الفصل الخامس والعشرون:المجد المهيّأ لنا

الفصل الخامس والعشرون
المجد المهيّأ لنا
8: 18- 25

كان كلام عن الآلام والمجد، وها نحن نعود إلى المجد بشكل خاص، لا بالنسبة إلى الانسان وحسب، بل بالنسبة إلى الخليقة كلها. فالعالم الماديّ الذي خُلق للانسان، يشارك الانسانَ في مصيره. لُعن بسبب خطيئة الانسان، منذ البدء، فوجد نفسه الآن في حالة من الباطل. جُعل في نظام خلقيّ مرتبط بخطيئة الانسان، فاستُعبد للفساد. غير أن هذا العالم الذي يشبه جسد الانسان، هو معدّ للمجد، وقد نال الخلاص الذي ناله الجسدُ البشريّ. فهو أيضاً يشارك في الحرية، وفي حالة المجد. بالمسيح خلق الله كلَّ شيء، وبالمسيح يُعيد خلق كل شيء بعد أن اضطرب بالخطيئة. وتبقى قمّةُ هذا الخلق، الانسانَ الجديد الذي خُلق لحياة جديدة في البرّ والقداسة. هذا ما نقرأه هنا، لا في اتصال بالمسيح، بل بالروح. وهذا المجد المهيّأ لنا هو باكورة الروح وأول أعماله في العالم وفي تاريخ الخلاص.

1- دراسة النصّ وبنيته
ندرس هنا 8: 18- 30 وإن كنا نفصلها فصلين مميّزين. لهذا لن نعود في الفصل التالي الذي عنوانه مخطّط الخلاص، إلى دراسة النصّ وبنيته.
أ- دراسة النصّ
في آ 20، نقرأ «في (إن) الرجاء»، وهناك اختلافة. «على (إبي) الرجاء».
في آ 12، هناك تكرار يعتبره الشرّاح غير ضروريّ: نحن أيضاً الذين لنا... ونحن أيضاً نئنّ.
وغابت كلمة «بنوّة» (هيوتاسيا) من عدد من المخطوطات ولا سيّما الغربيّة منها.
في آ 24، نجد النسخة الطويلة التي تضيف قبل العبارة الأخيرة: ما ينتظره الانسان كيف يرجوه؟
والسينائي وشهود آخرون يجعلون محل «يرجو» الفعل: احتمل، ثبت (هيبوماناين).
في آ 26، يُضاف بعد ضعفنا لفظة عن الصلاة (دائيسيوس). «يشفع لنا». من أجلنا (هيبار). هذه الأداة الأخيرة تنضمّ إلى الفعل كمسبّق (هيبارانتونخاناي). ولكن بعضهم يعيد الأداة مع ضمير الجميع: «هيبار هيمون»: من أجلنا.
في آ 28، يضاف «تايوس» الله كفاعل الفعل: الذين يحبّون الله، الله يعمل.
ب- بنية النصّ
هذا المقطع (8: 18- 30) يلعب دور المفتاح في بنية برهان بولس. هو الذروة في الجدال الذي نقرأ في ف 8. أخذ لغةَ التحرير من العبوديّة (آ 2، 21)، والقيامة (آ 11، 23)، والبنوّة والتبنّي (آ 14- 17، 19، 21، 23)، وحصّة الروح في كل هذا (آ 6 و27، آ 11 و23، آ 15 و23، آ 15- 16 و26). وصاغ آ 17 وموضوع الألم (آ 17، 18- 23، 26)، وأشار إلى موضوع المجد (آ 17، 18، 30) كمعترضة في المقطع كله (آ 18، 30). في قمّة إدخال القمّة الكرستولوجيّة في آ 29 (مع خمسة أفعال في صيغة الماضي الناقص) لعبت ذات الدور الذي في آ 17 مع «سين» (مع). والآيتان ركّزتا على أهميّة دور المسيح في مسيرة الخلاص.
وهذا المقطع هو قمّة أيضاً بالنسبة إلى ف 6- 8 وبالتالي إلى 1: 18- 8: 30. قدّم بولس عمل الخلاص الكونيّ في لفظ آدم كانعكاس أخير لسقطة الانسان وقمّة إصلاحه (إعادة بنائه). من هنا الارتباط اللفظي: 1: 18 ي: كتيسيس (الخليقة) رج 1: 20، 25؛ 8: 20، 22. ماتايوتيس (الباطل). رج 1: 21؛ 8: 20. «دوكسازاين» (مجّد). رج 1: 21؛ 8: 30. دوكسا (مجد). رج 1: 23؛ 8: 18، 21. إيكون (صورة). رج 1: 23؛ 8: 29. سوماتا (أجساد) انحطّت (1: 24) وافتُديت (8: 23). وفي كل هذا، سيطر موضوعُ آدم الكامل مع إصلاح الخليقة التي لُعنت بخطيئة آدم وارتبطت باصلاح الانسان نفسه (8: 19- 23): قدّم النصّ جواباً نهائياً للتحليل القاتم في 1: 18- 32، وحركة تاريخ الخلاص (8: 29- 30) مع ادخال كرستولوجيّة آدم في حركة 5: 12- 21. ثم عاد وقدّم برهاناً لهذه النقطة مع إيضاح ف 6- 8 (نلاحظ أيضاً موضوع 5: 1- 5 في 8: 18- 25).
وهناك الطريقة التي هيّأ فيها بولس، في هذا المقطع، الطريقَ للجدال في ف 9- 11، عاد عمداً إلى مواضيع التقليد اليهوديّ: الألم الحاضر، التبرير النهائيّ (آ 18). الزمن الأخير الذي يشبه الزمن الأول (آ 21). موضوع آدم الكامل، التشفّع الالهيّ (آ 26). يرى ما في القلوب (آ 27). لغة أوجاع الولادة (آ 22) والباكورة (آ 23) والرجاء (آ 24- 25) والقصد (آ 28). ونلاحظ بشكل خاص الألفاظ التي استُعملت لتصف اسرائيل في آ 27- 30: قدّيسون، محبّو الله، المدعوّون، باكورة. أراد بولس بوضوح أن يُفهم قرّاءه أن البركات التي ورثوها هي ميراث اسرائيل. فطُرح السؤال: ماذا عن اسرائيل نفسه؟ سيعود إليه بولس في ف9- 11 مع أقوال عن التبني والمجد (9: 4) والقصد الالهي (9: 11). واليقين أن خلاص الله يُتم قصده في الخلق. وقصدُه في دعوة اسرائيل، هو جزء من أصالة لاهوت بولس.
أما السمات الأبديّة في هذا المقطع فهي تكرار الكلمات المفاتيح: مجدٌ ومجّد (آ 18، 21، 30). انتظر (آ 19، 23، 25). الرجاء وترجّى (آ 20، 24- 25). والمسبّق «سين» (مع) في آ 22، 26- 29. وهناك ثلاثة يئنون: الخليقة، المؤمنون، الروح (آ 22، 23، 26). ويظهر الموصول «هوس» (الذين) خمس مرات في آ 29- 30. كل هذا يربطنا بالمعموديّة، ولكنه لا يتوّقف عند المعموديّة.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (8: 18- 25)
انطلق بولس من وضع يعيشه المؤمن، بل تعيشه الخليقةُ كلّها (آ 18- 21). فالمؤمن يتطلّع إلى البرّ، والخليقة تئنّ منتظرة، هي أيضاً، لتشارك الانسان في حرّيته ومجده (آ 22- 23). ولكن لا ننسى أننا والخليقة نعيش في الرجاء (آ 24- 25). لهذا نحتاج إلى الصبر والثبات.
أ- آلام الزمن الحاضر (آ 18- 21)
«وأرى» (آ 18). «لوغيزوماي». أرى، اعتقد. يقدّم بولس هنا مرحلة جديدة من عرضه. سوف يستعمل «أويدا» (المعنى نفسه) في آ 22، 28. لسنا أمام اعتقاد ينبع من العقل، بل يدلّ على خبرة الروح. «الآلام» (باتيما). رج 7: 5. هو يتطلّع إلى آلام المسيحيّين كمشاركة في آلام المسيح (2 كور 1: 5؛ فل 3: 10؛ كو 1: 24). الآلام الكرستولوجيّة مع بُعدها الاسكاتولوجيّ. «الزمن الحاضر». رج 3: 26. هي لا توازي «العالم الشرّير» (غل 1: 14)، بل هي تدلّ على طبيعة ما بين زمنين: قيامة المسيح وعودته، وفيها يتداخل العالم الشرّير مع عالم القيامة الذي فيه نشارك المسيح.
«سيظهر». المزمع. «مالو» يدلّ على اليقين (آ 13)، وأيضاً على القرب. اقترب أن يجيء. هي ثقة بأن السماء ستكون مختلفة بشكل لا نستطيع أن نحدّده: «أبوكالبتو»، كشف. هو وحي سماويّ، سرّي. حدث اسكاتولوجيّ. سيُكشف مخطّط الله الذي غطّته أحداث على الأرض. نحن لا نملك المجد. هو سيأتي. هو ينتمي إلى السماء.
المقابلة بين ألم الأبرار والمجد الذي ينتظرهم، قد عرفه الفكر اليهوديّ. رج دا 7: 17- 27؛ حك ف 2- 5؛ 2 مك 7: 1؛ 1 أخن 102- 104. لهذا، ما برهن بولس عن هذا الأمر في كلامه.
«فالخليقة» (آ 19). «أبوكارادوكيا»: انتظار عيل صبرُه. يرفع الانسان رأسه ليرى. نجده فقط عند الكتّاب المسيحيّين. يعبّر عن الانشداد الاسكاتولوجيّ. رج فل 1: 20. الخليقة المذكورة هنا لا تضمّ البشر، وإن هي تأثّرت بخطيئة آدم. إن تبدُّل سقطة آدم يتطلّب تبدّل اللعنة. ثم إن كل نظام الخلق يدخل كجزء في الحقبة الأخيرة. «هي تنتظر». ما يُكشف من السماء. هو الحجاب الأخير يُنزع. الفعل «أواكداخوماي» (انتظر). يستعمل 6 مرّات عند بولس. منها 3 مرّات في آ 19، 23، 25. هو انتظار حارّ للبرّ (غل 5: 5) والتبنّي.
«خضوعها» (آ 20). ذكر بولس «الباطل» (1: 21)، ليدلّ كيف أن عمل الله هو عكس وضع الانسان الذي صُوّر بقساوة. نسي آدم أنه خليقة، فأراد أن يستقلّ عن الخالق. فحلّ الباطلُ بالخليقة التي ارتبطت بالانسان (استعملها، خدعها) الذي ألّهها ونسي أنها خليقة الله بعد أن رتّبها الله. «ماتايوتيس» (الباطل). قريبة من «فتورا» (الفساد). أخضِعت الخليقة. أي أخضعها الله.
ما أرادت الخليقة أن تسمع (إكوسا)، أن تخضع. إذن، لم تكن جزءاً من سقطة آدم، ولكنها دُفعت دفعاً. رج 4 عز 7: 11. «ديا» بواسطة. تعود إلى آدم. رج مز 8: 7 (1 كور 15: 27؛ أف 12: 2؛ فل 3: 21؛ عب 2: 5- 8؛ 1 بط 3: 22). آدم في سقطته، لا في ما ناله من وظيفة من قِبَل الله. حين تجاوز الوصيّة، خضع كل شيء له في سقطته كما كان الأمر في خلقه «الذي أخضعها». هو الله أخضعها لآدم الساقط. إذن، وضعُ الخليقة الحاضر ليس وليد الصدفة أو القدر، بل رتّبه الله. ولكن هذا يبقى محطّة في مخطّط الله. حين تدمّر الخطيئةُ، تُصلح الخليقةُ وتعود إلى وظيفتها الأولى كمحيط لأولاد الله.
«ستتحرّر» (آ 21). الخليقة سوف تُفتدى. كما أن رجاء القيامة هو رجاء قيامة الجسد، فالحياة في القيامة هي جزء من الخليقة التامّة. فالحقبة الأخيرة تشبه الحقبة الأولى. رج اش 11: 6- 9؛ 65: 17، 25؛ 66: 23؛ يوب 1: 29؛ 23: 26- 29. ق أع 3: 21؛ رؤ 21: 1 ي. وعاد موضوع الحريّة والتحرّر من الخطيئة (6: 18، 22) والشريعة (7: 3؛ 8: 2) فربطهما بعهد آدم. «دولايا». صفة سلبية، عبوديّة لنظام الخلق. هي أيضاً الفساد. هي سمةُ نظامٍ طبيعيّ يتفكّك. لسنا هنا على مستوى الفساد الخلقيّ، بل فساد الخليقة التي ستحرّر (لهذا أغفل مرقيون آ 18- 22). رج 4 عز 13: 26. «إلى حرّية». هكذا يتكرّر لفظُ الحرية كمفتاح لفهم نظرة بولس إلى الخلاص. هذه الحريّة هي مستقبل المؤمنين ومستقبل الخطيئة. والتحرُّر يعني مشاركة الله في مجده. تحرّرٌ من الخطيئة والشريعة، والفساد والموت. ويظهر لفظ المجد (دوكسا)، فيدلّ على أن الله توخّى أن يَتمّ قصدُه الأصليّ في الخلق ساعةَ تتويج الانسان بالمجد (مز 8: 5؛ 4 عز 7: 96- 98).
ب- الخليقة تئن (آ 22- 23)
«نحن نعلم» (آ 22). رج 2: 2. نحن في إطار جلياني عرفه الشتاتُ اليهود والجماعات المسيحيّة الأولى. «الخليقة» لا الانسان. الفعل مع «سين» (مع). لا يعود إلى المسيح كما في آ 17. عاد بولس إلى المؤمنين حيث تترابط كلُّ هذه الآلام (آ 23). «سوستانازو» (أنَّ). رج وص يساكر 7: 5. صارت الخليقة شخصاً حياً كما في الشعر اليهوديّ. رج أي 31: 38؛ إش 24: 4؛ إر 4: 28؛ حب 3: 10؛ مد 3: 32- 33. «سينودينو» (تألّم مع آخر آلام الولادة). استعارةُ آلام الولادة تُستعمل مراراً للكلام عن ضيق النهاية. رج اش 13: 8؛ 21: 3؛ إر 4: 31؛ هو 13: 13؛ مي 4: 9- 10؛ مد 3: 7- 18. رج مر 13: 8 وز؛ يو 16: 21؛ أع 2: 24؛ 1 تس 5: 3؛ رؤ 12: 2. ق 1 أخن 62: 4؛ 4 عز 10: 6- 6. «الآن» (نين). ليس فقط في الوقت الحاضر، بل حاضر الخلاص الاسكاتولوجيّ الذي فيه بدأت مسيرةُ الخلاص (3: 21؛ 7: 6؛ 8: 1) مع آلام الحبل التي تَعِد بولادة الكون في الدهر الجديد.
«ليس فقط، بل أيضاً» (آ 23). رج 5: 3. نحن نئنّ لأن لنا الباكورة، البداية. ونودّ أن نصل إلى التمام بعد أن تعبنا من الانتظار. «أبارخي»: أول الثمر الذي يُقدّم ذبيحة. رج «ارابون» (عربون) في 2 كور 1: 22؛ 5: 5. باكورة الحصاد والقطاف. النبيذ، الحنطة (خر 22: 29؛ 23: 19؛ لا 2: 12؛ 23: 10؛ عد 15: 20؛ تث 26: 2. تقديم الثمار يتمّ في عيد العنصرة (خر 23: 16؛ 34: 22؛ تث 16: 9- 12؛ فيلون، الشرائع الخاصة 2: 179). «باكورة الحصاد الآتي». هو قد بدأ. نحن أمام الجزء بانتظار الكلّ. وهنا قيامة الجسد. هكذا يكون التواصل بين عطيّة الروح وعمله في المؤمنين، وبين قيامة الأجساد الأخيرة، الحصاد الأخير (البعد الاسكاتولوجيّ). رج اش 27: 12؛ يوء 3: 3؛ مت 3: 12= لو 3: 17؛ غل 6: 8. هذا الحصاد بدأ بقيامة المسيح (1 كور 15: 20، 23)، وهو يتواصل.
«بل نحن أيضاً». ليست الخليقة وحدها. بل نحن. نعيش ألم الولادة. لا يحرّرنا الروح من هذا الانشداد، بل يقوّيه. بدأ الفداء في الخليقة الماديّة (مع الجسد)، وهو يتواصل منذ بداية الخليقة، وها هو يصل الآن إلى التمام. «هيبوتاسيا» (التبنّي). رج 8: 15. انتظر. رج 8: 19. كما تنتظر الخليقةُ بحرارة، كذلك «أبناء الله» الذين يلعبون في الخليقة دوراً شبيهاً بما يفعله الروح في المؤمنين. تحدّث بولس عن التبنّي على أنه حاجة إلى الخلاص.
«أبولتروسيس». افتداء. رج أف 1: 14. ويميّز الرسول بين «سوما» (الانسان الجسدي المشارك في محيطه) و«ساركس» (الانسان المرتبط بمحيطه وبالمجتمع). رج 1 كور 15: 44، 50. سيتحوّل الجسد، ومعه سيتحوّل محيطُه.
ج- في الرجاء خلاصنا (آ 24- 25)
«ففي الرجاء» (آ 24). رج 4: 18. «سوزو» خلص. رج 5: 9. نرجو أن نكون مخلّصين. فطبيعة الرجاء المسيحيّ هي ثقة ثابتة بمخطّط الله وقدرته. أما الفداء التام فما تمّ بعد. على مستوى الرجاء، نحن خلصنا. غير أن الرجاء نفسه ليس ملء الخلاص.
«الرجاء المنظور». هنا تمييز بين ما يُرى وما لا يُرى (1: 20). فما يُرى هو عابر. وما لا يُرى يُدركه العقل. هذا ما قاله اليونان. ما لا يُرى هو العالم العلويّ، وما يُرى هو عالم الأرض. رج 2 كور 4: 18؛ 5: 7؛ 1 بط 1: 8- 9؛ عب 11: 1. ما يُرى ينتمي إلى دائرة الجسد التي لا رجاء فيها.
«إذا كنا نرجو» (آ 25). «هيبوموني» (الصبر). رج 5: 3. ويرد فعل «انتظر» للمرّة الثالثة في ثلاث آيات (آ 19، 23، 25). انه انتظار ملحّ، وهو يحتاج إلى الصبر. لا تتميّز النظرةُ المسيحيّة بخيبة الماضي، بل بالرجاء المقبل. لهذا فنحن نئن (آ 23، رج صراخ 7: 24) بعد أن طال الانتظار، ولا نئنّ من اليأس. إن الصبر الذي يتجذّر في الروح العامل الآن، يقدّم خاتمة هذا المقطع مع طابعه الجلياني، الذي يجعلنا في سرّ الله.

3- خلاصة لاهوتيّة
وسّع بولس نظرة الخلاص إلى أبعد من اسرائيل. فوصل إلى المؤمنين من الأمم. بل وصل إلى الخليقة كلها. وميراثُ شعب الله المفتدى ليس فقط أرض الوعد، بل العالم كله. وهكذا يبرز بقوّة موضوعُ آدم. ما يتطلّع إليه الله الآن، تطلّع إليه منذ البدء مع ابراهيم، وهو عكس سقوط آدم ونتائج هذا السقوط. وتحليلُ الوضع البشريّ الذي بدأ في ف 1 (مع آدم)، وصل إلى الذروة مع عودة أبناء الله إلى مجد الله المهيّأ للانسان منذ البدء، وعودة الكون. لا يتعارض الخلقُ والخلاصُ، والفداء ليس تخلّصاً من الخلق (كما في الغنوصيّة)، بل هو يكمّل مخطّط الله الأصليّ في خليقته.
تبدأ آ 18 مع قول يقين، وهو أن الألم الحاضر لا يمكن أن يوازي المجد المقبل الذي ننعم به. ورجاء المجد لا يُعزل عن المجد الحاضر. والألم الحاضر لا يدمّر رجاء المجد ولا يعارضه. بل إن الألم هو جزء من مسيرة تشارك المسيح في موته، وعلامة دمار الدهر الحاضر الذي يسبق ويرافق ظهور الجديد. هناك تداخل بين حقبة وحقبة. والمؤمنون يمكن أن يثقوا باقتراب النهاية، لأن عمل التحرّر الاسكاتولوجيّ والتجديد قد بدأ. وكشفُ المجد الاسكاتولوجيّ، أقلّه جزئياً، يُرى في ما عُمل في المؤمنين. هذا التأكيد نجده في ما حصل الآن، وفي صرخة أبَّا، وفي ما لم يحصل بعد بسبب ألم الجسد الذي يكوّن الانشدادَ الاسكاتولوجيّ.
وتمد آ 19 هذه الفكرة إلى الخليقة. إن نظرة بولس إلى مخطّط الله الخلاصيّ، تقوده أبعد من فداء شخصيّ أو بشريّ. هو يتطلّع إلى الخليقة ككلّ، وإلى تتمة قصد الله حين خلق الكون. ومع نظرة ثنائيّة إلى الجسد والروح، هناك نظرة إلى المادة والروح، والخليقة والسماء. فالخليقة مدعوة إلى المجد الاسكاتولوجيّ الذي ينظر إليه هو وقرّاؤه. هنا يظهر الإيمانُ بالله الخالق، فنعود إلى خبر الخلق، مع علاقة الخليقة بالانسان الذي هو إكليلها ووكيلها. واكتشاف دور الخليقة يرتبط بعودة الانسان إلى مجده كصورة الله.
والسبب الذي لأجله تنتظر الخليقة وتئنّ (آ 20) متطلّعة إلى الفداء، هو أن الخليقة سقطت بسقوط الانسان. خضعت الخليقةُ للباطل، شأنها شأن الانسان. صوّر بولس الخليقة التي أكرِهت على هذا الخضوع، فبدت وكأنها شخص حيّ يودّ أن يقف في وجه الانسان ولكنه لا يقدر. فبقي لها الرجاء. كما أن آلام المؤمنين صارت أساس الرجاء (يكوّن الطبع ويجدّد الانسان الداخليّ، 5: 3- 4؛ 2 كور 4: 16)، هكذا ما انتظرت الخليقة أن يحصل لها ما حصل. منذ البداية، الخضوع للباطل سيُتم قصد الله الأصليّ من أجل الانسان والكون الذي يقيم فيه. فالخليقة في باطلها تبقى لله.
والنهاية التي تطلّع إليها الله (آ 21) في خليقته، هي تحرّرٌ اسكاتولوجيّ، تحرّر من عبوديّة الفساد. عاد بولس عمداً إلى موضوع التحرّر والعبوديّة ليربط فكرته بما في 2: 15. عبوديّة الشريعة كما استعملتها الخطيئة، قد تحرّروا منها، تحرّروا من فهْمٍ ضيّق للشريعة. تحرّروا من الحرف الذي تستعمله الخطيئة لفائدتها. وابتهجوا منذ الآن بهذه الحريّة. ولكن هناك أيضاً عبوديّة الفساد، وعدم التفلّت من نظام خليقة تسوده الخطيئة. والمؤمنون أنفسهم ما زالوا جزءاً من الخليقة، ولم يتحرّروا بعد من هذه العبوديّة. ووثق بولس أن الذين هم للمسيح يدخلون في ملء الحريّة، حرية أبناء الله التي أرادها الله دوماً للانسان حين خلقه. ووثق أيضاً أن الخليقة ستشارك في هذه الحريّة. كما أن الانسان الذي سقط في الباطل يطلب عالماً يتجاوز الفساد والانحلال، هكذا الانسان المحرَّر من الخطيئة والجسد يطلب وضع اللافساد من أجل تجسّده كقائم من الموت (1 كور 15: 42- 50).
أراد بولس أن يربح قرّاءه إلى نظرته (آ 22)، فدعاهم إلى ما تعرفه الكنائس، وشبّه انتظار الخليقة بانتظار أم تلد أولادها. هي تتألّم. والآن، مضى زمنُ الانين وصارت نجاةُ الخليقة الجديدة قريبة. أجل، رجاء النجاة هو قريب.
في آ 23 وضُح أن أوجاع الخلق جزء من الانشداد الاسكاتولوجيّ الذي اختبره المؤمنون. فآلام القديسين هي جزء من دراما كونيّة تخصّ الخليقة كلها، الحيّة والجامدة. وهكذا يكون تعاطفٌ بين المسيحيّين المتألّمين والقوى الخفيّة في الطبيعة. لا تكرار الظواهر عينها، بل حركة التاريخ حتّى النهاية. بدأ قصد الله مع آدم، ووصل إلى ابراهيم وإلى اسرائيل، وتوسّع مع يسوع المسيح ليصل إلى الأمم. وما حاول بولس أن يمجّد رسالته التي هي جزء صغير في مخطّط كونيّ، منذ بداية الزمن.
وقدّم بولس نظرة واضحة إلى مسيرة الخلاص التي رآها عاملة في خبرة المؤمنين. فالزمنان الحاسمان هما قبول الروح وافتداء الجسد مع حقبة تتميّز بالانشداد الاسكاتولوجيّ. ما حصل وما لم يحصل بعد. هي العلاقة مع الله التي تكوّنت وما نضجت بعدُ.
الزمن الحاسم الأول الذي يُدخل الأفراد في مخطّط فداء الكون، هو عطيّة الروح، قوّة الروح الفاعلة التي تصل إلى الانسان فيستقبلها كقوّة توجّه حياته. هنا يتحدّث بولس عن المسيحيّ «الذي يمتلك الروح» (آ 9). ويوسّع التحديد: «الذي يمتلك باكورة الروح». هو يصوّر عطيّة الروح، أو عمل الروح في حياة المؤمن، كبداية مسيرة واسعة يصوّرها باستعارة الحصاد أو القطاف. الحصاد بدأ وهو سينتهي. أما الوقت بين زمن وزمن (الروح والقيامة) فهو زمن الأنين. فحياة الروح لم تكمّل ملء تعبيرها. في حاضر المؤمنين، بدأ أنينُ الخلاص للبشر وللخليقة، ولكنه لم يكتمل.
والزمن الحاسم الثاني في مسيرة الخلاص الفرديّ (والجسديّ) هو «افتداء الجسد» أو قيامة الجسد (آ 11؛ 2 كور 5: 1- 5). هذا يعني طبيعة «الجسد الروحي» (1 كور 15: 44- 46). جسد يحرّكه الروح. الوعد هو أن باكورة الروح في توجيه الانسان (المرتبط برغباته البشريّة) ستتمّ في «تجسيد» جديد يحرّكه الروح. وإذ استعمل بولس كلمة «فداء»، أفهم قرّاءه أن الفداء لم يتمّ بعد مع عطيّة الروح، ولا يمكن أن يكون كاملاً بدون هذا الجسد وداخل الشكل الحاضر للخليقة. وإذ تحدّث عن التبنّي، بيّن أن البنوّة التي ننعم بها الآن ليست تامّة. حين يشارك المؤمنون المسيح في بنوّته، يشاركونه في بنوّته بحسب الجسد، وفي بنوّته بحسب الروح بالقيامة من بين الأموات. وينطبع ما بين الاثنين بالألم «معه» (8: 17).
مسيرةُ الخلاص هذه (آ 24- 25) تعني أن الإيمان المسيحيّ يتميّز بالرجاء. خاف الرسول أن تُبرز الجماعةُ الرومانيّة (مثل أهل كورنتوس) وجهة الخلاص الذي تمّ، فتبتهج بخبرة الروح الذي أعطي لها منذ الآن. لا يتوقّف بولس عند هذا التهرّب من العالم الواقعيّ. فالتزام المؤمن، جسدياً، بالخليقة في شكلها الحاضر، هو جزء من مسيرة الخلاص، ومن خبرة المؤمنين لخلاصٍ يختبرونه في الرجاء.
إذا كنا نرجو شيئاً، هذا يعني أننا لان نراه، لا نمتلكه. ونحن نمارس الرجاء بما يقف أقامنا، بما هو غير منظور وآتٍ. لا يريد بولس من المسيحيّين أن يبتلعهم الحاضرُ مهما كانت مسؤولياتهم. ولكنه يذكّرهم بطابع هذا الرجاء. «نحن خُلّصنا». فالخلاص هو أمر أكيد للذين لهم الروح ويقودهم الروح. والرجاء المسيحيّ رجاء واثق، لأنه مؤسّس على خبرة الروح الذي أعطي الآن، ولأن قيامة المسيح تبدو كباكورة، فتؤكد مشاركة الآخرين في قيامة الأجساد. هذان العاملان كافيان لمساندة رجاء المؤمنين وتأهيلهم ليقاسوا الصعوبات في الجسد، بصبرٍ يصل بتبنّيهم إلى النضوج.

الخاتمة
في بداية ف 8، طرح بولس سؤالاً: كيف التصرّف في الحياة وبالنسبة إلى الطاعة لله؟ هل أكون الانسان الجسديّ، اللحميّ، أم الانسان الروحيّ؟ كيف أخدم الله خدمة يدعوني إليها الروح؟ وأعلن الرسول، وإن كان بعض الشكّ في قلب الانسان: نحن تبرّرنا، صرنا في المسيح أحراراً، وقد أحبّنا الله وحسبنا أبناءه. والروح الذي فينا، ساعدنا كيف نصلّي إلى الله. كل هذا يستبق المجد الموعود من أجل الآخرة، في قلب واقع يميّزه الألم. ويُطرح السؤال من جديد: ما هي العلاقة بين هذا الحاضر وهذا المستقبل؟ والجواب: أعطي المجد الموعود به منذ الآن: للخليقة، للانسان، للروح القدس. فالخليقة خضعت للباطل، وهي ترجو تجلّي مجد أبناء الله والتحرير من عبوديّة الفساد. أما الآن فتخضع لآلام الولادة. والانسان يئنّ، ولكن فيه عربون الروح. هو لا ينتظر واقعاً خارجياً، شأنه شأن الخليقة. فهذا الواقع هو فيه، وإن كان بعدُ في الجسد، لأن له باكورة الروح. كل هذا يجعلنا منذ الآن في مخطّط الخلاص الذي دشّنه يسوعُ المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM