الفصل الرابع والعشرون: روح الأبناء

الفصل الرابع والعشرون
روح الأبناء
8: 12- 17

بعد أن تحرّرنا من الشريعة في موتنا مع المسيح. بعد أن تحرّرنا من أعمال الجسد فعرفنا ثمر الروح. بعد أن فهمنا الصراعَ الداخليّ الذي يُقيم فينا، مع أن المسيح افتدانا، برّرنا، نقلنا إلى ملكوت النعمة، ها نحن نتعرّف إلى ما تفعله فينا حياةُ الروح. هي تجعلنا أبناء. تعطينا روح الأبناء بعد أن تخلّصنا من روح العبيد. لا، لم نعد مدينين للجسد، بل صرنا مدينين للروح بحيث نتصرّف على مثال المسيح الذي أعلن: روح الربّ عليّ. نتصرّف كالأبناء. فندعو الله «أبّا» كما الطفل أباه. والشاهد على ذلك هو الروح نفسه. ونتيجة البنوّة هي أننا ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث. لا ميراث أرض تاق إليها العبرانيون وهم في البريّة، بل مجمل الخيرات الالهيّة: الملكوت، الحياة الأبديّة. إن المسيح، بموته وقيامته، قد نال من الآب كل خير، وها هو يشركنا في ميراثه. ولكن هناك شرطاً: مشاركة المسيح في آلامه إذا شئنا أن نشاركه في مجده. فهناك سرّ واحد يربط المؤمن بالمسيح. حيث مرّ المسيح يمرّ المسيحيّ. وبنوّة المسيح يشارك فيها المسيحيّ.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 13، رأى بعضهم أن «سوما» (الجسد) لا يُستعمل في معنى سلبيّ، فأحلوا محلّه «ساركس» أي اللحم والدم، البدن.
في آ 14، تبدّلَ ترتيبُ الكلمات في النهاية، من أجل ابراز لفظ «هيوي» (أبناء).
في آ 15، «الذي به» (إن هو) يمكن أن يعود إلى ما قبل فيُنهي الجملة. أو هو يبدأ جملة جديدة.
في آ 16، أضاف الكودكس البازي: اذن. فصارت الجملة: اذن، ما دمنا...
في آ 17، نقرأ «كاي» (أيضاً). غابت من البرديّة 46.
ب- بنية النصّ
يتوقّف هذا المقطع عند فكرة المؤمنين الذين هم أبناء (أولاد) الله. فعلاقتهم بالمسيح تتمّ في صورة العائلة بما فيها من قوّة. إن آ 14- 30 تشكّل صياغة لما في آ 9- 11، وآ 14- 17 هي عرض لما في آ 9، وآ 18- 30 لما في آ 10- 11. بدت آ 15- 17 متوازية مع غل 4: 6- 7. هذا يعني أن بولس استعمل في هذين المقطعين أفكاراً عرفتها الكنائس الأولى معرفة واسعة. ذاك هو وضع العنصر المركزيّ: أبّا، أيها الآب. ولكن التوازي اللفظيّ لا يكفي ليدلّ على شكل ثابت. وقد نكون أمام متتالية من بولس وردت في غل 5: 13- 24 وروم 8: 2- 13.
وأخيراً نلاحظ الانتقال من صيغة المتكلّم (آ 1،12 15ب، 17) إلى صيغة الغائب (آ 13- 15 أ). كما نلاحظ عدداً من الأفعال مع «سين» (مع) في آ 17؛ رج آ 22، 26، 28، 29.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (8: 12- 17)
جاء النصّ في مقطعين. في الأوّل (آ 12- 13) نتعرّف إلى أعمال الجسد وأعمال الروح: الموت والحياة. ولكن المؤمن هو ابن الله بالروح، فكيف يعود إلى أعمال الجسد. كيف ينسى أنه ابن الله ووارث خيراته (آ 14- 17)؟ أ- أعمال الجسد والروح (آ 12- 13)
«فنحن يا اخوتي». آ12. «أرا أون» (هكذا اذن). تدلّ على خلاصة تصدر عمّا قيل (آ 1). هذه الخلاصة هي إرشاد يدعونا أن لا نعيش بحسب الجسد. إن الحدود بين عالم الروح وعالم الجسد ليست كما بين المؤمنين واللامؤمنين. فهذه الحدود تمرّ عبر كلّ مؤمن. «اخوتي». هي المرة التاسعة يتوجّه فيها بولس هكذا إلى أهل رومة. رج آ 13. نجد هنا المتكلّم الجمع (نحن). جعل بولس نفسه مع قرّائه، لأن وضعه (في انشداد اسكاتولوجيّ) لا يختلف عن وضعهم. فهو يحتاج أن يمارس الحياة الخلقيّة عينها. «أوفايلاتيس»، مدين، يجب عليه دين. من انتمى إلى عالم الجسد، لا يقدر أن يُفلت. غير أن هذا الانتماء لا يشكّل واجباً للجسد وكأن كونهم في الجسد كان سبباً كافياً لنعيش له وحده.
«فإذا حييتم» (آ 13). إن تكرار العبارة الأخيرة في آ 12 يدلّ على أن بولس لا يفكّر فقط في فرضيّة أو إمكانيّة لاواقعيّة. فالخطر يتربّص بسامعيه. لهذا جاءت صيغة المخاطب تنبّههم. وهو لا يتوجّه فقط إلى اللامؤمنين، بل إلى المؤمنين أيضاً. «سوف تموتون». هو المضارع مع الثقة بأن الأمر حصل. في أي حال، النهاية قريبة. الموت ليس فقط نهاية الحياة. ولكننا لا نقول إننا أمام الموت الروحي. إن الحياة حسب الجسد تربط الانسان بما هو فاسد وزائل. رج 8: 6؛ غل 6: 8 (من زرع في الجسد حصد من الجسد الفساد). لهذا فهو يهلك مع دمار الجسد (الموت هو وضعه الأخير). إن هدف مخطّط الله الخلاصي هو تحريرنا من عبوديّة الفساد (فتورا، آ 21).
«وأما إذا أمتّم». هو توازٍ بين الموت والحياة نقرأه في تث 30: 15 ي مع إشارة إلى الميراث (تث 11: 29، 31؛ 30: 16؛ روم 8: 17). انتظر بولس مجهوداً لا يكون أقلَّ من مجهود موسى. ولكن الميراث اختلف بين أرض نمتلكها وعطية الروح الذي يُفاض على الوارثين (غل 4: 1- 7)، «براكسيس». ليس قوّة سلبيّة في ذاتها، هو الأعمال. لا شكّ في أن هناك كلاماً عن الفعل الشرير في لو 23: 51؛ كو 3: 9. هنا جاء الشر من الجسد (سوما، لا ساركس). الجسد يدلّ على الهويّة وعلى الارتباط. «أعمال الجسد» هي أعمال تعبّر عن ارتباط بالرغبات البشريّة والطموحات. وصيغةُ الحاضر تدلّ على أن هذا الوضع يستمرّ وإن تمّ الاهتداء (العماد). فالانسان القديم لم يمت بعد ولا جسد الخطيئة (كو 3: 5- 10). «ستحيون». هذا لا يعني إعفاء من الموت وعيشاً لا ينتهي. هي الحياة الاسكاتولوجيّة. الحياة بعد الموت وبعد نهاية حياة حسب الجسد.
ب- أبناء الله بالروح (آ 14- 17)
إن آ 14 تبدو غير مرتبطة بما في آ 13. ومع ذلك، هناك مسألة تُطرح حين ننسى التواصل والتتمّة في الوعود لابراهيم واسرائيل، حيث يسير فكرُ بولس: دور الشريعة، الروح الاسكاتولوجيّ، وضع الأبناء. كل هذا يدلّ على امتيازات المؤمنين الذين يعتبرون أنهم دخلوا في الامتيازات الاسكاتولوجيّة التي وُعد بها اسرائيل. هنا نقابل ف 8 مع ف 9: انتقل ميراث اسرائيل إلى الذين للمسيح. فماذا لاسرائيل بعد؟
«والذين يقودهم». أي جميع الذين يقودهم. الارتباط بالروح هو حاسم. هناك حدود لاسرائيل حسب الجسد، وتوسّع للروح الذي يفيض على الذين هم للمسيح. هذه العبارة تلتقي مع «سلك حسب الروح». كان حسب الروح، في الاهتمام بالروح. نكون بجانب الروح، نعيش حسب الروح. نكون في الروح. هو الروح يوجّه حياتنا، يرافقها. إن فعل «أغاين» في السبعينيّة يدلّ على إرادة تقيّة وخضوع شخصيّ. أما «أغاستاي» المستعمل هنا، فيدل على قوّة دفع. رج 2 تم 3: 6. «هم أبناء الله». نتذكر في العالم الرواقيّ أن الاله زوش هو أبو الجميع (لأنهم كلهم يشاركون في العقل الالهي). رج أع 17: 28. وقد تحدّث أفلاطون عن «أبناء الله». يعني أنهم نالوا رضى الله. في العالم اليهوديّ، اسرائيل هو ابن الله. وبنو اسرائيل، ولا سيّما الأتقياء (الذين عاشوا وماتوا مطبوعين بالأمانة للشريعة) هم أبناء الله أو أولاد السماء. رج تث 4: 1 والكلام عن الاختيار، ثمّ هو 1: 10 الذي يرد في روم 9: 26 عن الوعد الاسكاتولوجيّ. عرف بولس فكر معاصريه وتحدّث عن هذه البنوة بلغة روح الله. فالنبوّة الالهيّة للأفراد يحدّدها روح الله، قوّة الله كما فهمها التقليد اليهوديّ واختُبرت الآن بشكل فيض اسكاتولوجيّ. هذه البنوّة لا ترتبط بالشريعة ولا بالأمانة للشريعة، كما يقول سفر الحكمة والتقليد عن شهداء العالم اليهوديّ. بالنسبة إلى المسيحيّ هي أمانة للروح.
«ما نلتم روح العبوديّة» (آ 15). «غار» (لأن). تدلّ أن آ 15 هي برهان لما في آ 14. بما أننا نقاد بالروح، فهذا برهان عن بنوّتنا. والفعل يدلّ على تقبّل الروح الذي يكوّن بداية الحياة المسيحيّة (نخصّ المسيح). رج 2 كور 11: 4؛ غل 3: 2، 14؛ يو 7: 39؛ 14: 17؛ أع 1: 8؛ 2: 33، 38. الحدث الذي فيه ننتقل إلى وضع الأبناء، هو العماد كعمل ملموس (آ 9). «روح العبوديّة». رج قض 9: 23؛ 1صم 16: 14- 16؛ (1مل 22: 19- 23). يُعطى الروح لئلا يسقط المؤمنون وهناك روح الشر، روح الزنى والفجور. رج وص رأوبين 5: 3؛ وص شمعون 2: 7؛ 3: 1؛ ق 1 كور 2: 12؛ 2 كور 11: 4؛ أف 2: 2؛ 2 تس 2: 2؛ 2 تم 1: 7. أما هنا، فالتمييز ليس بخلقيّ، في الدرجة الأولى، بل بين حقبة وحقبة. حقبة روح العبوديّة وحقبة روح الأبناء. هكذا كان الأمم قبل اهتدائهم، وهكذا كان اليهود (غل 4: 24؛ 5: 1). بل الخليقة كلها كانت في العبوديّة (8: 21). «الخوف» (فوبوس). معنى سلبيّ. مع أن هناك «مخافة الله» (3: 18؛ 2 كور 5: 11؛ 7: 1؛ أف 5: 21؛ فل 2: 2) في وجه إيجابي. الخوف هنا يرتبط بعاطفة العبيد.
«بل نلتم روح الأبناء». هو الروح الذي يجعلكم أبناء، أو يعبّر عن بنوّتكم. هو واقع حقيقيّ بالنسبة إلى المؤمن. هي «البنوّة». الله يتبنّانا فنصبح أبناءه (هيوتاسيا). فقط في الرسائل البولسيّة. رج 8: 15، 23؛ 9: 4؛ غل 4: 5؛ أف 1: 5. هي عادة يونانيّة رومانيّة، لا يهوديّة. استعمل النص «البنوّة» ليقابلها ب «العبوديّة». لا يتحوّل المؤمن فقط من عبد إلى حرّ، بل إلى ابن تبنّاه الله. «به نصرخ». قد نكون أمام نداء احتفاليّ. وقد تكون صرخةَ الألم التي نطلقها مع خليقة وصلت بها الأمور إلى اليأس. رج غل 4: 6 حيث الروح يصرخ (كرازو). يهتف. في السبعينية، يُستعمل الفعلُ في الصلاة الملحة. «أبّا». في الأراميّة. نداء ميّز يسوع في صلاته، فدلّ على بنوّة حميمة مع الآب. هي علاقة داخل العيلة. أجل، المؤمنون يصرخون إلى الله بلفظ استعمله يسوع. هذا يعني أنهم أبناء وورثة (آ 16- 17). هذا النداء يميّز المسيحيين بعلاقتهم الحميمة بالله. وضعُ يسوع هو وضعُ من يؤمنون به.
«وهذا الروح بشهد» (آ 16). هذا هو فعل الروح فينا مع «سين». يشهد مع روحنا. يرافقنا هذا الروح فيؤهّلنا لكي نصرخ. وهكذا يلتصق روحنا بالروح القدس. وحياته فينا هي ما يُسمّى النعمة الالهيّة. «أننا أبناء». استعمل بولس «تكنون» 24 مرة: أولاد الله. ولكنه لم يستعمل هذا الاسم ليسوع. بالنسبة إلى يسوع «هيوس» (الابن): 38 مرة. رج 1: 3، 4، 9؛ 5: 10؛ 8: 3، 29، 32. غير أن الاسمين يترادفان. وصيغة الحاضر تدل على أن صلاة الأبانا والسلوك بحسب الروح، يسيران معاً في حياة المؤمن.
«وما دمنا» (آ 17). نتذكّر الشريعة الرومانيّة. ونتذكّر اللاهوت اليهوديّ: اسرائيل ابن الله ووارث الوعد بالأرض الذي أعطي لابراهيم (4: 13). رج رؤ 21: 7 حيث البنوّة جزء من الميراث، واسرائيل هو ميراث الله أي الحصّة التي اختارها لنفسه. تث 32: 9؛ 1 مل 8: 51، 53؛ 2 مل 21: 14؛ مز 33: 12؛ 47: 2. أخذ بولس بهذا المنطق، وربطه بخبرة الروح (بالنسبة إلى الأمم، غل 3: 1- 2،14، 29؛ 4: 28- 29). الرباط بين الروح والميراث ميزةٌ في فكر بولس (1 كور 6: 9- 11؛ غل 4: 7؛ أف 1: 14؛ تي 3: 5- 7). الميراث هو ملكوت الله. هو ميراث مُقبلَ ندخل فيه. «كليرونوميا» (الميراث). وأضيف «سين» في البداية (مع). نحن نرث مع المسيح. لا نجد هذا الفعل إلاّ في العهد الجديد (8: 17؛ أف 3: 6؛ عب 11: 9؛ 1 بط 3: 7). المسيح هو وارث. ونحن معه. المسيح مَلك وهو يرتبط بالله في ميراث الملكوت (1 كور 15: 24- 28). ويسوع هو وارث ابراهيم. ولكنه حوّل هذا الميراث من مفهوم وطنيّ إلى ما يتجاوز الوطن والعرق. ونحن نشارك في الميراث، حين نشارك المسيح في موته لنشاركه في قيامته.
«نشاركه في آلامه». ربط بولس بين البنوّة والألم، كما في الفكر اليهوديّ (أم 3: 12؛ طو 13: 4- 5؛ حك 3- 5؛ مز سل 13: 8- 9)، وكيّف هذا مع الكرستولوجيّا المسيحيّة. هذه المشاركة شرط ضروريّ وهي كافية أيضاً. يكفي أن نشارك في الآلام لكي نشارك في المجد. قد نختار المشاركة أو نتهرّب منها. في هذه الحالة الأخيرة لا نصل. رج 2 تم 2: 11- 12؛ ا بط 4: 13. إن مخطّط الله الخلاصيّ يريد للانسان أن يختبر هذا المجد ويشارك فيه. رج 2: 7، 10؛ 5: 2؛ 1 كور 2: 7؛ 15: 43؛ 2 كور 3: 18؛ 4: 17؛ فل 3: 21.

3- خلاصة لاهوتيّة
بدأ بولس (آ 12) فاستخرج النتائج ممّا حلّل سابقاً. ليست الخلاصة بأن الجسد لم يعد مسألة بالنسبة إلى المؤمن. وأن امكانيّة العيش حسب الجسد لم تعد مفتوحة أمام سامعيه، بل إن الحياة حسب الجسد هي إمكانيّة حقيقيّة لقرّائه. ولو كانوا «في المسيح»، فشريعة الخطيئة والموت ما زالت عاملاً حاسماً في حياتهم تجاه شريعة الروح التي تهب الحياة. هذا يعني أنهم يحتاجون بعدُ إلى مجهود. عليهم أن لا يعيشوا بعد حسب الجسد، لأن الجسد يعارض الروح. وقد تسود على الحياة الرغباتُ والطموحات التي تغذّي «الافتخار». فبما أنهم مدينون لله، للمسيح، للروح، عليهم أن يعيشوا على مستوى هذه الكرامة فتكون حياتهم وفاء لهذا الدَين.
ونجد في آ 13 التعارض بين حياة وحياة، والنتيجة في كل حالة. حسب الجسد، الموت. لهذا يتوجّه إليهم بولس في صيغة المخاطب ويدعوهم إلى المجهود الخلقيّ، لأن مسيرة اهتدائهم لم تنتهِ. هم تعمّدوا في موت المسيح، ولكن الموت لم يُصبح شيئاً من الماضي. بل إن الذين هم «في الروح» قد يعيشون حسب الجسد. فإن فعلوا هذا، إن تركوا هذه القوّة تسيطر على حياتهم، يعودون إلى طريق الموت. بما أن المؤمنين بشرٌ من لحم ودم، فهم ما زالوا يخدمون شريعة الجسد. لهذا فتحرّرهم ما انتهى بعدُ. ذاك هو التنبيه للمسيحيين: لا تعودوا إلى الوثنيّة.
فما يُطلب هو مجهود خلقيّ مسؤول «يقتل أعمال الجسد». يقتلع أعمال اللحم والدم. هو توازٍ بين نعمة الله وعمل الانسان. وهذا لا يتمّ إلا بالروح. هذا يعني إدراكاً لإرادة الله في كل وقت، لنعرف ما تطلبه الشريعة في ذلك الوقت.
في آ 14 ترك بولس التعارض بين الجسد والروح، وتوقّف عند العلاقة بالروح والبنوّة. أبناء الله هم الذين يرضى عنهم الله. هم أمناء للشريعة وما تطلب. هم أمناء للعهد (حك 2: 12- 13). ذاك كان الموقف اليهوديّ. أما بولس، فأعاد تحديد هذه البنوّة لتضمّ أكثر من شعب اسرائيل (حسب الجسد). أبناء الله هم الذين يقودهم روحُ الله. فالذي ينتمي إلى المسيح ليس فقط من يمتلك الروح، بل من يتبع توجّهات الروح. وامتلاك الروح الذي لا يدلّ على نفسه في الحياة اليوميّة، يتعارض مع ما يقوله بولس. وهذه البنوّة التي يقدّمها الانجيل، ليست شيئاً ينعم به بعضُ المميّزين، أو ينحصر في الذين كانوا أمناء للشريعة فكوَّنوا طبقة لا تختلط مع الباقين. هم أبناء الله بقدر ما يتجاوبون مع توجيهات الروح.
إن آ 15 عمّمت ما قيل في آ 14 ليصل القولُ إلى جماعة رومة. حين اهتديتُم ما أخذتم روح العبوديّة. هي حياة تحت الشريعة. هذا يعني أن عدداً من المؤمنين لم يتحرّروا بعدُ من أعمال الشريعة. وما يُسند هذا الموقف هو الخوف، الخوف أن لا نكون لله مثل الفريسيّين وممارستهم الدقيقة للفرائض اليهوديّة. تلك كانت خبرة بولس، وهي اليوم خبرة قرّائه: وقد وثق أنهم سيجدون التحرير الذي وجده هو (آ 2). ما يقابل الخوف هو الدالة، هو الحياة الحميمة مع الله، والتي نعبّر عنها حين نقول: أبّا، أيها الآب.
كما يهتف المؤمن «أبّا»، ينعم بشهادة الروح (آ 16) ذاك الذي يقول له الروح إنه ابن الله. فالروح هو القوّة التي تضمّ الأفكار والأعمال في طريق تهب الحياة (عكس طريق تقود إلى الموت). هذا الروح يعطينا أن نشارك في بنوّة حميمة نعمَ بها يسوعُ على هذه الأرض، ونحن ننعم بها منذ بداية المسيرة التي تنتهي حين ينضمّ جسدُنا إلى الخلاص التام (آ 9- 11، 15- 16). نحن نمتلك الروح حين يكون لنا روح المسيح، حين نشاركه في البنوة، حين نحيا كأبناء يقودهم الروح. وهذا ممكن لكل انسان، لا لفئة معيّنة.
وارتبط مفهوم الميراث بمفهوم البنوّة (آ 17). فالابن هو الوارث، وأهميّة الميراث تسير في اتجاهين. مع مبدأ «ما حصل بعد»، المؤمنون هم وارثون، ولكنهم ما دخلوا بعدُ في ملء ميراثهم. هذا هو الانشداد الاسكاتولوجيّ. والاتجاه الثاني ينطلق من النظرة اليهوديّة. اسرائيل هو كالشعب المختار، ميراثُ الله، وبهذا يتميّز عن سائر أمم الأرض (تث 32: 9). وقد أعطاه الربّ أرض الموعد ميراثاً. ولكن الوارثين اليوم هم اليهود والأمم معاً. كلهم وارثو الله. وعلاقة اسرائيل الخاصة بالله صارت إلى جميع الذين في المسيح. والوعدُ بأرضٍ تحوّلَ إلى وعد بالملكوت. والفكرة بميراث الملكوت كانت معروفة في الكنائس التي عرفها بولس. فاستنتج المؤمنون في الإطار الاسكاتولوجيّ، أن ميراث الملكوت، ومواطنيّة تخضع لسيادة الله، أمران ننتظرهما بعد.
كل المؤمنين ورثة الله، لأنهم انضموا إلى المسيح كورثة. هم أبناء مع الابن، وهم ورثة مع الوارث. هم لا يرثون بمعزل عن المسيح، بل يصبح هذا الامتيازُ امتيازهم كنتيجة لانتمائهم إلى المسيح. هم يشاركونه البنوّة بعد أن تبنّاهم الله. والمسيح جاء في تواصل وانقطاع مع ما سبق: كابن داود ونسل ابراهيم ورث وعد العهد الأول. وكابن الله بالقوّة، وبالقيامة من بين الأموات (1: 3- 4)، صار وضعُه كالوارث موضوعَ مشاركة للذين يتشبّهون به.
وهم سوف يشاركون ملء الميراث (في المستقبل) إن تابع تشبُّههم بالمسيح طريقه، لا بأسلوب حياة على الأرض، ولا بخبرة المسيح القائم من الموت وحسب، بل أيضاً في مشاركة يسوع في آلامه وموته. هناك الاضهادات، لا شك في ذلك. وهناك «جسد الخطيئة» (7: 24) أو «قتل أعمال الجسد» (8: 13). مثل هذه الآلام وهذا الفساد، نتيجة لا مفرّ منها لحياة الجسد. هي مرحلة في الطريق للمشاركة في الملكوت، ولكنها ليست كلّ المراحل. والألم الذي نقبله ونعيشه كمشاركة في آلام يسوع، يحمل الوعد بالمجد المقبل. أن نكون للمسيح، ليس فقط أن نشاركه بنوّته، بل آلامه وموته.
مع الكلام عن المجد، عاد بولس إلى الكلام عن آدم (1: 21، 23؛ 3: 23). فالتاريخ كله ينحصر في مصير رجلين: آدم والمسيح. أن يكون الانسان فقط عضواً لآدم يبقى بعيداً عن عظمة مقصد الله من أجل البشريّة، يكون في طريق الموت. وحده المسيح أتمّ مقصَد الله. وحده ورث مجدَ الله. ووحدهم الذين في المسيح يشاركون في هذا الميراث، ولكن شرط أن يكونوا من قبل قد شاركوه في آلامه وموته. وهكذا نصل إلى المعنى الكامل لعبارة «نمتلك روح المسيح»: لا في قبول الروح فقط، لا في أسلوب حياة وسلوك خاص وحسب، بل في حياة كاملة تجد تعبيرها الكامل مع موت المسيح.

الخاتمة
صوَّر ف 7 وضع الانسان الذي يعرف مشيئة الله بروحه، ولكنه يفتح بجسده الطريق لهجمة الخطيئة التي تسيطر وتستعبد وتقود إلى الموت وتمزّق الانسان. فمن يخلّصه؟ وكان الجواب: الحمد لله بربّنا يسوع المسيح. فاستعاد ف 7 ما قيل في ف 6: الذين هم في يسوع المسيح، الذين اتّحدوا بالعماد معه، لم يعودوا تحت الحكم، تحت الدينونة، لأن روح الله يقيم فيهم. هم أحرار، وإن كان من دَيْنٍ، فقد أخذه المحرّر، يسوع المسيح، على عاتقه. ولكن على المؤمن أن يتحاشى كل دَيْن للجسد. ما عاد عبداً، بل صار حراً وبالتالي ابناً. ما رجا أن يبلغ إلى هذا الوضع الموعود منذ بداية التاريخ: أن يكون ابن الله. والآن، إذ يقوده روح الله، يستطيع أن يصلّي إلى الله ويدعوه أباه. تبنانا الله، فصار لنا ملء حقوق الأبناء. صرنا إخوة المسيح، فصرنا ورثة معه. ولكن هناك شرطاً لكي نشاركه في مجده، هو أن نكون قد شاركناه في آلامه. هكذا تكون طريقُ المسيح طريقنا عبر الموت والقيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM