الفصل الحادي عشر: كلهم يحيون له

 

الفصل الحادي عشر
كلهم يحيون له
20: 27- 38

كل شيء يجعلنا نتيه في هذا الخبر: سؤال الصادوقيّين الذي يبعث على الضحك، جواب يسوع عن حالة الأموات حين يقومون، النصّ الذي يرد كبرهان عن القيامة. ولكن أما يحصل لنا أن نقع في الخطأ الذي وقع فيه الصادوقيون؟ أما يقودنا جواب يسوع إلى قلب الايمان؟
1- السياق التاريخي والأدبي
يورد الازائيون الثلاثة هذا الحدث ويجعلونه في سياق واحد. يبدو متى قريباً جداً من مرقس، أما لوقا فيختلف عنهما في دقائق مهمة.
نحن في أواخر الأيام التي سيعيشها يسوع على الأرض: دخل إلى أورشليم دخولاً مسيحانياً، يوم الشعانين. طرد الباعة من الهيكل، وأقام في بيت عنيا. وهو الآن يصعد مراراً إلى أورشليم فيقدّم أهمَّ ما في تعاليمه: مثل الكرَّامين القتلة، خطبة نهاية الأزمنة. أما المقطوعة التي ندرس فتقع في سلسلة من المجادلات القائمة في هذه الأيام بين يسوع وخصومه.
هل أراد التقليد الاولاني الذي جع هذه النصوص أن يبيِّن أن يسوع كان يعرف الأسلوب الراباني معرفة تامة؟ الأمر ممكن. فقد اعتاد الرابانيون أن يتلقّوا ثلاثة أسئلة يجيبون عنها. وبعد هذا، يطرحون بدورهم سؤالاً على تلاميذهم. هكذا تبدو المتتالية التي نجدها عند مت 22: 15- 46: سأل الفريسيون عن الجزية الواجبة لقيصر. سأل الصادوقيون عن القيامة. ثم سأل الفريسيون عن أعظم الوصايا. بعد ذلك طرح يسوع سؤالا حول المسيح ابن داود وربّه. إتبع مرقس هذه المتتالية ولم يحد عنها. أما لوقا فلم يكن معتاداً على طرائق الرابانيين، كما لم يكن قرّاؤه اليونانيون يهتمون لها. لهذا لم يتبع هذه الرسمة اتباعاً دقيقاً، وحدّد موقع السؤال عن أعظم الوصايا في مكان آخر (10: 25- 28).
نحن أمام مجادلة. أية فائدة يحمل إلينا هذا الفن الأدبي؟ لماذا تذكَّره الرسل؟ هناك أولا سبب عملي: حين واجهوا الخصوم أنفسهم، تذكَّروا كيف أن يسوع "أسكتهم (مت 22: 34) فأرادوا أن يتعلّموا منه. وهناك فائدة أخرى: حين يقدم المسيح براهينه ينطلق من الكتب المقدسة. ففي مساء الفصح "فتح عقل تلاميذه ليفهموا الكتب" (24: 45). علَّمهم أن يقرأوا فيها "كل ما يعنيه" (24: 27)، أن يكتشفوا فيه مفتاح الكتب المقدسة. وهذا التفسير المنطبق على المجادلات جعلهم يدركون إدراكاً أفضل المقابلة بين العهدين. وهو يدعونا اليوم أيضاً إلى "قراءة مسيحية للعهد القديم".
2- سأله بعض الصادوقيّين (20: 27- 33)
ما الذي مثّله الصادوقيون الذين يذكرهم مرقس ولوقا هنا للمرة الأولى والأخيرة؟ ما الذي يمثّلونه في زمن المسيح؟
في بداية المسيحية، انقسم اليهود الذين وعوا ايمانهم في ثلاث مجموعات كبيرة.
أ- إيمان واحد وتعابير عديدة
أشهر هذه المجموعات الفريسيون. نحن ننظر إليهم بقساوة. ولكنهم في الواقع "قدّيسون" أي أنالس ركّزوا حياتهم على الله، وحاولوا أن يجعلوا من كل وجودهم مع أدن تفاصيله جواباً على إرادة الله كما تعبرّ عنها الكلمة، أكانت مكتوبة أم منقولة عن "تقاليد الآباء". غالباً ما كانوا كتبة (أي لاهوتيون في ذلك الزمان) يقضون حياتهم في الدراسة والبحث. هم قديسون. ولكن من المؤسف أنهم كانوا يعرفون ذلك. وما كانت خطيئتهم؟ كانوا يفكِّرون بأنهم يقدرون أن يعتمدوا على قداستهم ليتقرَّبوا إلى الله. كان يسوع قاسيا تجاهم، مع أنه أعجب بهم، لأنه رآهم يجعلون قداستهم الحقيقيّة وكأنها لم تكن، وذلك باعتدادهم بأنفسهم أنهم قديسون. وكان يسوع قاسياً أيضاً، فحذر الشعب الذي يكرمهم ويتأثر بهم، من مثل هذا الموقف.
والاسيانيون؟ لا يتكلم الإنجيل عنهم. أيكون أن يسوع لم يلمّح إليهم لأنه يتوافق معهم في نقاط كثيرة؟ الأمر ممكن. إن هؤلاء "الرهبان" تركوا العالم ليعيشوا على شاطئ البحر الميت في جماعة الميثاق الجديد (أو العهد الجديد)، فيستعدّون في الصلاة والتأمّل لمجيء ملكوت الله.
كان الصادوقيون من أصل أرستقراطي، وفيهم نجد طبقة "رؤساء الكهنة". إختلفوا عن الفريسيين فكانوا متساهلين يا التعليم، قاسين في السلوكيات ولا سيما بالنسبة إلى الآخرين. كانوا محافظين وأصوليين فلا يرضون أن يتطوَّر الإيمان ويغتني بفكر جديد، بل يريدون أن يبقى الإيمان كما كان. لا يحتفظون من الكتاب المقدس (أقله بصورة عمليّة) إلا بشريعة موسى (بنتاتوكس). إذن ينكرون ما يجدونه في سائر الأسفار بل يعتبرونه انحرافاً تعليمياً. مثلاً، قيامة الموتى، وجود الملائكة.
مثلَ بولس يوماً أمام السنهدرين أو المجلس الأعلى، فاستفاد بلباقته من هذه الاختلافات التعليمية: "وكان بولس يعرف أن بعضهم صادوقيون والبعض الآخر فريسيون، فصاح في المجلس: أيها الاخوة، أنا فريسي. وأنا أحاكم لأني أرجو قيامة الأموات. فلما قال هذا، وقع الخلاف بين الفريسيين والصادوقيين، انقسم المجلس لأنّ الصادوقيّين لا يؤمنون بقيامة الأموات وبوجود الملائكة والأرواح. وأما الفريسون فيؤمنون بهذا كله" (أع 23: 6- 10).
لا يذكر الإنجيل الصادوقيين مراراً. أولا، هم لا يبالون بيسوع. ثانياً: سوف يقاومونه بعنف متزايد، لأنهم خافوا أن تحمل إليهم كرازته مشاكل مع الرومان: لم يكونوا يشغلون بالهم على مستوى المبادئ، فتعاملوا مع المحتلّ العدو، لأنه جعل السلطة في يدهم. وسيتدخل قيافا عظيم الكهنة لدى بيلاطس فينال منه حكماً بالإعدام على هذا "المزعج" الذي هو يسوع.
هؤلاء هم الأشخاص الذين نصبوا فخاً ليسوع.
ب- الإيمان بالقيامة أمر مضحك
طرحوا سؤالا بمهارة. هم يعرفون أنّ يسوع يقاسم الفريسيين إيمانهم بالقيامة. فحين طرحوا عليه هذه المسألة، أرادوه أن يتخلىّ عن اعتقاده أو يجعلوه موضع هزء فيبيِّنوا له إلى أي وضع شاذ يقود هذا التعليم.
انطلقوا من شريعة يعرفها الشعب وان كان لم يعد يمارسها: هي شريعة السِلْفية. عرف الاشوريون والحثيون هذه العادة، وجعلها سفر التثنية قانوناً (تث 25: 5- 10): فعلى الرجل أن يتزوَّج امرأة أخيه حين يموت زوجها دون ولد ذكر ليقيم نسلاً لأخيه المتوفي. والطفل المولود من هذا الزواج يعتبر قانوناً ابن الرجل المتوفي. قد يدهشنا هذا الأمر. ولكن في هذه الحضارات، النسب قانوني (يعترف الرجل بابنه) أكثر منه بيولوجي (ولد من لحمه ودمه). تدلّ هذه العادة على رغبة جامحة في قلب الإنسان بأن تمتدّ حياته بعد موته في أولاده. وفي زمان لم يكن له فكرة عن قيامة ممكنة، اعتبر الناس أن خلود الاسم يعبرّ أحسن تعبير عن هذه القيامة.
إذن، انطلق الصادوقيون من هذه الشريعة فبنوا "حادث ضمير" طرحوه على يسوع. إن سؤالهم يبدو مضحكاً. ولكنهم دفعوا إلى آخر الحدود نتائج ضلال قد يكون ضلالنا نحن أيضاً. حين نفكِّر بالقيامة، أما نتساءل: كيف تكون الحياة بعد الموت؟ أما نتخيَّل الحياة في السماء على مثال ما نعيش الآن وكأن الحياة بعد الموت امتداد (نسخة محسنة) لحياتنا على الأرض؟
إنّ جواب يسوٍ ع يجعلنا نعي ضلالنا قبل أن يبرهن لنا أن عقيدة القيامة ليست أمراً اختياريا، بل تقع في قلب إيماننا بالله.
فإذا أردنا أن نفهم هذه العقيدة، نتذكر بإيجاز الطريق التي سلكها شعب اسرائيل منذ البداية حتى زمن المسيح، ليصلوا إلى هذا التعليم.
ج- تلمّسات طويلة نحو الإيمان بالقيامة
إن قراءة العهد القديم تقودنا إلى مفارقة نلاحظها حين نقابل الشعب الاسرائيلي مع سائر الشعوب. فالمصريون مثلاً أعلنوا باكراً إيمانهم بحياة "بعد الموت". أما شعب الله فانتظر حتى القرون السابقة للمسيحية ليحصل على أنوار من أجل هذا الموضوع. رجاء واحد أسند الشعب خلال أجيال وأجيال: هو الأمل بأن ينتصر الله على الشر، بأن يأتي فيقيم مملكة ملك السلام في العالم. وحين بدأ يظهر موضوع القيامة، ولاسيّما خلال المنفى (587- 538 ق. م)، تحدّث حزقيال عن قيامة الشعب: فالله الأمين لعهده يريد أن يحقِّق وعداً قطعه لإبراهيم، فيرى من واجبه أن "يقيم" شعبه الذي دمَّرته كارثة وطنيّة تدميراً يكاد يكون كاملاً (حز 16: 60؛ 37: 1 ي). نحن هنا على نقيض مع "رجاء" أناني ومنغلق على ذاته يعلن: "أريد أن أخلّص نفسي". وحين سيكتشف اسرائيل فيما بعد القيامة الشخصيّة، يتّخذ هذا الإيمان مكانه في رجاء أوسع، رجاء نكتشفه يوماً بعد يوم، هو رجاء تجدّد الكون كله: "ها أنا أجعل كل شيء جديداً" (رؤ 21: 1- 5)!
وبرز هذا الإيمان بالقيامة الشخصيّة، على ما يبدو، بمناسبة اضطهاد شنّه انطيوخس ابيفانيوس سنة 167- 165 ق م. استشهد عدد من اليهود بسبب إيمانهم بالله. وهنا طُرح السؤال: هل سيرى هؤلاء المؤمنون الذين بذلوا حياتهم في سبيل الله، هل سيرون نفوسهم محرومين من الله بالموت؟ هذا مستحيل. حينئذ أفهم الله شعبه أنّ المؤمنين يقيمون يوماً في حياة الله وسط عالم ينيره الله بحضوره (دا 12: 1- 3؛ 2 مك 7: 9- 23؛ 14: 16). وإن سفر المكابيين الرابع (سفر غير قانوني نجده في التوراة اليونانية) الذي كُتب في بداية المسيحية يلخّص هذا الاعتبار: شجعت أم الشهداء السبعة أبناءها على الموت وحذّرتهم من تجاوز أمر الله "عالمين أنهم ان ماتوا في سبيل الله عاشوا لله مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وسائر الآباء" (4 مك 16: 25)
ولكن قبل هؤلاء، شعر بعض المؤمنين أن الموت لا يمكنه أن يضع حداً لعلاقتنا مع الله. وبرز هذا الشعور بصورة خاصّة في صلاة الأبرار، وحسب خطّين متكاملين. أعلن مز 16: 10: "لا يمكنك أن تترك صديقك يرى الهاوية" (الموت والفساد). وهتف صاحب مز 73: 23- 26: "تمسكني بيدي اليمنى وإلى المجد تأخذني، يا سندي وميراثي إلى الأبد".
وبعبارة أخرى، أعلن النص الأول: "محبتك أعظم من أن تتركني لا الموت". وأعلن الثاني: "أنا أحبك الآن فكيف لن أحبّك بعد هذه الحياة"؟ تقرّبان مختلفان وأساس واحد هو الحبّ: حبّ الله للإنسان وحب المؤمن لإلهه. ولكننا لم نزل هنا على مستوى الشعور أو أمام تأكيدات عابرة كما في دا 12. كيف بدت الأمور في زمن المسيح؟
د- تعابير مختلفة
وتنوّعت النظرات حسب المجموعات والشيع. تحرّك الفريسيون بين موقفين. ارتبطت القيامة بمجيء ملكوت الله كما يقيمه مسيحه. فإذا آمن بقيامة قبل هذا المجيء، نتمثّله بشكل مادي كحياتنا في الزمن الحاضر ولكن في نسخة محسنة. سيدافع عن هذه النظرة المادية معلمون جاؤوا في زمن متأخر فأعلن أحدهم: "في ذلك اليوم ستلد المرأة كل يوم". ولكن يبدو من المعقول أن الفريسيين في زمن يسوع جعلوا القيامة بعد مجيء المسيح. إذن فكّروا بحياة تتجلىّ (تتحوّل كما تصوّرها دانيال أو أمثال أخنوخ وهو كتاب منحول وقد يعود إلى الاسيانيين): "في تلك الأيام تثِبُ الجبال كالكباش، وتقفز التلال كالخراف التي ارتوت لبناً، ويكون الأبرار كلهم مثل الملائكة في السماء" (اخنوخ الأول 51: 4).
يصعب علينا أن نعرف فكر الاسيانيين في هذا المجال، فهم لم يفصحوا عنه. ولكن إن
كانت أمثال أخنوخ مرتبطة بهم، فهذا يكفي ليدلّ على أنهم تصوّروا القيامة عالماً تجلىّ واستنار وتحوّل. وهناك نصوص عديدة ترينا الأبرار مجموعين مع الملائكة: هم يحاربون من أجل "أبناء النور" الذين يقاومون الأشرار. أو "أبناء الظلمة" (قاعدة الحرب 1: 13- 16؛ 3: 20- 23).
ومن المفيد أن نتوقّف لحظة عند هذا الأمل بأن ينضمّ الإنسان إلى الملائكة، لأنه يساعدنا على فهم كلام يسوع فهماً أفضل. حين يصير المزمن "راهباً" في قمران، فهو يدخل في "جماعة الملائكة". ويكفي لذلك أن نورد بعض أشعار من النشيد الحادي عشر (المغارة الأولى 3: 20- 23): "أشكرك يا ربّ، لأنك حرّرت نفسي من الهاوية... عرفت أن هناك رجاء للذي جبلته من التراب من أجل الجماعة الأدبية. فأنت نقّيت الضمير الفاسد من مختلف الخطايا ليستطيع أن يقف مع جند القديسين ويتّحد بإخوته أبناء السماء (= الملائكة)... ليمدحوا اسمك لا حماس مشترك".
فالدخول في جماعة قمران يعني إمكانية المشاركة منذ الآن في هذه العبادة التي يقوم بها الملائكة في الليتورجيا. نحن نترك هنا عالماً من الرموز حيث يصعب علينا أن نميّز بين الواقع والصورة المحض. ولكن الواقع المرموز عنه هو مهمّ، وهو يساعدنا على فهم ما تعنيه عبارة حياة "مثل حياة الملائكة": هو لا يشدّد على القداسة ولا على "مادية" هذه الحياة. إنّ عبارة "نكون مثل الملائكة" لا تعلمنا أي شيء عن الوجهة "الجسدية" لهذه الحياة. نحن قبل كل شيء أمام موقف باطني، أمام حياة لا تنتهي. نستطيع فيها أن نقف بحضرة الله الحي، في أعظم نشاط ممكن، في نشاط روحاني هو مدير الله.
لقد عبرّ الاسيانيون عن فكر عدد كبير من الفريسيين، بل عن فكر يسوع نفسه، وهذا ما يدعونا لأن ننقي أفكارنا عن الحياة في الآخرة: هم لا يقدّمون نظريّات عن حالة الأجساد القائمة من الموت، بل يفكّرون بموقف باطني، بحياة مكرّسة لمديح الله. وهذا هو فحوى جواب يسوع للصادوقيّين.
3- جواب يسوع (20: 34- 38)
لم يسجن يسوع نفسه في منظار خصومه المضحك. بيّن لهم "أنهم في ضلال" (مت 22: 29؛ مر 12: 24) حين يتخيّلون الحياة بعد الموت على مثال الحياة في هذا العالم.
أ- لا نستطيع أن "نتخيل" حياة القائمين من الموت (آ 34- 36)
إن جواب يسوع هو هو في الازائيين الثلاثة، أقلّه جزئياً: "في القيامة لا يتزوّجون، لأنهم يكونون كالملائكة". وزاد لوقا: "هم لا يموتون". فلماذا الزواج الذي هو وسيلة نشر الحياة، في الحياة الأبدية؟!
حين أراد الصادوقيّون أن يصوّروا (أو بالأحرى أن يقدموا كاريكاتوراً) الحياة المقبلة، اختاروا نقطة محدّدة هي الزواج. ولكن سؤالهم وجواب يسوع يتوجّهان قبل كل شيء إلى أمر واحد: "كيف" تكون الحياة؟ إذن، لن نجد هنا أي تعليم عن حالة الزوجين المقبلة ولا عن اختفاء العالم الجنسي. نحن لا نعرف شيئاً من هذه الأمور. هل الذين أحبّوا بعضهم في الزواج لن يحبّوا بعضهم بصورة خاصة بعد الموت؟ ولكن، حين نقيم إقامة نهائية في الحب الكامل، حبّ الله وكل خليقة، هل نهتمّ بعد للدرجات؟ ومهما يكن من أمر، فيسوع لا يتكلّم عن هذا. إنه يقول لنا فقط: لن تكون تلك الحياة على مثال حياتنا على الأرض: هي حياة متجلاّة، حياة في الله، حياة مديح كحياة الملائكة.
وقد توسّع لوقا في هذا الجواب ليعطيه وجهة تحريضية. بدأ فأقام تعارضاً بين "أبناء هذا العالم" (عالمنا) وبين "الذين يعتبرون أهلاً للحصول على ذاك العالمي" (العالم الآتي).
هناك "عالمان" (أو: دهران). إنّ أصحاب كتب الرؤيا منذ القرن الثاني ق م، يقسمون التاريخ إلى زمنين: "هذا العالم"، العالم الحاضر، الخاطئ. إنه سينتهي بمجيء المسيح الذي يقيم "العالم المقبل" العالم الكامل. إذن يتعارض العالمان على مستوى الزمن وعلى مستوى النوعيّة. يستعيد لوقا هذا التمييز، ولكنه يزيد لطائف أخلاقيّة هامة. فعبارة "أبناء هذا العالم" (هذا الدهر) لا تدل في ذاتها على الإحتقار. إنها تعبرّ فقط عن وضع ما: إنهم في هذا العالم بفعل ولادتهم. أما الدخول في "العالم الآخر"، فيرتبط بشرط أخلاقي: لا يدخل إلى العالم الآخر إلاّ "الذين اعتبروا أهلاً لأن ينالوه".
لا يهتمّ لوقا هنا إلاّ بمصير الأبرار (وهذا هو الوضع مراراً في الكتاب المقدس). وبالكلمات التي يستعملها، يحضّنا على أن نعمل كل شيء لنُحسب بين هؤلاء الأبرار. ففعل "اعتبر أهلاً" يدلّ على أننا سنُفحص: هل عشنا حياة المحن هذه متحدين بالمسيح؟ لا نجد هذا الفعل في العهد القديم، ولا نجده إلا مرتين في العهد الجديد: "خرج الرسل من المجلس فرحين لأنهم اعتبروا أهلا (وجدهم الله أهلا) لقبول الأمانة من أجل اسم يسوع" (أع 5: 41). ويشير بولس في 2 تس 1: 5 إلى "حكم الله العادل الذي فيه تعتبرون أهلاً لملكوت الله الذي في سبيله تتألمون". إنّ لوقا يحثّنا مرة أخرى على إنكار ذواتنا لنجد الفرح في يسوع، لنحيا "اليوم" ("كل مرة") آلامه لنشارك في قيامته: دخلنا إلى هذا العالم بالولادة، فلا بدّ لنا من العبور مع المسيح بالصليب والقيامة للحصول على العالم الآخر.
واختيار فعل "حصل" (نال) يؤكّد لنا هذا الشعور. فهو يعني عادة: تحمّل الألم والموت للحصول على الخلاص (2 تم 2: 10) أو القيامة (عب 11: 35). ويسوع نفسه قد حصل بموته على خدمة أفضل (عب 8: 6).
إذن، هذا ما أراد لوقا أن يوضّحه لنا: لن نسعى إلى تخيّل ذاك العالم الآخر لنعرفه بطريقة مادية: كيف هو؟ المهمّ هو أن نعرف أنه عالم متجلٍ، والدخول إليه يفترض عبوراً في الموت مع المسيح.
وهناك عبارة أخرى تبرز هذه الفكرة: "نكون أهلا للحصول على ذاك العالم وقيامة الموتى". هل تتميّز العبارة الأولى عن الثانية (من نال ذاك العالم نال قيامة الموتى)؟ أو هل العبارة الأولى صفة للعبارة الثانية (نحصل على "القيامة في ذاك العالم")؟ الأمر قليل الأهميّة، لأنّ المعنى هو هو. فالنصّ يشدّد على الواقع الباطنيّ: نحن أمام عالم يتحدَّد بالحياة الجديدة والخالدة التي يمنحنا إيّاها. ولكنه عالم لا نستطيع أن نتصوّره أو نتخيّله.
"لأنهّم يكونون في وضع الملائكة عينه". لماذا اخترع لوقا هذه المفردة "ايسأنغالوس" أي مساوٍ للملائكة، وهي غير موجودة لا في اليونانية الكلاسيكية ولا البيبلية؟ لا شك في أنه أراد أن يجنّب قرّاءه اليونانيين المتحفّظين أمام قيامة الأجساد، أراد أن يجنّبهم تخيّل أرواح محض أو "نفوس منفصلة" (عن الجسد) "مثل الملائكة".
ولكنّه لا يتوقّف هنا. فلقد زاد على نص مرقس ومتى: "يكونون أبناء الله". يحبّ لوقا أن يبني فكرة في زمنين: يدلنا أولا على اكتمال كل ما رجوناه انطلاقاً من الكتب المقدسة، وهكذا نعتبر نفوسنا مغمورين بالعطاء. ولكنه يزيد حالا: ولكن هذا أجمل من كل ما تخيَّلتم. نجد هذه الرسمة في خبر البشارة: سيكون يسوع "ابن العلي" (بمعنى "ابن داود"). إذن، لقد تمّ العهد القديم. ويزيد لوقا حالا: سيكون "ابن الله" بالمعنى الحصري للكلمة.
ويقول لنا لوقا هنا: لن نعيش فقط في حضرة الله في خدمة المديح كالملائكة، بل سندخل في حياته الحميمة كالأبناء، بل نكون مثل ابنه الوحيد. نجد هنا بقلم لوقا موضوعاً عزيزاً على قلب معلمه بوليس: لقد توخّى الله أن يجعل منا أبناءه (أف 1: 5). لقد أرسل الله ابنه لنصير فيه أبناء (غل 4: 5- 7؛ روم 8: 14- 15)
نكون "أبناء الله". والسبب الذي يعطيه لوقا له معناه العميق: "يكونون أبناء الله إذ (لأنهم) يكونون أبناء القيامة". هذه العبارة الغريبة تدلّ على أنها قديمة. فإن لم تكن من يسوع نفسه، فهي تعود إلى محيط يتكلَّم الآرامية. يشدّد لوقا على القيامة لأن قرّاءه اليونانيين لا يقبلون بها بسهولة (1 كور 15)، ولأنها بصورة خاصة الوقت الحقيقي للعبور إلى حياة الله. هذا ما كان أولاً بالنسبة إلى يسوع الذي "ثبت أنه ابن الله بقيامته من بين الأموات" (روم 1: 4). في هذا المقطع تحمل عبارة "ابن الله" المعنى المخفف: "ابن داود" والمسيح الجالس على عرش كالرب على العالم. لا شكَّ في أنَّ يسوع ككلمة الله هو ابن الله منذ الأزل. ولكن بالنسبة إلى الكلمة المتجددة، بالنسبة إلى بشريّة يسوع، القيامة هي العبور إلى الحياة الحقيقيّة. وإذا "كنّا قد صرنا كائناً واحداً مع المسيح بموت شبيه بموته، سنكون أيضاً واحداً بقيامة مشابهة" (روم 6: 5). "فكما أنّ المسيح قام من بين الأموات بمجد الآب، علينا نحن أيضاً أن نحيا حياة جديدة" (روم 6: 4) كم نحن بعيدون عن سؤال الصادوقيين المضحك! أرادوا أن يجرّوا يسوع إلى حقل الفتاوى، أما هو فأدخلنا إلى قلب عالم الإيمان. لا شكّ في أننا لم نجد ضوءاً على "كيف" تكون حياة القائمين من الموت. ولكن هذا النوع من النظريات لا يهمّنا. فجوهر التعليم ليس هنا: لسنا فقط أمام حياة جديدة لا يتخيّلها بشر، نقضيها في المديح بحضرة الله (كالملائكة). بل إن هذه الحياة هي حياة ابن الله. فإذا أردنا أن نكون أهلاً لها نقبل أن نعبر مع المسيح في الموت لنبلغ فيه إلى حياة القائمين من الموت.
وكان باستطاعة يسوع أن يتوقّف عند هذا الحد. لقد بيّن للصادوقيّين أنهم يضلّون حين يسألون "كيف" تكون الحياة المقبلة. وها هو يبرهن لهم الآن انطلاقاً من الكتب المقدسة أنهم يخطئون إن رفضوا أن يؤمنوا بالقيامة.
ب- الله الحي الذي يُحيي (آ 37- 38)
إنّ برهنة يسوع قد أدهشت القرّاء في كل زمان: فالبرهان الذي يعطيه لا يبدو مقنعاً إلا بدرجة قليلة! مع أن هناك نصوصاً يمكن الاستناد إليها مثل دا 12 و 1 مك 7. ويدافع الشّراح عن يسوع فيقولون: إنه فكّر هنا كما يفكّر كل رابي. فقيمة البرهان ليست بالنصوص التي يقدِّمها، بل باليقين الذي يعبرّ عنه في هذه المناسبة.
غير أنّ يسوع يريد أن يعلّمنا كيف نقرأ التوراة. نحن نلجأ إليها غريزياً كما يذهب بنَّاء إلى مقلع حجارة فيأخذ حجراً مقصوصاً مقصّباً ويضعه في بنائه. إن يسوع يعلّمنا أن نحترم التيار الذي ينعش النصوص، وأن نترك ديناميتها تأخذنا إلى البعيد. لم يكن الصادوقيون يقرّون إلاّ بسلطة البنتاتوكس أو أسفار الشريعة الخمسة. فأورد يسوع نصاً من سفر الخروج ليدلّ على أنهم مجبرون على القول بالقيامة ولو حصروا نفوسهم في هذه الأسفار.
إن البرهان الذي استخرجه يسوع من سفر الخروج قد فهمه متَّى ومرقس بطريقة، ولوقا بطريقة أخرى. لهذا ننطلق مما قاله الإنجيليان الأولان لنفهم تفسير لوقا.
أولاً: الاله الذي يخلّص عبر الموت
"أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب". اعتدنا أن نفهم: الله الذي عبده الآباء. ولكن هذه العبارة، شأنها شأن نصوص عديدة تعود إلى زمن المسيح، تعني: الإله الذي حمى هؤلاء الآباء وخلصهم. إنه الإله الذي هو ترس الآباء وصخرتهم، إله العهد الأمين بالنسبة إلى ذاته وإلى الالتزام الذي اتخذه. أعلن بطرس في أع 3: 13 (رج 5: 30): "إله ابراهيم واسحق ويعقوب، إله آبائنا قد مجَّد فتاه يسوع": فتمجيد يسوع هو خاتمة العهد الذي قطعه الله مع الآباء. يشدّد النص على مبادرة الله المجانيّة، لا على جواب الإنسان وأمانته. وهذا هو معنى هذه التسمية في سياق خر 3- 4: كما كنت إله آبائكم أي قائدهم وحاميهم وعونهم وسندهم، هكذا أكون مخلِّصهم في الضيق الحاضر. هذا التفسير يقوّي معنى الجملة التالية.
"ليس إله الأموات بل إله الأحياء". إذا كان إله شخص هو مخلص هذا الشخص، وإذا كان الذي جعل الله حاميه قد مات دون رجعة، فهذا يعني أنّ الله فشل في الوظيفة التي اتّخذها على عاتقه تجاهه. إستطاع أن يخلِّصه من مصائب عابرة، ولكنه لم يقدر أن يخلصه من المصيبة الوحيدة الحقيقية التي هي الموت. فالتكلم عن "إله الأموات" هو تناقض فادح. إنه إقرار بالفشل كما لو كنا نتكلم عن "درع الموت": فإذا كان قد مات، فهذا يعني أن درعه لا يفيد في شيء. وبكلام آخر، يبدو برهان ربّنا كالتالي: إذا كان إبراهيم مات ولم يقم، فالعون الذي وعده به الله وسمّى نفسه "إله إبراهيم" كان مهزلة. إذن، يجب أن يعود إبراهيم إلى الحياة.
نجد هنا العلاقة بين الميثاق (العهد) والقيامة، كما في العهد القديم. فإن أراد الله أن يكون أميناً لوعده، فعليه أن "يقيم" شعبه. ويطبِّق يسوع على كل مؤمن بمفرده ما تقوله الكتب المقدسة عن شعب الله بمجمله. في هذا المجال نجد صورة مماثلة، صورة الراعي: يسمّى عادة راعي شعبه. وسمَّاه مز 23 راعي كل واحد من المؤمنين.
خاف لوقا أن لا يفهم قرّاؤه اليونانيون هذا البرهان، فأوضح الجملة: "ليس هو إله أموات بل إله أحياء" بجملة أخرى قد يكون لها معنيان: "فهم جميعاً يحيون به" أو "لأجله". إذا أخذنا الحالة الأولى ("به") نفهم أن لوقا أوضح ما قاله متّى ومرقس. وإذا أخذنا بالحالة الثانية ("لأجله") نكون أمام تفسير آخر.
هناك من قال: "كلهم نالوا به الحياة". فالله هو الذي يعطي الحياة لإبراهيم: لا يستطيع الاله الحي أن يتوقف عن إعطاء الحياة. إذن، إبراهيم والآباء ينعموه دوما بهذه الحياة. وهم لا ينعمون لا وحدهم بل "كل الذين اعتبروا أهلاً". ولكن لماذا نجعل لوقا في خط متّى ومرقس، ولماذا لا نختار "لأجله"؟
ثانيا: الإله الذي نحبُّه عبر الموت
إذن، يبدو من الأفضل أن نحتفظ بالترجمة التالية: "كلهم يحيون له" (أو لأجله). في هذه الحالة يكون لوقا فهم البرهان بطريقة تختلف عمّا في متّى ومرقس: الله هو إله إبراهيم واسحق... الله الذي عبدوه وخدموه ولأجله عاشوا. لو كانوا ماتوا بصورة نهائية، فهذا يعني أن اتجاه حياتهم كان خاطئاً. ولقد عبرَّت أم الشهداء السبعة عن الفكرة عينها فقالت: "حين يموتون من أجل الله يحيرن من أجل الله". فإن كان الموتى لا يقومون، فالله قد مات. هو لا يقدر أن يكون الاله الحي الذي يشبع قلب الذين يحبونه إن كان عاجزاً أمام الموت كالبشر. قلبَ يسوع بشكل غريب مسألة القيامة كما يراها الناس، فبيَّن أنّ من ينكر قيامة الموتى ينكر الله نفسه. هذا هو البرهان عينه الذي يقدمه بولس في 1 كور 15: 13، 16: "إن كان الموتى لا يقومون، فالمسيح لم يقم أيضاً". فالإيمان بقيامة الموتى ليس عقيدة اختيارية: إنه الإيمان بالله نفسه.
فإذا أخذنا بتفسير متّى ومرقس ثم بتفسير لوقا، نجد الخطَّين اللذين اكتشفهما اسرائيل فعرف أنّ الموت لا يمكن أن يكون النهاية. قال مز 16: أنت تحبني كثيراً لذلك لن تتركني في الهاوية. وتابِع متّى ومرقس: الاله الذي خلص إبراهيم والآباء، لا يقدر إلاّ أن يخلصهم أيضاً من الموت، وإلاّ صار إلهاً ميّتاً.
والخط الثاني: أحبك أما الرب في هذه الحياة، فكيف لا أحبك بعد هذه الحياة (رج مز 73)؟ وأردف لوقا: إن إبراهيم والآباء وكل الذين اعتبروا أهلاً لأن يحصلوا على العالمي الآخر يحيون لله. فيستحيل على الله أن يخدعهم وإلاّ صار إلهاً ميتاً. قد يختلف التفسير، ولكنه يتأسّس دوماً على الحبّ، على اللّقاء الشخصي بين كائنين؟ الله والمؤمنون.
هذا التذكير مهمّ جداً في عصر وجب فيه على المؤلف أن يدل أكثر من أي وقت مضى على أنه يقدر "أن يؤدي حسابا عن الرجاء الذي فيه" (1 بط 3: 15). يتخوّف الناس اليوم كثيرا، وهم على حق، من إيمان ينحصر في "ديانة" مؤسسة فقط على ضرورة اختراع جواب لحاجاتنا الأساسية. والحال اننا لا نؤمن بحياة بعد الموت، لان اختراع آخرة تطمئننا يشجعنا على تحمّل حياة تنتهي بالموت.
نحن نؤمن بالقيامة لأنّنا متأكّدون أن الله الحيّ يحبُّنا وأننا نحبُّه رغم فقرنا. فالإيمان بالقيامة ليس أفيوناً مطمئناً، بل يقين واعتراف بأننا التقينا الله الحي ورأينا قدرته الحية وروحه يعملان في ابنه يسوع المسيح "بكر المائتين".
حينئذ يستطيع لوقا أن يحرّضنا: التحدث عن القيامة إلى الناس الذين حولنا، ليس جدالاً في نصوص الإنجيل وليس تقديم براهين فلسفية أو لاهوتية. أفضل "برهان" نعطيهم إياه هو أن نحيا كل يوم من أجل الله ولله.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM