الفصل الحادي والعشرون: الشريعة والخطيئة

الفصل الحادي والعشرون
الشريعة والخطيئة
7: 7- 13

فمع أن الخطيئة والموت يَستغلاّن بعدُ الشريعة للعودة بالانسان إلى حقبة آدم، إلاّ أن الشريعة يبقى لها دورٌ إيجابيّ تلعبه. هي صالحة ومقدّسة، لأنها تعبّر عن إرادة الله. وهي تمثّل عنصراً يفتخر به الشعبُ اليهوديّ. ومع ذلك، فهي تظهر بمظهر الفشل. فاليهود ما زالوا خطأة، شأنهم شأن الأمم، رغم أن الشريعة أعطِيت لهم. بالإضافة إلى ذلك، هم يضعون ثقتهم بأعمال تستلهم الشريعة، بحيث ينغلقون على نعمة المسيح. وفي النهاية، هذه الشريعة لا تقدر أن تمنح البرّ الذي يطلبه المؤمن. فماذا تستطيع أن تفعل؟ هي تنير العقل لما يجب أن نفعل. ولكنها لا تعطي القوّة بحيث نتجنّب الخطيئة. بل هي تحرّك الرغبات وتجعل الذنب معصية تستحقّ غضب الله وعقابه. هذا ما وصل إليه بولس في كلامه عن الشريعة في الرسالة إلى رومة. يطرح سؤالاً: هل الشريعة خطيئة؟ ويتمنّى لو أنه يعيش بلا شريعة. فهذه الشريعة التي هي صالحة، تذرّعت بها الخطيئة لتعمل لموت المؤمن.

1- دراسة النصّ وبنيته
نتوقّف هنا عند آ 7- 25، بحيث لا نعود إلى هذا القسم في الفصل التالي الذي عنوانه: صراع الانسان مع نفسه.
أ- دراسة النصّ
في آ 14. نعرف (المتكلّم الجمع). ويمكن أن يكون المتكلّم المفرد: أعرف. «بشر». يتلاعب النص اليوناني على صفتين: سركيكوس (تشديد على البشرية). سركينوس (تشديد على الضعف).
في آ 17، تسكن. في السينائي والفاتيكاني نقرأ «إنويكوسا» بدل «أويكوسا». هناك إضافة حرف الجر «إن» (في)
في آ 18، نقرأ «هو» (ما هو). فرأى بعضهم أن يضيف: وجد، عرف.
في آ 20: أريده، أنا. هناك مخطوطات تضع «إغو» أنا، وأخرى تلغيها.
في آ 22: شريعة الله (تايوس). صارت في الفاتيكاني: شريعة العقل (نووس)
في آ 23: في شريعة الخطيئة. هو حرف الجر «إن» في. هناك مخطوطات عديدة تلغيه فيصير النص: أسير شريعة الخطيئة.
في آ 25، الحمد (الشكر) لله. رأى بعض النسّاخ أن فعل الشكر هذا ليس في محلّه، فقالوا: نعمة (خاريس) الربّ. ورأى عددٌ من الشرّاح أن العبارة «بالعقل أخضع لشريعة الله وبالجسد لشريعة الخطيئة»، هي حاشية، فأرادوا ألغاءها.
ب- بنية النصّ
في آ 7 نصل إلى المسألة الحاسمة: كلام بولس عن الشريعة ولا سيّما في 5: 20، حيث ارتبطت الشريعة بالخطيئة فوجب أن نتحرّر منها. فلا إيجابيّة فيها بالنسبة إلى المؤمن. بما أن بولس طرح السؤال، دلّ على أن قارئ كلامه عن الشريعة طرح هذا السؤال. ولكنه يرى أن هذا السؤال أكثر من بسيط. من الواضح أن السؤال نفسه يسير بنا إلى امتناع عن الشريعة. والتحليل البنيويّ يوضح هذا الخطّ من المنع.
آ 7- 13 أول دفاع عن الشريعة: الخطيئة هي واقع مذنب.
آ 14- 17 الدفاع الثاني عن الشريعة: انتقل اللوم من الشريعة إلى «الأنا» ثم إلى الخطيئة.
آ 18- 20 شرح: كيف تفعل الخطيئة عبر «الأنا» المنقسم
آ 21- 23 وعبر الشريعة المنقسمة.
إن آ 13 لا تنهي فقط آ 7- 13، بل تشكّل انتقالاً ومقدّمة إلى المقطع التالي، على حسب ما اعتاد بولس أن يفعل (3: 20؛ 5: 21). إن «غار» (لأن، ف 2 في آ 14- 15) تقوم بهذا الربط. وما يهمّ التأويل هنا هو التوازي المهمّ بين آ 14- 17 وآ 18- 23؛ فالتحليل في كلّ حالة هو هو مع شرح لسقوط «الأنا» في الخطيئة في الحالتين (آ 14- 17، 18- 20)، ولكن مع تأكيد إيجابي عن الشريعة في آ 16 والجواب في قول كامل في آ 21- 23. والنتيجة: شرح دور الشريعة في ذات الألفاظ التي بها شُرح دور «الأنا»: انقسام الاثنين يعفيهما من اللوم وبشرح كيف استُعملا بواقع مذنب هو الخطيئة.
عُرف هذا المقطع على أنه دفاع عن الشريعة في الواقع اليوميّ، وهو دفاع ضروريّ بالنسبة إلى ما قيل في الماضي. ما سنقول في آ 21، 23 عن الشريعة التي هي «مبدأ» و«قاعدة عامة»، يضع الغموض على هذه النقطة ويقطع اهتمام بولس بأن يبيّن أن وظيفة الشريعة تقوم بأن تكون أداة الخطيئة والموت. لهذا كان كلام عن شريعة الله التي لا تُتّهم. فشريعةُ الله، شريعة العقل، هي شريعة نفهمها بلغة الإيمان مع طاعة الإيمان، طاعة القلب (1: 5؛ 2: 29؛ 3: 31؛ 6: 17). والشريعة التي يفتخر بها اليهوديّ هي تلك العاملة في الحقبة القديمة فتعارض الشريعة في دورها الاسكاتولوجيّ، في حقبة المسيح.
وهناك اهتمام «بالأنا». فمنطق البرهان وبنية ف 6- 8 (7: 7- 25 في موازاة مع 6: 12- 23 و8: 10- 30) يدلاّن بما فيه الكفاية على أن بولس يتطلّع إلى الانشداد الاسكاتولوجيّ في الحقبة الحاضرة من تاريخ الخلاص مع «الأنا» و«الشريعة» المنقسمَين بين حقبتَي آدم والمسيح في وقت تتداخل فيه الحقبتان. لهذا جاءت صرخة 7: 4 كصرخة حرمان (لا صرخة يأس): فمسيرة الخلاص يجب أن تعمل بعدُ عبر جسد الموت. والخاتمة في آ 5، هي قول هادئ حول تمزّق المؤمن في حقبتين ينتمي إليهما.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (7: 7- 13)
انطلق بولس في مقطع أول (آ 7- 8)، فطرح سؤالاً كما سبق له وفعل من قبل: هل الشريعة خطيئة؟ عندئذ جاء بالوصيّة التي دلّت على الخطيئة وما أعطت القوّة لممارستها (آ 9- 11). ولكن ليست الشريعة إلاّ مقدسة، لأنها كلمة الله (آ 12- 13). تذرّعت بها الخطيئة فعملت لموتي. فإن قادت الشريعة إلى الخطيئة، فالسبب هو الانسان.
أ- فماذا نقول (آ 7- 8)
«فماذا نقول». رج 3: 5؛ 6: 1. هل الشريعة خطيئة؟ (آ 7). طرح بولس هذا السؤال وكأنه به يقول الشريعة تساوي الخطيئة. وبالتالي هي في الحقبة القديمة، حقبة الموت. جاء كلام الرسول جذرياً بحيث يمنع أي التقاء بين الشريعة والروح. «ولكني ما عرفتُ (اختبرتُ) الشريعة». الخطيئة هي قوّة مجسّدة تُكره الانسان في قرارات حياته اليوميّة. ولكننا لا نستبعد معنى الخطيئة كفعل وخبرة، كعمل واعٍ: «عرف»: «غينوسكو» و«أويدا». الفعل الأول يدلّ على الخبرة والمعرفة الشخصيّة: أما «اويدا» فيدلّ على معرفةَ عقليّة. «إلاّ بالشريعة». كانت الشريعة حاضرة مع آدم، كما يقول التقليد اليهوديّ. إن المعلّمين تحدّثوا عن الشريعة قبل خلق العالم والانسان (تريور حول تك 3: 24؛ تك ربا 8: 2). وقال ترنيو (تك 2: 15): وُضع آدم في الجنّة لكي يخدم بحسب الشريعة ويحفظ الوصايا. والوصيّة التي تلقاها آدم (لا تأكل، تك 2: 17)، ليست وصيّة منعزلة بل تعبيراً عن التوراة. وإذ تجاوز آدم الوصيّة، حطّم أحكام الله (4 عز 7: 11؛ ترنيو تك 2: 15). ذاك هو تعليم بولس (آ 8، 9- 12). وقد سبق له وصوّر عصيان آدم على أنه نموذج عصيان الشريعة. ونشير أخيراً بأن تجاوز الشريعة في برية سيناء (عبادة العجل الذهبي) قُوبلت مع سقطة آدم في التقليد اليهوديّ.
«فلولا قولها». لا أريد خبرة الشهوة التي أنا فيها. ما يلفت النظر في وصف بولس، هو أن الشريعة لم تضعف حين اهتمت بالشهوة. هذا ليس بالخطأ (مز 119: 20؛ إش 58: 2؛ فل 1: 23؛ 1 تم 3: 1)، والوصايا العشر حدّدت الرغبات الممنوعة (لا تشته امرأة). ومع ذلك فتأثير الوصايا يساعد على تحديد معنى الشهوة كشهوة ممنوعة (خر 20: 17؛ تث 5: 21؛ 4 مك 2: 5؛ رج أم 21: 26؛ مي 2: 2). ومن الواضح أن بولس يفكّر في الوصايا العشر (13: 9). في الإطار الرواقيّ، اعتُبرت الشهوةُ خاطئة، لأنها تدفع الانسان دفعاً، وتُبعده عمّا هو عقليّ (4 مك 1: 3، 31- 32؛ 2: 1- 6؛ 3: 2، 11- 12، 16؛ فيلون، استعارات الشرائع 3: 15؛ سلالة قايين 26). ويرى بولس خطأ في ذلك، ليس لأنه لا عقليّ، بل لأنه رغبة في الذات، رغبة في إرضاء الذات. هو تعبير عن سلامة آدم. هذا ما يجعله ضدّ الله ومعارضاً لسلطة الله كالخالق. هذا ما يسميه العبريون: ي ص ر. هـ. ر ع.
هذه الرغبة الشهوانيّة هي جذر كل خطيئة كما يقول الفكر اليهوديّ. رج فيلون، خلق العالم 152؛ الوصايا العشر 142، 152، 153، 173؛ الشرائع الخاصة 4: 84- 85. حسب رؤ موسى، قالت حواء: الشهوة هي جذر وبداية كل خطيئة (17: 1- 2). رج يع 1: 15.
«ولكن الخطيئة» (آ 8). «أفورمي»: نقطة انطلاق من أجل عمليّة. المناسبة. الظرف. هو لفظ حربيّ بالدرجة الأولى. هكذا تتجسّم الخطيئةُ كقوّة، فتفرض نفسها على البشر. «لتثير فيّ الشهوة». الوصيّة ليست فقط الظرف للخطيئة، بل هي أداة حالية. وفي آ8، 9، 12، يستعمل بولس «نوموس» و«انتولي» (وصيّة) وكأنهما مترادفتان. الوصيّة هي: لا تشتهِ، وهي تميّز وما تجاوزه آدم. «كاترغازوماي». رج آ 8، 13، 15، 17، 18، 20؛ أنتج، خلق. لا تُستعمَل الوصيّة لتخلق الرغبة كرغبة، بل لتخلق رغبة تمنعها الوصيّة التاسعة، رغبة الأنانيّة، بحيث تُفسد ما هو في طبعه خاطئ (إبيتيميا). حين تعطي الوصيّة الخطيئة بأن تحوّل رغبة الانسان إلى ذاته (لا إلى الله، 1: 21)، تصبح وسيلة تُفسد قوّةً إيجابيّة في حياته.
«الخطيئة بلا شريعة ميتة». الشريعة ليست هنا عاملاً إلهياً تجعل الانسان يعي الخطيئة، بل أداة خطيئة من أجل القتل (آ 9- 11). «ميتة» (نكرا). أي بدون قوّة، بدون فعل. بدون قوّةِ حياة، ولا فاعليّة. رج يع 2: 17، 26؛ 1 كور 15: 56. أو هي لا تحمل ثمراً، مثل غصن في شجرة. الألفاظ المستعملة هنا تريد أن تُبرز التعارض بين «الخطيئة» و«الأنا» (آ 13- 25)، ومفعولهما يرتبط بالتلميح إلى تك 2- 3 مع تشخيص الخطيئة التي تأخذ دور الحيّة، والأنا الذي يأخذ دور آدم. كما يرتبط بخبرة وجوديّة بقوّة تشوّه الحياة التي يعطيها الله وتدمّرها. «بلا شريعة». رج 3: 21، 28؛ 4: 6. نحن أمام جواب لليهوديّ الذي يقدّر الشريعة تقديراً (3: 21): الشريعة لا تعطي الملكوت (اسرائيل مع العبادة) حيث تحطّمت قوّة الخطيئة. بل، كما قال تك 3، عن عطيّة الوصيّة تصدر الخطيئةُ مع تأثير أكبر على الانسان (لا يُستَبعد اليهوديّ النقيّ). هنا تأتي المقابلة مع يعقوب: الإيمان بلا أعمال ميت هو (2: 26). وفي روم 7: 8: بدون شريعة الخطيئة ميتة.
ب- الوصيّة والخطيئة (آ 9- 11)
«كنتُ أحيا من قبل» (آ 9). يُستعمل الضمير «أنا»، ويُشرف على ما تبقّى من ف 7 (7 أو 8 مرات، آ 9، 10، 14، 17، 20، 24، 25). يتحدّث بولس عن «نموذج». عن الانسان الحقيقيّ بشكل عام (آدم). 2 رؤ با 54: 19: كل انسان هو آدم نفسه. «حي» و«ميت» (آ 10). تلك هي مسيرة آدم. كان نفساً حيّة (تك 2: 7). ولكن جاء الأمرُ الالهيّ: إن أكلتَ موتاً تموت (2: 16- 17).
يتكلّم بولس هنا منطلقاً من خبرته الشخصيّة. فالأنا يأخذ دور آدم ويبنيه على ضوء خبرة من الصراع. فما هو صحيح في كل انسان صحيح فيه. وخبرة الخطيئة والموت التي عرفها قد يعرفها كلّ انسان. رج مز 69: 77؛ ق مز سل 5: 8؛ مد 3: 19 ي؛ 11: 3 ي. وبولس يستعمل صيغة المتكلّم المفرد في 1 كور 10: 29- 30؛ غل 2: 18- 20. فمن نظرته المسيحيّة الآن، يرى الحقبة كلها تحت سلطة الخطيئة والموت، فتضمّ اليهودي الذي اعتبر نفسه بلا لوم فافتخر (2: 21- 29). فكمسيحيّ هو يرى الاهتداء (اهتداءه واهتداء غيره) كتحرير من سلطة الخطيئة والموت (5: 21؛ 6: 2، 13؛ 2 كور 3: 6). عاد الرسول إلى ماضيه كفرّيسيّ فرأى كم خدعته الخطيئة (آ 11).
«فلما جاءت الوصيّة». هو رجوع إلى تك 2- 3. فالانسان الذي خُلق (تك 2: 7) أعطيت له الوصيّة (تك 2: 16- 17). وجاءت الخطيئة والحيّة مع الوصيّة على لسانها (تك 3: 2). هناك من رأى مقابلة بين قَبْل سيناء وبعد سيناء. «أنازاوو»: عاد إلى الحياة من جديد. إن الشريعة خلقت الخطيئة، ولدتها. لا يدرس بولس أصلَ الخطيئة، بل يرى في واقعها قوّة في الخبرة البشريّة (5: 12).
«أنا متّ» (آ 10). هي طريقة أخرى بها يقول الرسول ما قاله في 5: 12- 21. أنا= آدم= البشر= كل انسان، عبرَ تحت سلطان الموت الذي هو طرد من حضرة الله (وشجرة الحياة) ونهاية لا مفرّ منها في فساد ماديّ ومعنويّ. هناك من فصل هذا الموت عن «الموت الصالح» (6: 2، 7، 8؛ 7: 24): موت آدم ومع المسيح (6: 2- 11؛ 7: 6). هو عمل واحد لحكم واحد بالموت (تك 2: 16- 17). وهو أمر آخر أن يموت الانسانُ موته (6: 16، 21، 23؛ 7: 5).
«الوصيّة التي هي للحياة». «اوراتي». رج «ن م ص» في العبريّة: وُجد، برهن أنه هنا. أكانت الوصيّة هنا لتحمل الحياة، لتقود إلى الحياة، وهي حياة لا نمتلكها، أو لتنمي الحياة التي نملكها؟ إن عبارة «إلى الموت» تجعلنا نأخذ بالخيار الأول. ولكن الشريعة لا يمكن أن تقود إلى الحياة. ولكن الحلّ هو: لو عاش آدم حسب الوصيّة (تك 2: 16- 17)، لنعم بحرية الوصول إلى شجرة الحياة (تك 3: 22). ومهما كان مقصد الله من الشريعة، فالواقع عند بولس هو أنها قادت إلى الموت.
«لأن الخطيئة» (آ 11). آ 11 أ تكرّر آ 8 أ مع «بالوصيّة». رج تك 3: 13: خدعتني الحيّة فأكلتُ. ق 2 كور 11: 3 (الحيّة خدعت حوّاء)؛ 1 تم 2: 14 (خُدع آدم وخُدعت المرأة). ربط الله التحذير من الموت بالوصيّة. استعملت الحيّة الوصيّة، فحرّكت العصيان على الأمر الالهيّ. أجل، استعملت الخطيئة وصيّة الله، فجاءت بالموت وسلّطته على هذه الحقبة من حياة الانسان (3: 12).
ج- الشريعة مقدّسة (آ 12- 13)
«الشريعة ذاتها» (آ 12). «هوستي»، إذن. رج آ 4. أورد بولس «نوموس» (الشريعة) ثم «انتولي» «الوصيّة». هو لا يتكلّم عن وصيّة واحدة، بل عن الشريعة ككلّ، كما تكلّم عن البشريّة ككل، في آدم نموذجها. هناك من رأى في «انتولي» قداسة كلِّ وصيّة بمفردها.
صوّر بولس الوصيّة «مقدسة» (هاغيوس). هي شريعة الله (1: 7). فإن حرّكتها الخطيئةُ، فلا تحرّكها عن مقصد الله. هذا لا يعني أن موقف بولس غير متماسك، وإن هو تكلّم كلاماً إيجابياً عن الشريعة. أما في الماضي، فأشار إلى استعمال سيّئ للشريعة، بواسطة الخطيئة، وفي افتخار شعب العهد. هنا نتذكّر 4 عز 9: 37 الذي يُبعد عن الشريعة كلَّ لوم. فهي مثل اسرائيل بعيدة عن الخطيئة والسقوط (4 عز 9: 29- 37). والشريعة «بارة» (ديكايوس)، عادلة. هي تحدّد السلوك إلى العهد بين الخالق والخليقة (أو بين الله واسرائيل). نلاحظ هنا أن بولس لا يُنكر هذا الدور للشريعة، بل يُنكر خطأ شعبه الذي يعتبر الشريعة قاعدة، ولكنه لا يفهم ما الذي تدعو إليه. والشريعة صالحة (أغاتي). يوافق عليها الجميع، وليس الشعب اليهودي وحده. هذه السمة الأخيرة سيستعيدها بولس في الآية التالية (آ 13). وكذلك في آ 18- 19.
لا يفكّر بولس أن إساءة استعمال الشريعة بيد الخطيئة (آ 8- 11) نزع عنها صفة شريعة الله، الدافعة خلائقه ليعملوا مشيئته، والحاملة الخير إلى عملهم. ويرى أن المعصية والموت هما جزء من مخطّط فيه تنجو الخليقةُ ممّا يدمّرها. إن عمل الشريعة هو أن يقوّي قدرة الخطيئة من أجل الموت، ولكن أيضاً من أجل النجاة من قدرة الخطيئة (6: 7، 10).
«فهل صار الصالح لموتي» (آ 13). طُرح السؤال بقوّة كما ننتظر من شخص غارق في الإيمان اليهوديّ والتقليد حول وجهتَي الشريعة السلبيّة والايجابيّة مع نظرة بلاغية. من جهة، وصفُ الشريعة أنها صالحة، يتواصل في قول يماهي بين الشريعة «والخير» (أم 4: 2). ومن جهة ثانية، استعمال الخطيئة للشريعة من أجل الموت، تلخّص في: صار موتاً لي (آ 7). «كلا». رج 3: 4. «ولكن الخطيئة». التوازي مع آ 8 واضح مع تدرّج في البرهان. «فاينوماي»، ظهر (للاحساس أو الادراك العقليّ)، تجلّى، رؤي أنه. الفكرة هي أن الشريعة نزعت القناع عن الخطيئة فبيّنتها كما هي، فعُرفت أنها خطيئة.
«وتذرّعت بالوصيّة» «كات. هيباربولي». إلى أقصى الحدود. لا تستعمل في العهد الجديد إلا عند بولس 1 كور 12: 31؛ 2 كور 1: 8؛ 4: 17؛ غل 1: 13. إن هدف بولس هو أن يخفّف قوّة انتقاده للشريعة بعودةٍ إلى وظيفة الشريعة كما يقبلها اليهوديّ، وأن يُعطي الأولويّة للفظ «خاطئ» لليهوديّ. ولكن المقصد الرئيسيّ في إبراز الشريعة التي استعملتها الخطيئةُ والموت، هو جزء من مخطّط الله العميق لكي يكشف طابعَ الخطيئة وما نتج عنها. الموت هو أجرة الخطيئة وثمرة الخطيئة.

3- خلاصة لاهوتيّة
في ف 6، أبرز بولس عدم التواصل بين الحقبة القديمة والحقبة الجديدة (6: 2- 11. ثمّ القطع والانتقال في موت المسيح وقيامته). وأتبع ذلك بإرشاد يدعو إلى الطاعة التي تقود إلى البرّ. وهنا أبرز أيضاً عدمَ التواصل في لغة الشريعة، فصوّر الشريعة على أنها تنتمي إلى الحقبة القديمة، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالموت كعامل فاعل مع الخطيئة. مثلُ هذا العرض يطرح أسئلة مقلقة حول نظرة بولس إلى الشريعة.
في آ 7، طُرح السؤال، والطرح مبرَّر. ماهى بولس بين الشريعة والخطيئة، ولكنه ضمّهما ضماً وثيقاً فجعل الشريعة حليفة الخطيئة وعاملة معها. «أتكون الشريعة خطيئة»؟ أجاب بولس عائداً إلى خبر آدم في تك 2- 3: العلاقة بين الشريعة من جهة، والخطيئة والموت من جهة ثانية، تُصوّر في بداية سفر التكوين. انطلق بولس من خبرته، فالتقى بخبرة كل انسان مع آدم نموذج الانسان.
وأعلن الرسول كحقيقة شاملة، أن الخطيئة تُختبر في الشريعة، وأن الشهوة تُعرَف بواسطة الشريعة التي تمنع الانسان أن يشتهي. هكذا قدّم مفتاح آ 5 (الشهوات الخاطئة التي عبر الشريعة)، وجعل العبارة في قسمين: الشريعة تحرّك الخبرة الحاليّة للخطيئة وتجعل المشتهي واعياً لرغبته المحرّمة. هذا ما يعود بنا إلى الانسان، إلى كل انسان. خُلق الانسان وأعطيت له الوصيّة. ولكنه عصا وصيّةَ الله.
وتشرح آ 8 أيضاً العلاقة بين الشريعة والخطيئة مع عودة إلى سقطة آدم. فالحيّة جسّدت الخطيئة. كانت في الجنة قبل سقطة الانسان، ولكنها ما وجدت مناسبة لتهاجم الانسان إلى أن جاءت الوصيّة. بواسطة الوصيّة، استطاعت الخطيئة أن تجرّب آدم، وتخلق فيه أول خطيئة شهوة. هذا ما يختلف عن الشريعة، ولكنه يستفيد من الشريعة ليُفسد وظيفة الشريعة، بحيث إن الوصيّة نفسها لا تجعل بعدُ الانسان واعياً أن رغبته شهوة. كل هذا عمل الخطيئة.
غير أن بولس ما قال إن هدف الشريعة إعطاء حياة للخطيئة. لقد سيطر على فكره خبرُ آدم. فالخطيئة (أي الحيّة) كانت بلا قوّة، وما لها وصول إلى الانسان بلا الشريعة. فحين دخلت الشريعة، أعطت الخطيئةَ مناسبة لتأسر الانسان في الموت. لهذا، فالتحرّر من الشريعة يُنهي سلطة الخطيئة والموت (7: 1- 6).
مع آ 9- 10 لن يعود بالامكان أن نعود إلى آدم. معه نقدر أن نميّز بين قبل وبعد الشريعة. قبل أن تأتي الوصيّة، الحياة. بعد الوصيّة، الخطيئة والموت. هي علاقة وثيقة بين الخطيئة والموت، ولا مهرب من الموت لحياة تعيش تحت سلطة الخطيئة. «مُتّ» أنا. ذاك هو وضع آدم. «مُتنا» (آ 6). يتماهى المؤمنون مع المسيح في موته الذي يعمل ملء عمله في موت الجسد وقيامته. موتٌ نشارك فيه المسيح هو آخر نتاج الخطيئة، وهو في الوقت عينه باب إلى الحياة مع المسيح. إن الخطأة لا يُفلتون من الموت الذي هو ثمر خطيئتهم، ولكنهم يستطيعون أن يحيوا لأن المسيح قاسى الموت معهم ولأجلهم. فحين نتعرف إلى وجهتَي الموت هاتين، نفهم قول بولس حول الشريعة بوظيفتها السلبيّة ووظيفتها الإيجابيّة. سلبيّة لأنها تربط الخطيئة بالموت. وإيجابيّة لأنها لا تترُك للخاطئ خياراً للموت سوى موت المسيح.
«الوصيّة التي هي الحياة». الحياة في الفردوس نظّمتها وصيّةُ الله. فلولا تدخّل الخطيئة، لقادت الوصيّةُ إلى الحياة وكوّنت الحياة. ولكن بما أن الخطيئة تدخّلت، صار دورُ الوصيّة بأن تحرّك الموت، أن تقوّي الموت كنتيجة عبوديّة الخطيئة والأهواء الخاطئة. ذاك هو موقف اليهوديّ بالنظر إلى الشريعة (لا 18: 5). ولكن من فكّر بالشريعة كحاملة الحياة، جهل حضور الخطيئة وقوّتها. فوضعُ اسرائيل الحالي في افتخاره بالشريعة كبرهان على حياته أمام الله، صار علامة حكم بالموت من قبل الله، في كل من هذه الاندفاعات إلى الخطيئة.
إن آ 11 تكرّر ما قيل في آ 8 كصدى لخبر التكوين مع كلام عن الخطيئة والوصيّة والموت. ثم جاء دور الشريعة بالنسبة إلى الخطيئة والموت. هو كلام عن خداع. أترى خدع الله الانسانَ الأول؟! ولكن الانسان لم يفهم لماذا أعطى الله الوصيّة. هي أعطيت للحياة. غير أن آدم خسر وضعه وامتيازه. مثل هذا الخداع الذي سمّم علاقات الانسان، قد بيّنه بولس في 1: 18- 32.
في آ 12، قدّم بولس استنتاجاً في الجواب على سؤال سابق. هل الشريعة خطيئة؟ هو ينكر كلَّ معادلة بين الاثنين. مهما كانت العلاقة بين الخطيئة والشريعة، ومهما استعملت الخطيئةُ الوصيّة، فالشريعة نفسها هي مقدّسة، والوصيّة نفسها مقدّسة وعادلة وصالحة. الشريعة هي عطيّة الله. خدعت الخطيئةُ الانسان، ولكن الله لم يبدّل مقصده من أجل الانسان. الشريعة ما زالت مقدّسة ومقبولة لدى الله. والوصيّة ما زالت عادلة وهي تحدّد بوضوح أن علاقة الانسان بالله، تتأسّس على الطاعة. أما الوصيّة فصالحة للانسان في مختلف أبعاده الفرديّة والاجتماعيّة.
ولكن كيف يقدر بولس أن يقول هذا بعد أن صوّر الشريعةَ كوسيلة للموت (آ10- 11)؟ إن هو لم يوازِ بين الشريعة والخطيئة (آ 13)، لم يصوِّر الشريعة كقوّة للموت. ولا يمكن أن تُلامَ بسبب وجود الموت. قد تكون الشريعة حكمت بالموت، ولكن السبب الحقيقيّ للموت هو الخطيئة، التي عملت عمل الخداع، فصارت الشريعةُ عاملَ حكم على الانسان. «ولكن الخطيئة». إن وظيفة الشريعة في ربط الخطيئة بالموت، يمكن أن نراها من زاوية أخرى. من جهة، استعملت الخطيئة الوصية لتحرّك رغبة انتجت الموت. ومن جهة ثانية، بيّنت الشريعة ما هي الخطيئة في الحقيقة. وما عملته الشريعة في انتاج الموت (آ 5 عبر ما هو صالح، آ 13)، ينضمّ إلى ما عملته هذه الشريعة نفسها في إظهار طابع الخطيئة. فالخطيئة التي أكملت مسيرتها عبر الشريعة، بيّنت على أنها قوّة قائمة ولا تقدّم للانسان سوى الموت. هي الشريعة التي تستغلّها الخطيئةُ فتصبح قوّة حكم على الانسان وانتقالاً من الموت إلى الحياة. هذه الشريعة تكشف طبيعة الخطيئة الحقيقيّة كقوّة من خارج ملكوت نعمة الله، كقوّة تعارض إرادة الله الصالحة من أجل البشر. ومع أنها قوّة تربط الخطيئة بالموت وتحدّد نتائج عصيان الانسان (4: 15)، إلاّ أنها ما زالت تقوم بدورها الذي حدّده الله، فتميّز الخير والشرّ، وتخدم خير الانسان الأخير، وتبيّن له أن خيار الإيمان المتواضع هو الواقع الذي يجب أن يأخذ به.

الخاتمة
كان بولس قد ربط ربطاً متيناً بين الشريعة والخطيئة. لكن الشريعة تأتي من الله، وبالتالي ليست خطيئة. غير أني، أنا الانسان، أتلقّى الشريعة كأنها وصيّة غريبة عني. وتبرز الشقّةُ بين الله والانسان الذي يواجه الشريعة ويعارضها، وأوّل وصيّة: لا تشته. يشتهي الانسان أن يكون الله. في هذا الوضع، تستفيد الخطيئة من الوصيّة لكي تكشف عن نفسها. إذن الخطيئة شيء ميّت بدون الشريعة. ويبقى السؤال الذي يُطرح معاً: لماذا الخطيئة؟ لا جواب على هذا السؤال، على المستوى النظري، بل على المستوى العمليّ. ما يقول لنا الانجيل هو أن الله أقوى من الخطيئة. لا نستطيع أن ننكر الخطيئة. فهي حاضرة هنا. غير أنها تبقى سراً لا يعرفه سوى الله. وهنا يبرز خطان: من جهة، الشريعة مقدّسة عادلة، صالحة. وهي تعبير عن عناية الآب الذي يقول لنا: إحذروا أن تسلكوا في هذا الطريق. ومن جهة ثانية، ترسل الخطيئة مداها: نريد أن نسلك في هذا الطريق. هو صراع داخلي نجاه شريعة هي كلمة الله، وبالتالي روحيّة، وميل إلى الخطيئة يجتذب الانسان. عن هذا الصراع يتكلّم الفصل التالي.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM