الفصل الثاني والعشرون
صراع الانسان مع نفسه
7: 14- 25
قدّم بولس موجزاً برّأ فيه الشريعة من أي لوم بسبب موت الانسان. وها هو يُوضح. ولكن لماذا كلُّ هذا الشرح بعد أن ميَّز دور الشريعة عن الخطيئة والموت، فبيّن فيها عملين: استعملتها الخطيئة فأنتجت الموت. وفي الوقت عينه، استعملها الله ليكشف فعل الخطيئة المميت. ولكن لماذا يتحوّل بولس فجأة ليصيغ الوجهة الثانية من نقيضة آ 6 (جدّة الروح) كما انتظر منه بعض قرّائه؟ هناك جوابان. الأول: إذا كانت الشريعة مقدّسة وعادلة وصالحة، فلماذا نُسيء إن نحن كنّا تحت الشريعة؟ كيف يمكن للخير أن يعارض النعمة؟ جاء جواب بولس أن المسيح وحده يمنح البرّ، وذلك بموته، ويحرّرنا من الخطيئة والموت. الثاني: حين أدخل بولس دور الشريعة في تحليله لجواب النعمة على قوّة الخطيئة والموت، أوضح أن المؤمنين الذين تشبّهوا بالمسيح في موته، لم يتشبّهوا بعدُ كلّ التشبّه به في قيامته. لهذا أراد بولس أن يُبرز هذا الانشداد، هذا الصراع الداخليّ في الانسان الذي ما زال بعدُ خاضعاً للخطيئة. الشريعة روحيّة ولكني أنا مبيع للخطيئة. هناك انقسام بين الارادة والعمل. لهذا نحتاج إلى نعمة الله بربّنا يسوع المسيح.
1- تحليل النصّ الكتابيّ (7: 14- 25)
سبق ودرسنا النص وبنيته في الفصل السابق، وها نحن نتوقّف عند تحليله في أربع محطات. الأولى: الشريعة روحيّة (آ 14- 17). الثانية: أنا مبيع للخطيئة (آ 18- 20). الثالثة: حكم الشريعة (آ 21- 23). الرابعة: تعاسة الانسان (آ 24- 25). وهكذا كانت مقابلة بين الشريعة الآتية من عند الله، من عالم الروح، والانسان المرتبط بالجسد والملتصق بتعاسة تجعله يتمنّى التخلّص من الجسد، من هذا الذي يميل بنا إلى فعل الشر مع أننا نختار الخير.
أ- الشريعة روحيّة (آ 14- 17)
«نحن نعرف» (آ 14). رج 2: 2. ففي جماعة رومة، عدد من اليهود وعابدي الله والمهتدين الجدد لتعاليم الشريعة. «الشريعة روحية». تصدر عن الروح. أعطيت بالهام. هي تُجسّد الروح. تدلّ على الروح. ترفعنا إلى مستوى الروح. «بنفماتيكوس» (روحيّة). رج 1: 11؛ 1 كور 2: 13؛ 10: 3- 4؛ 12: 1؛ كو 1: 9؛ 3: 6. سبق لبولس وتحدّث عن ثنائيّة: الشريعة والخطيئة. الشريعة والروح. ونجد أيضاً التكامل: الجسد والشريعة والخطيئة. ثم العقل والشريعة والروح. هناك الخطّ الفرّيسيّ حيث شريعةُ الجسد دفعت اسرائيل إلى افتخار وطنيّ بأنهم شعب الله المختار، فكانوا تحت سلطة الخطيئة. وهناك فيض الروح الاسكاتولوجيّ الذي حرّر بولس من فهم ضيّق لدور الشريعة. سيعود بولس إلى علاقة الشريعة بالروح في 8: 2- 4.
«ولكني بشر بيع». «إغو». أنا، يدلّ على كل انسان. وهناك انتقال من الماضي إلى الحاضر يُعطي الوجود نكهة شخصيّة. وتحدّث بعضهم عن الانتقال من صراع واعٍ مع الشريعة إلى صراع لاواعٍ. أنا أنتمي إلى عالم الجسد، أعيش في ما هو فاسد. أنا معدّ لأن أعود إلى التراب. أنا خليقة من لحم ودم. هو كلام عن الفرد في انتمائه إلى حقبة آدم، التي تسيطر عليها الخطيئةُ والموت. «مبيع» (بابرامانوس. الفعل: بيبراسكو: باع). تعود هنا صورةُ العبوديّة. بما أن الأسرى يباعون كالعبيد، فصورة الهجوم المفاجئ (آ 8، 11) تقود أيضاً إلى العبوديّة. «مبيع لعمل الشرّ». رج 1 مل 21: 25؛ 2 مل 17: 17؛ 1 مك 1: 15. في قمران نقرأ: «أما أنا فأنتمي إلى البشر الأشرار إلى رفقة الجسد الشرير. آثامي ومعاصيّ وخطاياي مع فساد قلبي، تنتمي إلى رفقة الضاحكين والسائرين في الظلام» (نج 11: 9- 10).
«لا أفهم ما أعمل» (آ 15). مع «غار» (الفاء) يبدأ شرح لعبارة: مبيع للخطيئة (آ 14). هي عبوديّة مكرهة، بحيث يُحرم الانسانُ من أي قدرة أن يعيش بحسب جدّة الروح، فيعيش في الجسد. «غينوسكو». عرف بالخبرة، فهم. لهذا لا أوافق. إن الخطيئة تسود عليّ بحيث لا تسمح لي أن أفكّر بما يجب أن أعمل. «ما أريد» «براسو». عملَ أيّ عمل. «ميسايو»؛ أبغض، كره، يعارض «تالو» (أراد). نحن نُبغض من بِيع للخطيئة (آ 14). هنا نتذكّر الأدب القديم. ابيكتات (2/26: 4): «ما يريده لا يفعله، وما لا يريده يفعله». أوفيديوس في التحوّلات (7: 20- 21): «أرى الأفضل وأوافق، ولكني أتبع الأسوأ». أما عند بولس فهناك انشداد، لأن المؤمن بدأ يختبر إمكانيات (ووعد) حياة يوجّهها الروح. ما هو قريب من روم 7 هو نج 11 والمدائح.
«وحين أعمل» (آ 16- 17). هناك أنا المبيع للخطيئة، العائش في الجسد. وأنا الانسان الداخليّ. يتكلّم بولس هنا كيهوديّ حيث اليقينُ وحده لا يكفي. فالوصيّة تفرض فعل طاعة. «بل الخطيئة». كما في آ 7- 13، صوّر بولس الانسان بألوان سوداء. فالأنا ليس في خطّ الفداء. انتقل من صورة إلى صورة: الخطيئة قوّة حربيّة (آ 8، 11، 23). مالكة عبد (آ 14). والآن هي قوّة ضاغطة من الداخل. هما صورتان تدلاّن على خبرتين: قوّة تمارس ضغطاً على الفرد. قوّة تحمل الانسان بدون ضغط اجتماعي، أو تؤثّر فيه من الداخل (العادة، الوراثة).
ب- أنا مبيع للخطيئة (آ 18- 20)
«أعلم أن الصلاح» (آ 18). رج آ 14؛ نحن نعرف... أنا بشر. آ 18: أنا أعرف في بشريّتي، في جسدي. وعبارة «مبيع للخطيئة» (آ 14) تقابل: الصلاح لا يسكن فيّ. هذه الثنائيّة تشبه ما في الكتابات الجليانيّة، حيث التعارض بين مجد الدهر الآتي يُبرز السمات السلبيّة في الدهر الحاضر (8: 18). الأنا، الجسد، ينتمي إلى هذا الدهر. لا شيء من الخير فيه (أنا، أي الانسان بشكل عام، لا اليهوديّ وحده). هنا نلاحظ الفرق بين «ساركس» (اللحم والدم، البدن) و«سوما» (الجسد). «سوما» يصل إلى كل زمن. «ساركس» إلى الزمن الحاضر فقط (1 كور 15: 44- 50؛ 2 كور 4: 7- 5: 5). قوّة «ساركس» تدلّ على ارتباطها بهذا الدهر. تموت قبل أن يتمّ الفداء (8: 11، 23). هي لا تدلّ على حالة سابقة للمسيحيّة. لا يصدر منها خير، لأنها شرّ في جذورها.
«فإرادة الخير». «باراكايماي»: كان في متناول، في تصرّف. لا يرد هذا الفعل إلاّ هنا وفي آ 21. شدّد الرسول على صعوبة عمل الخير، وما قال إنه مستحيل. التعارض بين الإرادة والعمل هو تعارض بين من تجدّد قلبُه واستنار عقله (5: 5؛ 6: 17؛ 12: 2؛ والعكس: 1: 21، 28؛ 2: 5) وبين جسد مائت لم يصل إليه الفداء (8: 11، 23).
وتكرّر آ 19 ما قيل في آ 15 ب مع تبديلات بسيطة: «بويايو» بدل «براسو» (عمل). «كاكون» (الشرّ) بدل «أغاتون» الخير (2: 10). «أبغض»، بدل ما أراد.
«وإذا كنت أعمل ما لا أريده» (آ 20). تستعيد هذه الآية آ 16- 17. هناك دفاع عن الشريعة في آ 16 ب (رج 7: 16). السبب هو أن هذا هو العنصر من برهانه الذي سيتوسّع فيه، كما سبق له وأوضح دور «أنا» في آ 14- 20. وحين نقرّ بهذا الواقع، لا نعود نقول إن آ 19- 20 هي حاشية أضيفت.
ج- حكم الشريعة (آ 21- 23)
«وهكذا أجد» (آ 21). نجد هنا برهاناً عن قوّة الوضع الذي فيه نرى «الشريعة» على أنها التوراة. (1) الآية تجمع بوضوح عناصر مركزيّة في التحليل السابق. بما أن 7: 7- 25 هو دفاع عن الشريعة، فالكلام هنا هو عن الشريعة اليهوديّة. (2) إن فعل «أوريسكو» (وجد) يكرّر في شكل مختلف ما قيل في آ 10: وُجدت الوصيّة... للحياة... للموت. وفي آ 21: وجدتُ الشريعة... للخير... للشرّ. في آ 10 تشديد على أن الشريعة لم تصل إلى هدفها. وفي آ 21 عدم الامكانية عند الأنا، ولكن في الحالين، النظرة هي اكتشاف قاسٍ عبر الخبرة الشخصيّة: الشريعة التي يجب أن تكون للحياة ولدفع الخير، تعمل عكس ما يجب أن تعمل. (3) العبارتان الأخيرتان في آ 21 هما إعادة موجزة لما في آ 18 ب- 19 مع «جميل» (كالون) بدل «صالح» (أغاتون).
ويبيّن بولس السبب الذي لأجله لا تفعل الشريعة كوسيلة نعمة، ولا تقدر أن تؤمّن أساساً لعلاقة الانسان بالله (ذاك هو دورها الرئيسيّ في الفكر اليهوديّ). السبب هو أن الشريعة، إن فهمناها كما يجب (لا كأعمال)، تعلّم الارادة، ولكنها لا تهيّئ العمل. فخارج ملكوت الارادة، لا تزال الشريعة أداة الخطيئة، وهي لا تقدر أن تغلب الخطيئة في الجسد (البدن). لهذا وُجدت الشريعة عملياً، لدى الانسان الذي يريد الخير الذي تطلبه الشريعة، حيث الخير يحرك الارادة، وكأنها تملي الأعمال الشريرة (بما فيها أعمال الشريعة).
«وأنا ابتهج» (آ 22) «سونيدوماي». هو توافق بين الشريعة وبين الأنا. «نوموس». هي شريعة الله (التوراة)، لا إرادة الله بشكل عام. إن آ 22 هي شرح لما في آ 21. وهكذا بدت آ 22 شرحاً للمفارقة التي فيها يعبّر بولس عن خبرة الشريعة في آ 21. «الانسان الداخلي)» (إسو). فكرة فلسفيّة في عالم اليونان. هناك إرادة داخليّة. وبقوّة المسيح المنبعث، تصبح هذه الامكانيّةُ الداخليّة واقعاً. فالانجيل لا يحرّر فقط داخل الانسان من أجل تقدير لائق للشريعة، بل هو يتيح للشريعة طاعة من القلب. تلك هي وجهة من نظرة بولس. أما الوجهة الثانية فسوف يتوسّع فيها في 8.
«ولكني أشعر» (آ 23). «بشريعة ثانية». هي شريعة الخطيئة، وهي تقيم في أعضائي (6: 13. تعمل في جسدي). هي شريعة تختلف عن التوراة. شريعة أخرى تقابل تلك التي اعتاد عليها المؤمن. هو اختلاف في الطريقة التي تستعملها الخطيئة (آ 8، 11، 13). وهي تختلف عن شريعة تُحسب صالحة (آ 16، 22). هي شريعة تستعملها الخطيئة لتخدع وتقتل (آ 11). تحت قوّة الخطيئة، تُختبر الشريعةُ بشكل مختلف جداً عن شريعة الله.
«شريعة عقلي» هي شريعة الله (آ 22، 25)، شريعة الروح (8: 2). هكذا نكون أمام وجهتَي الشريعة في حقبة تتداخل الخطيئة والنعمة (8: 2). تحدّث اليونانُ عن الانسان الداخليّ (فيلون، الزرع 42؛ النعمة والتعليم 97). كل هذا يجعلنا أمام الأنا المنقسم. والعقل يعود إلى المؤمن الذي ينتمي إلى الحقبة الجديدة (12: 2). عادت صورة الحرب مع الهزيمة. فالهزيمة في المعركة تجعل الأسير يُباع كعبدٍ (رج 14 ب). والحرب هي بين شريعتين، فيُصبح الانسانُ سجين الشريعة. فالانسان (والمؤمن أيضاً) في انتمائه إلى تلك الحقبة يؤخذ ولا يقدر أن يفلت من عمل الشريعة التي تستعملها الخطيئة. ما ينظر إليه بولس ليس الحالة الأخيرة، بل خبرة الحرب والهزيمة حيث النتيجة التي يجد فيها الانسان ليست مقرّرة.
د- تعاسة الانسان (آ 24- 25)
«ما أتعسني» (آ 24). «تالايبوروس»: تعيس، بائس (فقط هنا وفي رؤ 3: 17، في العهد الجديد). هو تعبير عن اليأس والحكم على الانسان (حك 3: 11؛ 13: 10). وقد يصوّر وضعَ الانسان الذي يُدفَع في اتجاهين. لماذا نأخذ هذا ونترك ذاك. حين يكون الفكر هو هو في اتجاهين، هي صرخة انتروبولوجيّة عند بولس. وهي أيضاً اسكاتولوجيّة بين حقبتي آدم والمسيح، بين الموت والحياة. رج 2 كور 4: 16- 5: 4. هو انشداد بين مواطنيّة الأرض ومواطنيّة السماء (فل 3: 20- 21؛ عب 13: 14).
«فمن ينجيني». «رووماي». نجاة روحيّة أكثر من نجاة جسديّة. في إطار اسكاتولوجيّ. رج مت 6: 13= لو 11: 4؛ روم 11: 26؛ 1 تس 1: 10؛ 2 تم 4: 18. النجاة هنا ليست الاهتداء كما في 5: 1، بل الخلاص الأخير الذي هو تمام العمل الصالح الذي سبق له وبدأ (فل 1: 6). هذا يعني أنها ليست نجاة داخل ضغط الجسد في هذه الحياة، بل من ضغط الجسد. «جسد الموت». رج جسد الخطيئة (6: 6)، الجسد المائت (6: 12)، جسدي البشريّ (7: 18)، أعضائي (7: 23). رج 6: 6، 12. مرة أخرى، نحن لا نتحدّث عن ثنائيّة في الانسان: الجسد والنفس. الجسد هو الانسان كله. وكذلك النفس. جسد الموت هذا يعمل حتى هزيمة آخر عدو (1 كور 15: 26).
«الحمد لله» (آ 25). رج 6: 17. «بربّنا يسوع المسيح». رج 1: 8. «ديا» بـ، بواسطة. هو دور المسيح كوسيط في الصلاة. وعمله في النجاة الأخيرة (آ 24). مثل هذه النجاة لم تتمّ بعد، بل نحن أمام استباق للنجاة الاسكاتولوجيّة (1 كور 15: 57). «إغو» (أنا). هي المرة السابعة (أو الثامنة) يستعمل فيها بولس هذا الضمير في ف 7. وآخر مرّة ستكون في 9: 3. أنا نفسي (اوتوس). أنا بدون المسيح أو قبل المسيح، وبقواي الخاصة. قد يكون هذا الأنا في وجهتيه: على مستوى الجسد وعلى مستوى العقل، مع تهديد بالحرب والعبوديّة. «بالعقل أخضع». رج آ 23 (شريعة عقلي)، آ 22 (أبتهج بشريعة الله). أخدم بعقلي شريعة الله. أما في جسدي فأخضع لشريعة الخطيئة. رج آ 18- 23. هاتان هما وجهتا الشريعة: ارتباط بشريعة الله (آ 22)، ارتباط بشريعة الخطيئة. في الحقبة القديمة، حقبة آدم، حقبة الجسد، تستعمل الخطيئةُ الشريعة لتقوّي سلطتها في الموت. في الحقبة الجديدة، حقبة المسيح، حقبة العقل والانسان الداخليّ، تبدو الشريعةُ في أوضح صورها على أنها عطيّة الله.
2- خلاصة لاهوتيّة
في هذه القطعة (آ 7- 25) يستعمل بولس صيغة المتكلّم المفرد (أنا) ليدلّ على آدم (آ 7- 13) أي كل انسان. لا شكّ في أن بولس ينطلق من خبرته كانسان أمسكته قوّة الخطيئة والموت.
في آ 14 عاد الرسول إلى المتكلّم الجمع. جعل نفسه مع جماعة رومة ليحدّثها عن الشريعة الروحيّة بعد أن قال إن الشريعة مقدّسة وصالحة وعادلة (آ 12). ربط الشريعة بالروح القدس كينبوعها والطابع الذي يميّزها. إنّما كان تعارضٌ بين الشريعة والروح، اللذين يميّزان حقبتين، قبل المسيح وبعد المسيح. ولكن هنا تتداخل الحقبتان ولم تعد الشريعة من الحقبة القديمة. ومحاولة الشريعة أن تتحرّر من قبضة الخطيئة والموت يعود بها إلى الصلاح بحيث لا يُنظر إليها فقط وكأنها في قبضة الخطيئة. هنا يُطرح سؤال: إذا كانت الشريعةُ شريعةَ الروح، فلماذا لا تكون وسيلة نعمة؟ لماذا يتجلّى برّ الله بدون شريعة؟ ما الذي يمنع الشريعة من أن تُتمّ وظيفتَها الروحيّة؟
الجواب نقرأه في آ 14 ب: أنا بشر مبيع للخطيئة. أنا عبد. الأنا ينتمي إلى هذا العالم، إلى الحقبة القديمة، حقبة الماضي. وما زال ارتباطي بشهوات هذا الجسد المائت حاضراً. وما زالت الخطيئة تعمل معي. ويُطرح سؤال: كيف أن الذي مات عن الخطيئة (6: 2)، وتحرّر من الخطيئة (6: 8)، ما زال مقيّداً بالخطيئة؟ ذاك هو الانشداد الاسكاتولوجيّ. بعد أن برز الانقطاع بين الحقبتين، ها هو التواصل مع تداخل الفداء الذي بدأ عمله. ولكننا لم نصِر بعدُ بكلّيتنا في حقبة المسيح.
والمفتاح؟ نقرأه في آ 15. هناك هوّة في «أنا» بين ما أريد وما أفعل. هناك أمور يُبغضها المؤمنُ ومع ذلك يفعلها. وهذا ما يجعله لا يفهم. اختبر بولس هذا الوضع (فل 3: 4- 6) بعد أن قبله المسيحُ فنال الروح. هو لا يقدر الآن أن يُفلت من حاضره. لم يعد الرسول ذاك الفريسيّ، بل ذاك المؤمن المتواضع الذي يحسّ بصراعٍ في داخله. لا شكّ في أنه مات مع المسيح، ولكن ما زال انساناً من لحم ودم (فل 3: 20- 21).
هوّة في أنا المؤمن، وهوّة في الشريعة (آ 16- 17). الأنا الذي يريد يتوافق مع الشريعة ويشهد أنها صالحة. يقبل تحديد الشريعة على أنها مشيئة الله، ويرغب في العمل بها. ولكنه ما زال يسقط. لا ترتبط الخطيئة بالشريعة. فهي بلا لوم وأهل للمديح. والخطيئة لا ترتبط بالأنا لأنه مبيع للخطيئة التي تسكن فيّ. برّأ بولس الشريعة. وها هو يبرّئ نفسه (آ 13). هذا لا يعني أنه يتفلّت من المسؤوليّة حين يخطأ. فهو ما زال يفعل ما يبغضه. بل هو يقرّ بأنه واعٍ للخطيئة كقوّة لم يُفلت منها بعدُ، لأنه ما نال بعدُ الفداء نوالاً كاملاً. إذ حدّد بولس الطبيعة الحقيقيّة لضعفه، تحاشى الواقع في احتقار نفسه وبغضها.
هذه الهوّة في «أنا» المؤمن تقابل وظيفتَي الشريعة: هناك أنا الذي يريد أن يتشبّه بالمسيح في موته= «أنا» ليس تحت أعمال الشريعة بل يخضع لشريعة الإيمان التي هي الشريعة الروحيّة. وهناك «أنا» الذي ما تشبّه بالمسيح في قيامته= أنا الانسان الجسديّ= أنا الذي ما تشبّه بعد بالمسيح في قيامته= أنا الذي ما زال تحت سلطة الشريعة التي تستعملها الخطيئة لتجعلني للموت. الأنا يشهد أن الشريعة صالحة ويرغب في الطاعة لها. الشريعة هي وسيلة للحياة فلا ينتصر عليها الموت. ولكن الخطيئة شوّهت الشريعة وجعلتني سجيناً وعبداً. تحرّرُ الأنا بدأ، وبدأت نظرة صائبة إلى الشريعة. هي بداية حاسمة ولكنها لم تكمل بعد.
تكرّر آ 18- 20 ما قيل في آ 14- 17. لا يمنع الرسول كل لوم عن الشريعة لكي يحقّر البشريّة. ما يقوله بولس يقوله عن نفسه. هو المؤمن الذي يتكلّم. إذن كلامه يمكن أن يطبّق على الجماعة. حين ميّز بين الأنا والجسد، ما أراد أن يبرّئ الأنا الذي يريد ويصوّره كأنه سجين الجسد، ولا يتطلّع إلى ثنائيّة تضيع فيها المسؤوليّة. يشعر بالخجل من ضعفه، ويفهم أنه يقوم بأعمال يكرهها. لهذا تحدّثنا عن هوّة في الأنا، لا عن هوّة بين الجسد والأنا. يتكلّم بولس عن نفسه كمن ينتمي إلى حقبة الجسد، الحقبة القديمة. ولكنه يبتهج لأنه ينتمي مع المسيح إلى الحياة عبر القيامة، إلى الحقبة الجديدة. ومع ذلك يُقرّ أنه ما زال في الجسد، يرتبط بعالم ساقط، وتماهيه مع موت المسيح لم يتمّ بعد.
الفرق الرئيسيّ بين آ 14- 17 وآ 18- 20، هو أن الشريعة لم تُذكر في آ 18- 20 مع أنها حاضرة من خلال الكلام عن الصلاح (آ 18- 19؛ رج آ 12- 13، 16). إن لم يركَّز على الشريعة في تحليل الانسان المنتمي إلى الحقبة القديمة، فوضعُ الخطيئة في هجومها على الانسان بواسطة الشريعة (آ 7- 13) ما زال قوياً. لي الارادة بأن أفعل الخير، الخير الذي تحدّده الشريعة، ولكن لا القوّة لأترجم إرادتي عملاً. ولكن الخطيئة ليست في الأنا. هو معلّق بين حقبتين. هو مقسَّم بين انتماء إلى المسيح وانتماء إلى هذا الدهر. فاللوم يرتبط بالخطيئة. هي لا تقدر أن تلامسني في انتمائي للمسيح، ولكنها تسيطر على عالم أنتمي إليه أنا كانسان من لحم ودم.
كل ما يعمله الأنا الجسدي يشهد لسلطة الخطيئة. هذا لا يعني أن بولس يحقّر ما يعمله أو ينكر أنه فعل خيراً قبل القيامة (2: 7- 16). يمكن أن نراقب وجهتَي الانشداد الاسكاتولوجيّ: ما عُمل في المسيح عبر الروح يشهد لقدرة الله (1 كور 2: 4- 5). ولكن الشريعة التي أكملت سيطرتها على البشر، بواسطة الشريعة، ما زالت تؤثّر الآن سواء كانت الشريعة أم لا.
آ 21 هي خاتمة البرهان في آ 14- 20. يعيد الرسول الكلام عن الشريعة بعد أن أوضح ضعف الانسان وشرّ الخطيئة. هو لا يرمي يديه يأساً ويقدّم شريعة أخرى لا ترتبط بدور الشريعة في علاقتها بالخطيئة، بالموت، بالمؤمن. لا يقدّم شريعة «طبيعية» دون عودة إلى الله أو مخطّطه. إن ضعف الانسان الجسديّ أمام قوّة الخطيئة المتواصلة، يكشف ضعف الشريعة. وحتى إن تقوّت الارادة بالشريعة، فالجسد الذي تسيطر عليه الخطيئة، يمنع تحوّل الرغبة الصالحة إلى عمل.
وتصوغ آ 22- 23 الخاتمة (آ 21) فتوضح ما كان ضمنياً. انعكست هوّة الأنا في هوّة الشريعة المماثلة. في آ 22- 23، وجها الشريعة (آ 13) تحدّدا في علاقة بالمؤمن المقسّم. «ابتهج بشريعة الله». هي عودة إلى الشريعة على أنها مقدّسة وعادلة، صالحة وروحيّة (آ 12- 14). هذا يعني أن بولس يوافق الشريعة التي تصف الحقبة القديمة تجاه الشريعة (6: 14- 15). أو أنه يفرح بدور الشريعة كعامل الخطيئة من أجل الموت. نُظر إلى الشريعة في طبيعتها الحقيقيّة كشريعة الله، فدخلت في الانسان الداخلي.
ويصوَّر الوضع كحرب مع انتصار للشريعة التي استعملتها الخطيئة. الشريعة هي بلا قوّة (آ 21). لهذا، فكشفُ البرّ الذي يدلّ على الحقبة الجديدة كان «بمعزل عن الشريعة» (3: 21). إن الشريعة وإن شريعة الله، ليست من القوّة بحيث تقدر أن تغلب قدرة الخطيئة. لهذا لا نستطيع فقط أن نصف الحقبة الجديدة كإرادة عميقة للعمل بالشريعة، وتقديرٍ كامل لطبيعتها الروحيّة (شريعة الله). فهذا يعني نسيان ضعف «الأنا». فالمفتاح سيُعرض في ف 8 مع ينبوع قوّة جديدة هو الروح.
في آ 24 يتكلّم بولس عن نفسه، وليس فقط عن الانسان كل انسان: هو يصرخ من أعماقه، ويدعو من ينجّيه من شقائه، من التناقض الذي في داخله. وهو يتوق إلى الخلاص من هزائم متتالية لا تنتهي. فجسد الخطيئة ما زال تحت حكم الخطيئة والموت. والرسول ما تشبَّه بعد بكليّته، بموت المسيح. هو لا يطلب النجاة من الجسد وكأن المسألة ماديّة، بل من الجسد المرتبط بالموت. وليست الصرخة صرخة يأس، لأن بولس واثق من الخلاص الآتي (5: 9- 10؛ 6: 8؛ 11: 26). بل هي صرخة الضعيف الذي لا يستطيع أن يسير في الحياة الجديدة، ولا أن يخدم الروح (7: 6) عبر هذا الجسد المائت.
وجاء الجواب على ضيق الانسان في آ 25. بدأ بالشكر. سيأتي الخلاص بالمسيح. والله سيكمّل هذا الخلاص الذي طال. سيتمّ هذا الخلاص بالمسيح في مجيئه (11: 26؛ 1 كور 15: 42- 47؛ 1 تس 1: 10). فيتحقّق كلّ مخطّط الله. ولكن نبقى هنا في انشداد بين العقل والجسد، بين شريعة الله وشريعة الخطيئة. هذا الانشداد لا يعني أن الخلاص تأخر، بل أنه بدأ ولكنه ما تمّ بعدُ. وخدمة الشريعة بالعقل تفترض تجدّد العقل (12: 2) وموتاً مع المسيح (6: 2- 11).
خاتمة
هذا هو كلام الرسول عن صراع الانسان مع نفسه. لا شكّ في أننا متنا مع المسيح ودخلنا في قيامته، وإن لم يكن دخولُنا بعد كاملاً. لا شكّ في أننا نلنا هبة الروح، ولكننا لم نتحرّر بعد من جسد الخطيئة. ما زلنا نريد ولكن لا نعمل. لهذا، لا نستطيع القول إن الحرب انتهت حين دخلنا في سرّ الخلاص منذ اهتدينا أو اقتبلنا سرّ العماد. فلو انتهت، لكنّا في عالم الموت. بل إن الحرب الروحيّة هي علامة الحياة. والانشداد الاسكاتولوجيّ هو في ذاته البرهان بأن التشبّه بالمسيح في موته قد بدأ. وقوّة المسيح المنبعث بدأت تحارب قوّة الخطيئة. هذا يعني أننا نقبل بواقع الوضع البشريّ الذي نعيش فيه، عالم الجسد والموت. هذا لا يعني أننا نقهر نفوسنا حين نُقهَر ونصبح عبيداً للخطيئة. قد يُقهر المؤمن أكثر من مرّة، ولكنه لا يعتبر هذه الهزيمة وكأنها أمر بسيط فيتوقّف عن الحرب وينسى خدمة شريعة البرّ، شريعة الله. الصراع طويل، ولا خيار لنا مع الضعف الذي يلبسه جسدُنا الخاضع للخطيئة. هذا ما وصلنا إليه حتى الآن، بعد أن ظلّ تبريرُنا ناقصاً. ولكننا سنتعرّف إلى الانسان المبرّر في ف 8، فنكتشف حياة المسيحيّ في ملء عطيّة الروح.