الفصل الثاني عشر: المسيح ابن داود وربّه

الفصل الثاني عشر
المسيح ابن داود وربّه
20: 39- 47

حتى النهاية، حاول يسوع أن يعيد الشعب اليهودي ورؤساءه إلى رشدهم، أن يدعوهم إلى الإيمان به. وطلب منهم بطرق مختلفة أن لا يظلّوا على عماهم فيرذلوه. لم يكن يسوع بارداً تجاه مضطهديه ولا قاسياً. بكى (19: 41) على قساوة قلوبهم، وكان هدفه الرئيسي نداء لهم إلى التوبة. هو لا يفرح بأن الدينونة ستفتقدهم، بل هو يقوم بمحاولة أخيرة ليخلّصهم من جنونهم. هذا هو معنى المقطعين الأخيرين اللذين ندرسهما في نهاية ف 20.
في الأول (20: 41- 44) تابع يسوع تعليمه في الهيكل، فطرح بنفسه سؤالاً على سامعيه، هو في الوقت عينه سؤال تأويلي. إذا كان مز 110 المنسوب إلى داود في العهد القديم، يشير إلى المسيح "الرب"، فكيف يكون المسيح ابن داود؟
في الثاني (20: 45- 47) أرسل يسوع إلى الشعب تنبيهاً حول طريقة عيش الكتبة. إنتقد حبّ الظهور عندهم، والاعتداد بالنفس، والكذب والغشّ. ستحلّ بهم قريباً دينونة الله القاسية.
1- نظرة عامة
توزّعت الجدالات ف 20. كان الجدال الأول (آ 1- 8) حول سلطة يسوع بعد أن طرد الباعة من الهيكل. وقبل الجدال الثاني ودفع الجزية لقيصر (آ 20- 26)، وردَ مثلُ الكرّامين القتلة، ففصل بين الشعب ورؤسائه الذين هم خصوم ليسوع. ودار الجدال الثالث حول القيامة (آ 27- 38). لا يقوم فقط ابرهيم واسحق ويعقوب، كما يقول التقليد، بل إن جميع البشر "يحيون في الله". فهدفُ حياة كل إنسان (والمسيح أولاً) هو الآب، لا آخرة مبنيّة على صورة هذه الحياة الحاضرة.
ووافق بعض الكتبة يسوع في ما قاله. فختم لوقا كلامه بهذه العبارة. "لا يجرؤوا بعد أن يسألوه عن شيء" (20: 40).
إذا قابلنا هذه الجدالات الثلاثة مع ما قيل عن الملكوت في ف 13، اكتشفنا تماسكاً بين المقاطع هنا وهناك. ففي 13: 28، كان إبراهيم واسحق ويعقوب في الملكوت مع جميع الأنبياء. وجاء أناس من المغرب والمشرق، من الشمال والجنوب، فاتكأوا إلى المائدة في الملكوت. فالأنبياء، ومواطنو الامبراطورية، والأجيال التالية، وجدوا نفوسهم في هذه الآيات. وما أعلنه يسوع بمناسبة هذه الجدالات، يدلّ على انفتاح لا يصدّق: فبرنامجه أمين لتعليم الأنبياء، وهو واسع وسع الامبراطورية فيضمّ جميع أجيال البشر. وسلطة يسوع (سؤال طُرح في بداية ف 20) تأتيه من بنوّته الإلهية. فعنه وحده نستطيع أن نقول: "إنه ابن الله. إنه ابن القيامة" (20: 36).
فمن هو يسوع هذا؟ يبقى السؤال مستتراً. ويجيب عليه يسوع بسؤال: "كيف يقال أن المسيح هو ابن داود" (آ 41)؟ لا يقول يسوع من هو. فالإيمان هو حوار بين الله والإنسان. وسيقول يسوع: "وأنتم من تقولون إني هو" (9: 20)؟ وفي النصّ الذي ندرس، يتكلم يسوع وحده، وهو ينتظر جواباً. قال التقليد المعروف إن المسيح هو "ابن داود" (2 صم 7: 12- 16؛ 1 أخ 17: 11- 14). ويقال أيضاً إن المسيح هو "ربّ داود"، فكيف نفهم هذا الكلام إن لم يكن المسيح أيضاً الربّ بكل معنى الكلمة؟
اعتداد مفرط! غير أن سؤال يسوع هو في الواقع جواب على أسئلة عديدة طُرحت فيما قبل. فالمسيح الجالس عن يمين الله له ملء السلطان في الكون. والمسيح الذي هو ربّ الملكوت لا يحتاج ولاء لقيصر. والمسيح الذي هو ابن داود وربّه، هو الحيّ ويتجاوز الأجيال كلها.
فعلى الشعب أن يختار. لقد نبّه يسوع تلاميذه بوضوح إلى برنامجين يقدّمان لهم. من جهة، برنامج الكتبة (20: 45- 47) الذين صارت معرفتهم تظاهراً وتبجّحاً، ولسلطتهم استغلالاً للفقراء الذين لا يحقّ لهم أن يتكلّموا، والأرامل اللواتي لا يجدن من يحامي عنهنّ. صلواتهم المملّة وأرديتهم الطويلة هي مهزلة.
ومن جهة ثانية، هناك برنامج يسوع الذي يبذل حياته مثل هذه الأرملة المسكينة (21: 1- 4). أعطت درهميها، فأعطت كل ما تملك. أعطت أكثر من "هؤلاء جميعاً". هم أعطوا مما فضل عنهم. أما هي، فأعطت "ما هي بحاجة إليه. اعطت كل معيشتها" (آ 4). لقد صارت هذه المرأة المسحوقة والسخيّة، صورة حيّة عن يسوع الذي أرادوا أن يطردوه من الكرم، فقدّم حياته لأبيه عن الذين أرادوا قتله.
2- دراسة تفصيلية
أ- فأجاب بعض الكتبة (آ 39- 40)
كان جواب يسوع مقنعاً وأصيلاً بحيث إن بعض الكتبة (من جماعة الفريسيين الذين يؤمنون بالقيامة) أقرّ أنه أجاب حسناً على سؤال الصادوقيين. هذه التهنئة هنا هي خاصة بلوقا. فرح الفريسيون لأنهم أفحم الصادوقيين. في مر 12: 32، وجّه أحد الكتبة إلى يسوع تهنئة مماثلة لأنه حدّد الوصية الأولى.
بعد الجواب الذي أدّاه يسوع إلى صادوقيين نعتهم بالجهل والضلال، فهل يتجاسرون بعد ويطرحون عليه سؤالاً؟ مثل هذه الخاتمة ليست في محلّها بعد آ 39. في مت 22: 40 ومر 12: 34، هي خاتمة للجدالات السابقة كلها. إنتهت أسئلة الخصوم، فطرح يسوع سؤاله عن ابن داود.
ب- ثم قال لهم (آ 41- 42)
هذه هي مقدّمة لوقا الخاصة. هنا يسوع يسأله. ومحاوروه ليسوا هم هم عند الازائيين الثلاثة. عند مت: الفريسيون. عند لو: الكتبة الذين وافقوا على جوابه للصادوقيين عن القيامة. عند مر: يتوجّه يسوع إلى أناس غير محدّدين. إلى جمع كبير يستمع إليه بارتياح.
"المسيح" هو عامل الله الذي يمسحه ويرسله من أجل فداء شعبه وخلاصه. وهو سيكون من نسل داود. "كيف يقال"؟ في مر 12: 35 ب يُنسب القول إلى الكتبة.
"داود نفسه". داود هو أصغر أبناء يسّى، هو الثامن حسب 1 صم 16: 10- 11؛ 17: 12. هو السابع حسب 1 أخ 2: 13- 15. مُسح ملكاً على يهوذا بعد موت شاول، فصار حالاً ملكاً في الشمال. جعل من المدينة البيوسية، أورشليم، عاصمته، ومدّ سلطانه من الفرات إلى حدود مصر. أكد له ناتان النبيّ شرعيّة نسله وتواصله في قوله ترد في 2 صم 7: 8- 16. وستبقى سلالة داود حاكمة في أورشليم حتى سقوطها سنة 587 ق. م.
"في سفر المزامير". يصوّر داود في 1 صم 16: 23 وهو يضرب بالعود ليريح شاول. وفي 2 صم 23: 1 يسمّى: "مرنّم إسرائيل العذب". ويتحدث 1 أخ 16: 7 أنه عمل من أجل تدشين الهيكل مزامير الشكر. وجاء التقليد اللاحق فنسب إليه 73 مزموراً في سفر المزامير. وواحد من هذه المزامير هو مز 110. وتنامى التقليد فنسبت جماعة قمران إلى داود: 3600 مزمور، 364 نشيداً للمحرقة السنويّة (نشيد لكل يوم)، 52 نشيداً لقربان يوم السبت (مرة في الاسبوع. إذن، لسبوت السنة كلها)، 30 نشيداً لعيد البدر، وسائر الاحتفلات الجماعية، وعيد التكفير أو الغفران (كيبور)، 45 أناشيد ترنّم فوق الممسوسين. وهكذا أبان تقليد قمران أن داود تفوّق على سليمان (300 مثل، 1005 أناشيد). كانت مجموع اناشيده 4050 وقد قالها في نبوءة وُهبت له من قِبل العلي.
"قال الرب لربي". في الأصل، قال الرب لسيدي الملك. أما هنا، فالملك الذي يتوجّه إليه داود كـ "الرب" هو الملك المسيحاني المنتظر. تبع ايراد مز 110: 1 نص السبعينية، ولكنه الغى أل التعريف أمام الرب= يهوه. هذا ما صنعه أيضاً مر 12: 36. "إجلس عن يميني". الربّ يعطي الملك مركز الصدارة، وهذا ما يدلّ على مباركة حكمه.
ج- حتى أجعل اعداءك (آ 43- 44)
تبع لوقا السبعينية بشكل يكاد يكون حرفياً، فتخلىّ عن مرقس. نجد رسمة عن هذا الكلام في إحدى اللوحات التي تمثِّل امين حوتب الثالث مع ملوك آسية والنوبة.
"داود يدعوه رباً". أي: يدعو المسيح "رباً". طبّق يسوع على نفسه ما أعلنه داود. رج أع 2: 36: "الله جعل يسوع رباً ومسيحاً".
"فكيف يكون ابن داود"؟ إن النظام في المجتمع البطريركي يفرض أن يسمّي الابن أباه "السيد، الرب" (كيريوس). لا العكس. فلفظة "ابن" تعني "الخضوع". إن المسيح ليس فقط ابن داود، بل أكثر من ذلك. هو الربّ. قال لوقا كيف ( بوس) يكون ابنه؟ أما مر 12: 37 ب فقال: "من أين" (بوتن) له أن يكون ابنه؟
د- "والشعب يسمع" (آ 45-46)
نجد من جهة الشعب "لاوس" والتلاميذ (ماتيتاي) يسمعون تنبيه يسوع ضدّ سلوك الكتبة. ومن جهة ثانية الرؤساء. هكذا تتّسع الهوة بين سلطات أورشليم والآخرين. رج 18: 43: "رأى الشعب ذلك، فسبّحوا الله"؛ 19: 47- 48: الرؤساء يطلبون أن يهلكوه. والشعب يستمع إليه بارتباح.
ذُكر "التلاميذ" في 19: 39 (أزجر تلاميذك) مع دخول يسوع إلى أورشليم، ولم يُذكروا حتى الآن. نلاحظ أن التلاميذ يظهرون أيضاً في مت 23: 1 خلال هجوم يسوع على الفريسيين: "كلّم يسوع الجموع وتلاميذه".
"إحذروا الكتبة". إن تحذير يسوع يشكّل نصيحة فيها يدعو التلاميذ بأن لا يقتدروا بطريقة عيش الكتبة. في ف 12: 1، كان يسوع قد حذّر تلاميذه من خمير الفريسيين الذي هو الرياء. وفي 5: 21، تعرّفنا إلى طرقة تفكيرهم مع شفاء المخلّع.
"الحلل الفضفاضة". أي: الثياب الطويلة. في الأصل، نحن أمام المعنى العام كما في تك 27: 15 (ثياب عيسو)؛ خر 29: 5، 21 (ثياب هارون)، 31: 10 (الثياب المقدسة). هكذا استعملت الكلمة للثياب المقدسة. لا نجد هذه الكلمة (ستولي) في قمران. أما في الأدب الرباني، فدلّت على ثياب العيد، وعلى لباس يميّز "العظماء" عن سائر الناس. لبس الكتبة مثل هذه الثياب ليدلّلوا على وجاهتهم وسط الشعب، وليدعوا الناس إلى الاقتداء بهم. إن نصّ السريانية العتيقة يترك "ستولايس" التي تعني اللباس، ويقرأ "ستوايس" (حذفت ل) التي تعني الأروقة (كما في أع 3: 11؛ 5: 12). هذا ما يحوّل معنى الآية تحوّلاً تاماً: قرب الأروقة الطويلة، الواسعة.
"التحيّات في الساحات العامة". زاد لوقا: "يحبّون" التحيّات على مر 12: 38. رج لو 11: 43: "تحبّون المجالس الأولى". وقال: تحبّون "المتكآت الأولى في الولائم". كانت محفوظة للكبار في الجماعة (رج 14: 7) وأولئك الذين يتخيرّون لأنفسهم المتكآت الأولى، حبّاً بأنفسهم وبحثاً عن الظهور.
هـ- يأكلون بيوت الأرامل (آ 47)
يسلبون الأرامل أموالهن، لا سيّما حين يتقدّمن إلى القضاء. رج 18: 2- 5 ومثل الأرملة والقاضي الظالم. فسّرت لفظة "أكل" في طرق متنوّعة: (1) يأخذ الكتبة مالاً (رشوة) لكي يساعدوا الأرامل مساعدة مشروعة، وإن يكن قبول مثل هذا المال ممنوعاً. (2) يخدع الكتبة الأرامل فيما يحقّ لهنّ. هم كالمحامي الذي يحاول أن ينفّذ وصيّة الزوج اهتماماً بمال الأرملة. (3) يستفيد الكتبة من ضيافة هذه النساء المحدودة الامكانيّات، فيأكلون ما عندهنّ من خير كالشرهين الذين يتحدّث عنهم "صعود موسى". (4) أساؤوا التصرّف في ملكية أرامل كرّسن نفوسهن لخدمة الهيكل، مثل حنّة النبيّة (لو 2: 36 ي). (5) أخذ الكتبة مالاً كثيراً من هذه النساء التقيات كجزاء لصلوات طويلة رُفعت لاجلهن. (6) أخذ الكتبة بيوت الأرامل بسبب ديون لم تُدفع.
لا نجد تفسيراً في داخل النصّ. لهذا تبدو هذه التفاسير الستة معقولة. قد نتوقّف عند التفسير الثاني مع المثل الشعبي: حاميها حراميها. أي من طلب منه أن يحمي الأرزاق هو الذي سرقها. كما نتوقّف عند الخامسة: يعد الكتبة الأرامل بالصلاة لقاء المال الذي يأخذونه منهنّ.
"يتكلّفون الصلاة الطويلة". إن المخطوط البازي يلغي حرف العطف (الواو). وهكذا ترتبط هذه العبارة بما سبقها، فتبرز التفسير الخامس وارتباط الصلاة بأكل بيوت الأرامل. ولكن حرف العطف واضح في جميع المخطوطات. وهكذا نكون أمام عدد من أخطاء الكتبة، حيث يوضع الخطأ بجانب الآخر: الحلل، التحيّات، الولائم، بيوت الأرامل، الصلاة الطويلة.
لا ينتقد النصّ "الصلوات الطويلة"، بل يندّد بها لأنها تُتلى "تظاهراً". فالسبب الحقيقيّ الذي لأجله يطيل الكتبة صلواتهم، هو ظاهرة التقوى لكي يثق بهم الشعب حين يراهم (رج مت 6: 5). وتثق بهم الأرامل حين "يرافعون" عنهنّ.
"ستنالهم دينونة قاسية". ستكون الدينونة سلبيّة بالنسبة إليهم. سيكون الحكم قاسياً (رج 23: 40؛ 24: 10). رج روم 2: 2- 3؛ 3: 8؛ 1 كور 11: 43، رؤ 17: 1 حيث نقرأ: "هلم فأريك دينونة الزانية العظيمة". نحن أمام دينونة الله في نهاية الزمن، وهي ستصيب الكتبة بسبب تصّرفاتهم وما فيها من حبّ للتظاهر وأنانيّة وظلم القريب ولا سيّما الأرامل.
3- حول ابن داود (20: 41- 44)
أ- النص في الاطار الإزائي
انطلق لوقا في كلامه عن ابن داود من مر 12: 35- 37 أ (رج مت 22: 41- 46). غير أنه ألغى من مر في هذا الموضوع وصيّة الحياة الأبدية التي جعلها مرقس هنا (12: 28- 31؛ رج مت 22: 23- 33)، وجعلها في شكل آخر في 10: 25- 28. أخذ لوقا نصّ مرقس واختصره بعض الشيء. ألغى الاشارة إلى يسوع الذي "يعلّم في الهيكل" (مر 12: 35 أ). ليس فقط بسبب 19: 47 (كان كل يوم يعلّم في الهيكل). بل بسبب الإطار العام في هذا الموضوع من إنجيله. بالإضافة إلى ذلك، لم يذكر الكتبة (مر 12: 35 ب)، لأنه سبق له وذكرهم في آ 39 (أجاب بعض الكتبة)، كما سوف يذكرهم في آ 46 (إحذروا الكتبة). يفترض أنهم حاضرون وسط السامعين في هذا الحدث. وبذل لوقا أيضاً شكل الخطبة غير المباشرة في آ 41. قال لهم: كيف يقال (في مر 19: 35: قال لهم إن). وما يدهش، هو أن لوقا رغم تشديده على الروح القدس في لو وأع، أغفل تفصيلاً حول داود "الذي قال بالروح القدس" (مر 12: 36). وأخيراً، استعمل مثل مت 22: 45 لفظة "كالاي" (دعا، آ 44) بدل "لاغاي" (قال).
ب- الفن الأدبي
ما هو طابع هذا الحدث من جهة الفن الأدبي؟ ليس من السهل أن نحدّده. هل هو قول راباني، أم خبر حول قول تلفّظ به يسوع؟ في مر، العنصر الإخباري هو قليل جداً، ولسنا متأكّدين أننا أمام جدال. أمّا الشكل اللوقاوي فيوجز الشكل المرقسي، ساعة يجعل متى من الحدث حواراً وجدالاً. إن جوهر ما احتفظ به النصّ هو سؤالين وجّههما يسوع إلى سامعيه (الكتبة في لو، الفريسيون في مت). والسؤال الثاني الذي يطرحه (آ 44) هو جواب ضمني على السؤال الأول (آ 41).
وتعدّدت الآراء. الأول: نحن أمام قول يدخل في النصّ. الثاني: نحن أمام خبر يضمّ قولاً من أقوال يسوع الذي يسأل ويجيب. الثالث: هناك سؤال طرح على يسوع (أنت تعلّم أن المسيح هو ابن داود) فأجاب عليه بسؤال معاكس. الرابع: القول هو ثانوي وقد أنتجته الجماعة الأولى التي اعتبرت يسوع ابن الإنسان لا ابن داود. أو الكنيسة الهلينية التي أرادت أن تبيّن أن يسوع ليس فقط ابن داود بل رب داود.
في الواقع، قد يكون المسيحيون استعملوا هذا المقطع في الجدال مع اليهود، ليشدّدوا على نسل المسيح. نحن أمام استعمال حرّ لنصّ مز 110: 1 في المسيحية الأولى.
طرح يسوع (كما في لو) سؤالين على سامعيه في الهيكل. والسؤال الأولى: كيف يقولون إن المسيح هو ابن داود؟ وقبل أن يجبه أحد، أورد مز 110: 1 وطرح سؤالاً ثانياً: كيف يستطيع داود (الذي يعتبر صاحب المزامير وخصوصاً مز 118) أن يكون أب الملك المسيحاني ساعة يدعوه "الرب"؟ والسؤالان يسيران معاً. فالمسيح هو ابن داود. وهو أكثر من ذلك. هو ربّ داود.
ج- المسيح ابن داود
إن كلام يسوع يطرح على بساط البحث مسائل عديدة.
* المسألة الأولى: كيف انطلق الانتظار المسيحاني في العهد القديم وتوسّع في العالم اليهودي الفلسطيني في القرن الأول؟ إن انتظار المسيح الداودي يرتسم في التوراة على وعد بداود جديد. يمسحه الرب، يرسله من أجل إصلاح إسرائيل وانتصار الله القدير وبسط سلطانه. تقول نصوص قمران: "حتى مجيء النبي ومسيحَيْ هارون وإسرائيل". نقرأ في مزامير سليمان: "أقم لهم، يا رب، ملكهم، ابن داود في ذلك الوقت الذي تراه مناسباً". "ملكهم الذي مسحه الرب".
* المسألة الثانية: علاقة مز 110 مع انتظار المسيح في العالم اليهودي الفلسطيني السابق للمسيحية. المزمور هو أحد المزامير الملوكية الذي ألّف ساعة دخول الملك في السلالة الداودية. فهو (الرب) يتوجّه إلى الملك (السيد) لكي يرتقي العرش ويجلس من عن يمينه. فنتيجة لانتصاره سيجعل الله أعداء الملك موطئاً لقدميه. هل فهم هذا الارتقاء عن المسيح المنتظر؟ في العالم اليهودي، كلا. وهكذا يكون التفسير المسيحاني قد بدأ مع المسيح وردّدته المسيحية الأولى كما نقرأ في رسالة برنابا: "قال الرب للمسيح ربي".
* المسألة الثالثة: جاء إيراد مز 110: 1 من النص اليوناني، وهذا ما يدلّ على أن القول نبت في العالم الهليني. فالنصّ العبري يقول: قول يهوه (الرب) لسيدي (أدوني). ولكن نتساءل: كيف كان يُتلى المزمور بصوت عالٍ في القرن المسيحي الأوّل (قال أدوني لأدوني)؟ تلفّظ به يسوع في الأرامية: أمر (قال) مريا (السيد) لـ ماري (لسيدي). وهكذا قد يكون القول نبت في العالم الفلسطيني قبل أن ينتقل إلى العالم الهليني.
* المسألة الرابعة: في أي معنى طرح يسوع هذين السؤالين؟ هناك ثلاثة تفاسير رئيسية. الأول: طرح يسرع على بساط البحث الأصل الداودي للمسيح. سبق ليسوع وأعلن أنه المسيح. ولكن هل كان المسيح ابن داود؟ فيسوع هو من الجليل وابن يوسف النجار، فكيف يكون المسيح؟ أراد يسوع أن يتهرّب من هذه الصعوبة فوجد مقطعاً في الكتب المقدسة يقول إن المسيح هو ابن داود. ولكن التقليد حول المسيح الداودي المنتظر كان من القوّة في القرن الأول المسيحي بحيث لا نتصوّر أن ينكره أحد أو يعتبره غير صحيح. الثاني: المسيح هو أكثر من ابن داود. أصله أصل متسامٍ ورفيع. إنه الرب. لمّح يسوع إلى هويّته دون أن يعلن أنه المسيح أو الرب. لمّح إلى أنه أكثر من ابن داود. الثالث: عاد يسوع إلى ابن الإنسان في دا 7: 9- 13 وطبّقه على نفسه. بما أن مز 110: 1 ودا 7: 13 قد ارتبطا يا كلام يسوع أمام رئيس الكهنة (مر 14: 62؛ لو 22: 62)، نجد ضوءاً على استعمال مز 110 هنا. يسوع هو ابن داود. بل هو أكثر من ذلك. هو ابن الإنسان. ولكن إدخال "ابن الإنسان" في هذا المقطع يبدو اعتباطياً، كما كان إدخال "ابن الله" في التفسير الثاني.
المشكلة الحقيقية ليست في فهم الحدث على المستوى الثالث، المستوى التدويني، بل على المستوى الأول، مستوى يسوع المسيح ووعيه لمسيحانيته. أشار يسوع إلى أنه المسيح دون أن يُعلن ذلك بوضوح. وفي هذا الحدث طرح سؤالاً نظرياً ولمّح إلى علاقة بين المسيح المولود من داود والمسيح الرب. هذه هي نقطة الانطلاف في اعتراف الجماعة المسيحية في فلسطين: يسوع هو الرب.
يبرز تحدّر يسوع من داود في مؤلّف لوقا (1: 32- 33؛ 3: 31) بروزاً واضحاً. وسيشدّد أع 2: 25- 26 على النبوءة الداودية حيث يذكر مز 16: 8- 11 ويسمّى داود "نبيّاً". وسيستعمل بعد ذلك مز 110: 1 ليعلن يسوع "رباً ومسيحاً". وهذا يتضمّن أن ملء فهم علاقة يسوع بداود وطبيعته كربّ، يرتبط بالإيمان بالقيامة.
4- رئاء الكتبة (20: 45- 47)
تتفرّع هذه الآيات اللوقاويّة من مر 12: 38- 40 (رج مت 23: 1، 6 الذي يستعمل مواد مرقسية مع المعين ليقدّم لائحة الويلات: الويل لكم أيها الفريسيون). أما لوقا فدوّن مقدّمة خاصة به (آ 45)، ثم تبع مرقس بشكل يكاد يكون حرفياً. جاءت آ 46 تكراراً لما في 11: 43 الذي يعود إلى المعين حيث نجد انتقاداً طويلاً للفريسيين وعلماء الشريعة (11: 37- 54).
من جهة الفن الأدبي، نحن أمام قوله ليسوع ينبّه فيه تلاميذه حيال تصّرف الكتبة. هناك عودات سابقة إلى الكتبة، وليست كلّها سلبية أو إنتقادية. ففي آ 39، هنّأ بعض الكتبة يسوع لجوابه إلى الصادوقيين. وفي آ 41، قد نكون أمام كلام للكتبة (كما في مر) حاول يسوع أن يفسره. أما الآن فيوجّه يسوع تحذيراً لنا من تصّرف هذه السلطات الاورشليمية. ينبّه تلاميذه بأن لا يقتدوا بهم في ارتداء الحلل الفضفاضة، في حبّهم للتحيات في الساحات العامة وعلامات الاحترام، في البحث عن مقاعد الوجاهة في المجامع وأول المتكآت في الولائم. كل هذا مهزلة وتظاهر، لا يستطيع أن يكون جزءاً من طريقة العيش لدى تلميذ المسيح.
يعتبر الكتبة أنهم أشخاص مهمّون جداً. يأكلون بيوت الأرامل. يخافون نشاطهم الرديء بواجهة من التقوى الدينيّة وبتطويل صلوات يرفعونها إلى الله. ولكن لأجل هذا، ستحلّ بهم دينونة الله بشكل قاسٍ جداً. فهم في الواقع قوّاد الشعب ومعلّموه، وهكذا يظهر يسوع في هذا المشهد كالمدافع عن أناس يستغلّهم "الوجهاء".
نحن هنا أمام حكم لا رجوع عنه على الكتبة. هذا ما نجده عند لو كما عند مر. قد نكون هنا على المستوى الثاني من التقليد الإنجيلي، مستوى الكنيسة على ضوء القيامة وانطلاقها من محيطها اليهودي. إن هذا التحذير النبوي الذي يُطلقه يسوع يجد صداه في أش 1: 23: "لا ينصفون اليتيم بشيء، ولا تصل إليهم دعوى الأرملة". وفي 10: 2: "تكون الأرامل غنيمتهم واليتامى نهباً لهم". وفي حز 22: 7: "يعاملون الغريب بالظلم، ويضطهدون اليتيم والأرملة". وفي أي 22: 9 يتساءل أيوب: "هل أرسلت الأرامل فارغات وحطّمت أذرع اليتامى"؟ وفي 24: 3: "الأشرار يستاقون حمار اليتيم ويرتهنون ثور الأرملة". قد يكون الكلام قد وجّه إلى بعض الكتبة، ولكنه تعقم على ضوء خبرة الكنيسة الأولى.
خاتمة
إن المدلول العجيب للعهد الجديد يكمن في هذا: منذ البداية حتى النهاية، عبر نبوءات واضحة وأحداث رمزية، يقود كل شيء إلى المسيح الموعود به. ففي مجيء المسيح كانسان إلى هذا العالمي، تمّ جزء من العهد القديم، وسيتمّ كله في المجيء الثاني. سنعرف حقاً أنه الرب الذي قيل له: اجلس عن يميني حتى أجعل اعداءك موطئاً لقدميك. وآخر عدوّ له هو الموت (1 كور 15: 26).
ليس يسوع ابن داود على مثال سليمان، وهو لا ينحدر منه على مستوى اللحم والدم. فحين دخوله إلى أورشليم بيّن أنه أكثر من ابن داود. أنه المسيح. كما علّم أنه ليس فقط مرسلاً من عند الله. أنه الابن الحبيب. وهو يدلّ الآن على أنه الرب الاله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM