الفصل الثالث والعشرون: حياة الروح

الفصل الثالث والعشرون
حياة الروح
8: 1- 11

بعد أن تحدّث بولس عن تأثير مستمرّ لقوّة الخطيئة والموت في حياة المؤمن (ف 6)، وعن دور الشريعة الملتبس في أن تكون شريعة الخطيئة أو شريعة الله (ف 7)، عاد إلى خاتمة وصل إليها في ف 5 وأوجزها في 6: 4؛ 7: 5، فأشار إلى عامل آخر (غير موت المسيح وقيامته) يصوّر الحقبة الجديدة في اختلافها عن القديمة. وهذا العامل هو الروح. فالروح هو الذي يعطي المفتاح لفهم الانشداد الاسكاتولوجيّ الذي فيه يجد المؤمنون أنفسهم: الروح الذي نقبله فنصبح أبناء الله (آ 14- 17)، هو بداية (باكورة) حصاد الخلاص الذي يبقى ناقصاً حتّى قيامة الجسد (آ 11، 23). وإذ تعود مسيرةُ الخلاص الفرديّ إلى روح الله، تستطيع أن تكون داخل العالم الكونيّ (آ 18- 28) وتاريخ الخلاص (آ 29- 30). بعد هذا، سار الرسول، عبر الصفة الاسكاتولوجيّة، إلى النهاية، فبيّن كيف يحمل الروحُ الحياةَ الاسكاتولوجيّة للمؤمنين حتى الثمرة التامة في كونٍ تحرَّر بالقيامة (آ 11، 29- 32). هذا الروح كفل رجاءهم (آ 24- 25؛ رج 5: 5)، وساندهم في ضعفهم (آ 26- 27)، وأكّد ثقتهم بالمجد المقبل (آ 17- 21، 28- 30).
هذا نقرأه في 8: 1- 30، عن انشداد اسكاتولوجيّ وعن تتمّة مخطّط الله عبر الروح القدس. أما في هذا الفصل (8: 1- 11)، فنتوقّف عند حياة الروح، بعد أن تركنا حياة الجسد وعلاقتها بالانسان القديم.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في نهاية آ 1، أضاف النسّاخ: سالكين، لا حسب الجسد، لكن حسب الروح.
في آ 2، نقرأ: حرّرَتْك (أنت). عند عدد من الشهود، هو ضمير المتكلّم المفرد: حرّرتني (أنا).
في آ 11، نقرأ الذي أقام المسيح. هناك مخطوطات قالت: المسيح يسوع. وهناك من ترجم: أقام يسوع. «ديا»، عبر. مع المفعول به أو المجرور. وسبق «ديا» العطف «كاي» (الواو). يبدو أنه ليس بضروريّ.
ب- بنية النصّ
كما في ف 7، لعبت آ 1- 4 وظيفة انتقالة إلى الجدال الرئيسيّ: الجواب على الخطيئة والموت، يعطيه موتُ المسيح كذبيحة عن الخطيئة. وتؤكّد وجهتا الشريعة: شريعة الموت وشريعة الحياة. شريعة ضعيفة عبر الجسد، وكاملة عبر الروح. وهذه المقولات التي استُعملت مراراً، تفتح الطريق إلى آخر هو «ساركس» (اللحم والدم، البدن) الذي يظهر بشكل عابر في ما مضى (7: 5، 18، 25). وهو الآن يُشرف على القسم الأول من ف 8 (13 مرة في آ 1- 13)، فيتحدّث عن ضعف وفساد الانسان الذي ينتمي إلى هذا الدهر (آ 17 ي). والتعارض البدن/ الروح (آ 4- 9، 12- 13) يحلّ محلّ مواضيع سيطرت في ف 6- 7: الخطيئة (5 مرات، ولكن فقط بعد آ 3). الموت (3 مرات، آ 2، 6، 38). الشريعة (5 مرات، آ 4، ثم آ 7 ي). ما نقص في ف 6- 7، أي وصف القوّة التي هزمت الخطيئة والموت (وأعادت اعتبار الشريعة، هذه القوة هي، حتّى الآن، النعمة، البرّ، وبعض المرات الروح) قد أعطيَ في الروح. هكذا يُوصَف الروح كعامل حاسم لانتماء المؤمنين إلى المسيح ولصفة الأبناء (آ 9، 14).

2- تحليل النصّ الكتابيّ (8: 1- 11)
تجاه شريعة الجسد التي تستعبد الانسان، هي شريعة الروح التي تهب الحياة، فتحرّرنا من شريعة الخطيئة والموت (آ 1- 4). لهذا لا نعيش بعدُ حسب الجسد (آ 5- 11)، فنمضي إلى الموت. بل نهتمّ بالروح فتكون لنا الحياةُ والسلام.
أ- شريعة الروح (آ 1- 4)
«فلا حُكم بعد الآن» (آ 1). ننتقل من 7: 25 إلى 8: 1: أنا أخدم شريعة الخطيئة. إذن لا حكم. «أرانين»: هكذا الآن. رج 5: 18؛ 7: 3، 25؛ 8: 18؛ 9: 16، 18؛ 14: 12، 19). أداتان تقوّي الواحدة الأخرى. «الآن» تدلّ على الوجهة الاسكاتولوجيّة (3: 26؛ 5: 9، 11) وافتتاح حقبة جديدة مع المسيح. «كاتاكريما»، حكم. هما حقبتان، آدم والمسيح. «جميع الذين في المسيح»: الانتماء إلى حقبة المسيح المميّزة عن حقبة آدم. تشبّهوا بموته (6: 11) وما زالوا، قبل قيامة الأجساد.
«لأن شريعة الروح» (آ 2). إذا كانت آ 1 قدّمت موضوعاً لافتاً في بساطته، فإن آ 2 تقدّم عرضاً آخر عن زمن الروح. شريعة الروح هذه تهبُ الحياة. هذا ما يقابل شريعة الخطيئة والموت. هذه الشريعة هي التوراة. رج 7: 10 ووصيّة الحياة. ونحن هنا أمام وجهتَي الشريعة. هذه الشريعة بدأت تُتمّ الهدف الذي لأجله جُعلت.
«في المسيح يسوع». نقول: شريعة الروح في المسيح يسوع. حرّرتْك أنت. نلاحظ السمة الشخصيّة، وكأن الرسول يتحدّث إلى كل واحد بمفرده. «من شريعة الخطيئة». الشريعة هي التوراة. ولا وجود لشريعةٍ في حدّ نفسها، يقول بولس إنه تحرَّر منها. هي الشريعة التي تستعملها الخطيئة والموت، الشريعة العاملة في إطار حقبة آدم، وعلى مستوى الجسد. هو ما تحرّر من الشريعة كشريعة، بل من الشريعة في مرماها لإعطاء الحياة (7: 10). إنها تُتمّ مهمّتها حين تصبح أداة قدرة الله (لا الخطيئة)، وتكون جواباً على مستوى الروح (لا البدن، اللحم والدم).
«وما عجزت عنه» (آ 3). «أديناتون». اللاقدرة، الضعف. هي لا تقدر أو هي مُنعت من العمل فما استطاعت. ولكن بماذا يقف ضعف الشريعة؟ هذا ما لا يقوله بولس. في أي حال، ما لم تفعله هي، فعلَه الله. «أضعفها الجسد». ضعف الشريعة لا يرتبط بنفسها بل بالظروف التي تعمل فيها! الضعف لا يعني الاتهام أو الحكم من الرسول. بل هو يصوِّر فقط الوضع البشريّ (6: 19؛ 8: 28). وفشلُ اسرائيل تجاه الشريعة هو أنه ما عرف ضعفها. تحدّثوا عن الشريعة التي تقدر، ونسوا أنها لا تقدر. على مستوى خلاص الانسان، الله وحده يقدر (4: 21؛ 9: 22؛ 11: 23). والكلام عن الشريعة كعامل قادر في ذاته، كان الخطأ الذي هاجمه بولس في 2: 17- 29. ويظهر ضعفُها خصوصاً في علاقتها بالجسد. فالشعب اليهودي جعل الشريعة على مستوى الجسد، على مستوى اللحم والدم، فربطوها بكيان يطبعه الختان بطابعه، وهكذا بان ضعفُها.
«أرسل الله ابنه». هو أقدم تعبير عن التجسّد في فهم حياة يسوع ورسالته. وهذا يُفهم في إطار كرستولوجيّة آدم. ونسوق ثلاث ملاحظات. الأولى، هناك توازٍ مع يو 3: 16- 17؛ 1يو 4: 9. هذا يعني تقارب بولس من الحلقات اليوحناويّة. الثانية، الفكرة القائلة بأن الله يرسل واحداً من الناس، أمرٌ معروف في الفكر اليهوديّ والمسيحيّ بالنسبة إلى المرسَل دون ذكر لأصله. رج مز 105: 26؛ إر 1: 7؛ مي 6: 14؛ لو 4: 26؛ 20: 13. هناك نصوص تتحدّث عن أصله السماويّ: الملاك (تك 24: 40؛ أع 12: 11). الروح (قض 9: 23؛ لو 24: 49). الحكمة (حك 9: 10). ولكن المسيحيّين تكلّموا بشكل خاص عن المسيح المرسل، في إطار نبوي (مر 9: 37 وز؛ 12: 6 وز؛ مت 15: 24). الثالث، «ابنه الخاص». هي علاقة حميمة بين الله ويسوع (مر 12: 6= لو 20: 13 ومعنى «أبّاً»). ما نلاحظ هو أن بولس يتحدّث عن يسوع كابن الله ليُبرز تأثير الصليب (5: 10؛ 8: 32؛ غل 2: 20. ق غل 4: 4 مع روم 8: 3).
«في جسد يشبه». «هومويوما» (شبه). رج 6: 5. نلاحظ التعارض: ارتبط ابن الله بالجسد، بالضعف. «جسد الخطيئة». هو لا يستطيع بقواه أن يُفلت من قبضة الخطيئة والموت. هكذا خلّص الله العالم، لا حين ألغى المجهودَ الأول وبدأ من جديد، بل حين عمل مع الانسان في ضعفه، فترك الخطيئة والموت ينتهيان في هذا الجسد البشريّ، ووَلد الانسانَ من جديد عبر الموت، وهيّأه للحياة حسب الروح. لهذا تماهى يسوع مع الجسد الخاطئ: أخذ الطبيعة البشريّة مثل أي خاطئ. هذا ما يُبعدنا عن الظاهريّة التي هي بدعة تعتبر أن يسوع تظاهر، ولكنه ما أخذ جسداً. حسبوه كذلك، ولكن الأمر لم يكن صحيحاً.
«كفّارة للخطيئة». كذبيحة عن الخطيئة. إن لفظ «هامرتيا» يقابل العبري «ح ط أ ت»، تقدمة الخطيئة. رج لا 5: 6- 7، 11؛ 16: 3، 5، 9: عد 6: 16؛ 7: 16. بذبيحة الخطيئة، حكم اللهُ على الخطيئة ودمّر الجسد الخاطئ. ذاك كان الدواء الوحيد لإصلاح الضعف المتأتّي في الخطيئة. «فحُكم على الخطيئة». هذا يعني أن الله حكم على أعمال الخطيئة من الجسد. الخطيئة هي قوّة تغتذي بالضعف البشريّ. ولكن انتصار الله قلبَ الأمور: تحوّل الموتُ من حليف للخطيئة في انتصار أخير (5: 21)، إلى هزيمة الخطيئة ودمارها. وهكذا انتهت حقبة كاملة تميّزت بتسلّط الخطيئة وشهوة الجسد. وحين نتشبّه بموت المسيح، نتحرّر من نتائج هذا الحكم وبالتالي من الدمار.
«لتتمّ» (آ 4). «هينا». لكي. أداة قويّة. كمال متطلّبات الشريعة ليس نتيجة مهمّة المسيح وموته، بل مخطّط الله حين أرسل ابنه. يشدّد بولس هنا على تواصل مخطّط الله في الشريعة وبالروح. «ديكايون». برّ (1: 32؛ 2: 26). يُستعمل بالنسبة إلى الأمم. وهنا المتطلّبات التي بها يتميّز اليهوديّ (الختان، السبت، الشرائع الطعاميّة). ولكن تبدّل الأمرُ، والأمميّ يتجاوب مع متطلّبات الله في ما هو أمميّ. هي شريعة أخرى، شريعة الروح الذي يهب الحياة.
«بليروو»: أتمّ الوصيّة. قد يكون هناك معنى آخر، أو تعميق المعنى السابق. وقد تكون تتمّةُ نبوءة أو وعد. وهنا التتمّة الاسكاتولوجيّة حيث تخضع بعضُ التفاصيل للتعبير الأصليّ. يقول بولس إن الوضع الاسكاتولوجيّ الذي أدخله المسيح، وتكملة الوعد بالنسبة إلى الأمم، قد أتمّا قصد الله من الشريعة مع تنسيب عدد من التفاصيل التي لا تتوافق مع الأمم ودهر التتمّة الاسكاتولوجيّة. هذا يعني أيضاً أن المعنى البولسيّ هنا قريب من مت 5: 17. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، هذا لا يعني أن بولس يتطلّع إلى حياة بلا خطيئة هنا. بل إلى حياة تتوافق ومقصد الله من الشريعة بما فيها موت المسيح كذبيحة عن الخطيئة. وفي الوقت عينه، فكّر بولس في دور الشريعة كقاعدة لما يريد الله وبالتالي في إعطاء الشريعة المعنى الإيجابيّ. وأبرزَ هنا ما يعمله الله، لا ما يعمله الانسان (كما تكمَّل الشريعة فينا).
«الذين لا يسلكون». تبدأ العبارة مع «هينا». هذا يعني أن الروح خبرة تُكوّنُ رباطاً مشتركاً. لا خبرة فرديّة. وقد تعني: بواسطتنا. «باريباتايو»، سلك، كما يفعل اليهودي السالك في الشريعة (6: 4). وهذا لا يمكن إلاّ في واقع اسكاتولوجيّ، يُتمّه الروح الذي يُعطى لنا في موت يسوع وقيامته (رج نج 3: 18؛ 4: 6، 12؛ نسير في الروح). ويظهر من جديد التعارضُ بين الجسد والروح، فيُشرف على الآيات التالية. رج 1: 3- 4؛ 2: 28- 29؛ 7: 5- 6؛ 8: 5- 9؛ 1 كور 5: 5؛ 6: 16- 17؛ غل 3: 3. نحن هنا أمام حقبتين: السلوك الخلقيّ اللائق هو نتيجة مهمّة الابن (آ 3). والعامل المؤهّل (الروح) له طابع الجديد الاسكاتولوجيّ. يرى بولس الحقبة القديمة بأنها لا تؤهّل للعيش بحسب مشيئة الله (آ 3)، وهذا ما لا يقبل به اليهوديّ.
ب- عيش بحسب الجسد (آ 5- 8)
«سبيل الجسد» (آ 5). نحن أمام ترتيب انتولوجيّ (الجسد، الروح)، أمام فئتين في الطبيعة البشريّة. في جماعة قمران، كان تمييز أبناء النور وأبناء الظلمة (نج 3: 13- 23)، أو بين الروحين. في العالم الغنوصي، ثلاث فئات: الروحي، الترابيّ، النفسيّ. وفي بولس، الذي من الشريعة والذي من الإيمان (4: 14، 16). وهنا نقرأ عن الذين يسلكون حسب الجسد (آ 4). هناك من قال: لم يعمّد أو لم يُولَد من جديد (ضعُفت العبارة). حسب الجسد، أي يوجّهم الجسدُ مع شهواته وأوهامه. ويمكن أن تخدعهم الخطيئة عبر الشريعة، بحيث تصير لهم شريعةُ الخطيئة شريعةَ الموت.
«يهتمّون». فعل «فروناين» يعني فكّر، كانت له طريقة في الفهم، ارتأى، اتخذ موقفا (1 كور 13: 11؛ 14: 6؛ 2 كور 13: 11؛ فل 2: 2، 5؛ 3: 19). وهنا أخذ جانب، اهتمّ. نحن هنا في حرب بين الجسد والروح. حين يختار الانسان نفسه، يكون بجانب الجسد. «سبيل الروح». هو روح الله (آ 9- 11)، لا الروح البشريّ. رج غل 5: 19- 23 والكلام عن أعمال الجسد وثمر الروح.
«الاهتمام بالجسد» (آ 6). «فرونيما». لا ترد إلا في آ 6، 7، 27 (في العهد الجديد. وفي السبعينيّة في 2 مك 7: 21؛ 13: 9. الصيغة مع- ما، تدلّ على نتيجة العمل. نتيجة «أخْذ جانب الجسد»، هي اهتمام بالجسد. «تاناتوس». الموت. يعود بنا إلى الحقبتين. فحقبةُ الجسد هي حقبة سيادة الموت. بالموت يُعرف عمل الجسد. «الاهتمام بالروح». هذا لا يعني أن هناك تأثيراً واحداً يحدّد السلوك. الحياة والسلام: العلامتان الأوليان في البركة الاسكاتولوجيّة المقبلة.
«لأن الاهتمام» (آ 7). «اخترا»، عداوة. رج لو 23: 12؛ غل 5: 20؛ أف 21: 1،4 6، يع 4: 4. العداوة هي الاستعداء (5: 10). رج 1: 18 ي. التعلّق بالجسد هو رفض اقرار الانسان بأنه خليقة وبأنه يرتبط بالله. نُرضي أنفسنا، فنرذل عطيّة الله. «فهو لا يخضع». هو الوضع الخاص بالخليقة التي يجب أن تخضع. «هيبوتاستاي». الموقف بالنسبة إلى الشريعة إيجابيّ: الخضوع لشريعة الله أمرٌ خليق بالانسان. فنعود إلى التعارض بين الجسد والروح. «ولا يقدر». لا يتحدّث بولس عن عدم امكانيّة وُلدت مع الانسان، بل عن عداوة وعن رفض الخليقة بأن تخضع لخالقها (9: 19- 20). وفي الوقت عينه، الاتهام في 1: 18 والعمى المتواصل لدى محاوره المتعلّق بالجسد، يصلان بنا إلى سجن تقيم فيها هذه المواقف.
«والذين هم في الجسد» (آ 8). تستعيد هذه الآية ما سبق، وتقوّيه. نقرأ هنا أيضاً: لا يمكنهم. الذين هم في الجسد، حسب الجسد، يسلكون في طريقة تجعلهم بمنأى عن المسيح. «يُرضوا الله». هذا أمر مرغوب فيه (أع 6: 5؛ 1 كور 10: 33؛ 2 تم 2: 4). ولكن لا نرضي أنفسنا (15: 1- 3)، ولا نحاول أن نرضي البشر (غل 1: 10؛ 1 تس 2: 4؛ كو 3: 22؛ أف 6: 6)، ولا نحارب واجب إرضاء الله (1 كور 7: 32- 34؛ 1 تس 2: 4، 15؛ 4: 1). نحن لا نستطيع أن نتّخذ اتجاهين في وقت واحد: نرضي الجسد ونرضي الله. رج 2: 28- 29.
ج- وأنتم المؤمنون (آ 9- 11)
«أما أنتم» (آ 9). كان الوصف عاماً في آ 5- 8، فاتخذ هنا بُعداً شخصياً. «في الجسد». رج آ 8 وما قيل عن الجسد في آ 5- 8. هو نموذج تفكير وعمل يحدّده انتماء إلى العالم (والآخر هو انتماء إلى الله). لسنا أمام تحوّل أونتولوجيّ، بل تبدّل في الاتجاه ومراكز الحركة. لا شكّ في أن الاهتداء يشكل تحوّلاً بالنسبة إلى الظروف القديمة وانفتاحاً على القوّة الجديدة، قوّة الروح. ولكن لسنا فقط أمام قبل الاهتداء وبعده (فالانسان كله في الروح، وكلّه في الجسد)، وكأن الجسد لم يعد فاعلاً عند المؤمن. العامل الحاسم لم يعُد الجسد. ولكن الجسد يبقى العامل. بين انسان الجسد وانسان الروح (آ 5- 6)، ماذا يختار المؤمن؟
«بل سبيل الروح». «إيبار» (إذا كان حقاً). تدلّ على شرط ضروريّ من أجل شرعيّة قولٍ سابق. هذا لا يعني أن الشرط وُجد (1 كور 8: 15؛ 15: 15). «روح الله». هي المرة الأولى يستعمل بولس هذه العبارة في روم: هو روح الله الذي يكمّل تحريرنا من ظروف الجسد. والروح أيضاً هو الذي يعمل (روح المسيح). رج 8: 14: 15: 19؛ 1 كور 2: 11، 12، 14؛ 3: 16؛ 6: 11. «اويكايو»، سكنٌ وإقامة، لا مرور عابر. رج آ 11؛ 1 كور 3: 16؛ 2 كور 6: 16. قال المعلّمون اليهود: من أقام في البيت صار سيّد البيت. والروح القدس «فتح» بيتاً عندكم، فيكم.
«ومن لا يكون له». «إخاين»: امتلك. نمتلك روح الله، روح الإيمان (1 كور 7: 40؛ 2 كور 4: 13). هذا يتضمّن أن الروح هو قوّة تعمل في داخلنا فتظهر في القول والعمل، وتحدّد الحياة كلها وكأنها في يد الروح. تحدّث اليهود عن روح الله. وتحدّثت المسيحيّة عن روح الله وروح المسيح. هكذا نتكلّم عن روح الابن (أع 16: 7؛ غل 4: 6؛ فل 1: 19؛ 1 بط 1: 11). والروح هو روح يسوع بطابع حياته ورسالته. ثم إن الانتماء إلى المسيح يعني أن يكون لنا الروح. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، من له الروح يقدر وحده أن يعلن أنه للمسيح. ووحدهم الذين يدلّون بحياتهم أن الروح يوجّههم، يقدرون أن يُعلنوا أنهم تحت سيادة المسيح.
«وإذا كان المسيح» (آ 10). هي فكرة سكن المسيح. رج 2 كور 13: 5؛ غل 2: 20؛ كو 1: 27. ق يو 17: 23. عادة يتكلّم بولس عن المؤمنين الذين في المسيح (آ 1). أما هنا، فجاءت العبارةُ مثل «في الروح» (آ 9)، حيث يفكّر الرسول في أن الروح هو في المؤمنين. «الجسد». هناك من يتحدّث عن موت جسد الخطيئة بالمعموديّة. هكذا يتحرّرُ المؤمن من قوّة الموت ويعرف الخلاص في قوّة الروح. هاتان هما وُجهتا حياة المؤمن. لن يؤخذ الانسان من الجسد، ولا يُبعد عن اللحم والدم. فالمؤمن الذي هو جسد وبدن، ينتمي إلى هذا الدهر، وبالتالي يخضع لهما. والاتحاد بالمسيح في موته، يُثبت حكم الله حول جسد الخطيئة. ولكن التنفيذ الأخير ينتظر موت الجسد المائت. وروحُ الحياة فتح المؤمنين إلى بُعد جديد حاسم، لكن لم يُقطع الرباط قطعاً تاماً مع الحقبة القديمة. ودورُ الموت لن ينتهي قبل قيامة الجسد. أجل، مات الجسد بسبب الخطيئة، ولكنه سيقوم.
«فالروح حياة». هو الروح القدس، روح المسيح (وبالتالي روح الانسان). والعلاقة بين روح الله والبرّ برزت، فبيّنت نعمة الله مع دوره كالخالق والفادي (1: 17). هذا العمل المجاني دشّن حقبةً جديدة وظلَّ يساندنا فيها. والتعارض بين الخطيئة والبرّ يعود بنا إلى 6: 13- 20. نحن هنا في انشداد اسكاتولوجيّ مع إشارة إلى برّ خُلقيّ يدلّ على ما نلناه من نعمة.
«وإذا كان روح» (آ 11). القولُ بسكن الروح هو بداية مسيرة لا بدَّ أن تكتمل. وما قالته آ 11أ هو إعادة لما قيل في آ 9 ب. روح ذاك الذي أقام. هو روح الله. ونعود إلى فكرة السكن والإقامة. «يبعث الحياة». كما فعل في قيامة يسوع. صيغة المضارع تدل على القيامة الأخيرة كما في 1 كور 15: 22. إن العهد الجديد الذي أدخله المسيح، جُعل في قيامتين. في البداية، قيامة المسيح. وفي النهاية قيامة المؤمنين. وهكذا يتمّ عمل الله الخالق (4: 17). والحياة التي يمنحها عملُ الله، تُفهَم على أنها عبر الروح (يو 6: 33؛ 1 كور 15: 45؛ 2 كور 3: 6). «الجسد المائت» هو الجسد الطبيعيّ، الجسد المائت والفاسد (6: 6) الذي ما زالت تجرحه قوّةُ الخطيئة (6: 12). إن قوّة الروح لن تصل إلى الجسد حتّى قيامة الجسد.
«بروحه». «إنويكايو» (سكن). رج آ 9. هذا ما يدلّ على تواصل سكن الروح وعلى القيامة الآتية. وعلى تواصل بين الانسان الداخليّ (7: 22) وقيامة الجسد.

3- خلاصة لاهوتيّة
أنهى بولس ما وضعه أمامه حين قدّم برهانه حول تاريخ الخلاص (5: 12- 21). ما يُشرف على عهد آدم ثلاثة: الخطيئة والموت، مع الشريعة التي هي رفيق غير منتظر (5: 20- 21) وعى بولس ما يُطرح هنا من أسئلة، وقلقَ من ردّة فعل المؤمنين. فأرضح تأثيرَ هذه القوى على المؤمن. أبرز بولس أولاً دور الشريعة حيث حُسب معارضاً للشريعة. ثم شدّد على عمل موت المسيح وقيامته على قوّة الخطيئة والموت. ولكنه ما نسي النعمة التي ترافقها الطاعة. وكل هذا في انشداد اسكاتولوجيّ لحياة خاضعة للصليب.
إن وجهتي خبرة المؤمن (آ 1) ليستا النهاية. فمع أن المؤمنين ينتمون إلى عهدَي آدم والمسيح، في الوقت عينه، فانتماؤهم إلى المسيح هو الأمرُ الحاسم. لأن المسيح منذ الآن قهر الموت والخطيئة (6: 7- 10). هذا لا يخفّف من حدة الحاضر، بل يُنميه. لهذا يقول: لا حكم. لا شك في أننا ما زلنا أسرى شريعة الخطيئة كأعضاء، في هذه الحقبة (7: 23). ولكن هذا ليس بالحاسم. فما يُحسب هو أننا «في يسوع المسيح». فعبارة «في المسيح» تبيّن الفرق. من تشبّه بالمسيح وهو ينتمي إلى هذا الدهر، يتأكّد أن النتيجة النهائيّة هي «براءة». فما في المسيح ينتصر على ما في آدم، والانشدادُ بين الاثنين يبقى موقتاً.
في آ 2 يعطي بولس سبب مثل هذه الثقة مع أن الصورة قاتمة (7: 14- 25). السبب هو أن شريعة من الشريعتين اللتين ذُكرتا في 7: 22- 23 أقوى من الأخرى. حين نتطلّع من منظار الخلاص (الحقبة التي أدخلها موت المسيح وقيامته)، فالأنا المقيّد ليس كالأنا الذي حرّره المسيح. فقوّة الروح تلاحق قوّة الخطيئة. وارتباط الأنا بالخطيئة ينتهي في الموت. ويحيا الأنا المحرَّر بالروح.
في آ 3- 4 نظر بولس إلى الشريعة نظرة إيجابيّة (شريعة الروح). بدأ فأوضح دور الشريعة في علاقتها بالخطيئة وبالموت (7: 7- 25). جُمعت الشريعة مع الخطيئة والموت، وبرفقتهما لعبت دوراً مأساوياً. ولكنها لا تلام، لأن الخطيئة ترتبط بالجسد، بضعف الانسان. ثم رُسم مخطّطُ عمل الله من أجل الأفراد، فأتمّ فيهم متطلّبات الشريعة. فتحرّرُ المؤمن من الشريعة يتمّ لكي تكمل الشريعة في المؤمن. عبر موت المسيح، تحرّرت الشريعةُ هي أيضاً من قدرة الخطيئة والموت، لتكون قاعدة لما يطلبه الله من الانسان.
كل هذا كان مستحيلاً على الشريعة، لهذا أرسل الله ابنه، فبدأت الحقبة الجديدة، حين أخذ شبه جسد الخطيئة. بما أن الخطيئة تمارس قوّتها عبر الجسد، عبر الانسان المنتمي لهذا الدهر، ففي هذا الجسد تحطّمت قوّة الخطيئة. لهذا اتخذ يسوع جسداً بشرياً فصار واحداً مع نسل آدم. وحين يشارك المؤمنون المسيح في موته، يشاركونه في بعض نصره على الخطيئة والموت وإن هم لبثوا في الجسد. أما المشاركة التامة فتكون في حياة القائم من الموت.
وما توقّف بولس عند موت المسيح، بل أراد الوصول إلى هدف الله من موت المسيح. تطلّع إلى الشعب الذي يسير في الحياة حسب الروح. فهدفُ الله ليس الحكم، بل البرّ. ما شكّ بولس في أن قرّاءه وجدوا العلاقة الضمنيّة بين موت المسيح، والذبيحة عن الخطايا، وسلوكهم الجديد. ومثلُ هذا السلوك ارتبط بالمسيح الذي قام، كما ارتبط بانتمائهم إلى المسيح القائم من بين الأموات. مثلُ هذا السلوك يكمّل ما تطلبه الشريعة.
في آ 5 وفي ما يليها، توسّع بولس في التعارض بين الجسد (البدن، اللحم والدم) والروح. ظنّ قرّاؤه أنهم تركوا الجسد وراءهم وهم يعيشون الآن كلياً بالروح في حياة روحيّة لا يؤثّر فيها الموت. مثلُ هذه النظرة اللاواقعيّة بعيدة كلَّ البُعد عن فكر بولس. الخلاص الكامل ينتظر القيامة وافتداء الجسد. حتّى الآن يبقى حكم الله على الجسد الخاطئ جزءاً من الانشداد الاسكاتولوجيّ. كل هذا يتضمّنه الوصفان: نأخذ جانب الجسد. نتعلّق به. أو نأخذ جانب الروح فتصبح قضيّتُه قضيّتَنا. حين يسير المؤمن حسب الجسد، يعرف ما ينتظره من حياة تصل به إلى الموت.
ونقرأ في آ 6 نهاية كل مستوى من المستويين. الجسد ينتهي في الموت. ينتهي في الدمار. والمسيح اتّحد بجسد الخطيئة، فما أفلت من فساد الموت. أما عملُ الخلاص الذي قام به، فهو من مستوى آخر. الذين يعيشون على مستوى الفساد يهلكون. الذين لا يرتفعون فوق النظرة البشريّة يموتون كما يموت كلّ انسان. أما الذين يعيشون حسب الروح، فهم يسلّمون نفوسهم إلى المستوى الذي يمرّ عبر الموت إلى الحياة. هكذا ينفتحون على قدرة الحياة والسلام التي تُبعد الموت.
مع آ 7- 8 بدأ بولس يجمع مراحل برهانه في تعارض الجسد والروح، بل في عداوة. الجسد لا يخضع لشريعة الله، وهذا ما يذكّرنا باتهام الأمم واليهود معاً (ف 1- 2). عدم تمكّن الذين في الجسد أن يُرضوا الله، يعود بنا إلى حلقة الخطيئة (1: 18- 32؛ 2: 28- 29) والحكم في 3: 9- 20. في التحليل الأخير، هناك خيار واحد: أن نعيش الحياة في ارتباط بالله، في طاعة الإيمان، في حياة الروح. أما الطريق الأخرى، فطريق الجسد، عداوة لله، عصيان لشريعته، توجّه إلى الموت.
«لا يقدر». لا يقدر أن يخضع لشريعة الله. لا يقدر أن يرضي الله. فالحياة على مستوى الجسد، على مستوى الشهوات البشريّة بحيث ينسى الانسان أنه خليقة، تعني حياة لا تقدر الشريعة فيها أن تفعل، بسبب البعد عن الله. هي حياة فيها تربطنا الخطيئة بالموت، لأن قوّة واحدة (الله) تقدر أن تغلب قوّة الخطيئة.
في آ 9، ترك بولس صيغة الغائب وأخذ بصيغة المخاطب: أنتم لستم في الجسد. هنّأهم لأنهم ينعمون بكمال، يعيشون بلا خطيئة. انتقلوا من ملكوت الجسد إلى ملكوت الروح. ولكن هناك قبل وبعد الاهتداء. ما أراد بولس أن يقول لهم إنهم تركوا الجسد كلياً، ولا هم يعيشون في الالهام والانخطاف. فعبارة «في الجسد، في الروح» تدلّ على أن مسيرة الخلاص تمّت ولكنها في بدايتها. هذا لا يعني أن كيانهم انتقل إلى ملكوت آخر، بل أنهم انتقلوا من سيادة إلى سيادة بشكل حاسم. لا أن كل مجهود خلقيّ غير ضروريّ، بل دفعُ الروح الداخليّ صار مهماً على مستوى الانطلاقة الأولى.
فالانتماء إلى المسيح وامتلاك الروح هما شيء واحد. وامتلاك الروح هو ما يكوّن المسيحيّ. وأعضاء الجماعة اعتمدوا فنالوا الروح. وهنا الفرق كله. تحقّقت سيادةُ المسيح، وصارت فاعلة بحضور الروح في حياة المؤمن. لهذا يقول بولس: المسيحي هو من نال روح المسيح. وحضور الروح يُدرَك، يُعرَف بشكل مباشر (أع 19: 2)، لا في صمت اعتراف الإيمان فقط. وبولس لا يشكّ في هذا الواقع، وإن لم يعرف جماعة رومة معرفة شخصيّة، غير أنه يلمّح إلى ذلك في 2: 29؛ 5: 5؛ 7: 6. ويتضمّن هذا أن امتلاك الروح هو قاسم مشترك بين كلّ الذين ينتمون إلى المسيح، وليس بامتياز لبعض الأعضاء. والرسول واضح: إن غاب روحُ المسيح، لا انتماء إلى المسيح.
فالمسيح هو في المؤمنين (آ 10). هم لبسوا قوّة المسيح. صاروا تحت سيادته. ولكن هذا لم يتمّ بعد. فهناك انشداد اسكاتولوجيّ بين الموت والحياة. من جهة، اختبروا واقع الجسد المائت، ومن جهة ثانية حضور الروح هو في المؤمن. روح الحياة بواسطة برّ الله. روح رضى الله، وقوّتُه التي تساند من يثقون به. لا يتفلّت المؤمن من موت الجسد. ولكن رضى الله وحياته وقوته ليست خاضعة للخطيئة ولا للموت. وحين تلعب الخطيئة ورقتها الأخيرة، التي هي الموت، ينتصر روح الله عليها.
إلى أين يذهب بولس في هذه الطريق (آ 11)؟ الانشداد الاسكاتولوجيّ بين الموت والحياة لن يدوم بعد موت الجسد. ومنذ الآن نحن في قوّة الروح بالقيامة. والخلاص يتمّ لا بالنجاة من الجسد، بل بافتداء الجسد (آ 23).

الخاتمة
مع ف 8 وصلنا إلى الكلام عن الروح. فبين حياة في الجسد وحياة في الروح، على المؤمن أن يختار، دون أن ينسى تداخل الحياتين في واقعه اليومي. فهو إن تَبرّرَ في موت المسيح، لم ينعم بعدُ بملء قيامته. وهنا جاء الكلام عن روح الله الذي يسكن في الانسان، فيصبح كلُّ واحد ملكاً له. ويمتلك المؤمنُ روح المسيح بعد أن يصير المسيح فيه. وهكذا تبدأ مسيرة كل منا في تاريخ الخلاص التي بدأت منذ اهتدائنا إلى الربّ، وتتواصل حتى موت جسدنا. وأخيراً يتحدّث بولس عن روح ذاك الذي أقام يسوع من بين الأموات، أي روح الله. هذا الروح سيُقيمنا نحن أيضاً. وخبرةُ الروح هذه، يمكن أن نصوّرها في لغة المسيح. فالمسيح والروح يرتبطان الواحد بالآخر. من جهة، أعلن الرسول أن المسيح القائم من الموت يمكن أن نختبره عبر الروح، الذي هو روح الله، روح الخلق وروح النبوءة. الروح ليس المسيح، ولكن سكن الروح فينا يقابل عبارة «المسيح فيكم». وسيادةُ الروح على خاصته تترافق مع نشاط الروح في حياتهم. ومن جهة ثانية، أعلن بولس أن روح الله هو أيضاً روح المسيح، كقوّة توجّه المسيح في رسالته فيصبح مثال الحياة في الروح. فالروح الذي يعطي الحياة يرتبط بالمسيح القائم من الموت.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM