رسولية. فالكنيسة الأولى رأت في الرسل شهوداً مكلّفين بإعلان قيامة يسوع. والشهادة التي يؤدّونها عمّا رأوا، تشكّل أساس الإيمان المسيحي. فإيمان الكنيسة لا يتأسّس على شهادة النسوة القديسات، ولا على شهادة تلاميذ "من الدرجة الثانية". إن التقليد الرسمي في الكنيسة هو تقليد رسولي. إنه يردّد ما قاله الرسل.
غير أن الرسل لم يشهدوا إلاّ لِما رأوا شحخصياً. لهذا لم يكفلوا خبرات لم يختبروها. وقد احتفظت مجموعات مسيحية (بجانب تقليد الكنيسة الرسمي) بذكريات عن ظهور يسوع للنسوة أو لتلميذَي عماوس.
هنا نتذكر التقاليد الخاصة التي رواها لوقا فلم يروها إنجيلي آخر. تفرّد فتحدّث عن رسالة السبعين تلميذاً (10: 1 ي) الذين اختار منهم يسوع رسله. وتحدّث وحده عن مجموعة النسوة "التلميذات" (8: 1- 3)... وجاء خبر كليوبا ورفيقه بين هذه المعلومات التي استقاها من التقليد الذي وصل إليه. عَمِل عمل مؤرّخ مدقّق فنقل إلينا معلومات قد تعود إلى كليوبا نفسه.
ب- قرية عمّاوس
قال النصّ الإنجيلي: "قرية اسمها عمّاوس تبعد عن أورشليم (مئة و) ستين غلوة (آ 13). هنا تطرح ثلاثة أسئلة. الأول: النقد النصوصي حول بُعد عمّاوس عن أورشليم. الثاني: أين تقع قرية عمّاوس؟ الثالث: لماذا ذُكرت عمّاوس؟
أولاً: نقد النصوص
نقرأ في بردية 75، والمخطوط الإسكندراني والفاتيكاني والبازي... وفي عدد من الترجمات: ستين غلوة (تقريباً 12 كلم أو 7 أميال). وقرأ السينائي... وعدد كبير من الآباء (أوسابيوس، ايرونيموس...): مئة وستين غلوة. يبدو أن القراءة الفضلى هي "ستون" غلوة، وإن وافقت 160 غلوة قرية عمّاوس المعروفة اليوم.
الغلوة (ستاديون) هي قياس يساوي ست مئة قدم عند اليونان، 625 عند الرومان، أو 185 متراً. وهكذا تكون 60 غلوة: 6.8 أميال، و 160 غلوة: 18.4 ميلاً تقريباً.
ثانياً: عمّاوس
ماذا نعرف عن القرية المدعوة عمّاوس؟ كل المخطوطات اليونانية وجميع الترجمات تقرأ: عمّاوس. ما عدا البازي الذي يقرأ: عولماوس. قد نكون هنا أمام تشويه لاسم بيت ايل القديم: عولملوس لا تك 28: 19 (حسب السبعينية). أية عمّاوس نعني؟ هناك ثلاثة أمكنة:
* عمّاوس التي "في السهل"
عُرفت هذه القرية في زمن المكابيين. ذُكرت في 1 مك 3: 40- 57؛ 4: 3، كموضع، في السهل" هاجم فيه يهوذا المكابي القوات السلوقية الآتية من أنطاكية وفلسطية. سوف يحصّنها بكيديس فيما بعد (1 مك 9: 50). تحدث يوسيفوس أيضاً عن عمّاوس هذه التي دقرت إلى الأرض واحرقت بأمر كونتيليوس فاروس (موفد رومة إلى سورية سنة 6- 4 ق. م.) ليثأر للرومان الذي ذُبحوا هناك. يبدو أنه أعيد بناء هذه القرية، لأنها ستظهر فيما بعد كمدينة رئيسية في لائحة مدن رومانية سنة 66 ب. م. حدّد موقع هذه المدينة: 20 ميلاً إلى الغرب والشمال الغربي من أورشليم. في سنة 223 ب. م.، صار اسمها "نيكوبوليس" (كرونيكة الفصح). أما اوسابيوس (في أونومستيكون أو لائحة الأسماء) فسمّى المدينة التي منها جاء كليوبا: "نيكوبوليس الحالية، وهي مدينة مشهورة في فلسطين". وتبعه ايرونيموس ثم سوزومينوس في القرن الخامس. غير أن أحداً من هؤلاء الكتاب لم يذكر المسافة بين نيكوبوليس وأورشليم. كما أننا لا نعرف القراءة التي فضّلوها في 24: 13 (60 أو 160 غلوة). الاسم الحديث لهذه القرية هو عمواس (اللفظة العربية لليونانية عمّاوس) القريبة من اللترون. المسافة التي تفصلها عن أورشليم تخلق مشكلة حقيقيّة إن أردنا أن نعتبرها الموقع الذي تحدّث عنه لوقا. كيف استطاع التلميذان أن يقطعا هذه المسافة سيراً على الأقدام ويعودا في اليوم عينه؟ وكيفا دخلت مسافة "160" غلوة، بواسطة اوريجانس أو يوليوس الافريقاني؟ وهكذا صارت عمّاوس نيكوبوليس.
* عمّاوس- كولونيه
وعرفت عمّاوس أخرى لدى يوسيفوس، كموضع يبعد عن أورشليم "30 غلوة". هناك جعل فسباسيانس 800 من قدامى الجنود الذين تركوا الجيش الروماني. إذن، هي تبعد 3.5 أميال إلى الشمال الغربي من أورشليم، باتجاه يافا. وقد سمّيت اليوم كولونيه (إي مستوطنة في اللغة اللاتينية. هكذا سمّيت مراكز رومانيّة عديدة). هذه القرية دمّرت سنة 1948 وهي تقوم على موقع موصة القديم (يش 18: 26). عُرفت في المشناة كموقع أخذت منها الاغصان إلى أورشليم من أجل عيد المظال. مثل هذا الموقع يقع على مسافة استطاع فيها التلميذان أن يقطعاها ذهاباً وإياباً في يوم واحد. هل "دوّر" لوقا الأرقام فاعتبر أن "60 غلوة" هي مسيرة معقولة؟
* عمّاوس- القبيبة
منذ زمن الصليبيّين كان حديث عن قرية القبيبة التي تبعد حوالي 63 غلوة عن أورشليم في الطريق إلى اللدّ. اعتُبرت أنها عمّاوس المذكورة في لوقا. نحن أمام مسافة معقولة بالنسبة إلى النصرّ اللوقاوي. ولكن هذا الموقع لم يكن معروفاً قبل نهاية الألف الأول ب. م.
ثالثاً: لماذ ذُكرت هذه القرية
مع أننا لا نستطيع أن نتأكّد اليوم من موقع القرية التي ذهب إليها التلميذان، يبدو أن عمّاوس هي في جوار أورشليم. فلوقا احتفظ بالظهورات في أورشليم أو في جوارها، ولم يطلب من التلاميذ أن يلاقوه إلى الجليل، كما فعل متّى ومرقس.
3- كسر الخبز
بعد الذي قلناه عن الفن الأدبي، نتحدّث عن المرمى اللاهوتي للراوي. أراد لوقا أن يجعلنا نشعر بما مثّلته القيامة لتلاميذ يسوع. أراد أن يشركنا في فرحتهم حين وجدوا نفوسهم برفقة المعلّم بعد أن رأوه يموت على الصليب. فماذا بعد ذلك؟
ولكن يبقى شيء آخر في هذا الخبر، وهذا الشيء يفسّر لماذا أعطى لوقا خبرة تلميذَي عمّاوس هذه المكانة الفريدة في إنجيله. كرّس لوقا 22 آية لهذا الخبر. جعله في قلب فصل مكرّس لقيامة الربّ. فما هو الهدف الذي توخّاه؟
أ- مهمة التلميذين
كيف يكون لهذا الخبر بُعد لاهوتي؟ ولكن لقاء يسوع مع مريم المجدلية يبدو لنا مثالاً ساطعاً. فكأن هذا الخبر الدراماتيكي قد وُضع هنا لكي يبرز إعلان يسوع الاحتفالي الذي هو قصة المقطوعة: "إذهبي وقولي لإخوتي: أنا صاعد إلى أبي وأبيكم، إلى إلهي وإلهكم" (يو 20: 17). إن لهذه الكلمات معنى عميقاً في إطار الإنجيل الرابع. كان يسوع قد تحدّث مراراً، وألحّ بشكل خاص في خطبة بعد العشاء، عن ساعة عودته إلى الاب، عن وقت انطلاقه وصعوده إلى أبيه (3: 13؛ 6: 62؛ 7: 32؛ 8: 14؛ 13: 1- 3؛ 14: 12، 28؛ 16: 5، 7، 10، 17، 28؛ 17: 5، 13). ها قد جاء أخيراً زمن العودة، زمن الصعود. ما أراد يسوع أن تتمسّك به مريم: "لم أصعد بعد". وزاد: "إذهبي وقولي لإخوتي: أنا صاعد". إن ذروة الخبر الدراماتيكي هي في الوقت عينه ذروة الموضوع اللاهوتي الذي وصلت إليه كرازة يسوع في النهاية.
يبقى أن نعرف مرمى خبر تلميذَي عمّاوس. لسنا هنا على المستوى الدفاعي. فالراوي لا يهتمّ بأن يقدّم لنا برهاناً جديداً عن القيامة وواقعها "الملموس". هذا الهم نكتشفه في أخبار الظهور للرسل. ولا يشدّد خبر التلميذين على الظهور في حدّ ذاته، بل كل الانتباه مسلّط على المشهد الأخير، حين يتعرّف التلميذان إلى يسوع. إن وقت التعرّف هذا يجعلنا "معلّقين" بالخبر حتى النهاية. في الواقع، يختفي يسوع حين يعرفه كليوبا ورفيقه. أجل، لقد انتهى الخبر. إذن، هنا نبحث عن المرمى اللاهوتي لظهور يسوع للتلميذين على طريق عمّاوس.
نقرأ في آ 30- 31: "ولمّا اتكأ معهما، أخذ الخبز، وبارك وكسر، وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه... ولكنه غاب عنهما". في الواقع، اتنهى الخبر ولم ينتهِ: فالتلميذان تذكّرا كم كان قلبهما مضطرماً حين كان يسوع يشرح لهما الكتب. عادا أدراجهما ليخبرا الرسل. وماذا سوف يقولان لهم؟ هنا نصل إلى حماية لخبر. قال الإنجيلي: "أخذا يخبران بما جرى في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز" (آ 35).
إذن، وصل الخبر إلى ذروته ساعة عرف التلميذان يسوع وهو يكسر الخبز. ويتتابع الخبر: "عرفاه عند كسر الخبز". إن تشديد لوقا على هذا التفصيل واضح. ولكن، ما معنى كسر الخبز؟
ب- وليمة افخارستية
رأى بعض الشّراح أن يسوع أعاد الطقس الافخارستي في عمّاوس. واعتبر آخرون أن عبارة "كسر الخبز" قد عرفها اليهود في فلسطين، فدلّت على الطريقة التي بها يأكلون. إذن، لا شيء يدفعنا إلى القول إن يسوع جدّد للتلميذين ما فعله في العشاء السري من فعل قد لا يكونان سمعا به.
إذا طرحنا السؤال بهذا الشكل، لن نجد له جواباً. فنحن نتصّرف وكأننا نسمع تقريراً عن الواقع في فم كليوبا. في هذه الحالة نستطيع القول إن فعلة كسر لخبز لا تكفي لتدلّ على أننا أمام عشاء افخارستي. فعلى مائدة اليهود الاتقياء، كان ربّ البيت يشكر (يبارك) الله على حسناته، ثم يكسر الخبز ويوزّعه على الحاضرين. غير أن الخبر الذي نقرأ لم يروِه يهودي من أصل فلسطيني (لوقا هو كاتب مسيحي من أصل وثني) ليهود آخرين يعيشون في فلسطين. لهذا يبقى أن نعرف، ماذا تعني عبارة "كسر الخبز" في فم كليوبا إن كان استعملها حين كلّم الرسل، أو بالاحرى يجب أن نتساءل: ماذا أراد لوقا أن يقول لنا؟
لقد استعمل لوقا عبارة "كسر الخبز" في مقطع آخر هو أع 2: 42: "وكان المؤمنون مواظبين على تعليم الرسل والشركة وكسير الخبز والصلوات". إن هذا النصّ يميّز الحياة والمسيحية لدى المؤمنين الأوائل. و "كسر الخبز" لا يمكن أن يكون "غداء عادياً" يشارك فيه المسيحيون. نحن بالأحرى أمام عمل ديني يترافق مع أعمال دينية أخرى مثل الصلاة وسماع تعليم الرسل. ونلاحظ من جهة أخرى، أنه إن دلّ هذا العمل على غداء عند اليهود، فهو لا يدل إلا على قسم منه. وحين يجتمع المسيحيّون للغداء، فهم لا يجتيعون فقط من أجل "بداية" عمل من الأعمال، وحين يتكلّم المسيحيّون عن كسر الخبز كطقس يكفي نفسه بنفسه ويميّز حياتهم الدينية، فهم يتكلّمون عن شيء خاص بهم. نتعرّف إلى هذا الطقس حين نعود إلى العبارة الليتورجية القديمة التي حفظتهـا لنا كل أخبار العشاء السرّي (مت 26: 26؛ مر 14: 22؛ لو 22: 19؛ 1 كور 10: 16؛ 11: 24): ليلة آلامه، أخذ يسوع خبزاً، كسره، وأمر تلاميذه أن يفعلوا مثله ليتذكّروه.
كان الرسل "يواظبون على كسر الخبز". لا معنى لهذه العبارة حتى ليهود من أصل فلسطيني، إلا إذا دلّت على الاحتفال المسيحي بالسرّ الافخارستي. ويصبح الأمر واضحاً لدى مسيحيين جاؤوا من العالم اليوناني فكتب لهم لوقا. ما كان لهؤلاء المسيحيّين أن يتخيّلوا طقساً يهودياً غير معروف بالنسبة إليهم. لا معنى لكسر الخبز إلا الافخارستيا.
ويرينا أع 20 مسيحيّي ترواس مجتمعين "لكسر الخبز" (آ 7؛ رج آ 11). إلتأمت الجماعة في اليوم الأول من الاسبوع، يوم الأحد، اليوم الذي فيه قام يسوع المسيح (24: 1؛ رج يو 20: 1، 19). وشدّد على أننا في اجتماع احتفالي حين ذكر كثرة الشموع (آ 8). لا شكّ في أننا أمام عمل عبادة مسيحية يعيد ما فعله يسوع وما قاله في العشاء الأخير.
ويستعيد نصّان أخران من أع العبارة نفسها. في أع 2: 46، قال لوقا: "وكانوا كل يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت". بعد أن تحدّث أع عن مشاركة في ليتورجية الهيكل، كيف يتحدّث عن "طعام" يُؤخذ في البيوت؟ ولكننا لسنا أمام غداء من الغداءات، بل مشاركة في ليتورجيا مسيحيّة تتميّز عن المشاركة في ليتورجيا يهودية. كان المؤمنون يذهبون إلى الهيكل، وها هم يذهبون إلى بيت خاص مثل بيت "مريم، أم يوحنا ومرقس" (أع 12: 12) الذي كان بمثابة كنيسة للجماعة المسيحية الأولى.
وهناك احتفال افخارستي في كسر الخبز الذي قام به بولس بعد العاصفة التي هبّت عليهم. "أخذ خبزاً، وشكر الله أمام الجميع، وكسر" (أع 27: 25). قام بولس بعمل يتعلّق بخلاص رفاقه (آ 34). وتحدّث عنه بولس كما تحدّث عن العشاء الافخارستي في ترواس.
كسُر الخبز يعني الافخارستيا بالنسبة إلى قرّاء لوقا اليونان. وتلميذا عمّاوس عرفا الربّ حين كسر الخبز، حين الاحتفال معهم بالافخارسيا. لهذا ردّد لوقا العبارة مرتين. مرة في الخبر: "أخذ الخبز وبارك وكسر" (آ 29). ومرة أخرى من خلاله ملاحظة التلميذين اللذين عرفا الربّ "عند كسر الخبز" (آ 35).
ج- من كليوبا إلى فيلبس
ونقوم بمقابلة أخيرة تساعدنا على إدراك ما اكتشفناه حتى الآن. في أع 8، روى لوقا خبر الوزير (الخصي) الحبشي الذي عاد من أورشليم وسار في طريق غزة. إقترب منه فيلبس، أحد السبعة، وسأله عمّا يقرأ. كما انضمّ يسوع إلى التلميذين وسألهما عن "الاقوال التي يتبادلانها". وفسّر فيلبس للغريب النبوءات المسيحانية. وهكذا فعل يسوع مع التلميذين. تمسّك التلميذان بيسوع ودعياه لكي يبقى معهما. وقال الوزير لفيلبس: "ما الذي يمنع من أن اعتمد"؟ عمّده فيليبس واختفى حالاً بعد أن حمله الروح. واختفى يسوع بعد أن كسر الخبز وعرفه التلميذان.
خبر الوزير الحبشي هو خبر عماده. فالخبر يقود إلى العماد. وحين يعتمد الخصي يختفي فيلبس. لاشكّ في أن مكاناً واسعاً جُعل لتفسير الكتب (آ 31- 35). ولكن هذا التفسير، على أهميته، هو استعداد للعماد الذي هو ذروة الخبر ونقطته النهـائية.
وفي خبر تلميذَي عمّاوس، لعب تفسير الكتب (آ 25- 28) أيضاً دوراً مهماً جداً. فسوف يتذكّران هذا "الدرس" الكتابي بعد اختفاء المعلّم، وهو درس سيكرّره يسوع على الرسل المجتمعين، وهو درس سيتكرّر في الكرازة الرسولية في أع، ولكن تفسير الكتب مقدّمة وتهيئة تعدّان التلميذين للايمان الذي يتيح للهما بأن يتعرّفا إلى الربّ. غير أن الكتب لا تكفي.
لهذا، كان كسر الخبز والافخارستيا، كان سّر القربان المقدس. وهكذا نكون أمام حفلة "قداس" يتذكّر عشاء الرب في مرحلتين: مرحلة كلمة الله، مرحلة خبز الله. فعبر الخلاص الذي نتعلّمه من الكتب المقدّسة، هناك خلاص يتمّ ويفعل في سّر الافخارستيا، سّر جسد المسيح ودمه.
خاتمة
وهكذا نكتشف المدلول العميق لخبر تلميذَي عمّاوس. لسنا فقط أمام خبر دوّن لبناء الجماعة. بل أمام تعليم لاهوتي يجب أن ندركه. إن الكتب تقود إلى المسيح. هي تشهد أن يسوع الذي مات وقام، هو حقاً المسيح الذي أعلنه الانبياء. وتهيّئنا الكتب أيضاً لنتعرّف إلى المسيح الحيّ اليوم والحاضر بيننا. ولكن لكي يتمّ التعرف، لا بدّ من اتصال به، وهذا الاتصال يتمّ في كسر الخبز. إن الكتب تشهد للمسيح القائم من الموت. ولكن الافخارستيا هي التي تعطينا المسيح الحيّ. أجل، الافخارستيا هي العلامة الكبرى لقيامة الربّ. هذا ما أراد لوقا أن يقوله لنا في خبر تلميذَي عمّاوس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM