الفصل الثاني والثلاثون: يسوع أمام بيلاطس

الفصل الثاني والثلاثون
يسوع أمام بيلاطس
23: 13- 25

مَثُل يسوع مرة أولى أمام بيلاطس (23: 1- 5). ثم أرسله بيلاطس إلى هيرودس، لأنه عرف أنه من أيالة هيرودس. ولكن هيرودس أعاد يسوع إلى بيلاطس، ومنذ ذلك الوسط تصالحا بعد أن كانا متعاديين (23: 12). وهكذا نكون أمام مثول يسوع الثاني أمام بيلاطس (23: 13- 15).
لوحة أولى مع بيلاطس. لوحة ثانية مع هيرودس. وفي 23: 13 تبدأ لوحة ثالثة مع خبر المحاكمة الرومانية. يبدأ النصّ بهاتين اللفظتين "بيلاتوس دي"، أما بيلاطس. وهذا ما يعيدنا إلى آ 6 حيث قرأنا العبارة نفسها: "فلما سمع بيلاطس ذلك".
بُنيت مجموعة 23: 13- 25 حسب محاولات ثلاث قام بها بيلاطس لكي يطلق يسوع. وفي كل مرة نجد فعل "ابولياين". تبدو المحاولتان الأولى (آ 14- 16) والثالثة (آ 22) بشكل خطبة مباشرة. والمحاولة الثانية (آ 20) بشكل خطبة غير مباشرة: "فتكلّم بيلاطس أيضاً، رغبة منه في إطلاق يسوع".
ووجود رسمة دائرية اعتاد عليها لوقا، تظهر في استعادة عبارة آ 16 في آ 22 ج: "سأؤدّبه وأطلقه". وكل محاولة من محاولات الوالي تجد قبالتها ردّة فعل سلبية من قبل الرؤساء والشعب اليهودي، وذلك في شكل متصاعد. في المرة الأولى، لا يُذكر الصلب (آ 18: أمِت هذا الرجل). في المرة الثانية، يذكر الصلب بشكل واضح ولكن بطريقة عابرة (آ 21: صاحوا: اصلبه، اصلبه). في المرة الثالثة، تمادوا في الصياح طالبين أن يُصلب (آ 23). وترتّبت ردّات الفعل الثلاث بشكل دائري أيضاً. في الوسط، تعبير موجز وقاطع (آ 1: اصلبه). وتوسّع النمق في الردّتين الأولى والثالثة فتحدّث عن الصياح والجلبة لدى الحاضرين (آ 18: 23). وفي داخل هذه المجموعة من الآيات، بدت آ 49 كمعترضة تشرح وضع برأبا. وأخيراً، شكّلت آ 24- 25 خاتمة الخبر والنقطة التي قادنا إليها هذا المشهد.
1- المحاولة الأولى (23: 13- 16)
إن المحاولة الأولى (آ 13- 16) لا تجد ما يوازيها في سائر الأناجيل. وقد لعبت دورين اثنين. الأول، ربطت هذا المقطع ببداية مثول يسوع أمام بيلاطس، الذي قطعه انتقال يسوع إلى هيرودس. الثاني، ربطت بين هذا المقطع ومثول يسوع أمام هيرودس.
حين نقرأ المقدمة (آ 13) ونعرف أن بيلاطس دعا "رؤساء الكهنة والاقطاب والشعب"، ندهش حين نلاحظ أن "رؤساء الكهنة والكتبة" رافقوا يسوع إلى دار هيرودس (آ 10: كانوا واقفين يشكونه). لا شكّ في أنهم لم يظلوا في مقرّ هيرودس. لهذا بدا من الطبيعي أن يكونوا قد اقتادوا يسوع إلى قصر الوالي (بيلاطس). ولكن حين نقرأ النص،ّ نظنّ وكأنهم قد تشتّتوا في المدينة. فاحتاج بيلاطس إلى أن يدعوهم إليه. غير أن لوقا يعفينا في الواقع من هذه الفرضيّة. فاهتمامه قبل كل شيء ينصبّ على تكوين "مسرح" يحضر عليه الاشخاص الذين هم ضروريون لفهم الحدث. وهذا ما حدث بواسطة هذه الدعوة التي وُجّهت إلى كل الاشخاص المعنيّين بهذه القضيّة، فحضروا من أجل هذه المحاكمة الحاسمة.
إن رؤساء الكهنة ووجهاء اليهود هم في مكانهم هنا. وهم يواصلون العمل الذي بدأوا به منذ زمان بعيد. ولكن الوضع يفترق بالنسبة إلى "الشعب". فهذه هي المرة الوحيدة التي نجد فيها الشعب ينضمّ إلى السلطات ويعادي يسوع.
إن عبارة "الاقطاب" (ارخونتس) تدلّ على السلطات اليهودية. فإذا وضعنا جانباً يو 7: 26، 48؛ 12: 42 (والمفرد في 3: 1 عن نيقوديمس)، لا نجد هذه اللفظة إلاّ في لو 14: 1؛ 23: 13، 35؛ 24: 20؛ أع 3: 17؛ 4: 5، 8؛ 13: 27؛ 14: 5.
أما الدور الذي يلعبه "الشعب" في لو وأع، فلا يبدو متماسكاً كل التماسك. فحتى لو 19: 27 دل "لاوس" على الجمع (اوخلوس) (1: 10، 21؛ 3: 15، 18، 21؛ 6: 17؛ 7: 1، 29؛ 8: 47؛ 9: 13؛ 11: 53؛ 18: 43). ولكنه دلّ أيضاً على شعب إسرائيل كموضوع النعمة المسيحانية (1: 17، 68، 77؛ 2: 32؛ 7: 16).
وفي أع حتى ف 15، لا يكون "لاوس" إلا نادراً في الجهة المعادية للمسيحيين (أع 6: 12؛ 12: 4، 11). بل هو في أكثر المرات من جهة الرسل، ويتقبّل تعليمهم (أع 3: 11، 12؛ 4: 1، 2، 10، 17، 21؛ 5: 12، 13، 20، 25، 26؛ 6: 8؛ 10: 42؛ رج 1: 15؛ 6: 7؛ 8: 6. بعد أع 15، تتطوّر اللوحة فيمثل "لاوس" الأعداء بشكل مباشر (21: 28- 30؛ 26: 17) أو عبر إيرادات العهد القديم (28: 26، 27). حينئذٍ تصبح اللفظة مرادفة لـ "اوخلوس" فتدلّ على اليهود (ق 21: 28، 30، 36، 39، 40 مع 21: 27، 34، 35).
ونعود إلى الانجيل في القسم الأورشليمي (19: 28- 24: 53). هنا يستعمل لوقا لفظة "لاوس" بشكل مميّز. لقد صار "الشعب" فئة توافق يسوع وتعليمه. وهكذا يتميّز عن السلطات اليهودية التي تعادي يسوع، وتسعى إلى قتله. ولكننا في هذا المجال نجد شواذين على القاعدة. الاول بسيط: إذ يعلن يسوع سقوط أورشليم بيد الرومان ويقول: "إنه سيكون ضيق عظيم في البلاد وسخط هذا الشعب" (21: 23)، فهو لا يعتبر أن الشعب هو عدوّه الخاص. الثاني خطير: إن الشعب الحاضر أمام بيلاطس برفقة رؤساء اليهود ينضمّ إليهم ليطالب بصياح عظيم أن يُصلب يسوع (23: 13، 18، 21، 23).
في الواقع، إن استعمال كلمة "لاوس" في هذا السياق تبقى محيرّة. في 23: 4- 5، أعلن "عظماء الكهنة والجموع" (اوخلوس) لبيلاطس أن يسوع "يهيّج الشعب". نحن هنا أمام صعوبة أولى، رغم الاختلاف في المفردات خصوصاً إذا استندنا إلى لفظة "لاوس" في القسم الأول من لو حيث يدلّ على الجمع. ولكن ترد صعوبة ثانية. ففي آ 13، انضمّ "الشعب" إلى "الجمع" (ذُكر في آ 4- 5). والتقى مع السلطات لكي يطالب بموت يسوع (نجد التقاطع عينه بين "الجمع" و "الشعب" في 23: 27، 35، 48). غير أن بيلاطس يتوجّه إليه ويعلن له كما للرؤساء: "قدّمتم إليّ هذا الرجل على أنه يفتن الشعب" (لاوس) (آ 14 أ). لقد توجّه بيلاطس إلى "الشعب"، محدّثاً إياه عن الشعب وكأننا أمام واقع آخر.
المفتاح الذي يتيح لنا أن ندخل في هذا التأليف ينتج من تفحّص عام لموقف لوقا من الشعب اليهودي. فلوقا لا يرتاح معه ولا مع نظمه من شريعة وهيكل. وقد علّمه التقليد أن اليهود كانوا ضالعين في الحكم على يسوع وموته. هذا التقليد بما فيه من "هموم" يبرّئ ساحة بيلاطس والجنود الرومان. وقد تأثّر بالنزاعات بين العالم اليهودي والمسيحية الفتيّة. هذا التقليد نجده أيضاً في أع، وهو يمثّل مركزاً واسعاً، مع أنه يهتم فقط بيهود أورشليم ورؤسائهم جاعلاً الآخرين خارج القضية. وحين يهتمّ لوقا باليهود فهو يقول إنهم صنعوا ما صنعوا عن جهل (أع 3: 17: رفضوا الكرازة المسيحية، قست قلوبهم، فصاروا "هذا الشعب"، أع 28: 26؛ رج أش 6: 9). لهذا يعتبر أنه يمكن أن يخلصوا. لا يخفف لوقا من خطيئة الشعب اليهودي (4: 28- 29) ولكنه لا ينسب إلى "الشعب" جريمة لا يمكن أن يكفّر عنها. هو شعب الله ويبقى كذلك إذا أراد. ولكن...
فلوقا التقى في الجماعات مرتدّين من العالم اليهودي ومسيحيين آخرين يتساءلون عن تماسك مخطّط الله وتحقيقه. ففي آلام يسوع وصل "فشل" هذا المخطّط إلى الذروة، لأن شعب "الوعد" (أع 2: 39؛ 13: 23- 32) رذل مخلّصه وطالب بموته. ولكن إن كان هذا يعني أنه حاضر بشكل مباشر في المشهد الذي ندرس (23: 13)، فلوقا يقوم بكل محاولة لكي يبيّن أن مخطط الله يجري بشكل متواصل، أن الله ما خان وعوده، وأن الشعب اليهودي، شأنه شأن الشعوب الوثنية، يستطيع أن ينعم بمواهب الخلاص إن حقّق الشروط المطلوبة ممن يريد أن يشارك في هذا الخلاص.
التواصل حاضر رغم رفض لا يستطيع أحد أن ينكره، هو رفض يخضع لأمر واحد كما ارتسم في الكتب المقدسة (أع 7: 51؛ 28: 25- 27). ويظهر هذا التواصل منذ البداية مع التلاميذ الأولين الذين هم رفاق يسوع على الأرض والشهود لقيامته. كما يظهر مع المرتدّين العديدين على أثر كرازة الرسل (أع 2: 41- 47 ب؛ 5: 14؛ 6: 7). ولكننا هنا أمام استباق لوضع "الشعب" الذي اجتذبه يسوع قبل الآلام وعلّمه. ودلّ لوقا ثلاث مرات على نواياه الطيّبة رغم العداء المتصاعد أمام بيلاطس. في 23: 27 نقرأ: "كان يتبعه جمع غفير من الشعب، ونساء كُنّ يندبنه وينحن عليه". وفي آ 35 أ: "وكان الشعب واقفين ينظرون" (رج زكريا: ينظرون الذين طعنوا). وفي آ 48: "وأما الجماهير... فرجعوا وهم يقرعون صدورهم".
إختلف لوقا عن متّى حيث أتمّ "كل الشعب" رفضه باعلان احتفالي (مت 27: 25: دمه علينا وعلى أولادنا). فخفّف بعض الشيء من تقليد قاسٍ ضدّ اليهود لئلا يصدم الضمير المسيحي الذي علّمه يسوع الغفران.
بعد "فاصل هيرودس"، عاد بيلاطس إلى المحاكمة متوجّهاً إلى اليهود وحدهم، منذ الاّن حتى النهاية. بدأ فذكّرهم بالوقائع (قال+ بروس) (23: 4 أ: لقد قدّمتم إليَّ هذا الرجل) موجزاً ما فعله هو. ومورداً الاتهامات التي ذكرت في آ 1- 2 أ، 5: جاء اليهود بيسوع إلى بيلاطس واتهّموه بأنه يفتن الشعب. ونجد أيضاً هنا (آ 14 ج) إعلان آ 4 حيث يقّر بيلاطس أنه لم يجد جرماَ على يسوع. غير أن التوسّع في ما هو مجرّد تذكّر يلفت النظر: الجملة الطويلة في آ 14 ج. نجد هنا "كاي ايدو" (وها): 26 مرة في لوقا، 8 في أع، 27 في مت، وتغيب عن مر ويو (وهته في العبرية، فإذا). "انوبيون" (أمام): 22 مرة في لو (زاد 2 على مر). ق لو 5: 18 مع مر 2: 3؛ لو 8: 47 مع مر 5: 33.
تبدو آ 14 ج بلهجتها الاحتفالية مميّزة عن الاعلان "الناشف" في آ 4 ب. وهذا ما يدل على تدرّج في نفي بيلاطس كل جرم عن يسوع. وما يقوله بيلاطس هنا يثبته اللجوء إلى هيرودلس (آ 15) الذي أعاد يسوع بما في هذه العودة من إقرار بأن يسوع غير مذنب. أجل، إن بيلاطس يرى أن هيرودس لا يعتبر أن يسوع "يستحقّ الموت". هذه الملاحظة هي مفيدة، لأن الحديث هو حديث موت. من قرأ الإنجيل منذ البداية يرى أن رؤساء اليهود يهدّدون حياة يسوع (6: 11؛ 19: 47؛ 20: 19؛ 22: 2) وأنه سوف يموت في أورشليم (13: 33). ولكننا سوف نسمع سريعاً ذات الاشخاص يطالبون بصلبه. وهكذا، إذ يذكر لوقا مخططاً أعدّ في السابق، يهيّئ الطريق لصراخ يطالب بالقتل في آ 21، 23.
إذن، كل شيء يعارض الحكم على يسوع. وها هو بيلاطس يستعدّ لكي يطلقه. ولكن قبل ذلك، أراد أن "يؤدّبه". نجد هنا تلميحاً خفيّاً إلى الجلد الذي يذكره سائر الانجيليين بوضوح. واستعمل لوقا التورية فلم يتحدّث عن جلد يسوع. ولا يقول إن بيلاطس نفّذ ما عزم عليه. ولكن ما هو هدف بيلاطس؟ الجلد هو مقدّمة عادية للصلب. وبما أن بيلاطس يستعدّ الآن للصلب، فعليه أن يفكّر بعقاب أخفّ يمارسه الرومان. ولكن حتى في هذا الشكل يبقى قرار بيلاطس سريّاً. هل أراد لوقا أن يكون أميناً للتقليد الذي يتحدّث عن الجلد؟ ربما. ولكن المعقول هو أنه رأى تنازلاً أمام المتّهمين وهو يرجو أنهم سيكتفون بذلك (رج يو 19: 1). وسيحاول بيلاطس مرة ثانية في العبارة نفسها (آ 22 ج)، ولكنه لن ينجح. أما كلامه هنا، فسيحرّك الصياح الأول الذي يطلب الموت ليسوع.
نقرأ آ 17: "وكان لا بدّ له، بداعي العيد، أن يطلق لهم سجيناً". يبدو أن هذه العبارة هي حاشية دوّنت انطلاقاً من مت 27: 15 ومر 15: 6. وهي غائبة من عدد من المخطوطات: بردّية 45، الاسكندراني، الفاتيكاني. ثم إن موضعها متحرّك. تارة نجدها قبل آ 18 وطوراً قبل آ 19.
إن فعل "أطلق" (ابولياين) الذي ينهي تدخّل ييلاطس في آ 16 يرد هنا ض مرات (آ 17، 18، 20، 22، 25). فيعبرّ عن هدف محاولة الوالي. هو لن يصل إلى هدفه فيفشل فشلاً تاماً. فبدل أن "يطلق" يسوع (آ 17، 20، 122، ها هو "يطلق" برأبا (آ 25) بناء على طلب اليهود (آ 18). في كل عرض من عروضه يجد رفضاً قاطعاً. الأول (آ 18) يرد في صوت واحد يهتف به الوجهاء والشعب. إذن، لسنا أمام طلب يدلّ على اللياقة، بل أمام صياح شعب من الرعاع عصبي، وجب على بيلاطس أن يواجهه. لا نجد في لو ما نجده في مر 15: 11 حول عظماء الكهنة الذين أثاروا الجموع لكي يصلوا إلى غايتهم... فهو يبسّط الأمور والاشخاص. تحدّده عبارتان في آ 18 ب: أزِل هذا. أطلق لنا برأبا.
العبارة الأولى "أزل هذا" لم تجد ما يقابلها في يو 19: 15. ونجدها أيضاً في أع 21: 26 و22: 22 على شفاه الشعب الذي يصيح على بولس. إن عبارة أش 53: 8 (حسب السبعينية) التي تصوّر مصير عبد الله، تنطبق على يسوع في أع 8: 22. وتتكزر هنا في أع 22: 22 وتلهم سائر المقاطع لا سيما ذاك الذي نقرأه هنا. فالرسول يقتدي بمعلّمه (هذا ما يقول أع). ومعنى الفعل هو هو: أزال (ايراين)، أبعد عن هذا العالم، أمات. ولكن هذه الدعوة للحكم بالموت على يسوع تترافق مع طلب بإحلال شخص مكان آخر. أراد بيلاطس أن يطلق يسوع. فإذا اليهود يطالبون بأن يطلق آخر مكانه، بأن يطلق برأبا.
جاء شخص برأبا هنا فجأة. أما مر 15: 6- 8 فقدّمه إلينا. وحين نقرأ لو نحتاج إلى مر لكي نفهم لماذا طلب الجمع من بيلاطس: "أطلق لنا برأبا". فالعبارة كما استعملها الانجيلي تشير الى العادة التي تحدّث عنها مر، وهي صدى لا شك فيه لطلب بيلاطس في مر 15: 9: "أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود"؟
إن بطرس وبخ الشعب (أع 3: 12) الذي اجتمع حول الرسل بعد معجزة الباب الجميل، لأنه اختار برأبا لا يسوع: "أنكرتم القدّيس والبار، وطلبتم بأن يُعطى لكم رجل قاتل" (أع 3: 14). أجل، يتحدّث لو 23: 19 عن قاتل. هنا قدّم لوقا بعض الشروح. "ألقي في السجن لأجل فتنة وقتل" (آ 25). تنبع الصورة من كلمة مر 15: 7 التي يعيد لوقا صياغتها محافظاً على مضمونها وألفاظها. لهذا، نجد هنا بدون شك روح السخرية التي تنسب إلى اليهود، أمام الوالي الروماني، أنهم اختاروا لصاً وقاتلاً وأسير السلطة الحاكمة، وفضّلوه على بريء يلاحقونه ببغضهم. كان مرقس صدى لحدث محدّد. أما لوقا فتحدّث عن فتنة دون أن يحدّد نوعها. المهمّ أنه قدّم لنا الشخص في إطار كله سلبي. ويسوع أمامه هو كله إيجابي.
2- المحاولتان الثانية والثالثة (23: 17- 23)
في المحاولة الثانية، توجّه بيلاطس أيضاً إلى اليهود، وهذا ما يشدّد عليه لوقا الذي لا يورد العبارة كما هي، بل يورد مضمون المحاولة. قال لوقا: أراد "أن يطلق يسوع" (آ 20). إرادة عنيدة مثل إرادة هذا الحاكم! كان يجب أن تتكلّل عادة بالنجاح. في الواقع، نحن أمام مساومة تنتهي بانكفاء إرادة الوالي أمام أعداء يسوع (آ 25). ولكنها في الواقع إرادة الله أيضاً (22: 42).
أورد لوقا هذه المحاولة بشكل مقتضب، فنال بيلاطس من الجمع جواباً بدا أوضح من الجواب الأول. ها هو يطالب حرفياً بصلب يسوع (آ 21). نقرأ فعل الأمر "أصلبه" على دفعتين في مر 15: 13، 14. أما لوقا فيستعمل هذه الصيغة مرة واحدة (آ 23)، ويكرّرها.
أمام هذه المتطلبة التي لا تقبل مساومة، لم يعتبر بيلاطس نفسه أنه فشل. لقد حاول حقاً كل ما في وسعه لكي يمنع ما يعتقده جرماً. وهذا ما شدّد عليه للمرة الثالثة. أراد أن يدافع عن يسوع (آ 22). إذا أدخلنا المحاولة المذكورة في آ 20، تكون هذه المرة هي الرابعة. فالأولى جاءت بعد استجواب يسوع (23: 4). والثانية دشّنت العودة إلى المحاكمة بعد فاصل هيرودس (23: 14). ولكن لا ترد كلمة في آ 20. ولكن ليس الأمر كذلك في آ 4 وآ 14 (كما في آ 22) حيث يبدأ إعلان واضح من قبل بيلاطس مع عبارة "قال إلى" (ايبان بروس). إذا قبلنا بهذه الملاحظة نعتبر عدّ الكتاب صحيصاً.
والعدد له معناه، كما في مكان آخر من العهد الجديد. إنه يدلّ في لو وفي أع على الطابع النهائي والتام لحدث من الأحداث (نقول في العامية: الثالثة ثابتة). بعد هذا، سوف نرى بيلاطس يقوم بمحاولة أخيرة لكي يقنع محاوريه ببراءة يسوع. طرح عليهم السؤال (كما في مر 15: 14) وأجاب هو بنفسه مكرّراً ما سبق وقال في آ 4 ب و14 ج مع جملة من آ 6، عادت بشكل حرفي. ولكن بيلاطس حصل على طلب بأدب يصلب يسوع. طلب عنيد يبرز في صياح متمادٍ. وصل النصّ إلى الذروة. فلم يبق إلا الخاتمة.
3- نهاية المشهد (23: 24- 25)
في نهاية المشهد نرى كيف أن لوقا أعاد صياغة مر 15: 15 وأبرز عناصره الثلاثة: قرّر بيلاطس أن يلبّي طلب اليهود. أطلق برأبا. سلّم يسوع إلى إرادة اليهود.
في مر، تضرّف بيلاطس بشكل سلبي. فمع أن مشيئته كانت معنيّة، فهو قد تراجع أمام مشيئة الجمع وعظماء الكهنة (في مت 27: 26 بدا بيلاطس كلياً بدون إرادة. هو لا يفعل، بل ينفعل، يفعلون عنه). شدّد لوقا على مسؤولية القاضي، حين جعله صاحب القرار. فالفعل "ابيكريناين" (يرد مرة واحدة في كل العهد الجديد) لا يتضمّن في حدّ ذاته حكماً قضائياً، بل عمل السلطة في البلاد، وإن يكن هذا العمل هنا نتيجة تراجع. فإن بيلاطس اكتفى بجواب إيجابي على "طلب" الذين "طلبوا" منه صلب يسوع، كما "طلبوا" منه إطلاق برأبا. نجد في اليونانية الجذر عينه للفعل يتكرّر. وهذا ما يشدّد على مبادرة اليهود، دون أن ينسى "حصّة" بيلاطس حين عزم على إرضائهم.
في الواقع، حين اختاروا برأبا، لم يكن هدفهم احساناً إلى لص، بل احلال هذا المجرم محلّ يسوع الذي يسعى بيلاطس إلى تخليصه من أيديهم. ففي خلفية الخبر نجد الامتياز الفصحي، الذي لا يتحدّث عنه لوقا. ولكن لا بدّ من ذكره إذا أردنا أن نفهم الطلب في آ 18 والتبادل الأخير بين يسوع وبرأبا. كتب مرقس أن بيلاطس "أطلق لهم برأبا" (5: 15). أما لوقا فالغى الضمير وحرف الجرّ (لهم) في آ 18 (أطلق برأبا). ليس المهمّ أن يُمنح لهم برأبا. المهمّ أن يسلم يسوع إلى الموت. كتب لوقا أن بيلاطس، "أسلمه إلى إرادتهم"، وهكذا تدلّ الآية على تسلّط المحاولة اليهودية في هذا الظرف: سيُصلب يسوع وتنتصر "مشيئة" اليهود التي خضع لها بيلاطس. ولكن، حين أسلم بيلاطس يسوع إلى أعدائه، كان ينفّذ بلا وعي مخطّطاً يشمل هذا الموت. فالله هو أيضاً قد "أسلم" يسوع حسب نظام محدّد في الكتب المقدسة.
4- البعد الجوهري لهذا الخبر
إذا أردنا أن ندرك البعد الجوهري لهذا الخبر ونحيط بسماته، نعود إلى ما يذكّرنا به أع. ففي الصلاة التي ترتفع من الجماعة الاورشليمية بعد خلاص الرسولين بطرس ويوحنا، يرد مز 2: 1- 2 ويفسّر بهذه الكلمات: "قد اجتمع بالحقيقية، في هذه المدينة، على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبونسيوس بيلاطس مع الأمم وشعوب إسرائيل" (أع 4: 27). يجسّد هيرودس وبيلاطس أول محاولة قتل ضد المسيح كما تنبّأ بها المزمور، حيث "ملوك الأرض" يدلّون على هيرودس، والامراء على بونسيوس بيلاطس. ولكن ما نقرأ في النصّ البيبلي، يجعلنا نخضع لإعادة قراءة المزمور في صلاة أع. اختلف لو عن أع، فلم يظهر بيلاطس ولا هيرودس في تحقيق المؤامرة التي ينبئ بها المزمور. هما لم يجتمعا على يسوع، بل اعتبراه بريئاً. من هذا القبيل، كانا بجانب "لصّ اليمين" (23: 31)، لا بجانب الرؤساء اليهود ولا الشعب الذي اثّر عليه رؤساؤه.
ولكن حين دافع بيلاطس وهيرودس عن يسوع، بانا وكأنهما يقفان لا وجه تحقيق مخطّط الله. فبحسب هذا المخطّط، على يسوع أن يموت كما مات. فهذا الموت يدخل في برنامج الله. وهاجم اليهود الوالي بطلبٍ موضوعُه هو تنفيذ هذا المخطط. والحال، حين سعى بيلاطس إلى إطلاق يسوع، وطلب مساعدة هيرودس، كان وكأنه يعارض هذا المخطط. ولكنه لم يستطع، لأن اليهود ربحوا "الرهان"، وسيكونون فاعلين فيبنون مخطّط الله ساعة ظنّوا أنهم يهدمونه.
هذه هي ديناميّة الخبر، وهذا هو مرماه. ولكن لا ننسَ النظرة الدفاعية التي فيه. إن نسخة لوقا عن المحاكمة تحاول أن تقنع القرّاء الوثنيين (بل بعض القضاة) بولاء يسوع تجاه رومة، وهكذا يُحمى المسيحيون من الشكّ بموقفهم "المخرّب"! مثل هذا التفسير الذي قد يصلح في أع، لا يصلح أبدأ في الانجيل الثالث. فبيلاطس ليس بريئاً من كل مسؤولية، ولا من كل لوم. فقراره (23: 24) هو الذي قاد يسوع إلى الموت. لم يدلّ قبل ذلك على أي تعاطف مع يسوع، بل استعدّ لإرساله إلى الجلد إرضاءً لليهود. ثم أي روماني عالم بالممارسة القضائية في شعبه، يقبل بالطريقة التي بها يعامل بيلاطس سجينه؟ إن أول اعلان براءة (23: 4) لا يستند إلى أي أساس متين، بل يعارض اتهامات اليهود واقرار يسوع نفسه (يفهمه الروماني على أنه طموح لملك سياسي).
يسوع بريء على المستوى السياسي. ومثله سيكون بولس بحيث يتفق اغريبا الثاني مع الوالي على القول بأن "هذا الرجل لم يأت شيئاً يستوجب الموت أو القيود" (أع 26: 31- 32). لن ننتظر من لوقا تقريراً مفصّلاً عن سير المحاكمة، بل نظرة لاهوتية تدلّ على مسؤولية اليهود ومسؤولية الوثنيين في موت يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM