الفصل الحادي والثلاثون: يسوع أمام هيرودس

الفصل الحادي والثلاثون
يسوع أمام هيرودس
23: 6- 12

قال يوحنا على جبل الجلجلة: "ينظرون إلى الذي طعنوه" (9: 37). فالحرية البشرية لا تبنى إلا إذ "تركت صورة الآب الذي هو يسوع المسيح تسيطر عليها. "فنحن جميعاً نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة. فنتحوّل إلى تلك الصورة ذاتها، وهي تزداد مجداً على مجد، بفضل الرب الذي هو الروح" (2 كور 3: 18). لهذا، سنعود إلى الكتب المقدسة، وبشكل خاص إلى خبر الآلام لكي نكتشف ضعف يسوع و "محدوديته". مع الصليب انتهت الآيات من أجل آية الايمان الكبرى. في هذا الاطار نحاول أدن نقرأ حدثاً مركزياً في آلام ربنا يسوع المسيح حسب لوقا وهو: مثول يسوع أمام هيرودس (23: 6- 12).
1- تفسير النص وبنيته
أ- تفسيرالنصّ
يكفي أن ننظر إلى السياق لكي تظهر بوضوح الوظيفة المركزية لهذا الخبر. فهو يفصل بوضوح قسمَيْ محاكمة يسوع أمام بيلاطس ويثبّت جواب الوالي على اتهامات عظماء الكهنة والكتبة. "وجدنا هذا الرجل يثير أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر، ويدّعي أنه المسيح الملك" (23: 2). ولكن الوالي الروماني كان مقتنعاً في صميمه: "لا أجد على هذا الرجل. جرماً" (آ 14، سبباً أحكم به عليه بالموت). وهذا اليقين سوف يتكرّر ثلاث مرات (آ 14، 15، 22) بعد الرواح إلى هيرودس والمجيء من عنده.
ثم إن هذين القسمين من المحاكمة (23: 1- 5؛ 23: 13- 23) يقعان بين حدثين ينسبان مسؤولية موت يسوع إلى رؤساء اليهود: محاكمة صباحية أمام السنهدرين (22: 66- 71) ورد فيها على التوالي ألقاب يسوع الثلاثة العظمى. المسيح، إبن الانسان، إبن الله. تراجع بيلاطس أمام صراخ اليهود. "فقضى بيلاطس بأن يجرى حسب مطلبهم... وأسلم يسوع إلى إرادتهم " (23: 24- 25). أما مثول يسوع أمام تترارخس الجليل فيبدو مرتكزاً لمجموعة من المشاهد تدلت على رفض اليهود لملكهم. وهذا ما تثبته الخطب الكبرى في سفر الأعمال. مثلاً، الخطبة التي تلي شفاء كسيح الباب الجميل: "إله آبائنا مجّد فتاة (عبده) يسوع الذي أسلمتموه أنتم. وانكرتموه أمام بيلاطس. وكان عزم على إخلاء سبيله" (أع 3: 13).
حينئذٍ تبدو مفارقة الآلام عند لوقا على الشكل التالي: إن المشهد الذي يرتكز عليه رذل يسوع بواسطة أخصائه، لا وظيفة دراماتكية له، بمعنى أن لا وزن له في القرار الأخير حول يسوع. هذا المشهد هو "إيقونة" وسط هذا الرواح والمجيء من محكمة إلى محكمة. لا تحرّك فيه بل جمود كما في مشهدي النزاع والصلب. هناك نرى يسوع يصليّ، فيلتفت فقط نحو الآب: "يا أبتاه إن شئت فأجز عني هذه الكاس. ولكن لا تكن مشيئتي، بل مشيئتك" (22: 42). وتردّد صدى هذه الصلاة في استعادة مز 31: 6. "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" (23: 46). ففي هذه الصور الثلاث (في النزاع، وعلى الصليب، وخلال المثول أمام هيرودس) لم يعد يسوع يقول شيئاً للبشر، لم يعد يشهد للآب، لم يعد يدافع عن نفسه أمام متّهميه. إنه بكل بساطة في علاقة مع الآب، في وضع يجعله قديراً بأن "يجتذب إليه جميع البشر" (يو 12: 32).
لما يعد له أن يقول لنا ما هي هذه الحياة الحميمة مع الآب (لن نستطيع أن نفهمه وقد تشوّه كلامه). إنه أمام الآب من أجلنا. وهكذا هو منذ الآن الملك. إنّ بيده ملكاً دلّ عليه خبر سيف سمعان خلال التوقيف والحكم المعلن من أجل لص اليمين (22: 42- 43). هو الملك الحقيقي تجاه المزيّف الذي هو هيرودس.
وبمختصر الكلام، في هذا المشهد الخاص بلوقا، يظهر يسوع بصمته كما هو: ذاك الذي سلّم إليه كل سلطان. والذي يجدّد كل شيء. عنه يقال ما قال "سليمان" عن الحكمة: "مع أنها في ذاتها فهي تجدّد الكون" (حك 9: 27).
ب- بنية النصّ
ولنقرأ النصّ ونرتِّبه بحيث يظهر التماثل بين أقسامه.
أ- فلماسمع بيلاطس ذلك، سأل هل أأ- وردّه هيرودس إلى بيلاطس.
الرجل جليلي. وإذا تأكد له أنه من وفي ذلك اليوم عينه، صار بيلاطس
إيالة هيرودس، بعثه إلى هيرودس وهيرودس صديقين، بعد أن كانا
الذي كان هو أيضاًفي أورشليم متعاديين (آ 12).
في تلك الأيام (آ 6- 7).
ب- لما رأى هيرودس يسوع فرح ب ب- وبعد أن ازدراه هو وحرسه،
جدّأ، لانه من زمان طويل كان وهزأ به،
يشتهي أن يراه، لما سمع عنه. ألبسه هيرودس ثرباً لامعاً
وكان يأمل أن يعاين منه آية (آ 11).
يصنعها (آ 8).
ج- ولكن يسوع لم يجبه بشيء. وكان رؤساء الكهنة والكتبة
إذن، ألقى عليه هيرودس واقفين يشكونه بلجاجة
أسئلة عديدة (آ 9). (آ 10).

البنية الدائرية واضحة. فبين "إرسال" يسوع من بيلاطس إلى هيرودس (أ: الوضع الأول) ومن هيرودس إلى بيلاطس (الوضع النهائي). ثم انتقال من العداوة إلى الصداقة، وهذا ما لا يُفهم على مستوى التفسير البشري المحض. وقد نتخيّل هيرودس معجباً بنفسه حين يرى بيلاطس يرسل إليه متهماً. فتكون النتيجة تحسّن العلاقات بين الرجلين. ولكن هذا التفسير يقلّل من أهمية اللفظتين المستعملتين: صديق، عدوّ. هنا يجب أن نقرأ خطوطاً رفيعة لمصالحة بين اليهود والوثنيين تمت في موت يسوع. "فالمسيح هو سلامنا. جعل من الشعبين شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، وأزال العداوة" (أف 2: 14- 15).
هذا ما يقوله بولس الذي رافقه لوقا طويلاً. وهكذا نستطيع أن نرى انقلاباً عميقاً بين ب (هيرودس الذي يرغب في معجزة) وب ب (هيرودس الذي يلبس يسوع لباساً ملكياً): هيرودس نفسه يعطي الآية ويتوّج يسوع رغماً عنه. جاء التتراخس ليهزأ من هذا الرجل المقيّد بعد أن دفعه الفضول، ففعل ما لا يخطر ببال أحد في مثل هذا الظرف. كانت ردّة فعله شبيهة بردّة فعل السنهدرين: قبل هذا الوقت بلحظات أخذوا على محمل الجدّ تصريحات يسوع الذي صار كلا شيء. فعزموا على قتله. لو كان أي شخص آخر أمامنا لقلنا إنه عمل جنوني.
إذا كانت هذه القراءة صحيحة، فالسلام بين الشعبين (أ، أ أ) وتتويج الملك (ب، ب ب) اللذان برزا في هذا الحدث، يتفجّران من ينبوع واحد: لا عمل ليسوع، لا كلام ليسوع. "لم يُجبه بشيء". لم يقدّم أية آية. وُضع الختم على "مصيره". صمت غريب في قلب هذا المشهد. صمت تفسرّه كلمة قيلت قبل ذلك الوقت أمام المجلس الأعلى: "إن قلت لكم" (إني المسيح)، فيفرض على الخصوم أن يكشفوا عن ذواتهم ويعترفوا به رغماً عنهم. في هذه الآيات السبع نجد عرضاً مركّزاً على جوهر البشارة حول القيامة.
2- لاهوت النصّ وحركته
صار اللاكلام توقفاً عن الكلام وخاتمة له، صار القلب الذي منه يتفجّر الإعلان الفصحي. وولدت كلمة الكنيسة عبر فجوة الموت الجذرية، عبر كلمة يسوع التي توقّفت. هذا ما دلّ عليه تحليل نصّ لوقا. يبقى علينا أن نكتشف تتمّة الكتب وواقع الحب الذي يعلو كل معرفة (أف 3: 19).
أ- تتمة الكتب
هناك نصّ في سفر الأعمال (الذي هو امتداد لإنجيل لوقا) لا نستطيع أن نغفله، لأنه يدلّ على آنيّة آلام يسوع في الاضطهادات التي قاستها الكنيسة. بعد شفاء كسيح الباب الجميل، سُجن بطرس ويوحنا وأطلقا مع أنهما رفضا أن يتوقّفا عن إعلان اسم يسوع. وحين عادا إلى الكنيسة ورويا كل ما حصل لهما، صلّت الجماعة بنفس واحدة: "أيها السيد، أنت الذي صنع السماء والأرض والبحر وجميع ما فيها. أنت الذي قال بالروح القدس على فم داود فتاه (عبده): لماذا ارتجت الأمم، والشعوب هذّت بالباطل؟ قام ملوك الأرض، والرؤساء اجتمعوا معاً على الرب وعلى مسيحه. فإنه قد اجتمع بالحقيقة، في هذه المدينة، على فتاك (عبدك) القدوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبونسيوس بيلاطس مع الأمم وشعوب إسرائيل ليصنعوا ما حدّدت من قبلُ يدك ومشورتك أن يكون. فالان، أيها الرب..." (أع 4: 24- 29).
رأوا وراء هيرودس وبيلاطس إسرائيل والأمم الوثنية. هذا شيء واضح. وما يدهشنا هو استعمال مز 2 (آ 1- 2) الذي ينتمى إلى مزامير التتويج المسيحاني. وقد استعمل أيضاً هذا المزمور مرتين في مؤلّف لوقا. في لو 3: 22، أي في عماد يسوع، نجد مضمون الصوت السماوي كما توجّه إلى يسوع في مز 2: 7: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك". وفي أع 13: 33، في كرازة بولس إلى يهود إنطاكية بسيدية، يدلّ مز 2: 7 بوضوح على قيامة يسوع.
إن هذا التلاقي العجيب الذي يدلّ في شخص يسوع وحياته على النتيجة الأخيرة للكتب القديمة، يتتابع أيضاً في الصور. فالمزمور يتضمّن أربعة أقسام. فبعد أن يصوّر المرتّل دهشته أمام صخب الأمم وما فيه من عبث (آ 1- 3)، يرى الله يضحك من هذه الجلبة ويهزأ بها: "أنا الذي مسحت (كرست) ملكي على صهيون، جبلي المقدس" (آ 4- 6). ثم يعطى الكلام للمسيح لكى يذكر "القرار" الذي حصل عليه: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، أطلب فأعطيك الأمم ميراثاً" (آ 7- 9). وينهي المسيح كلامه بتنبيه إلى الملوك: "أخدموا الرب بالمخافة" (آ 10- 12).
من الواضح أن تتمّة هذا الكتاب تفترض انقلاباً جذرياً في الأوضاع. لم يعد المسيح أمام هيرودس ذاك الملك المحارب والمنتصر الذي بفضله يستطيع يهوه أن يهزأ من أعدائه، بل هو ذاك الذي يهزأ به الملوك والعظماء. إنه عبد الله المتألم الذي سُحق وقُهر.
ب- حركة النصّ
مرّت التتمّة عبر انقلاب تضمّن "تعارضاً" داخلياً حقيقياً: لقد تبدّلت الادوار حين انتقلنا من الوعد إلى الحقيقة. ولا تستطيع أية جدلية بشرية (وأي مجهود فكري) أن تجمع الاضداد وتلغي المفارقة. وبصورة أدقّ نبقى أمام هذا الحدث "ساكتين، صامتين" (أش 52: 15)، لو لم يكن الجيل المسيحي الأول الذي عرف يسوع كرفيق الدرب والرب القائم من الموت، قد تجرّأ فدخل في سّر الله الذي لا يُسبر. هذه الجرأة قد ألهمها الروح القدس، فتجذّرت تجذّراً واعياً في كلام يسوع الذي يستطيع وحده أن يعبر هؤة الصمت. هي جرأة بولس الذي كتب إلى الكورنثيين: "وفيما اليهود يسألون آيات، واليونانيون يطلبون حكمة، نكرز نحن بمسيح مصلوب، عثرة لليهود وجهالة للأمة (الوثنية). أما للمدعوين، يهوداً ويونانيين، فهو قدرة الله وحكمة الله. لان ما هو جهالة عند الله أحكم من الناس. وما هو ضعف عند الله أقوى من الناس" (1 كور 1: 22- 25).
أحكم، أقوى. إن أفعل التفضيل (أكثر حكمة) ينتمي إلى الاعتراف بيسوع كمسيح وابن الله. لا لأنه يقدّم أساساً ننطلق منه لنحكم على شميلة تقول "يسوع هو المسيح" (أع 9: 22)، بل لأنه يمنع أي إدراك ممكن ويصل بنا إلى قلب الله الذي طعن بالحربة. فحول هذا اللقب يمتدُّ تقليد الكنيسة اللاهوتي، كما تذهب الفراشة إلى النور.
إن آلام يسوع وموته لا تحفّف المسافة اللامحدودة بين الله والانسان، لا تردم هوة اللاكلام واللاعمل، بل تحفرها وتعمّقها. هي تلغي كل تمثل مكاني وتراعي حضوراً نستطيع أن نسمّيه غياباً يملأ القلب.
لا نظنّ أن هذا الرجوع إلى أفعل التفضيل (أكثر)، إلى حبّ الله الذي لا يحدّ، هو تفسير لسّر يسوع الفصحي. فمثل هذا التفسير يولّد اصناماً جديدة شجب الموتُ على الصليب عدميّتها. وهنا نتذكّر كلمة يسوع في يو 12: 32: "وأنا إذا ما ارتفعت اجتذبت إليّ كل انسان". ليس هناك إلا مجرّد حركة يسوع نحو أبيه، هذا "التوجّه" نحو الآب الذي يظهر في صلاة النزاع وعند الصليب، لكي يملأ صمت يسوع أمام هيرودس. لم يعد هناك إلا دينامية الله التي تسير دوماً إلى الأمام. وفيها يجب أن ندخل مع يسوع في آلامه. نحن نواجه الوحيد الوحيد، ولا نستطيع أن نقابل حبَّه الإلهي بأي شيء آخر.
خاتمة
لقد صوّر لوقا مشهد يسوع عند هيرودس حسب التوازي الدائري. (أ): أرسل بيلاطس يسوع إلى هيرودس. (ب): ترجّى هيرودس أن يرى آية، معجزة. (ج): سأل هيرودس يسوع، بناء على اتهامات الرؤساء، فسكت يسوع. (ب ب): هزأ هيرودس من يسوع وعامله كمجنون. (أ أ): أعاد هيرودس يسوع إلى بيلاطس.
عبر هذه البنية، نجد نقطتين لاهوتيّتين خاصّتين بلوقا. الأولى، تصالح التتراخس والوالي، تصالح اليهودي والوثني، بواسطة هذا المحكوم عليه والذي أعلنه بريئاً بيلاطس (بشكل واضح) وهيرودس (بشكل ضمني. أعاده). النقطة الثانية، ألبس هيرودس يسوع ثوباً "ملوكياً" (رج 10: 30. لمّاعاً) ليهزأ من هذا الملك المزعوم. ولكننا نرى في هذا العمل اعترافاً بملك يسوع الالهي. لم نعد أمام الكلمة النبوية القاطعة. بل أمام صمت يسوع وامحائه أمام ما هيّاه الآب له. هذا ما يقلب تاريخ البشر رأساً على عقب ويدفعهم إلى الاعتراف بيسوع غصباً منهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM