الفصل العاشر: دفع الجزية إلى قيصر

 

الفصل العاشر
دفع الجزية إلى قيصر
20: 20- 26

وتواصل الجدال بين يسوع وسلطات أورشليم التي تضع له "الفخاخ". فبعد سؤال عن "تطهير الهيكل"، ومثل الكرَّامين القتلة الذي قاله عليهم، لم يستطيعوا أن يفعلوا به شيئاً، لأنهم خافوا من الجمع (مر 12: 12). وكانت محاولة أخرى: هل ندفع الجزية للمحتلّ الروماني في فلسطين؟ وما هي علاقة هذه "الجزية" بالكرازة بملكوت الله؟
1- نظرة عامة
بعد جدال أول حول سلطة يسوع (20: 1- 8)، ها نحن أمام جدال ثانٍ (20: 20- 26). مجاله مجالا سياسي، لا مجال ديني. لا يتحدّث عن ارتباط يسوع بالله الذين منه تنبثق سلطته، بل عن ارتباطه بالسلطة الرومانية. ما هو رأي يسوع في السلطة المدنيّة والعسكريّة؟ كيف يرى وضع الامبراطورية الرومانية التي تحتل بالقوة كل الشرق الأدنى؟
هذا ما جاء يبحث عنه "جواسيس" أو "عملاء" أرسلهم المجلس الأعلى. "تظاهروا بأنهم صديقون" (آ 25). ولكنهم في الواقع كذبة. قد جاؤوا ليوقعوه في حبائلهم على أنه ثائر على السلطة الرومانية.
جاء التدوين اللوقاوي هنا حَذقاً لبقاً: لا يسمّي يسوع هؤلاء السائلين "مرائين" كما فعل مت 22: 18 (لم تجربّوني، أيها المراؤون). ولم يدرك مكرهم، كما قال مر 12: 15. وهو لا يوبّخهم لأنهم يحاولون أن "يجرّبوه" كما قال مر 12: 15 ومت 22: 18. بل استعاد فعل "راءى" فدلّ على تصّرف مبعوثي السنهدرين، وبيّن حالاً نواياهم السيّئة بأن يسلّموه إلى سلطة الوالي.
إن هذه المقدّمة التي طبعها لوقا بطابعه تترك جانباً الفريسيين. فإن مت 22: 15 ومر 12: 13 جعلاهم مع الهيرودسيين، فدلآ على تلاحم السلطة الدينية مع السلطة السياسية من أجل إهلاك يسوع. أما لوقا فلا يشير إلى انتماء الذين حاولوا أن يوقعوه في حبائل الوالي. ولكن ما يقوله عن مجهود لكي يظهروا "صديقين" (أبراراً)، يدلّ على أنهم الفريسيون (16: 15؛ 18: 9). هنا نتذكر (19: 39) أن لوقا لا يريد أن يدخل الفريسيين في الحكم على يسوع.
هؤلاء "الجواسيس" يدلّون على ارتباطهم بالله، فيدلّون على أنهم "صديقون". ومع ذلك فهم يحاولون أن يوقعوا يسوع. إما تجاه الرومان، فيتَّهمونه بأنه عميل يدعو إلى الثورة. وإما تجاه الشعب، فيتهمونه بأنه يتعاون مع المحتلّ. طرحوا عليه السؤال: "هل ندفع الجزية لقيصر أم لا"؟ سؤال لبق، فلا يمكن التهرّب! ولكن يسوع لم يجُب عليه. ففعل كما في الجدال السابق: أعاد معارضيه إلى الموقف العملي. "أروني ديناراً". يبدو أنه لا يمتلك ديناراً واحداً... أما هم فعرضوا "مالهم" حالاً... ولا شكّ في أن الشعب ابتسم تجاه هذين الموقفين المتعارضين. من يتعامل في الحقيقة مع السلطة الرومانية؟ لا شكّ ذاك الذي يتعامل مع دنانيرها. حينئذ أعطى يسوع أوضح جواب ممكن، أعطى جواباً ملتبساً: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". قد يكون يسوع هنا استقى من نصّ سفر الجامعة (8: 2) الذي يعتبر أن كل سلطة تأتي من الله. "إحفظ أوامر الملك، ولا تجادل حول سلطته، لأنك حلفت يميناً لله" (بأنك تطيعه).
فلو نقل الناس إلى "الروماني" كلمات يسوع، لما كان له أن يعلّق عليها. وإن نقلوها إلى "الغيورين" لم يحتاجوا إلى تفسير: "أعيدوا لقيصر ماله، ولله ما يخصّه". نحن هنا أمام برنامج كامل: في الظاهر، يستطيع كل واحد أن يجد الجواب الذي يريده، ولهذا جاءت الآراء متباينة. مثلاً، كتب يوسيفوس عن الاسيانيين أنهم يُقسمون فيلزمون نفوسهم بأن يحافظوا على إيمانهم تجاه الجميع، وخصوصاً تجاه السلطات، لأن السلطة تأتي إلى إنسان من الناس بفضل مشيئة الله. وكتب عن غيوري يهوذا الجليلي أنهم ما كانوا يقبلون أن يدفعوا الجزية للرومان، ولا كانوا يتحمّلون أسياداً مائتين بجانب الله. أما الفريسيون فأملوا من الله تحرّرهم، وانتظروا هذا التحرّر مرافقاً لسقوط الامبراطوربة الرومانية.
هل فهم السامعون ما يحمل جواب يسوع من "قوّة تدمير"؟ هذا ليس بأكيد. فقد انتزع كل قدسيّة عن السياسة. أعادها إلى نفسها. اعترف بقيمتها. وشدّد على مسؤوليتها تجاه ذاتها. في أع، سوف نرى إلى أي حدّ جعل إعلانُ القائم من الموت، كل فلسفة، وكل سياسة، نسبيّة، فدلّ على حدودها.
2- دراسة نقدية للنصّ
ما زال لوقا يتابع ترتيب المقطوعات كما وجده في مرقس. وجاء هذا الحدث (20: 20- 26) موازياً لما في مر 12: 13- 17 (رج مت 22: 15- 22). غير أن لوقا ألّف مقدّمة وأشار إشارة واضحة إلى سلطة رومة السياسية وحكم الوالي. والإشارة إلى اعتداد سلطات أورشليم (بأنهم صديقون، آ 20 أ) تجد ما يقابلها في مر 12: 15. والسبب الذي لأجله أعاد لوقا صياغة آ 20 يظهر في 23: 2- 5 الذي يرتبط بهذه الآية.
وتتبع آ 21- 25 الخبر المرقسي مع بعض التحويلات التدوينية. وإليك أهمّها. (1) "ما تقوله وتعلّمه هو الصواب" (آ 21 ب)، بدل التعبير المرقسي: "نحن نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد" (12: 14 ب). (2) أدخل لوقا تعبيراً أخذه من السبعينية: "تحابي الوجوه" (آ 21 ج) أو تُفضّل واحداً على آخر بدون سبب. (3) استعمل كلمة يونانية خاصة (فوروس، الجزية) محل كلمة من أصل لاتيني "كنسوس" (آ 22). (4) استعمل لوقا عبارته المفضّلة "قال إليهم" (آ 23) بدل مر 12: 5 "قال لهم". (5) حلّت كلمة "مكر" محل كلمة "رياء" في آ 23. (6) ألغى لوقا السؤال: هل ندفع أم لا (مر 12: 14)؟ ثم السؤال الآخر: "لمَ تحاولون أن تجرّبوني" (مر 12: 5 ب)؟ وينتهي الحدث بقول (آ 26) ألفه لوقا مستلهماً مرقس: صمت معارضي يسوع أمام الشعب.
حُفظت لنا أشكال من الخبر في أماكن أخرى.
الأول هو مقطع من إنجيل ألّف في بداية القرن الثاني (على ما يبدو) اسمه بردية اغريون. "جاؤوا إليه متفحّصين فحاولوا أن يجرّبوه قائلين: يا يسوع، يا معلم. نحن نعلم أنك جئت من عند الله. ولهذا تتعدّى شهادتك شهادة جميع الأنبياء. قل لنا: هل يجب أن ندفع للملوك ما يخصّ سلطانهم؟ هل ندفع أم لا؟ ولكن يسوع فهم نواياهم فقال مغضباً: لماذا تسمونني بفمكم "المعلّم" ساعة لا تستمعون إلى ما أقول؟ حسناً تنبّأ عنكم أشعيا حين قال: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه أما قلبه فبعيد جداً عني. فهم يعبدونني باطلاً". هذا النص هو مزيج من مواد مأخوذة من يوحنا ومن التقليد الإزائي. إنه يرتبط بالأناجيل الأربعة، ولهذا فهو لا يتضمّن أي شيء سبق أخبار الأناجيل الإزائية.
الثاني قد حُفظ في مؤلّفات يوستينوس الشهيد. "في ذلك الوقت جاء إليه بعض الشعب وسألوه: هل يجب أن يدفعوا الضرائب لقيصر؟ فأجابهم: قولوا لي صورة من تحمل هذه النقود؟ قالوا له: صورة قيصر. فأجابهم أيضاً: إذن، إدفعوا ما لقيصر لقيصر. وما الله لله". تبع النص لو 20: 24 ب ثم مت 22: 21 ج، وهكذا لا نكون أمام تقليد مستقلّ عن التقليد الإزائي.
الثالث هو خبر حُفظ لا إنجيل توما. "دلّوا يسوع على نقد ذهبي وقالوا له: إن عملاء قيصر يطلبون الضرائب منا. قال لهم: أعطوا قيصر ما لقيصر. وأعطوا الله ما لله. وما هو لي، أعطوني إياه". صار الدينار النحاسي نقداً من الذهب، وصار الخبر قصيراً بحيث نكاد لا نفهمه لولا ما نقرأ في الأناجيل الإزائية التي يرتبط بها إنجيل توما هنا. ثم فُصل يسوع عن الله وخضع له.
3- دراسة تفصيلية
أ- راقبوه (آ 20)
راقبوه، راصدوه، تحيّنوا الفرصة. الفعل اليوناني المستعمل هنا يدلّ على المكر والكذب. استعمله لوقا في 6: 7 (يراقبون هل يشفي)؛ 14: 1 (كانوا يراقبونه). والفاعل قد يكون الكتبة ورؤساء الكهنة الذين ذُكروا في نهاية الحدث السابق (آ 19).
قرأ المخطوط البازي اسم الفاعل: مضوا، تركوا رواق الهيكل حيث حصل الحدث السابق. هذا يدلي على تقارب مع مر 12: 12: "تركوه ومضوا". أرسلوا جواسيس. أناساً مستأجرين لكي يكذبوا. إن هؤلاء الأشخاص الذين جنَّدتهم سلطاتُ أورشليم، كانوا معروفين بتعفقهم بشريعة موسى. "ديكايوس": بار، صدّيق. هذا ما يُفهم عن السلوك الأخلاقي كما في التشريع. قال بعضهم: إن هؤلاء الجواسيس هم فريسيون. ولكن الفريسيين لا يظهرون في هذا القسم من إنجيل لوقا. ثم إن لفظة "صديق" ليست محصورة فيهم. رج 2 كور 11: 15: "يظهر خدمه بمظهر الخدَم الصديقين".
"ليأخذوه في كلامه". أي: ماذا سوف يقول؟ يريدون أن يعرفوا إذا كان موقف يسوع صادقاً تجاه رومة أو تجاه شريعة موسى. وهكذا يصلون إلى مآربهم، ويضعون يدهم عليه. هنا نتذكر كلام يسوع في 18: 32: يُسلَم إلى الأمم. سيسلمونه إلى الوالي. وهكذا نكون في جوّ سياسي على مثال ما في 23: 2- 5: "يمنع الشعب من دفع الجزية إلى القيصر، ويدّعي أنه المسيح الملك". أما في مر 12: 13 ومت 22: 15- 16 فلا نجد وجهة سياسيّة واضحة.
ب- سألوه قائلين (آ 21)
سأله الجواسيس الذين أرسلوا إليه. يا معلّم (ديدسكالوس، رج 3: 12؛ 7: 40). أنت تتكلّم بالصواب. حسب التعليم المستقيم. رج 7: 43 (بالصواب حكمت). 10: 28 (مثل السامري، بالصواب أجبت). في مر 12: 14 ب قالوا إنهم يعرفون أن يسوع هو صادق وأهل لأن يصدّق. أما تدوين لوقا فيليق بما يعلّمه يسوع. بما أنه تعليم مستقيم فهو يفرض الصمت. وهذا ما حدث في نهاية الخبر.
لا محاباة عندك. لا تأخذ جانب الواحد دون الآخر. وهذا ما يهيّئ القول الآتي. نقرأ في أع 10: 34 في خطبة بطرس في بيت كورنيليوس: "الله لا يحابي الوجوه"، لا يفضّل أحداً على أحد، لا يفضّل اليهودي على الوثني. في العبرية "نسا فنيم". رفع رأس فلان. وأخفض رأس الآخر. قدّر الأول ورضي عنه بخلاف الآخر. "طريق الله" (مر 12: 14) أي السلوك الذي يفرضه الله. إرادة الله وما يطلبه من الإنسان (كما في الشريعة). طريق الله تجعله "صديقاً" مثل الصديقين الذين جاؤوا ليوقعوا به. يا للسخرية! يا للكذب!
ج- هل يجوز لنا (آ 22)
هل نكون عائشين حسب الشريعة ونحن صديقون؟ زاد لوقا على مرقس "لنا" لأنه ألغى السؤال الثاني من مر 12: 14- 15. ولفظة "لنا" تأخذ رنّة خاصة بالنسبة إلى هؤلاء الجواسيس. إن كلمة "فوروس" قد استعملها يوسيفوس ليتحدّث عن الجزية الرومانية التي فرضها بومبيوس على منطقة اليهودية وعلى أورشليم. في هذا السياق الإنجيلي، قد نكون أمام الضريبة المباشرة المفروضة على بلاد اليهودية.
"قيصر". هو حاكم الامبراطورية الرومانية. كان في ذلك الوقت طيباريودس (3: 1). في الأصل، كان "قيصر" لقب "غايوس" يوليوس قيصر. في 13 أيلول سنة 54 ق. م.، تبنّى أوكتافيوس. بعد مقتل قيصر على يد بروتوس وكاسيوس في أذار سنة 44، اعتُرف باوكتافيوس كابن ليوليوس قيصر بالتبني. ولهذا سمّي: غايوس يوليوس قيصر اوكتافيانوس. واتخذ خلفاؤه من بعده اسم "قيصر".
د- أدرك مكرهم (آ 23- 26)
أدرك يسوع أنهم مستعدون لكي يلجأوا إلى جميع الوسائل من أجل مأربهم. أدرك أن سؤالهم لا ينبع من رغبة حقيقيّة في المعرفة. كان الدينار النحاسي 3.8 غرام. استعمل في العالم الروماني منذ سنة 268 ق. م.، وظلّ يستعمل حتى عهد سبتيموس ساويروس (193- 211 ب. م.). نجد على الدينار رأس طيباريوس والعبارة التالية: "طيبارويس قيصر، ابن أوغسطس الإله السامي". كانت الصورة والكتابة على النقود تدلّ على أن هذه النقود هي ملك القيصر. وفي خلفيّة جواب يسوع توبيخ: إن الصورة على النقد هي رجس عند اليهودي التقي، كما يقول خر 20: 4.
"أعطوا ما لقيصر...".. بدَّل لوقا ترتيب الكلمات كما وجده عند مرقس. "تا تو تيو": أشياء الله. ما يخصّ الله. ما هو لله. نقرأ هذه العبارة في 1 كور 2: 11: "ليس أحد يعرف ما قي الله إلاّ روح الله". ما يخصّ الله، ما يمنحه الله، يتعارض ما هو للبشر. وفي 1 كور 2: 14 (روح الله - الأسرار المعروفة لدى الروح)؛ 7: 32- 34 (ما يخصّ الله وما يخصّ العالم)؛ مر 8: 33 (أفكار الله، أفكار البشر). في هذه الأقوال تبدو "تا تو" أشياء يجب أن تعود إلى الشخص الذي تخصّه.
إن يسوع في إنجيل لوقا لا يمنع من امتلاك المادة لكي ندفع الضرائب للسلطة الدنيويّة. غير أن تعليمه في هذا الحدث لا يعارض ما قاله في 16: 13 د: "لا تعبدوا الله والمال معاً". فالجزية لقيصر ليست "جزية" ندفعها لمامون.
ورأى الشعب. هذا يحيلنا إلى اتهامات يسوع من قبل سلطات أورشليم (23: 1- 2). "لم يستطيعوا أن يأخذوا عليه شيئاً". لأنه لم يردّ على سؤال الجواسيس كما انتظروا. "دهشوا، لزموا الصمت". لقد فشل عملاء السلطة في أورشليم، مع أنهم كانوا "صديقين"!
4- ما لقيصر لقصير، وما لله لله
أجبرهم يسوع على التلفّظ باسم قيصر، وقد أرادوا أن يتجنّبوه. حينئذ قال لهم: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" (آ 25). من جهة، تحاشى محاباة الوجوه (آ 21 ج). عليهم أن يدفعوا لقيصر ما يجب، وبالأحرى أن "يدفعوا" لله ما يجب. لا علاقة لهذا التعليم بيسوع نفسه، بل هو يوجّه سلوك تلاميذه. من جهة ثانية، لا يرتبط جوابه بالنقود أو بأية ضريبة. فكل شيء يدلّ على إبراز القسم الثاني من القول: أدّوا ما لله لله. وهكذا ظهرت ثلاثة تفاسير لقولة يسوع هذه.
* التفسير الأول: كلام عن المملكتين. يعود هذا التفسير إلى زمن الآباء. لا يوحي يسوع فقط بدفع الجزية للملك، بل يريد أيضاً أن يعلّمنا موقفاً خاصاً تجاه السلطة السياسيّة أو الدولة، وهو موقف يؤثّر على حياة البشر. إنه يعود إلى الأفكار اليهودية القديمة. مع دا 2: 21، 37- 38؛ أم 8: 15- 16؛ حك 6: 1- 11. لقد تدشّن ملكوت الله. ولكنه لم يُزل الممالك السياسية في هذا العالم، ولم يحلّ محلّها. تجاه هذه السلطة السياسيّة، دلّ يسوع على حرّية سامية. ولكنه لم يُرد أن يثور على حقوقها الشرعيّة تجاه البشر. هذا التفسير هو صحيح بقدر ما يكتشف الأساس لدور الدولة في فكر يسوع. ولكنه يتّجه إلى المساواة بين ما هو لله وما هو لقيصر. وهذا هو ضعفه.
* التفسير الثاني: التفسير الساخر. أراد بعض الشراح أن يتجنّبوا التشديد على ما في التفسير الأول من وجه سياسي، ففهموا كلام يسوع وكأنه سخرية ومداعبة. لم يهتمّ يسوع أبداً بجزية تُدفع لقيصر. وتوصيته "أدّوا ما لقيصر لقيصر" هي مداعبة لا يجب أن تُحمل على محمل الجدّ. يعطي الواحد لقيصر ما يخصّ قيصر. ولكن ما هي أهمية هذا تجاه ملكوت الله؟ إن هذا التفسير يجعل القسم الثاني يعارض القسم الأول. ولكن أداة العطف هي "الواو"، لا "بل" اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لا، بل ما لله لله.
* التفسير الثالث: تفسير يعارض الغيورين. أراد يسوع أن يعارض معارضة جهارية رفض الناس بأن يدفعوا الجزية الرومانية، غير أن كلامه لا يعالج مسألة الدولة. أراد أن يقول لسامعيه إنهم يستوضحون سؤالاً ثانوياً وحسب. وإنهم يتوقّفون عند أمور لا تتعدّى عالم الأرض. النقد يخصّ قيصر. أما أنتم فتخصّون الله. الناقد الذي يحمل صورة قيصر، يجب أن نردّه إلى قيصر. والبشر الذين يحملون صورة الله، يجب أن يكونوا لله.
إن هذا التفسير الثالث يوجّهنا في الخط الصحيح. فيسوع لا يقابل بين مملكتين متوازيتين، بل يفصل بينهما. ثم إن يسوع يشددّ لا على الصورة فقط، بل على الكتابة أيضاً. و"ما هو الله" يعود بنا إلى أش 44: 5 حيث يتحدّث النبي عن خدمة الله. "أنا أخصّ الله" (في السبعينية: تو تيو ايمي).
يفترض قول يسوع مقابلة بين ما تدلّ عليه صورة قيصر، وما تدلّ عليه صورة الله (تك 1: 26- 27). فالملكوت الذي يكرز به يسوع لا يطرح على بساط البحث ملك القيصر. ولكن ليس هذا هو الوجه الأهمّ في الحياة البشريّة. فالإنسان يخصّ الله وهو يحمل صورته. لله سلطة الملك على البشر، كما له السلطة بأن يعترفوا بسيادته.
وجب على كل ذكَر في زمن يسوع أن يدفع نصف شاقل ضريبة للهيكل كل سنة (خر 30: 11- 14). وحين سيطر بومبيوس على البلاد، حوّل هذه الضريبة من أجل رومة. ولما جاء يوليوس قيصر، خفّف هذه الضريبة، بل عفا اليهود منها في السنة السبتية. وإحصاء كيرينوس كان في خدمة الضرائب التي تُجمع بشكل خاص في سورية وفي اليهودية (أع 5: 37: يهوذا في زمن الاحصاء).
إن جزءاً من المسألة في القرن الأول في فلسطين التي كانت الخلفيّة للسؤال الذي طرح على يسوع، كان: ما هي ردّة فعل شعب الله (اليهودي، والمسيحي فيما بعد) تجاه الحكم الوثني؟ إن قوّات رومة تحتل البلاد وتفرض الجزية. لا نقرأ هذا الحدث وكأنه سؤال موجّه إلى يسوع: هل هو بجانب الغيورين الذين رفضوا دفع الجزية إلى رومة؟ هل هو بجانب الفريسيين الذين قبلوا بهذا الواجب؟ لم يوافق يسوع هذه الفئة ولا تلك. جُعل أمامه سؤالٌ بشكل فخّ، فقدّم جوابه ورفع السؤال إلى مستوى عالٍ: تجاوز مسألة الجزية لقيصر، وأشار إلى سلطان الله على جميع البشر.
لا ننسَ علاقة كلام يسوع بتعليم بولس في روم 13: 1- 7، وبطرس في 1 بط 2: 13- 17. لا يحضُّ بولس الرومان على الطاعة وعلى دفع الجزية في "عالم الربّ" (1 تس 4: 15؛ 1 كور 7: 10)، بل يحضُّهم على دفع الضرائب، لأن السلطات خدّام لله. يجب أن نطيع السلطة السياسية وندفع الضرائب، لأن السلطة "خادمة للرب من أجل الخير" (روم 13: 4 أ). هل عاد بولس إلى قول يسوع هذا؟ الأمر ممكن. وقد يكون عاد إلى مت 17: 27 أ حيث دفع يسوع ضريبة الهيكل.
خاتمة
إن كلام يسوع لا هذا الخبر يبيِّن كذب اتهام يسوع بالعمل السياسي في 23: 2. مثل هذا الاتهام لا نجده إلا في انجيل لوقا. لقد فهم خصومه مملكته المسيحانية وكأنها مملكة سياسيّة. لا، ليس يسوع ملك اليهود الذي يعارض ملك القيصر. ومع ذلك سيُحكم عليه بالموت بناء على هذه التهمة 23: 37- 38).
في القرون المسيحية الأولى طُلب من المؤمنين أن يختاروا بين الولاء التام للمسيح والولاء التام للسلطة الدنيوية التي ترفض حق الله الواحد على البشر. غير أن الولاء للسلطة السياسية لا يعني العصيان للرب الذي هو أحقّ بالطاعة من البشر (أع 4: 19). يبقى أن يسوع حين قال: أعطوا ما لقيصر لقيصر، طلب منا الطاعة للحاكم شرط أن لا تتعارض هذه الطاعة مع شريعة الله.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM