الفصل الحادي والعشرون: خطبة يسوع بعد العشاء

الفصل الحادي والعشرون
خطبة يسوع بعد العشاء
22: 21- 30

ويتواصل خبر العشاء الأخير في انجيل لوقا، فيوجّه يسوع كلامه إلى تلاميذه بعد الطعام. في مقطع أول (22: 21- 23) أعلن بصريح العبارة أن واحداً من تلاميذه سوف يسلمه. أنه واحد من الذين يأكلون معه الآن على المائدة. في مقطع ثانٍ (22: 24- 26) ردّ على التلاميذ الذين ما زالوا على نظرتهم إلى المسيح المجيد، الذين ما زالوا يتساءلون عن الأكبر بينهم، عن الأول. وفي مقطع ثالث (22: 28- 30) وعد الذين ظلّوا على الأمانة معه خلال حياته على الأرض، ورغم عداوة السلطات اليهودية، وعدَهم بالملكوت، وعدَهم بسلطان من نوع آخر.
1- نظرة عامة
أتمّ يسوع قصد الله وأكل عشاء الفصح مع تلاميذه. ولكن هذا العشاء حمل في ذاته ثمار الموت. فيسوع يبذل ذاته "من أجلكم"، يهرق دمه "من أجلكم". وها هي قد بدأت مسيرة الموت مع خيانة يوضاس.
أ- الخيانة التي تهدّد الرسل
تبدو الخيانة نفسها مع ما فيها من شّر وكأنها دخلت في قصد الله. فالربّ يحوّل الشّر خيراً، وخطايا البشر تجعلهم خارج مخطّطه، ولكن مخطّطه يتابع مسيرته. ثم إنّ يسوع ذاته قبلَ مسيرة الموت بملء إرادته، وهذا ما سوف يعبرّ عنه في صراعه في جتسيماني. ولكنّه منذ الآن قال: "ابن الإنسان يسير ويمضي إلى الموت، كما هو محتوم" (آ 22). هكذا قالت الكتب (رج أع 8: 23؛ 10: 42؛ 17: 31). وإذ يتبعها يسوع فهو في الوقت نفسه يتبع إرادة الله.
حين "دلّ" يسوع على الخائن، لم يذكر بوضوح نصاً كتابياً. كان باستطاعته أن يورد مز 41: 10 (صديقي الذي وثقت به أكل خبزي وانقلب عليّ) كما فعل مر 14: 18. ولكنه استلهمه بشكل غامض. إن تقديم الأمور على هذا الشكل يدلّ على أن الخيانة ليست "قضية" يهوذا وحده. في الواقع، كل من التلاميذ معنيّ بها، ونحن أيضاً الذين نقرأ الانجيل اليوم.
لما جعل لوقا إعلان الخيانة بعد تأسيس الافخارستيا، ولما وزّع المراحل مع أداة "بلان" (مع ذلك) في آ 21 وآ 22، دلّ على أننا لسنا أمام حدث طارئ لم يكن متوقعاً. دلّ على أننا أمام "طريق". طريق يسير فيه يسوع إلى الألم ثم إلى المجد. طريق يسير فيه الخائن فيصل به رغم محاولات يسوع إلى اليأس. طريق به يمرّ الخلاص الذي يتمّه ابن الإنسان. طريق هو طريق عبد الله المتألم الذي تحدّث عنه أشعيا فدلّ على تضامنه معنا: "كلنا كالغنم ضللنا، مال كل واحد إلى طريقه، فألقى عليه الرب إثم جميعنا" (53: 6). إنه "مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا، وبجراحه شفينا" (آ 5). تلك هي الطريق التي أرادها الله لابنه من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر.
وشدّد لوقا في الوقت عينه، على أنّ في قلب هذا العشاء الذي فيه يغذّي يسوع تلاميذه، يتفجّر الجدال كما في بداية الخليقة: كل واحد يلقي التبعة على الآخرين، كل واحد يريد أن يتبرّر. هكذا فعل آدم فقال للرب إن حواء هي التي أغوته. وهكذا فعلت حواء. خطيئة البدايات ما زالت حاضرة في حياة الرسل وفي حياتنا. ولكن التلاميذ ما أرادوا أن يعوا خيانتهم، ونحن أيضاً. في هذا المعنى قال القديس بولس: "في الليلة التي أسلم فيها يسوع، أخذ خبزاً" (1 كور 11: 23). الرب أسلمه عنا جميعاً. ونحن أيضاً أسلمناه بخيانتنا. هذا ما يدل عليه المقطع الثاني بما فيه من بحث عن المقام الأول ساعة يمضي المسيح في طريق الموت.
ب- الخدمة المطلوبة من الرسل
قبل أن نبدأ المقطع الثاني، نتوقّف عند لفظة تفوّه بها يسوع: "الويل". لسنا هنا أمام لعنة. لسنا هنا أمام إعلان بالهلاك الأبدي ليوضاس. الويل يعني هو تعيسة هذا الرجل. يا ليته يعي وضعه. نحن هنا في مرحلة أولى من مراحل يسوع لكي يردّ يوضاس إلى نفسه. وستكون مرحلة أخرى في بستان الزيتون: "أبقبلة تسلّم ابن الانسان"؟ وسمّاه باسمه "يهوذا" (آ 48).
وألغى لوقا القول القاسي الذي لا تتحمله أذن قرائه: "كان خيراً له أن لا يولد" (مر 14: 21ج؛ مت 26: 24ج). وسيعود إلى مصير يهوذا في سفر الأعمال كما فعل مت 27: 3- 10. ساعة أراد بطرس أن يكمّل عدد الرسل الذي نقص بغياب يوضاس (يهوذا)، "تحدّث" عن ذلك الذي "انشقّ من وسطه، واندلقت أمعاؤه كلها" (أع 1: 16- 20). وربط بطرس ما حدث بالكتب المقدسة فبيَّن أنّ مصير يوضاس هو بين يدي الله. فلا نحكم عليه بمنطقنا البشري المبتور.
"وحصل" (اغاناتو دي). هذا فعل اعتدنا عليه في انجيل لوقا. حصل جدال، سيكون لنا بعده "خطبة ما بعد العشاء". ولكن هذه الخطبة ستتحوّل تدريجياً إلى حوار. ارتبطت آ 24 مع آ 23، لأنّ جميع التلاميذ معنيّون، سواء كنا أمام خيانة أم نكران. جميعهم يدفعهم الحسد والغيرة. نلاحظ هنا أن لوقا لم يورد حدث طلب ابني زبدى مع ردّة فعل رفاقهم (مر 10: 35- 45؛ مت 20: 20- 25). ولكنه استعاد بعض هذه الاشارات في آ 25- 27. كما أنه لا يروي كيف ترك الأحد عشر يسوع حين قبُض عليه (مر 14: 50؛ مت 26: 56 ب؛ رج يو 18: 8- 9). هو لا "يهاجم" الرسل. بل يشدّد على ثقة يسوع بهم رغم ضعفهم. فهو يعرفهم كل المعرفة. وسيعود لوقا فيبيِّن لنا أنّ الرسل كانوا عند الصليب مع النسوة. إنهم "الأصدقاء" الذين يتحدّث عنهم 23: 49.
إن المزاحمة الموجودة بين الرسل أعطت يسوع المناسبة لكي يقدّم لهم ولنا هذا التنبيه. تساءلوا: "من يبدو الأكبر بينهم" (آ 24؛ رج مت 18: 1؛ مر 9: 34)؟ هذا هو السؤال حول السلطة، وهو يذكّرنا بأول الجدالات في الهيكل (20: 1- 8: السلطة المعطاة ليسوع). تجاه سياسة التسلّط الذي تمارسه الأمم والملوك، عرض يسوع ستراتيجية من نوع آخر، هي ستراتيجية "الخدمة". حينذاك لن يحُسب حساب للمركز ولا للقوة ولا للقيمة الشخصية؟ بل نعترف بالآخرين، نتخلىّ عن حقوقنا، نحسب الآخرين أفضل منا، كما قال القديس بولس.
هنا ندرك ما في هذا البعد من ثورة، من دمار لنظرتنا السابقة ونظرة العالم: ما يميّز مجموعة التلاميذ هو الجهوزيّة التي لا شرط فيها، هو الاستعداد التام للخدمة التي لا تعرف حداً. نجد هنا لفظة "اورجيتس" أي المحسن. أعطي هذا اللقب بشكل خاص لبعض الملوك اليونان في مصر. ومنذ الامبراطور أوغسطس قيصر، سمّي الأباطرة الرومان: مخلّصي الكون والمحسنين إليه. أما الموقف المسيحي، فهو موقف السامري الذي يجعل نفسه في خدمة الجريح دون أن يمنّنه ويفرض نفسه عليه (10: 29 ي). الموقف المسيحي هو الذي لا تعرف شماله ما فعلته يمينه (مت 6: 3).
ونجد لفظة أخرى "هيغومينوس": الموجّه، القائد. تدلّ هنا على رئيس الجماعة سواء كانت روحية أو زمنيّة. تسميهم عب 13: 7، 17، 24 "المرشدين"، "المدبّرين" (رج أع 15: 22). أترى احتاج رؤساء الجماعة في كنيسة لوقا إلى مثل هذا التنبيه بعد أن أخذوا بطريقة عيش الأمم! ثم لفظة "نيوتيروس". تدلّ في العالم الفلسطيني على الاصغر، على الذي يقف في أدنى رتبة على مستوى السلطة. قد نكون أمام تلميح إلى مجموعة "الشبّان" الذين تسلّموا بعض الخدم في الكنيسة (أع 5: 6، كفّنوا حنانيا؛ 1 تم 5: 1: تي 2: 6؛ 1 بط 5: 5).
أين نجد ينبوع هذا الموقف المسيحي؟ في يسوع نفسه. في العمل الذي به سلّم نفسه للبشر من خلال تأسيس الافخارستيا. وتوضح آ 27 هذه النقطة فتقدّم نصاً يوازي توصيات يسوع بعد أن غسل أرجل تلاميذه في يو 13: 12- 17: "إذا كنت أنا السيد والمعلّم غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أرجل بعض". نقرأ في مر 10: 45، "لأن ابن الانسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فداءً عن آخرين". لا يستعيد لوقا القول حول الفدية، بل يحتفظ فقط بموضوع الخدمة. قيل إن لوقا عاد إلى مر وأخذ ما أخذ، أو إلى تقليد أول عن عشاء الفصح. مهما يكن من أمر، لقد دلّ الانجيلي أن يسوع يعتبر عطاء ذاته من خلال الافخارستيا (22: 27) خدمة ما بعدها خدمة. وسيتوسّع يو 13: 1- 20 في وجهتَي هذا القول، في الوجهة الإرشادية (نخدم بعضنا)، وفي الوجهة السوتيريولوجية (لا يكون لك نصيب معي، في آلامي ومجدي).
في الواقع، يبدو أنّه وُجدت رسمة قديمة نكتشفها عبر الفنّ الادبي المسمّى "وصية" (انسان يموت يوصي الذين حوله). هذه الرسمة هي أساس الخطبة اللوقاوية فتربط مواضيعها بعضها ببعض. هي رسمة "الخروج" الذي أراد يسوع أن يتمّه في أورشليم (9: 31). فالنص الذي ندرس يستلهم مسيرة تحرير اسيرائيل ومسيرته في البرية كما في سفر الخروج: الفصح (خر 12). المنّ (ف 16). الجدال (ف 17). تأسيس القضاة (ف 18، قال يسوع: تجلسون لتدينوا)، العهد ووساطة موسى (ف 19- 24).
هذا ما نجده في المتتالية السابقة للوقا: الفصح قد تمّ (آ 19- 20). وتحرّك الجدال الذي حرّكته الخيانة (آ 21- 24). وبدت الافخارستيا خدمة (آ 25- 27). تنظم "القضاة" (آ 31) وترتّب العهد (آ 28- 29)، وظهرت وساطة سمعان (آ 31- 32). ونستطيع أن نزيد تخاذل بطرس (آ 33- 34) ومسيرة الرسل الجديدة (آ 35- 38)، وهذا ما يوافق حدث العجل الذهبي وأمْر الرب إلى شعبه بأن يتابع المسيرة (خر 33- 34).
إن هذه الرسمة السابقة للوقا تبرز العشاء الأخير و"وصيّة" يسوع (الأخيرة) كتكوين شعب العهد الجديد الذي تحقّق في دم يسوع. استعاد لوقا هذا التقليد القديم وأبرز المتطلّبة التي تنبثق من "الخدمة". هذا ما يجب على الرسل وسائر الشهود أن يضعوه موضع العمل بعد موته (أع 1: 17، 25؛ 6: 1، 4؛ 11: 29؛ 12: 25؛ 20: 24؛ 21: 19)، ومهما تكاثرت المحن عليهم.
ج- المحن التي تنتظر الرسل
وتابع يسوع كلامه إلى هؤلاء الاثني عشر الذين لا يستطيعون أن "يخدموا، على مثال معلّمهم، والذين سيخونونه بطريقة تشبه من بعيد ما فعله يهوذا (يوضاس). وهكذا سلّم إليهم خدمة شعب الله. كما قال القديس بولس لشيوخ أفسس: "لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص" (أع 20: 28).
وتتسجّل آ 28 في هذه الخطبة لتدلّ على نظرة لوقاوية تضمّ زمن أعمال الرسل في رؤية نبوية، في قراءة لاحقة للأحداث على ضوء كلام الله: فشهود الساعة الأولى قد رافقوا يسوع منذ البداية (أع 1: 22)، وشاركوه في محنه (بايرسموي، رج أع 20: 19: أقاسي المحن) بانتظار أن يقاسموه موته. فمن أجلهم أعدّ الملكوت كما "أعدّه" له أبوه. استعمل فعل (دياتيتستاي) مرتين في آ 29. إنه يعني: جرّب من أجل (رج عب 9: 16). أعدّ بحسب الوصية، اتفاقية عهد. وموضوع هذا العهد، هذا الميثاق (دياتيكي، رج آ 20: ثبتّم معي. هذا هو أساس كل ميثاق) هو "الملكوت". لا "ملكوت الله" بحصر المعنى، هذا الملكوت الذي يرى تمام الفصح (آ 16، 18). بل الملكوت الذي يدشّنه بموته وقيامته: إنه "ملكوته" (آ 30، مائدتي في ملكوتي، رج 23: 24).
لقد "أعدّ" يسوع الملكوت رغم هجومات البشر (11: 16: وطلبوا آية ليجرّبوه؛ أع 20: 19)، بل رغم هجومات الشيطان (4: 13: جرّبه إبليس بكل تجربة) عليه، وعلى تلاميذه. وهذا الملكوت يبدو بشكل وليمة مسيحانية. وبفضل الافخارستيا التي سلّمها يسوع إليهم "لذكره" يجلس يسوع مع تلاميذه إلى مائدة واحدة. وهذا الجلوس قد بدأ منذ موته وقيامته. بل يدلّ على أنّ "ملكوت الله هو في داخلكم" (17: 21). وهو يتحقّق لجميع البشر ولجميع المجتمعات. هذا ما يسميه سفر الرؤيا: "مجيء ابن الانسان".
في العهد القديم أسّس "القضاة" ليكونوا في تصّرف الشعب (خر 18: 22). أسّسوا لـ "يخدموه" ويجعلوا السلام والعدالة تحكمان بين الناس. وهذا ما رتّبه يسوع بالنسبة إلى رسله: حمّلهم هذه الخدمة ليصلوا بها إلى كمالها.
في القول عن "العروش الاثني عشر" (عدد أسباط اسرائيل، ثم الرسل)، لا يتحدّث لو كما فعل مت 19: 28 عن "التجديد" (الولادة الجديدة)، وعن تنصيب الملك (رج مت 25: 31). هذا الإغفال له معناه. ففي نظره تشكّل "دينونة أسباط اسرائيل الاثني عشر" ممارسة حقيقية لرسالة الاثني عشر المدعوين لأن يشهدوا شهادة نبوية أمام أسباط اسرائيل، ليتحدّثوا عن تتمة المواعيد التي أعطيت للآباء، وأهمها رجاء القيامة (أع 26: 22- 23).
أخذ الرسل مكان رؤساء الشعب الذين رفضوا يسوع. وسيساعدهم "الشيوخ" أو "القسس". لقد لعب هؤلاء في الكنائسي الأولى (رج أع 11: 30؛ 14: 23؛ 15: 2، 4، 6، 22، 23) دوراً سيمتدّ طويلاً، فيكمّل ذاك الذي قام به الشيوخ في الجماعات اليهودية (7: 3؛ 9: 22؛ 20: 1؛ 22: 52؛ أع 4: 5، 8، 23؛ 6: 12؛ 23: 14؛ 24: 1؛ 25: 15). نلاحظ هنا مرة أخرى كيف يلغي لو العودة إلى نهاية الازمنة، الحاضرة في مت، ويشدّد على آنيّة (منذ الآن) الدينونة في الشهادة التي يؤدّيها الرسل المضطهَدون.
2- قراءة تفصيلية
أ- إنباء يسوع بالخائن (آ 21- 23)
"ها هو. انظروا" (ايدو). مع "بلان" (ومع هذا، لكن)، نحن في تعارض مع هذا الحدث الذي سبقه. "يد الذي يسلّمني". عاد لوقا إلى مر 14: 18، فتحدّث عن "يد" الخائن المتكئ إلى المائدة (رج 1 صم 24: 13- 15). لم تكن مواد مر 14: 18 ضرورية من أجل خبر لوقا، لأنه سبق وصوّر يسوع وتلاميذه بعد أن أكلوا. "معي". غابت هذه اللفظة من المخطوط البازي وغيره. رج مر 14: 8 أج. "على المائدة" أي على هذه المائدة التي نحن حولها. ستعود هذه اللانظة في آ 30 مع معنى مختلف.
"ابن الانسان" (آ 22). إحدى العبارات التي بها سمّى نفسه "يسوع الناصري". فيسوع هو الذي يستبق الدينونة، ويخلّص الخطأة، ويدشّن العهد المسيحاني. "يسير في طريقه". إستعمل مر 14: 21 فعل "هيباغان"، أما لوقا فاستعمل "بوريوماي" لأن يسوع يتحدّث عن مصيره الصاعد. هنا نتذكّر 4: 30 ساعة كان يسوع في الناصرة: "مرّ من بينهم ومضى". أجل، إن يسوع يواصل طريقه التي لا يمكن أن تقف هنا، بل تصل إلى أورشليم (13: 33).
"كما هو محتوم، مقرّر". تكلّم نص مر الموازي عن ابن الانسان "الماضي كما هو مكتوب". إنّ عبارة "كاتوس غاغربتاي" (كما هو مكتوب) نجدها في لو 2: 23؛ أع 7: 42؛ 15: 15. أما هنا، فيدخل لوقا لفظة أخرى بسبب نص العهد القديم الوارد في مر. وقال: "حسب ما هو محدّد". أي حدّده الله وقرّره. هذا هو المجهول اللاهوتي (رج 5: 20: غُفرت خطاياك. أي: غفرها الله). استعمل لوقا فعل "هوريزاين" (حدّد، قرّر) هنا، كما في أع 2: 23؛ 10: 42؛ 11: 29؛ 17: 26، 31، مع إشارة إلى إرادة الله لا أربعة مقاطع. وهكذا ربط لوقا مع هذه الجملة، خيانة يسوع بيد يهوذا، بمخطط الآب الخلاصي وتحقيقه في التاريخ. ويقوم هذا المخطط على خلفتة تقول بضرورة الآلام والموت.
"أخذوا يتساءلون" (آ 23). أعاد لوقا صياغة مر 14: 19. هو في الاصل سؤال يُطرح على يسوع. ولكن لوقا يجعله سؤالاً يتطارحه الرسل. "من منهم سيفعل". هذا السؤال هو صدى للفظاعة التي أحسّت بها المسيحية الأولى تجاه خيانة يسوع على يد أحد أخصَّائه. حسب الخبر اللوقاوي، يبدو أن يوضاس كان بينهم، لاسيّما وأن القارئ لم يعرف شيئاً عن انطلاقه (ق مت 26: 25؛ يو 13: 26- 30). نلاحظ أن هذا النص يحمل حضّاً للرسل وتحريضاً.
ب- من هو الاكبر (آ 24- 27)
"نشب نزاع بينهم". أي بين الرسل. نحن أمام مقدّمة عامة وغامضة. لا تذكر طموح ابني زبدى (مر 10: 35- 37) ولا حزن الآخرين (10: 41). لا يحتاج لوقا إلى إدخال مثل هذه التفاصيل في سياق يستعمل فيه أقوال يسوع حول الخدمة الرسولية. "من هو الاكبر"؟ من هو الأعظم؟ نحن هنا أمام صيغة التفصيل "مايزون".
"ملوك الأمم" (آ 25). أي ملوك الأمم الوثنية (رج 12: 30: هذه الأشياء تطلبها الأمم الوثنية في العالم). إنّ جواب يسوع (أو شرحه) لا يحلّ النزاع. ولن نعرف يوماً من هو الأكبر، من هو الاعظم. بل يشدّد على الطريقة التي بها نكون كباراً: نتبع يسوع.
"وأما فيما بينكم" (آ 26). لا شك لا أن هناك تمييزاً أو درجات في الحياة المسيحية. غير أن يسوع يقول إن على الاكبر أن يخدم الأصغر. لسنا هنا على مستوى السلوك ولا على مستوى طريقة الحياة. سبق للوقا وقال من هو الأصغر. "من يقبل هذا الطفل باسمي فإياي يقبل" (9: 48 أ).
"المتكئ أم الذي يخدم" (آ 27). هكذا يحكم المجتمع البشري على الناس. ولكنَّ حُكم يسوع هو غير ذلك. نتذكر 22: 8 حيث بطرس ويوحنا (دورهما مهم) أرسلا ليعدّا عشاء الفصح. عملا عمل الخدم. طرح يسوع السؤال وأجاب عليه أولاً بالكلام. ثم بالعمل. "أنا بينكم كالخادم". هذا هو موجز حياة يسوع وخدمته. وقد يكون هذا هو المعنى بالنسبة إلى عشاء الفصح حيث يخدم يسوع كما في انجيل يوحنا. حياة يسوع خدمة، وهي بذلك مثال للخدمة الرسولية.
ج- أنتم ثبتُّم معي (آ 28- 30)
أنتم أيها الرسل (آ 14). حضّهم يسوع على الخدمة المتواضعة. ألغى لوقا "الحق أقول لكم" كما في مت 19: 28. ونقرأ في المخطوط البازي بداية هذه الآية (آ 28): "أنتم نموتُم في خدمتي كمن يخدم". ولكن هذه الزيادة تبدو مشبوهة لأنها تعطي باعثاً آخر للمجازاة. "أنتم ثبتم". لقد ثبت الرسل مع يسوع خلال رسالته كلها، حتى ساعة رذلَه اليهود وقاوموه. كانت تجارب يسوع عديدة، ولم تأته فقط من إبليس، بل حتى من المقرّبين إليه. نتذكّر هنا (مر 8: 33) أنّ يسوع سمّى بطرس "شيطان" لأنه ليس بجانب الله، بل بجانب الناس. ألغى لوقا هذا التفصيل من انجيله، ولكننا أمام محنة لاقاها يسوع خلال رسالته على الأرض.
"أعدّ لكم (أهبكم) الملكوت" (آ 29). هذه هي المجازاة التي يقدّمها يسوع لرسله، لأنهم ثبتوا معه خلال محنه. سيشاركونه في مجده الملكي. نتعرّف هنا للمرة الأولى إلى ملكوت يسوع (رج 23: 42). هي قمة بالنسبة إلى نصوص سابقة (1: 32- 33؛ 19: 11- 27، 28- 40: مثل الدنانير: ملكوت الله موشك أن يظهر). نجد في هذه الآية صدى لعلاقة يسوع بأبيه وبأحبائه، كما سيتوسّع فيها الإنجيل الرابع (يو 15: 9؛ 17: 18، 21، 22 نج 20: 21). هناك مخطوطات تقرأ في بداية هذه الآية: أصنع عهداً لكم. أو: أترك لكم عهدي، وصيتي. إن زيادة "دياتيكي" على كلمات يسوع توجهنا نحو خطبة بشكل وصية. ولكنّ فكرة الوصية مستبعدة لأنّ الفاعل هو الله.
"تأكلون وتشربون" (آ 30). في وليمة ملكوت الله الذي ترثونه مع يسوع (رج 13: 29؛ 14: 15). نجد عبارة "العروش الإثني عشر" في مت 19: 28، وقد تعود إلى المعين. ألغى لوقا لفظة "اثني عشر" بسبب خيانة يهوذا، لا بسبب فهم واسع للقيادة الرسولية. أما صورة هذا القول فتعكس مز 122: 4- 5: أورشليم التي جاءت إليها الاسباط، أسباط الرب... جُعلت عروش للقضاء، عروش "بيت داود". هذا لا يعني أننا نحصر دور الرسل في "الدينونة والقضاء". فالعروش في لوقا هي عروش ملكية، والقضاء يعني الاهتمام بأمور الناس وتوجيههم (رج في العربية: قضى في الناس). وهكذا يكون الرسل "القوَّاد" في شعب الله الذي أعيد تكوينه.
3- يسوع ورسله قبل الآلام
أ- المقطع الأول
بعد العشاء وجّه يسوع كلامه إلى رسله. هنا اختلف لوقا عن مرقس الذي أنهى خبر العشاء بالترانيم والمدائح، ثم ذهبوا إلى بستان الزيتون. صوّر الانجيل الثالث يسوع وهو يخطب في رفاقه (22: 21- 38)، وبهذا بدا فريداً بين الإزائيين. غير أنه يتوافق مع التقليد اليوحناوي. هذا على مستوى الخطبة. أما على المستوى التفصيلي، فالاختلاف كبير جداً. تأتي الخطبة بعد العشاء عند يوحنا بشكل وصية منسوبة إلى شخص يقول كلامه الأخير قبل موته. أما لوقا، فلم يقترب إلا قليلا من الفن الادبي، فنّ "الوصية".
تتألف خطبة لوقا من أربعة أقسام غير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً. (1) إنباء يسوع بخيانة يهوذا (آ 21- 23). (2) ملاحظات يسوع حول تلاميذه ومكانتهم في الملكوت (آ 24- 30). (3)- إنباء بنكران بطرس ليسوع (آ 31- 34). (4) قول حول السيفين (آ 35- 38). أما في هذا الفصل فنتوقّف عند القسمين الأوّلين (آ 21- 30).
إنّ آ 21- 23 هي آيات تدوينية. أعاد لوقا صياغة مر 14: 18- 21 أو ما يوازيه. وآ 24- 30 متعدّدة العناصر. ألّف لوقا آ 24. وأعاد في آ 25- 26 صياغة مر 10: 42- 45. عادت آ 27 إلى اللوقاويات وجزء من آ 28- 30 إلى المعين. وجاءت آ 31- 34 أيضاً متعدّدة العناصر. جاءت آ 35- 38 من اللّوقاويات.
قال بعض الشّراح إننا أمام نص سابق للوقا. في الواقع، لوقا هو مسؤول عن دمج مواد جاءت من مر واللوقاويات والمعين. كل هذا أدخله لوقا في خطبة بعد العشاء الأخير.
ما معنى هذه الآيات؟ إنّ إعلان يسوع لا يكشف فقط معرفته بأنَّ أحد أخصّائه سيخونه خيانة تقوده إلى الموت، بل يدلّ على أنه لم يكن ينتظر إلا الصدق والأمانة. وهكذا يبرز التعارض بين مشاركة يسوع في العشاء الاخير والعمل الذي يستعدّ يهوذا لأن يقوم به. لا شكَّ في أن يسوع يتضايق ويتألمّ من هذا الوضع، ولكنه يعرف أنّ مثل هذه الخيانة دخلت في مخطّط الله وعلمه السابق. صارت جزءاً من مصير ابن الإنسان. وهكذا يكون هذا المقطع خطبة إرشادية: إن المشاركة في عشاء الرب ليست كفيلة بأن تمنع التلميذ من خيانة معلّمه. هنا نتذكَّر كلام يسوع في بستان الزيتون: "صلّوا لئلا تدخلوا في تجربة" (22: 40).
ب- المقطع الثاني
يتضمّن هذا المقطع كلمات يسوع حول نزاع دار بين الرسل الذين كانوا في العشاء. لا نجد ما يوازي هذا الحدث في خطبة بعد العشاء، ولكن لنص آ 25- 26 موازاة في مر 10: 42- 45 (رج مت 20: 25- 28. ولنص آ 28 و30 صدى في مت 19: 28. والنتيجة هو أن هذا المقطع اللوقاوي متعدّد العناصر كما سبق وقلنا. إنه يدلّ على اهتمام لوقا بأن يكون له خطبة بعد العشاء الأخير.
احتفظت آ 25- 27 بأقوال يسوع، وجاءت آ 24 بشكل مقدمة. هي أقوال تحريضية مع صيغة المتكلم المفرد في آ 27 ج (أنا في وسطكم كالذي يخدم).
ج- المقطع الثالث
نجد في هذا المقطع ما ينتظر الرسل لأنهم رافقوا يسوع في محنه. إن آ 28 (ثبتم معي) تجد ما يوازيها في مت 19: 28ج (من أراد أن يتبعني). والجزء الأول من آ 30 يقابل الجزء الأخير في مت 19: 28 (هذا يعني أننا في المعين).
لقد احتفظت آ 28- 30 بأقوال يسوع، فجاءت بشكل وصيّة من قبل شخص ذاهب إلى الموت. فبعد النصيحة عن الخدمة التي أعطاها الرب لتلاميذه في آ 25- 27، ها هو يشدّد على الأمانة التي أظهرها الرسل تجاه يسوع في محنه. ولهذه الامانة جزاء مزدوج: مشاركة في مهمة يسوع كملك، مشاركة في مهمته كديّان.
علّم يسوع رسله أن يتطلّعوا إلى المشاركة معه في المجد، لا إلى التميّز بعضهم عن بعض على مستوى الاعتبارات الأرضية (من هو الأعظم). فالجماعة في هذا المجاس لا ترتبط بالأعظم في نظر البشر المائتين، بل بثباتهم معه في محنه. وهكذا تُوجّهنا كلمات يسوع إلى الآلام الآتية على مثال ما سنسمع مع تلميذي عمّاوس: "كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام قبل أن يدخل في مجده" (24: 26).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM