الفصل الثلاثون: محاكمة يسوع لدى الرومان

الفصل الثلاثون
محاكمة يسوع لدى الرومان
23: 1- 5

إذا كانت السلطات اليهودية قد اتخذت احتياطاتها لتنقل يسوع أمام المحكمة الرومانية، فلأنها لم ترد ولم تكن تستطيع أن "ترتب" بنفسها المصير الأخير لهذا المتهم. وقد لا تكون حكمت على يسوع بالاعدام، لأن الخبر الذي يذكر هذا الحكم (مر 14: 64) يعود إلى أصل مسيحي. فما حدث عند حنان هو اجتماع إعلامي في منزله لما يكن له أية سلطة قضائية. ومهما يكن من أمر اجتماع الصباح، فهناك واقع لا شكّ فيه وهو: إن بيلاطس البنطي هو الذي حكم على يسوع بالموت. هذا ما يقول العهد الجديد، وتاقيتس الروماني الذي أورد عذابات المسيحيين في رومة بأمر نيرون. قالت: "يأتي اسمهم من المسيح (كرستوس) الذي أسلم إلى العذاب خلال رئاسة طيباريوس وولاية بونسيوس بيلاطس" (الحوليات 15: 44). إنّ يسوع صُلب. وهذا عذاب روماني، لا يهودي، في زمن المسيح. وهذا يعني أن السلطة الرومانية فرضته. فلو أن المحكمة اليهودية حكمت على يسوع بالاعدام، لكان رُجم ولم يُصلب.
1- حقّ المجلس الأعلى
ولكن لماذا نذكر بونسيوس بيلاطس؟ لماذا لم تعمد السلطات اليهودية إلى تنفيذ حكم الاعدام بيسوع؟ أجاب يوحنا بفم الذين أرادوا أن يزيلوه: "لا يحقّ لنا أن نقتل أحداً ثم (18: 31).
ونقدّم ملاحظات عامة حول الوضع السياسي لليهودية في ذلك الزمان. فمنذ اعتلاء هيرودس الكبير العرش سنة 40 ق. م.، خسر السنهدرين (المجلس الأعلى للأمة اليهودية) السلطة التي كانت في يده على أيام الحشمونيين. بعد هذا، حلّ محلّ شريعة الآباء نظام جديد فرضته الامبراطورية الرومانية. وما بقي من حقّ محليّ مارسته السلطة اليهودية بسبب تساهل (أو تنازل) السلطة الرومانية. وقد احتفظ المجلس بالحقّ المحلي بشكل امتيازات تنعم بها السلطة الرومانية. فهل نستطيع أن نحسب بين هذه الامتيازات حقّ تنفيذ الحكم بالاعدام؟
هناك من أجاب بالإيجاب. وهكذا أنكروا كل تاريخية لمحاكمة يسوع. بما أن السنهدرين كان حراً في قتل يسوع، وجب عليه أن يمارس الرجم (لا الصلب). ولكن يسوع صُلب، والصلب عقاب روماني. إذن، لم يكن هناك من محاكمة يهودية. والخبر الانجيلي هو خدعة أدبية. هذا هو موقف ليتزمان. ولكن مهما تكن الأسباب الذي دفعته إلى اتخاذ هذا الموقف، فالحقّ الذي يمتلكه السنهدرين لتنفيذ حكم الاعدام، يبقى مدار شكّ.
نجد بعض الشهادات في الأدب الراباني حيث السنهدرين مارس حقّ الموت حتى دمار الهيكل. هذا ما ظنّه عظماء الكهنة. ولكن هل مارسوا هذا الحق؟ هنا نذكر بعض الوقائع التي حصلت في فترة قريبة من السنوات التي تهمنا.
أ- رجم يعقوب
أول واقع هو رجم يعقوب "أخي الرب" ومسيحيين آخرين على مسؤولية عظيم الكهنة حنان الثاني سنة 62. قال عنه المؤرّخ يوسيفودس: ظنَّ أنه يستفيد من ظرف مؤات، لأن فستوس مات منذ فترة قصيرة وما زالت ألبينوس لا الطريق. إذن، جمع قضاة السنهدرين، فمثل أمامهمم يعقوب، أخو يسوع الذي سمّي المسيح وغيره آخرون. إتهمهم بأنهم تجاوزوا الشريعة وأسلمهم إلى الرجم. أولئك الذين عدّوا من كثر المعتدلين من سكان المدينة، وأولئك الذين كانوا متشدّدين في ممارسة الشريعة انصدموا بهذا العمل. إذن، أرسلوا وفداً سرياً إلى الملك أغريبا وألحّوا عليه (لا سيما وأن حنان لم يكن مستقيماً حتى في تصرّفه الأول) أن يأمره بأن يتحاشى مثل هذه الاعمال. وبعض منهم ذهبوا إلى ألبينوس الذي كان آتياً من الاسكندرية، وأعلموه بأن حنان لم يكن له سلطان بأن يدعو المجلس من دون موافقته. إقتنع ألبينوس بهذا الكلام، فكتب غاضباً إلى حنان وهدّده باجراءات يعاقبه بها. وبسبب ما فعله حنان، حطّه الملك أغريبا من درجته كعظيم كهنة وأحلّ محلّه يشوع بن دامنايوس.
يورد هذا النص تدخّلين.
الأول لدى أغريبا، وهو يبرز لا شرعية "العمل الأول" الذي قام به عظيم الكهنة. ولكن ما الذي حدث؟ هل لأنه دعا إلمجلس؟ هذا ليس بعمل لا شرعي في نظر هؤلاء اليهود الاتقياء. هل لأنه قتل يعقوب ورفاقه؟ ولكن هذا ليس العمل "الأول" بل العمل الأخير. تبقى لا شرعية الحكم بالاعدام. وهذا ما يتوافق مع السياق السابق الذي فيه شدّد يوسيفوس على قساوة الصادوقيين في ممارسة العدالة.
الثاني لدى ألبينوس. كان سببه أن عظيم الكهنة لا يستطيع أن يدعو المجلس من دون إذن الوالي. ملاحظة غريبة لسببين. الأول، يبدو أن اليهود يدلّون ألبينوس على امتيازاته الخاصة. والثاني: وحده انعقاد المجلس يرتبط بالسلطة الرومانية المحليّة. قد يكون يوسيفوس أخطأ في هذين السببين. وانطلق شّراح من السبب الئاني فاستنتجوا من النصّ أن السنهدرين المجتمع بأمر الوالي كان حراً بأن يفعل ما يشاء حتى بإصدار الحكم بالاعدام.
في الواقع، ما يشدّد عليه النصّ أن حنان استفاد من فراغ السلطة ليدعو يعقوب إلى أمام السنهدرين فيحكم عليه ويرجمه. من الواضح أنه لو كان للمجلس السلطة التامة في ما يتعلّق بحكم الاعدام، لما قال يوسيفوس إن حنان استفاد من الظرف المؤاتي بسبب شغور كرسي الحكم.
ب- يشوع بن حنانيا
المثل الثاني يقع في أيام ألبينوس (62- 64) الوالي. قام فلاح مسكين اسمه "يشوع بن حنانيا" فأخذ يجول أورشليم وهو يهتف: "صوت الشرق، صوت الغرب، صوت الرياح الأربع، صوت ضدّ أورشليم وضدّ الهيكل، صوت ضدّ ارمروس والعريس (إر 7: 34)، صوت ضدّ الشعب كله". أوقف الرجل بأمر من "مواطنين وجهاء" فأوسعوه ضرباً. ثم إنّ هؤلاء القضاة أنفسهم اقتادوه إلى ألبينوس. فجلده حتى العظام لكي يعذّبه، ولكن لم يحصل منه على شيء سوى تكرار قوله المشؤوم. حسبه مجنوناً فأطلقه. أما "المواطنون الوجهاء" أو "القضاة" فهم أهل المجلس الذين لم يبقَ لهم إلاّ أن ينفّذوا الحكم.
ويثبت تقليص سلطة السنهدرين، سلسلة من المقاطع الرابانية نستخلص منها قي ما يتعلّق بموضوعنا: قبل دمار الهيكل بأربعين سنة، خسر المجلس سلطته في الحكم بالاعدام. وهذا ما يقودنا إلى بونسيوس بيلاطس (26- 36). لا يذكر أي واقع من هذا النوع خلال هذه الحقبة لدى يوسيفوس. ويتّفق الشّراح على القول إن عدد 40 قد يعود بنا إلى سنة 6 ب. م.، حين بدأ في اليهودية نظام الإدارة الرومانية المباشرة.
ج- معطيات أخرى
وهناك معطيات أخرى تبدو وكأنهَّا تعارض ما سبق. هناك استشهاد اسطفانس (أع 7: 55- 8: 3): مشهد نرى فيه أعضاء المجلس يهجمون على اسطفانس ويقودونه إلى العذاب. لا نجد حكماً. بل هجمة شعبية غطّاها المجلس الأعلى لليهود.
وتُذكر حالة أخرى في أع 12: 2: قُتل يعقوب بن زبدى بأمر الملك هيرودس أغريبا الأول في حقبة (31- 44) انقطع فيها نظام الولاة في اليهودية. وفي أيام أغريبا نفسه نفّذ حكم الاعدام بابنة كاهن جنحت فأحرقت على تلّة من الحطب.
وبعد هذا نجد التهديد ضد الوثنيين الذين يتجرّأون أن يتجاوزوا حرم الهيكل. أشار فيلون إلى هذا الحرم مرة واحدة، ويوسيفوس مرتين. ففي خطبة تيطس (الامبراطور) (كما في الحرب اليهودية) نجد لوماً لليهود بسبب الحاجز بين رواق الأمم وما تبقّى من الهيكل، وكان قد كُتب فيه تحذير باليونانية واللاتينية يهدّد بالموت من يتجاوز هذا الحاجز. كُتب هذا التحذير بالاتفاق مع الرومان.
2- الأخبار الانجيلية
إن الأناجيل الأربعة تروي مثول يسوع أمام محكمة بيلاطس. ولكن لا نبحث عن تقرير دقيق للأحداث. نحن بالأحرى أمام درس ديني.
أ- مرقس (15: 2- 15)
إذا وضعنا جانباً حدث برأبا، يتميّز نصّ مرقس بإغفال للأمور التاريخية. يبدأ فجأة من دون اتهام، من دون أي شيء يتيح لنا أن نعرف لماذا سأل بيلاطس يسوع: هل أنت ملك اليهود؟ وندهش حين لا نسجّل أية ردّة فعل عند بيلاطس بعد أن اعترف يسوع بأنه "ملك الجهود" ("أنت قلت". تأكيد مدروس في آ 2). إعتبر أن هذا اللقب يخصّه، فيجب أن يُتّهم بالخيانة العظمى. ولكن بيلاطس يتابع الجلسة وكأن شيئاً لم يكن. وفي النهاية، لم يصدر حكمٌ، بل تراجع الوالي وتخلىّ عن يسوع لكي يرضي الجمع. إن هذا الخبر الذي يشبه خبر الجلسة أمام السنهدرين، تتداخله مواضيع كرستولوجية ودفاعية تتجاوز "تقريراً موضوعياً" عن مسيرة المحاكمة.
ب- لوقا (23: 2- 25)
ويتميّز الخبر اللوقاوي بشيء خاص يلفت نظر القارئ: هناك انقطاع في المشهد: يُرسل يسوع. (في فاصل) إلى هيرودس انتيباس (آ 7- 12)، وهذا عنصر سوف نعود إليه فيما بعد. وما تبقّى من الخبر نجده في مرقس. أما الاتهام بالتخريب، فلا يهتم له بيلاطس. فهو يقرّ على ثلاث دفعات أن يسوع بريء، وأن مثل هذه الاتهامات لا جدوى منها.
ج- متّى (27: 11- 26)
يرتبط متّى بمرقس، ويزيد عليه حدثين. الأول، هو تدخل امرأة بيلاطس من أجل المتهم (آ 19). الثاني، هو المشهد الذي فيه يبرّئ بيلاطس نفسه: يغسل يديه أمام الجموع، فتجيب الجموع معلنة تحمّل مسؤولية موت يسوع (آ 24- 25). تتحدّث امرأة بيلاطس وكأنها يهودية عارفة بالشريعة. أما بيلاطس فيقف في خط الكتب المقدسة. كل هذه المجموعة تتداخلها مواضيع توراتية ومتّاوية. الحكم هو وسيلة وحي (رج مت 1: 20، 2: 12، 13، 19، 22). إن غسل اليدين هو عادة يهودية لا رومانية. رج تث 21: 6- 9؛ مر 26: 6؛ 73: 13.
د- يوحنا (18: 28- 19: 16)
يقدّم لنا الانجيل الرابع في خبره للمحاكمة الرومانية، تأليفاً مبنياً بناءً دقيقاً وذات بُعد لاهوتي رفيع. هناك نقاط مشتركة مع مرقس، وهذا ما يطرح مسألة ارتباط الواحد بالآخر. رُذل بيلاطس في فئة "العالم". وهذا يعني أننا في خبرة كنيسة رفضها واضطهدها العالم اليهودي والعالم الروماني.
قدّم لنا يوحنا معطيات جديدة هي مدى للحدود التي وضعت لسلطة السنهدرين (18: 31). وقدّم أيضاً تفصيلين، واحد كرونولوجي (18: 28: كان الصباح؛ 19: 14: تهيئة الفصح)، وآخر طوبوغراقي (19: 13: ليتو ستروتوس).
3- استنتاجات تاريخية
أ- عظماء الكهنة والشعب
إن دور عظماء الكهنة في تقديم يسوع إلى بيلاطس ليميته، هي معطية مشتركة بين الأناجيل وهي تتسجّل في أعمق أعماق التقليد. وهذا الدور يتواصل (كما تقول الاخبار) خلال المحاكمة: لم يكتفِ عظماء الكهنة بأن يشتكوا على يسوع (مر 15: 3؛ مت 27: 12)، بل هيّجوا الشعب ليطلب الحكم بالاعدام عليه (مر 15: 11 مت 27: 20). إن موقف الجمهور اليهودي وانتصاره على تردّد الوالي هما أمران جوهريان في الأخبار الأربعة، ولا نستطيع أن نغفلهما على أنهما رمز يستبق العداوة اليهودية المقبلة تجاه الكنيسة الفتية.
ضعفت السلطة القضائية، فانتقل الشعب إلى المركز الأول، تاركاً في الكواليس عظماء الكهنة. مثل هذه المشاهد معروفة لا سيّما في أيام بيلاطس حيث نرى الجموع اليهودية تتدخّل لدى السلطة الرومانية لتصرخ وتطالب بما ترغب (منها الأعلام في الهيكل، وبناء القناة). أن يكون عظماء الكهنة قد تركوا الغرائز الشعبية تلعب لعبتها رافعين البرهان الديني الذي يمثّل يسوع على أنّه العدّو الذي جدّف على الهيكل، فهذا أمر سهل لا سيّما وأنّ الحجَّ الفصحي يجتذب الجموع كل سنة إلى الهيكل.
ولكن هناك ملاحظة تدعونا إل التحفّظ بعض الشيء: إن تدخّل الجمع في خبر الانجيلين الأولين ينحصر في حدث برأبا. في لوقا، تدخلت الجموع قبل ذاك الوقت (33: 4) بالاتفاق مع عظماء الكهنة في استباق يتيح للانجيلي أن يبرز على ثلاث دفعات إعلان البراءة الذي أورده مرقس مرة واحدة (15: 14). وفي يوحنا، لن يعود من حديث إلاّ على "اليهود" (19: 7، 12، 14). إن النسخة الأقدم تُقرأ عند مرقس ومتّى اللذين يشهدان على الفصل التقليدي بين قسمي الخبر. ولكن الجمع اصطدم بصعوبة خطيرة في القسم الثاني ومع طلب اخلاء برأبا. ولهذا نستطيع أن نتحدّث عن تجمّع هائج مع وفد من المجلس الأعلى وراء يسوع يحيط به جنود: هكذا يعلمون بيلاطس بالأمر ويسلّمون يسوع إلى سلطته. في مر 15: 11، 14 يتوجّه التصريح إلى الشعب. وفي مر 15: 3، عظماء الكهنة وحدهم يقدّمون الشكوى. وزاد لوقا في 23: 4 أ الجموع على عظماء الكهنة ليسمعوا كلهم في تلك الساعة حكم البراءة.
ب- موضع المحاكمة
كان للمقاطعة اليهودية عاصمتان: قيصرية هي العاصمة الادارية حيث اعتاد أن يقيم الوالي الروماني. والثانية أورشليم. كان الوالي يصعد بعض المرّات إلى أورشليم، ولا سيّما بمناسبة الأعياد الكبرى. فتدفّقُ الناس الآتين إلى الحج يفرض مراقبة دقيقة للوضع بحضور الوالي. ذاك كان الوضع خلال محاكمة يسوع.
أين كان يقيم الوالي حين يأتي إلى أورشليم؟ إما في قلعة انطونيا، على الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الهيكل. وإما في قصر هيرودس، على تلة تقع غربي أورشليم. الموقع الثاني هو الأصح. وإليك البراهين:
* قيصرية، كان مقام الوالي في قصر هيرودس (أع 23: 35) حيث نرى بولس سجيناً في دار هيرودس بأمر الوالي فليكس. ولهذا نستنتج أنّ بيلاطس كان يقيم أيضاً في قصر هيرودس حين يأتي إلى أورشليم.
* إنّ موقع قصر هيرودس الذي يشرف على أورشليم كان مثالياً من أجل مراقبة المدينة كلها، وخصوصاً الهيكل.
* يماثل فيلون في قضية التروس بين "مقام الحاكم" و"قصر هيرودس".
* قال يوسيفوس إن الوالي جاسيوس فلوروس أقام في القصر. وأمام هذا القصر نصب منبرا يسمع منه شكاوى الوجهاء.
* حسب يو 19: 13، إن الموضع الذي جلس عليه بيلاطس ليحكم على يسوع سمّي في الأرامية "جباتاً". تعود الكلمة إلى الجذر "ج ب" الذي يعني العلوّ والارتفاع. لا شكّ في أن قلعة أنطونيا كانت ترتفع فوق ساحة الهيكل، ولكنها لم تكن تشرف على المدينة، بعد أن كانت على منحدر تلة بيت زاتا. إذن جباتاً هي قصر هيرودس. وهذا ما نتأكد منه حين يقول مر 15: 8 إنّ الجموع صعدت إلى بيلاطس لتطلب العفو لبرأبا. كل هذا يدلّ على طوبوغرافيا محلّية.
إذن، حُكم على يسوع في قصر هيرودس. هل نستطيع أن نوضح أكثر؟ يعلمنا مر 15: 16 "أن يسوع بعد أن حكم عليه وجُلد، اقتاده الجند إلى داخل القصر أي دار الولاية". هذا يفترض أن الباقي حصل في الخارج. ولكن هناك يو 19: 13 الذي يقول إن بيلاطس "أخرج" يسوع. نحن هنا أمام رمزية تدلّ على أن اليهود قد حرموا الآن من الكشف عن شخصية يسوع (الموضوع المحوري في الاستجواب). إذن، حُكم على يسوع وجُلد في الخارج، في جباتا أو ليتوستروتوس.
ج- بونسيوس بيلاطس
إن الامبراطور طيباريوس أرسل بونسيوس بيلاطس ليخلف فلاريوس غراتوس "والٍ" على اليهودية في سنة 26 ب. م. كانت الوظيفة تعني إنتماء إلى نظام الفرسان، وهذا يعني أنّ بيلاطس قام بوظيفة حربية. ظلّ عشر سنوات في اليهودية. وفي نهاية 36 أو بداية 37 أرسله فيتاليوس المفوّض في سورية، إلى رومة لكي يشرح موقفه أمام بيلاطس بسبب مقتل السامريين الذي نُسب إليه.
رسم عنه فيلون لوحة قاسية. بل يبدو أنه كان رجلاً صاحب إرادة ضعيفة يتراجع أمام ضغط الجموع، كما تقول عنه الأناجيل. إن خضوعه وتعبّده للامبراطور يدلّ جزئياً على المدة الطويلة التي قضاها كوالٍ في اليهودية (لم يكن الوالي يتجاوز الخمس السنوات. ما عدا فلاريوس غراتولس، 11 سنة. وفليكس من هشة 52 حتى 59).
لم يهتمّ كثيراً لعادات اليهود التي لم يكن يفهمها، وهذا ما دفعه لكي يقوم بأعمال تخلو من الفطنة. مقابل هذا، كانت علاقته مع السلطة المحلية على أحسن ما يرام: فقد ظلّ قيافا رئيس الكهنة، ما ظل هو والي اليهودية. وما إن عاد إلى رومة حتى عجّل فيتاليوس فعيّن خلفاً لقيافا (إذن، كان هناك اتفاق بين قيافا وبيلاطس).
كان بيلاطس، بصفته والياً على اليهودية، رئيساً حربياً (يصوّر والسيف في يده أو على جنبه) مهمته المحافظة على النظام العام حسب المبدأ الذي أعلنه شيشرون: ليكن خلاص الشعب الروماني هو الناموس الأسمى. لهذا كان بيلاطس وأمثاله يمارسون السلطة بالإكراه ولا سيّما ضدّ الذين ليسوا مواطنين رومانيين. ولكنهم اعتادوا أن يفعلوا كما يُفعل في إيطاليا.
قضت العادة بأن تكون المحاكمة علنية، فيجلس الوالي على منبره. وتقدّم الاتهامات حسب الأصول، وعلى المتّهم أن يدافع عن نفسه. هذا ما حدث ليسوع الذي طلب منه أن يدافع عن نفسه. ويفترض حضور ترجمان بين يسوع وبيلاطس.
د- الاتهامات التي قضت على يسوع بالموت
ما هو الجرم الذي به اتهم عظماء الكهنة يسوع أمام بيلاطس؟ لا يقول متّى ولا مرقس شيئاً. وأورد يو 18: 30 جواب اليهود: "لو لم يكن فاعل سوء لما أسلمناه إليك". أما لوقا (23: 2) فهو واضح كل الوضوح: "لقد وجدنا هذا الرجل يثير أمتنا، ويمنع من أداء الجزية لقيصر، ويدّعي أنه المسيح الملك". هذا ما يشير إليه خبر مرقس ويؤكده خبرا متّى ويوحنا.
فاستجواب بيلاطس يبدأ فجأة في الأناجيل الأربعة بهذا السؤال: "هل أنت ملك اليهود"؟ هكذا بدأ الحدث. ولكنه يفترض معلومة سابقة قد نكتشف مضمونها.
منذ موت هيرودس الكبير سنة 4 ق. م. كانت قلاقل على رأسها أشخاص ادّعى كل واحد منهم أنه "المسيح". هناك يهوذا بن حزقيا. وسمعان عبد هيرودس القديم، ومناحيم الجليلي... وهكذا حين سلّم عظماء الكهنة يسوع إلى بيلاطس صوّروه على انه مفتن يتطلّع إلى المُلك. هكذا بدأ الملك الاستجواب وكتب "ملك اليهود" (مر 15: 26).
إنّ اللقب المعروض هنا يعني أن يسوع عذب لأنه اعتبر نفسه ملكاً على شعبه. مثل هذا الادّعاء يمّس بالامبراطورية الرومانية وسيادتها. لهذا حُكم على يسوع بالموت بجرم التعدّي "على سيادة الشعب الروماني".
تأثّر بيلاطس بهذا الاتهام فرأى ضرورة الحكم بالاعدام. اتَّخذ اجراءً احتياطياً، وهو يحاول أن يرضي سلطة دينية خاضعة كل الخضوع للحكم الروماني.
إذا عدنا الآن إلى سبب توقيف يسوع وقلنا انه "انتقاد للهيكل"، نرى في الاتهام أمام بيلاطس تحويلاً جوهرياً أطلق القضية في هذا الاتجاه. أجل، إن بيلاطس حكم على يسوع بسبب طموحاته السياسية.
هـ- برأبا
ينقسم خبر المحاكمة الرومانية في إنجيل مرقس إلى قسمين متمايزين كل التمايز. في القسم الأول (15: 2- 5) نشهد استجواباً ينتهي بلا نتيجة. وفيه لا يلعب الجمع أي دور. في القسم الثاني (15: 6- 15) حيث يتدخّل الشعب تدخلاً ناشطاً، نشهد قضية برأبا. هذا ما يفعله متّى أيضاً ما عدا الزيادات التي أشرنا إليها سابقاً (مت 27: 11- 26). بدّل لوقا هذه البنية فأدخل الشعب في إطار الاتهام منذ البداية (23: 4). أما حدث برأبا فنجده موجزاً عند لوقا (23: 18- 25) الذي أعاد صياغة خبر مرقس. وهكذا تنتقل قضية برأبا في إنجيل لوقا إلى المستوى الثاني. والأمر هو كذلك في إنجيل يوحنا بآيتيه الاثنتين (يو 18: 39- 40). ننطلق من خبر مرقس الذي يبدو الخبر الأقدم.
حسب هذا الانجيل، إعتاد بيلاطس أن يطلق سجيناً في كل عيد فصح (في مر 15: 6 حديث عن العيد ولكنه عيد الفصح كما في 14: 1- 2). وصعد الجمع إلى بيلاطس من أجل العفو المرتجى. فاستبق بيلاطس الأمور وعرض إخلاء يسوع. رفض الجمع عرضه وطالب بإطلاق برأبا الذي أوقف مع بعض الثوّار بسبب الدم الذي سفكوه. وفي النهاية، لبّى بيلاطس رغبة الجمع.
خاتمة
وانتهت المحاكمة بحكم حسب الأصول أعلنه بيلاطس من على منبره. منذ ذلك الوقت، انتقل يسوع إلى أيدي جنود لا تعرف الرحمة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM