الفصل الثالث عشر: فلس الأرملة

الفصل الثالث عشر
فلس الأرملة
21: 1- 4

صمت معارضو يسوع حين رأوا هدوءه ووقاره ومرمى كلامه. وما عاد أحد يتجاسر بأن يطرح عليه سؤالاً (25: 40). وأرسل تحذيراً أخيراً ضدّ ديانة كاذبة لدى القوّاد الروحيين في العالم اليهودي. ويقول لنا مرقس: "جلس قبالة الخزانة" (مر 12: 41). ورأى أرملة.
إن ذكر الارامل في الحدث السابق، قاد الإنجيلي إلى إيراد تفسير يسوع لما فعلته إمرأة أرملة قدّمت تقدمتها البسيطة من أجل هيكل أورشليم (21: 1- 4). ما زلنا أمام تعليم يُعطى في الهيكل.
1- دراسة تفصيلية
قدمّنا في الفصل السابق النظرة العامة، وأشرنا إلى الرباط بين الأرملة (أعطت كل ما تملك) وبين يسوع الذي بذل ذاته من أجل أحبّائه. ما فعلته هذه الأرملة التي دلّت على سخائها، يعارض أنانيّة الكتبة وحبّهم للظهور وظلمهم للضعيف.
أ- تطلعّ فرأى أغنياء (آ 1- 2)
تطلّع يسوع. هكذا ربط لوقا هذا الحدث مع الذي سبقه. فعارض مرقس الذي يفترض خبره تبديلاً في المشهد. بالإضافة إلى ذلك، يرينا مر 12: 41 يسوع وهو "ينظر إلى الجمع"، كما ينظر إلى عدد كبير من الأغنياء.
"الخزانة". أو: صندوق الهيكل. تُذكر الخزانة في نح 12: 44 (غرف تخزن فيها القرابين)، 1 أخ 14: 49 (خزانة الهيكل)؛ 2 مك 3: 6، 24، 28، 40 (خزانة الهيكل مملوءة بالأموال التي لا تحصى). أما الكلمة اليونانية، فتدلىّ على صندوق تجُمع فيه التبرّعات والضرائب من أجل الهيكل. كانت صناديق عديدة في الرواق الذي أمام الهيكل: شاقل جديد، شاقل قديم، تقدمة الطيور، طيور من أجل المحرقات، خشب، بخور، ذهب. وكانت هناك ستة صناديق من أجل التقادم الطوعيّة.
"أرملة مسكينة" (آ 2). هي لا تملك شيئاً. ترتبط حياتها بالآخرين. يجب عليها أن تعمل لكي تأكل. لا يقال إن هذه الأرملة هي عجوز أو مريضة. إنها امرأة محتاجة، ولا سند لها إلا الله.
ألقت فلسين. قطعتين صغيرتين من النحاس. نقدين من أصغر النقود المستعلمة في فلسطين في ذلك الوقت. رج 12: 59 حيث نقرأ: "إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدّي آخر فلس عليك". زاد المخطوط البازي: أي فلس، ربع آس. هكذا توافق لو مع مر. أراد مر أن يفهم قرّاءه الرومان فاستعمل لفظة "كودرنتس". ما أراد أن يقوله هو أن ما دفعته هذه المرأة يساوي "لا شيء". هذا في نظر الناس. لا في نظر المسيح.
ب- في الحقيقة أقول لكم (آ 3- 4)
ما قدّمه الأغنياء لم يحرّك يسوع. فلا تضحية في تقدمتهم. فهم يمتلكون الكثير، بحيث تبدو حباتهم شيئاً بسيطاً. أما الأرملة فقدّمت أقلّ ما يمكن أن يقدّم. هي الأخيرة. فصارت الأولى. أما الأولون فصاروا آخرين. هذا هو منطق يسوع الذي "حطّ الأعزاء عن عروشهم ورفع الوضعاء".
"الحق أقول لكم". هذه العبارة تدلّ على أهميّة ما سوف يقوله يسوع. نجدها في 4: 24 وبعد خبرة الناصرة المرّة: "الحق أقوله لكم، ليس نبي مقبولاً في وطنه". ونجدها في 9: 27 مع الحديث عن القيامة المرتبطة بمشهد التجليّ: "الحق أقول لكم: إن في القائمين هنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله"، حتى يتعرّفوا إلى الرب يسوع في مجده الفصحي.
"ألقت كثر من الجميع". بدا يسوع حزيناً حين علّق على هذا العمل. هديّتها أعظم من هدايا الأغنياء. فقد "ألقت كل معيشتها". أما هؤلاء فقد كان عطاؤهم تظاهراً تجاه الناس، وفضلة مما يملكون.
نقرأ في الاسكندراني والبازي... "تقادم الله"، أي قدّموها لله. أترانا أمام صلاة لم يقبلها الله كما يقول أشعيا. "شبعتُ من محرقات الكباش... دم العجول ما عاد يرضيني... إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم، وإن أكثرتم من الدعاء لا أستمع لكم، لأن أيديكم مملوءة من الدماء" (أش 1: 11- 15). ماذا يجب أن يفعلوا لكي يرضى الله عن تقدماتهم؟ "أغيثوا المظلوم، أنصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة" (آ 17).
"هي في فقرها أعطت كل ما تحتاجه من أجل معيشتها". من أجل القيام بأود حياتها (بيوس). نتذكر هنا النازفة التي "أنفقت كل معيشتها" (8: 43). ومقابل هذا، نرى تصّرف الابن الضال الذي عاش في التبذير (15: 12- 30). في نهاية هذه الآية تزيد بعض المخطوطات المتأخّرة: "وإذ قال هذا، نادى بأعلى صوته: من له أذنان سامعتان فليسمع". هذا ما قاله يسوع بعد مثل الزارع (8: 8). نحن أمام نداء إلى الانتباه الضروري لكي نُدرك بُعد هذا التعليم. هذا العمل يدعونا إلى التفكير وإلى اتخاذ الموقف المناسب: صارت الأرملة مثالاً نقتدي به (رج 12: 21 حيث يزيد بعض الشهود العبارة التي زيدت هنا في 21: 4؛ رج 14: 35).
2- دراسة إجمالية
إنطلق لوقا في خبره من مر 12: 41- 44 (لم يذكر متّى هذا الحدث). دوّن لوقا مقدّمته الخاصة بهذا الحدث، ولكنه تبع مر بشكل يكاد يكون حرفياً حين وصل إلى الجوهر، إلى كلام يسوع حول ما فعلته هذه الأرملة.
في آ 1، ألغى تفصيلاً مرقسياً يقول بأن يسوع جلس تجاه خزانة الهيكل، وأن عدداً كبيراً من الأغنياء كانوا يلقون تقادمهم من أجل الهيكل. هكذا أزال التقابل بين الأرملة الفقيرة والآخرين في تدوينه للخبر.
في آ 2- 4، تبع لوقا نسخة الخبر كما وجدها عند مرقس، ولكنه أوجزها ملغياً لفظة لاتينية "كودرنتس" (أي: فلس). وألغى لوقا أيضاً: "ونادى تلاميذه"، كما في مر 12: 43 أ (رج لو 20: 45: ثم قال لتلاميذه). واستعمل لوقا أيضاً كلمة شعرية "بنيكرا" أي فقير ومحتاج بدل "بتوخي" الفقير، البائس. وذلك حين صوّر الأرملة في بداية خبره (آ 2). بعد هذا أورد تعليق يسوع (آ 3) كما وجده في مرجعه. وفي آ 4، حسّن لغة مرقس بشكل طفيف. إذن، لن نبحث عن مرجع للوقا إلا مرقس نفسه.
وإذا عدنا إلى الفن الأدبي، وجدنا أن الحدث هو خبر حول قول من أقوال يسوع. خبر من حياة يسوع مع قول حُفظ لنا في آ 3- 4. قد نكون هنا أمام مثل عملي. وأمام تأليف موحّد لا سيّما في النسخة المرقسية. فالذبيحة الصغيرة يقدّمها الشعب الفقير ترضي الله أكثر من التقدمات الكبيرة والمحرقات.
ما هو معنى تعليق يسوع على تقدمة الأرملة الصغيرة؟ هناك خمس محاولات لشرح كلام يسوع. الأولى: إن القيمة الحقيقية للعطيّة ليست كمّيتها، بل قيمتها بالنسبة إلى ما نملك، وما تكلّف المعطي من تضحيات. الثانية: المهم ليس الكمية التي نعطيها، بل الروح التي بها نعطي التقدمة. هناك تقدمة الذات. نسيان الذات. التجرّد. التخلي عمّا نملك بدون حساب. الثالثة: التقدمة الحقيقيّة تقوم حين نعطي كل ما نملك. الرابعة: يجب أن تقابل الصداقات وسائر العطايا التقويّة، ما يملك الإنسان من وسائل العيش. الخامسة: يعبرّ الخبر عن نيّة يسوع تجاه صاحب الصدقة.
نحن نرى أننا إذا وضعنا المحاولة الأولى جانباً، فسائر المحاولات لا تجد لها أساساً في الإنجيل نفسه. فلا شيء يقال عن "الروح" الداخلية لدى الأرملة. ثم إن التعارض في الخبر يكمن بين "أكثر" و "أقلّ"، لا بين "عطية صادقة" و "عطية غير حقيقية". لا نجد في النصّ أساساً للعطاء بحسب امكانيّات كل واحد منا. إن الأرملة أعطت كل ما تملك. أعطت أكثر من امكانياتها. وحين نحصر مرمى الخبر في نصيحة حول صدقة نعطيها، نضيّع الدرس الرئيسي. لا شكّ في أنّ هذا الخبر لا يتحدّث اطلاقاً عن صدقة نعطيها لفقير.
إذا أخذنا الإطار الواسع لإنجيل مرقس، يطرح هذا الحدث علينا سؤالاً حين نفهمه مديحاً من قبل يسوع. هذا ما ينتج عن كلام يسوع حول "قربان" في مر 7: 10- 13. قيل هنا: حاجات البشر تسبق القيم الدينيّة حين تتصارع. ونقابل كلام يسوع حول شفاء يوم السبت (3: 1- 5: اليد اليابسة). حين نأخذ ردّات فعل يسوع في أماكن أخرى من إنجيل مرقس، هل نتحدّث عن حماسه ومديحه لتقدمة أرملة أعطت كل ما لها من أجل معيشتها؟ إن الكلمة حول "قربان" (لله) تبدو وكأنها تضع حدوداً لتفسير كلمات يسوع في هذا الحدث.
في السياق المباشر لإنجيلي مرقس ولوقا، ندّد يسوع بالكتبة الذين يأكلون بيوت (أموال) الأرامل. والآن، ها هو يعلّق: هذه الأرملة قدّمت كل ما تملك، ألقت كل معيشتها وما يقوم بأودها. إن تفكيرها الديني أتمّ الشيء الذي اتهُم به الكتبة. في الحدث السابق، لم يرضَ يسوع عمّا يفعله الكتبة تجاه أموال الأرامل. وهو لا يرضى هنا عمّا يراه الآن. هو لا يكيل مديحاً للأرملة، بل يرثي بالأحرى مأساة رآها في ذلك اليوم. لقد علّمها القواد الدينيون وشجّعوها على أن تفعل ما فعلت. ويسوع يشجب سلّم القيم الذي دفعها إلى عملها. وبمختصر الكلام، تعليق يسوع هو بكاء ورثاء، وليس مديحاً وتهنئة.
خاتمة
هذا هو تفسير الشراح الذي أخذ بجانب من المثل. وقد نتوقف عنده ونقابله مع النصّ السابق. ويبقى التفسير التقليدي حاضراً: ليس ما نعطيه في سبيل الله هو المهمّ. بل الروح الذي به نعطي. نعطيه بطواعيّة، لأن الله يحبّ المعطي الفرحان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM