الفصل التاسع: مثل الكرّامين القتلة

الفصل التاسع
مثل الكرّامين القتلة
20: 9- 19

بين الأمثال التي تروي تاريخ مخطّط الله، كمثل الابنين (مت 21: 28- 32) ومثل الأعراس الملكية (14: 15- 24= مت 22: 1- 14)، نجد مَثل الكرّامين القتلة (20: 9- 19= مت 21: 23- 44- مر 12: 1- 11). في هذا المثل يعلن يسوع مصير إسرائيل فيحدّد موقعه في تاريخ الأنبياء الطويل. ولكنه في هذه المرة يربطه بمصيره الخاص: يدلّ على نفسه أنه الإبن الحبيب، ويتميّز بوضوح عن كل الخدّام الذين سبقوه. وهكذا دلّ على أنه جاء في الاخير لكي يتمّ التاريخ المقدّس.
وعلى مستوى النقد الأدبي، هذا المثل هو أحد الثلاثة التي أوردها الإزائيون الثلاثة. أما هذا المثل فهو قريب من الأمثلة "التاريخية". إنه يشكل استعارة تجعلنا نكتشف وراء كل شخص ووراء كل مشهد واقعاً من نوع آخر.
1- تفصيل المثل عند لوقا
إن المثل الذي طفق يسوع يرويه، يتوجّه إلى الشعب الحاضر في الهيكل (آ 9)، فيحرّك عنده ردّة فعل: لا سمح الله (آ 16 ب). ومع هذا، فالرؤساء الروحيون في إسرائيل الذين سبق لهم وحاولوا أن يقتلوا يسوع (رج 19: 47)، فهموا جيداً أن هذا المثل قيل أولاً عليهم. في متّى ومرقس، يتوجّه المثل فقط إلى السلطات. وأدخل لوقا الشعب فعرض علينا أن نكتشف المعنى على ضوء آ 16 ب.
إن تكن الاشارات الاستعارية غير بارزة في آ 9 ب- 12، وإن كان لوقا قد اكتفى بتلميح قصير إلى أش 5: 12 (زرع الكرمة)، يبدو أن الخبر هو استعارة عن تاريخ الخلاص. فصورة الكرمة تطبّق مراراً على إسرائيل في العهد القديم. وصاحب الكرمة هو الله. في هذا المثل أجّرت الكرمة، سلّمت إلى الكرّامين، طُلب منهم أن يعطوا ثمراً، أن يعطوا هذا الثمر الذي ينتظره الله من شعبه كما يقول لوقا (رج 3: 8- 9؛ 6: 43- 44؛ 8: 8؛ 13: 6- 9).
إن موضوع "السفر الطويل إلى الخارج" الذي التقيناه في أمثلة أخرى، قد يدلّ على المهلة التي تفصل الفصح والقيامة عن عودة الرب في نهاية الأزمنة. وقد يدلّ أيضاً على الزمن السابق لمجيء المسيح الأول. ونرى في الكرّامين مسؤولي الشعب الذين وبّخهم الأنبياء مراراً (حز 34) لتقاعسهم الصارخ. والخدّام يمثّلون الأنبياء الذين أرسلهم رب الكرم الواحدَ بعد الآخر. لا يشير لوقا إلى مقتل بعضهم (ق مر 12: 5). مع أن الموضوع يهمّه (13: 34). ولكن في تدرّج متنام على مستوى المعاملات السيّئة، إحتفظ لوقا بالموت للإبن وحده. وبجانب "الاضطهادات"، هناك فشل ملموس في الرسالة: صُرفوا صفر اليدين (آ 10- 11)، وطردوا (آ 12).
مع آ 13- 15 أ، تمتدّ الاستعارة الكرستولوجية. إن رب الكرم يواصل صبره وأمانته لمعاهدة ماضية. ففي المونولوج الذي فيه يعبرّ عن شخصيّته، نراه يبحث عن محاولة أخيرة، لأنه لا يريد أن يهمل امكانيّة (لعلّهم) حلّ سعيد. فأرسل أقرب الناس إليه لكي يمثِّله. أرسل ابنه الحبيب بما له من حقوق مشروعة. هذا اللقب مهمّ وهو يعود بنا إلى تك 22 وفي الأدب الراباني يدلّ على "ولد وحيد قتل". هنا يسوع نفسه هو الذي يسمّى بهذا الإسم. قد طبّق على نفسه لفظة الإبن في 10: 22 (أبي أعطاني كل شيء). وها هو يعلن أنه وارث الآب. من هنا ينبع كل سلطانه (رج 20: 1- 2). وهو ينبئ بوضوح تام عن موته في آ 14- 15: إن المسؤولين في العالم اليهودي يطردون المرسَل الأخير ويقتلونه.
وينتهي المثل بشكل دراماتيكي ويثير ردة فعل لدى الشعب (آ 15 ب- 16). لقد نفد صبر رب الكريم بعد أن طال. وعلى ضوء نبوءة يسوع في 19: 41- 44، قد يكون في مثل الكرّامين تلميحٌ إلى دمار أورشليم، وهو الحدث المأساوي الذي أزال عظماء الكهنة عن مسرح التاريخ. و"الآخرون" الذين يُعطى لهم الكرم، هم الرسل الذين تسلّموا شعب الله الجديد المؤلّف من اليهود والوثنيين. ولكن إليهم أيضاً يطلب يسوع حسابات (رج 12: 41- 48). وجاءت ردّة الفعل لدى الحاضرين واضحة (آ 16 ب): رفضوا الجريمة ورفضوا العقاب. لا يكون تضامن الشعب مع رؤسائه تاماً إلاّ في كارثة وطنية. في سنة 70، كل سكان أورشليم ذاقوا الأمرين.
حينئذٍ ألقى يسوع على هذا الشعب ذات النظرة التي ألقاها على بطرس (22: 61)، وتابع كلامه (آ 17- 18). طرح سؤالاً أوّل على سامعيه حول معنى الكتب المقدسة (آ 17). ولكنه لن يعطي جواباً لا هو ولا سامعوه. كل شيء ظلّ خفيّاً. ونقف مع استشهاد من مز 118: 8 حيث يطبّق يسوع على نفسه القاعدة الالهية التي تتحدّث عن انقلاب في الأوضاع (6: 20 ي). فتجاه فعل "رذل" الذي استعمله يسوع مرتين في إنبائه بالآلام (9: 22؛ 17: 25)، نجد الارتفاع والتمجيد. وهكذا لا ينتهي المثل بنبوءة عن موت الإبن، بل نرى فجر القيامة وقد بدأ طلوعه. بعد القيامة، سيستعمل بطرس النصّ الكتابي عينه ليعلن أن الله أعاد المصلوب إلى حقوقه الأساسية: حين جلس على العرش بالقيامة، صار حجر الزاوية في الشعب الجديد (أع 4: 11). إن هدف الكتاب المقدّس هو أن يكشف قصد الله الخفي الذي ينصف الإبن، وهو لا يأخذ كامل معناه إلا على ضوء الفصح والقيامة. فالتلاميذ أنفسهم سيحتاجون إلى القائم من الموت لكي يفتح لهم عقلهم حتى يفهموا (24: 25- 27، 32، 45). ولكن الساعة لم تحُن بعد لكي يقول يسوع ما كُتب في مز 118: 22.
وتشدّد آ 18 على المنحدر الثاني في دينونة الله. جمعت أش 8: 14- 15 مع دا 2: 34- 44. في أش الله هو في الوقت عينه صخرة يتأسَّس عليها أيمان أسرائيل، وحجر عثار للشعب بقدر ما يبدو الشعب لا مؤمناً. ونتيجة هذا الجمع كان تشاؤم نقرأه في مثل راباني: إذا سقط حجر على قدر، فالويل للقدر. وإن سقط القدر على الحجر، فالويل للقدر. فالحجر ليس فقط القطعة الأولى في البناء. فهو أيضاً يلعب دوراً هاماً في الهدم كما يقول المثل.
فعلى السامعين أن يختاروا، أن يقرأوا موقفهم تجاه يسوع الذي هو آية خلاف (2: 34). هذا هي الطريقة الوحيدة بأن لا يكونوا من الذين يرفضون أن يؤمنوا بالقائم من الموت، ولا من الذين يأتي ليدينهم في نهاية الأزمنة. وكان للتأكيد بُعد عام (كل من، كل إنسان، وليس فقط الشعب اليهودي). فاللاإيمان ليس ميزة الرؤساء القتلة وحدهم. ولا ننسى أن يسوع بكى منذ قليل على أورشليم في 19: 14 ي.
ستستنير آ 17- 18 بنور القيامة وتصبح واضحة كل الوضوح بالنسبة إلى التلاميذ. ولكن قراءة المثل بشكل استعارة (آ 9: 16 أ) قد جعل السلطات الدينية تفهم (آ 19). إلا أنها لما تتخلّ عن مشروعها المجرم. ولكنهم ما زالوا يخافون الشعب، وهذا ما يمنعهم الآن من تحقيق نواياهم.
2- التحليل الأدبي
يتوسّع خبر المثل في خمس محطّات. المقدمة (20: 9= مت 21: 33- مر 12: 1). إرسال الخدم (20: 10- 12= مت 21: 34- 36= مر 12: 2- 5). إرسال الإبن (لو 20: 13- 15 أ- مت 21: 37- 39 = مر 12: 6- 8). المستقبل (20: 15 ب- 16- مت 21: 40- 41 = مر 12: 9). التفسير الكتابي (20: 17- 18= مت 21: 42- 44 = مر 12: 10- 11). والخاتمة التاريخية (20: 9= مت 21: 45- 46 = مر 12: 12) تبدو بشكل تحقيق للمثل. سنعود إلى كل محطة ونقرأها في الأناجيل الإزائية الثلاثة.
أ- المقدمة (آ 9)
هناك اختلاف واحد بين الأناجيل الثلاثة: امتنع لوقا عن ايراد النبوءة مع ما فيها من تفاصيل كما في أش 5: 1- 7 (حوّط بسياج، حفر معصرة وبنى برجا، رج مت 21: 33). في هذه القصيدة أنشد أشعيا مرثاة على كرم صديقه الذي أعطى حصرماً برياً بدل أن يعطي ثمراً طيباً. ولهذا، عزم الصديق على تدميره. وبعد هذا يأتي التطبيق: إن كرم رب الجنود هو إسرائيل. نترك الآن جانباً مقابلة هذه القصيدة مع النص الأنجيلي، ونحاول أن نكتشف الوضع الأصلي لهذه المقدمة.
هل يعود أش 5: 2 إلى الأصل؟ لما يخف لوقا من أن يقصّر النصّ ويترك منه بعض الشيء لكي يصل مباشرة إلى هدفه. أما مرقس، فما اعتاد أن يسترسل في إيراد الاستشهاد. هذا يعني أننا أمام نص سابق للإزائيين. فقد يكون مرقس قد تسلّم نصّاً موسّعاً اختصره لوقا. والنص النبوي قريب من الترجمة اليونانية (السبعينية) لا سيما حين تبتعد عن النصّ العبري.
أش عبراني أش يوناني مت/ مر
وبنى برجاً وبنى برجاً وبنى برجاً
في وسطه في وسطه
وحفر فيه وحفر فيه وحفر فيه
معصرة معصرة معصرة
ونقبه وأحاطه وغرس
ونقى حجارته بسياج كرماً
وغرس فيه وغرس فيه وأحاطه
افضل كرمة كرمة سوريك بسياج
لم يكن الاستشهاد حرفياً كما في مز 118: 22- 23، إلا أن كلاًّ من نصّ مت ومر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنص السبعينية (وإن لم يكن ترتيب الكلمات ذاك الذي نجده في السبعينية). نستطيع أن نتحدّث عن تذكّر النص اليوناني، لا سيّما وأن مناخ المثل الاشعيائي والقرابة في الفن الأدبي وشكل الحوار "الهجومي"، تدلّ على تأثير حقيقي من النص النبوي على المثل نفسه. هل كان الايراد في النص الأصلي؟ ربما لا. فهو يشدّد على تفاصيل تُوجّه الانتباه إلى محبة السيد لكرمه. وهذا ليس هو المعنى الاجمالي للمثل، ولا يتوافق مع رجل أجّر كرمه وذهب إلى مكان بعيد. فقد تكون زيدت هذه التفاصيل لا مرحلة سابقة للتدوين الإزائي. لماذا؟ هذا ما نقوله فيما بعد.
تخصّ الكرمة "انساناً". وقال متّى في لغة يونانية خاصة: كان "رب البيت" (اويكودسبوتس). وسيقول مرقس ولوقا مع متّى فيما بعد: "رب الكرم". هل كان هذا الرجل غريباً، كما قال بعض الشرّاح؟ لا يبدو أن الأمر هو كذلك. فالنصّ واضح: ذهب إلى مكان بعيد (قد تعني العبارة: إلى العالم الوثني. بعد أن بشّر العالم اليهودي).
حين يسمع اليهودي مثل هذا المثل، يفكّر حالاً بقصيدة أشعيا. ويعرف أن حبّ الله سيتحوّل غضباً، لأن كرمه كان عقيماً. فكيف لم يستشفّ من خلال هذا الانسان الذي يغرس كرماً، ظلّ دينونة إلهية جديدة تهدّده؟ يبدأ المثل مثل نشيد الكرّام في كرمه. ولكنه يوجّه الأفكار في اتجاه آخر.
ب- إرسال الخدم (آ 10: 12)
هناك توافق في العمق واختلافات عديدة بين إنجيل وآخر على مستوى التفاصيل: عدد الوفود والخدم الذين أرسلوا، تصوير المعاملات السيّئة التي لاقاها الخدم.
تحدّث مرقس ولوقا عن ثلاثة وفود. وهناك تدرّج في تصوير المعاملات السيّئة. نبدأ مع مرقس: الخادم الأول ضُرب. الثاني: ضُرب على رأسه وأهين. الثالث: قتُل. ولكن هذه الحركة التدريجية سوف تنقطع حين يذكر مرقس مقتل الخادم الأخير قبل الإبن. ثم يزيد: "وأرسل آخرين كثيرين فضربوا بعضاً وقتلوا بعضاً" (مر 12: 5). قدّم لوقا هذا التدرّج بإيجازه العادي، فصوّر المضايقات التي أخذت تزداد خطورة حتى الموت. الأول: ضُرب. الثاني: أهين. الثالث: جُرح وطُرد (هذا تفصيل يصل بنا إلى مصير الإبن). وترتبط خطيئة الكرّامين ارتباطاً أفضل بالحكم العام: لقد طُرد الخدم الثلاثة. ويوضح لوقا على دفعتين أنهم عادوا صفر اليدين ولم يحملوا إلى رب الكرم شيئاً من ثمر الكرم.
أشار متّى إلى بعثتين. وكانت الثانية استعادة للأولى: جلدوا بعضاً، قتلوا بعضاً، رجموا بعضاً (هذا ما حدث للأنبياء وللشهود الأولين في الكنيسة). أرسل الوفد الثاني: "صنعوا بهم كذلك". هنا نعود إلى كلمة يسوع في مت 23: 37 (رج لو 12: 34). وهكذا التقى متّى مع مرقس ولوقا فشدّد على إلحاح رب الكرم بارسال خدّامه رغم عداوة الكرّامين.
نلاحظ أن ربّ الكرم أكثر من الوفود، كما نلاحظ اهتمامه بأن يحصل على ثمار من كرمه. وبما أن الكرّامين رفضوا أي تجاوب معه، كان لهم ما استحقوا.
ما معنى هذه الوفود؟ هنا يتذكّر السامعون محاولات الله المستمرّة ليعيد شعبه إلى العهد بواسطة عبيده الأنبياء (2 مل 17: 13- 14). تحدّث متّى عن الرجم، ولمّح مرقس إلى المرسلين العديدين. واستعمل لوقا لفظة لاهوتية: بمبساي: أرسل. نحن هنا أمام واقع "غير معقول": لماذا يرفض الكرّامون أن يرسلوا من الثمار إلى ربّ الكرم؟ وهكذا نكون أمام استعارة تدلّ على وفود الأنبياء المستمرة إلى شعب اسرائيل الرافض دوماً نداء الله. ولن تتبدّل الحال مع المرسل الأخير، مع الابن، مع يسوع المسيح.
ج- إرسال الإبن (آ 13- 15 أ)
بعد وفود الخدم، أرسل الابن في النهاية. وبعد المعاملات السيئة ضد الخدم، جاء الجرم الرئيسي ضد الوارث. هنا يلتقي التقليد الأدبي في نقاط جوهرية عديدة حول إرسال الإبن: أولاً، هو الأخير (في آخر الأمر، مت ومر). أمل السيد أن الكرّامين سيهابون ابنه. ولكن الإبن مات لأن الكرّامين رغبوا في ميراثه. وتبقى اختلافات على هذا الأساس المشترك والعميق: عرض الخبر بشكل دراماتيكي (ترجّى السيد أن يُستقبل ابنه استقبالاً أفضل). ترتيب ظروف القتل (أولاً، طُرح خارجاً ثم قُتل أو العكس). لقب "الحبيب" في مر ولو (ابني الحبيب).
وضع غير معقول. كيف يخاطر هذا الأب فيرسل ابنه إلى كرّامين توضّحت نواياهم السيئة؟ كيف يتخيّل الكرَّامون أنهم يستطيعون أن يرثوا خيرات الإبن؟ قال بعضهم: وقد يموت الأب. لا نستطيع هنا أن نحصر تفكيرنا في المعنى الحرفي. هذا في الواقع ما عمله الله في محبته فأرسل ابنه. وهذا هو الواقع الذي تمّ حين قتل رؤساء اليهود يسوع المسيح وأرادوا أن يضعوا يدهم على كرمه.
إذا كانت صورة الإبن قد ظهرت في نهاية التاريخ، فقد كان ظهورها دلالة على خطورة ثورة الكرّامين. هكذا رُفض آخر "تعليم" أرسله الله. وهكذا نكون أمام رسالة يسوع وموته، أمام رفض للإنجيل. إلى من ننسب تفسير الاستعارة هذه؟ لا شك بأن يسمع بدأ بها وطبّقتها الجماعة المسيحية على نفسها. عرف يسوع أنه الإبن وأنه ذاهب إلى الموت. وعرفت الكنيسة أن تقرأ الكتب المقدسة من خلال ما حصل ليسوع في آلامه وموته وانتصاره الأخير.
هنا نطرح سؤالين: هل أنبأ يسوع بموته بهذا الشكل؟ هل أعلن عن نفسه أنه ابن الله الوحيد؟ إن يسوع تحدّث عن موته بوضوح أمام تلاميذه. وأشار إلى هذا الموت أمام خصومه، لا ليقاوم مشاريعهم السيّئة (ربما لينبِّههم إلى ما في عملهم من شّر كما مع يهوذا)، بل ليدلّ على أنه عالم إلى أين يذهب. هكذا وعى الأنبياء (مثل إرميا) مصيرهم أمام شّر الرؤساء. ويبيّن يسوع في هذا المثل آلامه القريبة بعد اضطهادات قاساها الانبياء. فهناك أقوال (مت 23: 32- 33) تربط موت يسوع بنشاط الكتبة والكهنة. لم يكن يسوع أول من ربط مصيره بمصير الأنبياء الذين سبقوه، ولكنه تفرّد بالقول على أنه يُتمّ اضطهاد البار.
ثم إن ما يقوله يسوع لا يعني فقط رسالته، بل شخصه أيضاً. فصورة الإبن في المثل تدلّ على أننا أمام ابن الله. أما قال يسوع لتلاميذه إنه "الإبن" (مت 11: 27؛ مر 13: 32)؟ أما دعاه "أبا، أيها الاب" كما يفعل الأبناء مع والديهم؟ قد يكون تريّث يسوع في إعلان هويته أنه المسيح أو الإبن. ولكن النهاية صارت قريبة. لهذا أعلن يسوع ما أعلن في هذا المثل، فلم يفهم الشعب. أما الكتبة والأحبار فأحسّوا أن يسوع ليس نبياً مثل سائر الأنبياء وحسب. غير أن عقولهم توجّهت إلى المصير المحفوظ للكّرامين، لا إلى صفة الإبن.
وهناك أيضاً لقب "الحبيب"، وترتيب ظروف مقتل يسوع. هذا ما سيساعدنا على توضيح المعنى العميق للمثل.
أوضح مرقس ولوقا أن هذا الإبن هو الحبيب (أغاباتوس)، على مثال ما في المعمودية (لا 3: 17 وز) والتجلّي (مت 17: 5 وز). أخذ يسوع هذه الصفة وان لا تزد شيئاً جوهرياً على الاساس. لا شك في أننا أمام شخص اسحق الذاهب إلى الموت. أجل، إن يسوع يفكّر في آلامه القريبة.
قال مرقس عن الإبن: قتلوه وطرحوه خارج الكرم. أما متى ولوقا فقالا: طرحوه خارج الكرم وقتلوه. هذا ما حدث في الواقع بالنسبة إلى يسوع. يقول يو 19: 17 إن يسوع "خرج من المدينة ليذهب إلى الجلجلة". وقالت عب 13: 12: "تألم خارج باب المدينة". هكذا كان اليهود يتصّرفون بالمحكومين بالإعدام بسبب التجديف (لا 24: 14- 16). وهذا ما حدث لاسطفانس الذي رُجم "خارج المدينة" (أع 7: 58). نلاحظ أولاً أن مرقس بدّل في تسلسل الاحداث (قتل، طرح) ليجعل خبره معقولاً تجاه الوثنيين. ونلاحظ ثانياً أن "طرح" (اكبالو) يسوع خارج المدينة يبدو انتقاماً من يسوع الذي سبق و "طرح" الباعة إلى خارج الهيكل (مت 21: 12 وز).
إن تاريخ الخلاص يتمّ في يسوع. إنه يعلن لمعاصريه أنهم قد يُطرحون خارج الملكوت حين يَطرحون خارج المدينة آخر الخدم الأنبياء الذي هو أيضاً ابن الله.
د- المستقبل (آ 15- ب 16)
بعد هذا المقطع تصبح الأفعال كلها في المضارع وتدلّ على المستقبل. فكأن موت الإبن القريب سيحدّد الزمن في نقطة نهائية: نستشفّ المستقبل في "الظلّ" مع يقين يمنحه وحي قصد الله.
إن نهاية هذا المثل عرفت توسّعات عدة في ما يُسمَّى التفسير الكتابي. ونعالج أولاً إعلان العقاب للكرّامين. تتوافق الأناجيل الثلاثة حوله طبيعة هذا العقاب وظروفه: إنها تربطه بمجيء السيد، وبتأجير الكرم إلى كرّامين آخرين. يأتي، يعاقب، يستبدل. إن موت الإبن ليس نهاية الدراما، بل سلوك رب الكرم. فهناك أمثال أخرى تدل على مصير الخدم الاردياء (12: 46= مت 24: 51). فالعذارى الجاهلات اصطدمن بباب مقفل: "لا أعرفكنّ" (مت 25: 11- 12). وكذا نقول عن الخادم الذي لم يتاجر بوزنته (مت 25: 11- 12).
كيف بدت نهاية المثل؟ بشكل سؤال كما في أش 5: 3- 4 (ماذا كان يجب أن أعمل؟). وهو سؤال ينتظر جواباً لا على مستوى القول وحسب، بل على مستوى الحياة. هل أعطى السامعون جواباً؟ إن شكل الحوار الذي يدلّ عليه متّى ولوقا يظهر في أمثلة أخرى: الابنان (مت 21: 31). السامري الصالح (10: 36- 37). وضعَ متّى على شفاه السامعين حكماً على الكرّامين، وهذا ما يدخل في التقليد التوراتي (2 صم 12: 5؛ 14: 18)، كما في خطّ لاهوت متّى. أما لوقا الذي اعتاد أن يوزّع المسؤوليات في موت يسوع، فقد جعل "الشعب" يحتجّ ضد حكم يصيب الكرّامين.
وتتوافق الأناجيل الثلاثة على معنى هذه النهاية. فمجيء رب الكرم هو من النمط الاسكاتولوجي. وعقاب الكرّامين يدخل في منطق الخبر. ونقلُ الكرمة إلى كرّامين آخرين هو الشيء الذي لم يكن ينتظره سامعون يهود. ففي التقليد البيبلي، قد يعاقَب إسرائيل، ولكنه يبقى الشعب المختار. أما هنا فلا تنتهي المأساة في عقاب الكرّامين. ولا يصوّر مصيرهم كما في الأمثال التي ذكرناها. فالاهتمام ينصبّ على الذين ذهبوا، بل على الكرمة التي يجب أن تصل ثمارها إلى الله.
وهذا التمييز بين الكرمة والكرّامين. قال أش 5: 7: "إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل". إذن، الكرمة هي شعب إسرائيل. والكرّامون هم رؤساء إسرائيل. ولكن كيف ينتقل إسرائيل إلى رؤساء يختارهم يسوع بنفسه؟ في بداية المثل، كان إسرائيل هو الكرم. وبالنهاية صار إسرائيل الكرّامين الذين يستحقون العقاب. وصار الكرم الكنيسة.
ونقول أيضاً إن الكرم دلّ على ملكوت الله لا على الشعب التاريخي. وهكذا فسخت الوحدة بين ملكوت الله وإسرائيل. بعد هذا، لم يعد الرؤساء وحدهم الكرّامين، بل مجمل إسرائيل. "منه ينتزع الملكوت ويُعطى "لآخرين". من هم هؤلاء الآخرون؟ لا إسرائيل التاريخي. وتبقى النبوءة "غامضة" بعض الشيء قبل أن تتوضّح. وحين تعيش الكنيسة الأولى رسالتها ستفهم أنها كرم الرب وإسرائيل الجديد.
هـ- التفسير الكتابي (آ 17- 18)
ومع عقاب الكرّامين وجد المثلُ نهايته. بل انتقل الخبر من مصير الكرم والكرّامين إلى الإبن المقتول عبر رمزية حجر الزاوية (مز 118: 22- 23. إيراد حرفي حسب السبعينية). كان الاستشهاد موجوداً قبل أن يدوّن في الأناجيل الثلاثة. وسوف تعود إليه الكنيسة الأولى لا في هذا المثل فقط بل في أع 4: 11؛ 1 بط 2: 7.
ترك لوقا مز 118: 23 وزاد قولاً مأخوذاً من أش 28: 16 ودا 2: 45. نحن هنا أمام التأمّل عينه على ضوء نصوص كتابيّة أخرى.
وتأتي في النهاية الخاتمة التاريخيّة (آ 19)، فتبيّن لنا سامعي يسوع: الشعب والخصوم. نلاحظ هنا تبديل معنى المثل بالنسبة إلى أشعيا. فيسوع لا يعلن دمار الكرم، بل إحلال كرّامين "آخرين" محلّ كرّامين أولين. ولا يُبرز يسوع عقمَ الكرمة، بل تسلّط الكرّامين على الثمار. ثم إن الكرمة لا تدلّ على إسرائيل التاريخي، بل على واقع حيّ في قلب الله هو ملكوت الله. ونلاحظ أيضاً أن الجماعة المسيحية رأت في ذهاب السيد وعودته، المسيح الذي ذهب ويعود. ونلاحظ ثالثاً أن الدينونة تترك أمام الخطأة امكانيّة التوبة. نحن نجد ولا شكّ إشارة إلى موت يسوع ووحياً عن بنوّته الالهية. ولكننا نجد أيضاً تهديداً وتحذيراً (إن لم تتوبوا فسوف تهلكون جميعاً) وإعلان دينونة قريبة.
إن يسوع يشرف على تاريخ الخلاص. وقد ربط دينونة إسرائيل الأخيرة بمصيره الخاص. قد سبقه خدم آخرون، فطُردوا وقتُل بعضهم. وجاء هو "في الأخير". إنه الإبن. طرد وقتل، فدفع هذا العملُ الله إلى أن يعيد النظر في موقفه تجاه إسرائيل. وهكذا أعلن يسوع مصيره بالنظر إلى تاريخ الخلاص الماضي. ومع إنباءات الآلام، سوف يتطلع إلى المستقبل.
3- النظرة اللاهوتية
كان لهذا المثل الذي رواه يسوع أهمية كبرى في نظر المسيحيين الأولين. فقد وحّد بشكل متناسق، الوحي عن مصير الكنيسة والوحي عن مصير يسوع. ولهذا تحدّد وتطبّق بقدر حاجة المؤمنين. وذلك منذ قرئ المثل بالنظر إلى الوضع الجديد الذي خلقه الحدث الفصحي.
أ- النظرة السابقة للأناجيل الإزائية
نتوقّف هنا عند اثنين: التفاصيل التي جُعلت في تصوير الكرم، والايراد الكتابي.
أولاً: تفاصيل أش 5
قال يسوع: "زرع إنسان كرماً". وجاءت التفاصيل: حوّطه بسياج، حفر فيه معصرة، بنى فيه برجاً. هذا ما يجعلنا في خطّ أشعيا الذي يقابل بين عقم الكرم ومحبة الله. هذا نشيد حبّ الله لكرمه. ماذا كنت أستطيع أن أفعل لكرمي ولم أفعله؟ والوفود المتعاقبة في المثل، توخّت التشديد على تواصل مخطّط الله الذي وجد ذروته في مقتل الإبن. هذه الوفود تدلّ دلالة ملموسة على حبّ الله الذي لا يتخلىّ عن شعبه. وهذا الضوء الجديد يبرز خطيئة الكرّامين. وهناك أيضاً طرد الخدم صفر اليدين، الضرب على الرأس، مقتل الخدم. وتحدّث متّى عن مجموعتين. هل نحن أمام "شاهدين"؟ أم يريد متّى أن يوسّع المثل فيفكّر ب "أنبياء" لدى الوثنيين؟
وتفكير رب الكرم بابنه، ولقب "الحبيب" يجعلاننا في الخط عينه. كل هذا يدلّ على "ولع" الله بكرمه، ويشدّد على مخطّطه وهو مجيء الملكوت. كل هذا جعل الكنيسة تتعمّق في المثل، وحوّلت النظر إلى الله وحبّه. كما جعلها تبرز موضوع الدينونة وهذا ما نجده في التفسير الكتابي.
ثانياً: الإيراد الكتابي
تحدّدَ موقع الإيراد الكتابي في نهاية المثل فدلّ على أنه خارج بنيته، وأوضح اتجاها جديداً. ففي الجماعة المسيحية الأولى، فُهم مصير يسوع الذي رذله إسرائيل ثم قام، على ضوء النصوص البيبلية التي تتحدّث عن حجر الزاوية (أش 28: 16؛ رج 8: 14- 15؛ مز 118؛ دا 2: 44- 45؛ رج إر 51: 26؛ زك 4: 7). قرأت الجماعة هذه النصوص فرأت فيها إعلاناً نبوياً عن مصير ربها: صار حجر عثار لليهود. رفضه إسرائيل الرسمي. ولكنه جُعل حجر الغلق في بناء الكنيسة صباح الفصح. نظرت الكنيسة إلى حاجات الوعظ والدفاع المسيحي، فجمعت أقوالاً كتابية قصيرة وجعلتها في يد المعلّمين (كتاب صغير يرافق الواعظ بسبب كبر المخطوطة وارتفاع ثمنها). والتفسير الذي نقرأ في مز 118 جاء يوضّح فكرة حقيقية ليسوع. عرف يسوع أنه "يُرذل" (17: 25) ولكن ليكون مبدأ وحدة. وعبرّت الكنيسة عن يقينه هذا بصورة الحجر التقليدية: يُرذل فيجعله الله في قمة البناء.
واستغل هذا الرمز في وجهتين. حين نتوقّف على دور الحجر بالنسبة إلى مجمل البناء، نشدّد على تواصل مخطّط الله (أش 28: 16- 17)، على ثبات ملكوته الذي يدوم إلى الأبد (دا 2: 44). وحين ننظر إلى مصير الحجر الذي رُذل ثم رُفع إلى القمة (مز 118؛ أش 8: 14- 15)، نفهم أننا أمام إعلان مصير المسيح الشخصي. وقد اهتمت الكنيسة الأولى بمصير الرب أكثر من اهتمامها بمصير الملكوت.
حين شدّدت الكنيسة على الوجهة الكرستولوجية، حوّلت معنى المثل الأصلي الذي أشار إلى انتقال الملكوت إلى "آخرين". كان يسوع قد تحدّث عن موته (هو الأخير) في تاريخ الخلاص. وإذ أرادت الكنيسة أن تواجه شكّ هذا الموت، تطلّعت إلى مجد القيامة. كان هناك الدرفة الأولى من مصير عبد الله المتألم: سيذلّ "العبد". وقال المسيحيون: سيرتفع العبد ويمجّد. تحدّث المثل عن موت الإبن الآتي، وظلّ هذا الكلام محجوباً للسامعين الذين ظلّوا غارقين في الظلام. ولما تمّ الحدث، أضاءت الجماعة الأولى بضوء الفصح على إعلان موت الإبن فاتبعته حالاً بمجد القائم من الموت.
بعد هذا، لم يعد المثل فقط إعلاناً وانباءً، بل صار نظرة إلى الوراء (تعود الكنيسة إلى الماضي). إن هذا التبدل لم لمجن فكر يسوع، بل أوضحه بالنسبة إلى الكنيسة. وألقى التفسير الكتابي على هذا المثل ضوءاً ما أراد يسوغ أن "يُعمي" به خصومه (لم يأتِ الوقت بعد من أجل مجد القيامة). هذا الضوء قد دخل فيه إيمان المسيحيين الأولين، فكان منطلقاً لفهم بنوّة يسوع. والعزم الذي به سار يسوع إلى الموت، دلّ على أنه يتوجّه إلى مجد القيامة. فالواحد لا ينفصل عن الآخر.
في هذ المرحلة، شدّد التقليد بالاحرى على مصير الملكوت، على عمل الله الذي أقام ابنه. وهكذا يصبح المثل صرخة الانتصار: يسوع يعرف أنه "يُوقف". وهو يعرف أيضاً أنه سيكون الحجر الذي بدونه لا يقوم بناء إسرائيل. وهكذا نكون أمام وجهة كرستولوجية.
ب- نظرة مرقس
شدّد مرقس على الوجهة المسيحانية الاولانية. وهذا ما نكتشفه من التحويلات التي قام بها في التدوين القبل الازائي، ومن النظر إلى السياق الذي فيه جعل هذا المقطع.
في الظاهر لا يبدو مصير يسوع فريداً. يشدّد مرقس على المعاملات السيّئة التي قاساها الخدم. وقال إن الثالث قتُل وتبعه "عدد كبير" من المرسلين، وهكذا قطع التناسق الذي كان عند لوقا والذي أبرز مصير الإبن. ولكن هذا الشعور الأولى يمَّحى حين يصوّر عذاب الإبن: عنه وحده قيل إن الكرّامين استهانوا بجثته. قُتل الإبن في الكرم، ثم رُمي جسده خارج الكرم، أي خارج الملكوت الذي أعلن يسوع مجيئه القريب. فكأنه وجب على المسيح أن يُرذل ويُسحق حسب ما نقرأ في مز 19: 12. حسب لاهوت مرقس في خبر الآلام، يجب على يسوع أن يكون وحده لكي يتمّ الفداء. وحين أشار مرقس إلى جثمان الإبن المرمي خارج الكرم، شدّد مسبقاً على ألم يسوع وما فيه من ذلّ وانتهاك مقدّسات.
بيد أن الانسان الذي رُذل هكذا، قد جعله الله مفتاح التاريخ. فلنتعجَّب أمام عمل الرب. والجماعة الليتورجية التي تسمع عبر هذا المثل خبر الآلام والقيامة، تنهي "الرواية" بنشيد الفصح الذي هو هللويا.
إذا كان مثل الكرّامين القتلة يطلب من جماعة مرقس أن تلقي نظرة فصحيّة إلى الحدث، فهو يبقى إعلان دينونة قريبة. فإطاره يبرز الوضع المأساوي الذي فيه دخل المسيح. وحين أعلن يسوع هذا المثل، كان عائشاً في ظلّ موت مهدّد.
سبّق مرقس على نبذة قديمة تتحدّث عن المؤامرة في 12: 12، فأعلن منذ 11: 18 أن عظماء الكهنة والكتبة سعوا إلى قتل يسوع، ولكنهم خافوا من الجمع الذي دلّ على اعجابه بهذا النبي. إن هذا المناخ الدراماتيكي يبرز كل تفصيل من التفاصيل. دين يسوع ولكنه هو الديان. اتهم ولكنه هو من يَتهم. حُكم عليه ولكنه هو الذي يحكم كالنبي في شعب إسرائيل.
خ- نظرة لوقا
إتخذت رواية لوقا اتساعاً أكبر، وتدرَّجت المعاملات السيئة، فبرز موت الإبن الذي يشكّل ذروة المثل. نحن أمام خبر نراه بعيوننا. وهذا الخبر هو دراما يرى فيها الشعب المواجهة بين الله والكرّامين.
منذ زمن بعيد (20: 9) بدأ الله عمله. وآية الخلاف التي ظهرت بوضوح مع مجيء الإبن جعلت الكرّامين يعثرون. وهكذا نجد من جهة كرّامين تحصّنوا وراء إرادتهم بأن يطردوا الله من ملكوته. ومن جهة ثانية سيّد الكرم الصبور والكريم الذي يرجو ("ربّما"، آ 13) أن يهابوا ابنه و "يرسله" بدوره كما "أرسل" قبله الانبياء (آ 11- 13)، وكرّامين يصرفون عبيد الله صفر اليدين (آ 10: 11). هي معارضة تامّة بين الله والكرّامين.
هذا الصراع من التاريخ القديم يتركّز اليوم في توتّر حول شخص يسوع الحاضر هنا والذي يتكلّم. إن آية الخلاف التي تحدّث عنها- سمعان الشيخ في بداية حياة يسوع، قد انتصبت أمام الشعب كله (آ 9): فعلى كل واحد أن يجيب بدوره. وُضع اسرائيل أمام نظرة تقول إن ملكوت الله يسلّم إلى آخرين، فأجاب: "كلا، معاذ الله" (آ 16). الوضع خطير، ولهذا يقول الإنجيلي إن يسوع حدّق بنظره الثاقب وقال كلمته القاسية حول الحجر الذي رذله البناؤون.
إنطلق لوقا، شأنه شأن مرقس، من الاتجاه الكرستولوجي (كما وجد في التقليد القبل إزائي). فأغناه بدرس حول الاختيار وجده في سياق الخبر: أنكون مع المسيح أم ضدّ المسيح؟ ولا تنتهي خاتمة الخبر بهتاف جماعة تنشد ليتورجية عمل الرب العظيم (لا يورد لوقا مز 118: 23: هذا هو عمل الرب)، بل بتنبيه هائل (كما في عظة) يوجّه إلى الشعب كله (آ 9) الذي ميّزه عن الكتبة وعظماء الكهنة (آ 19). كل واحد مدعوّ لكي يلتحق بالمسيح. "من وقع على هذا الحجر تحطّم، ومن وقع الحجر عليه سحقه" (آ 18).
د- نظرة متّى
يقدم لنا متّى لوحة عن تاريخ الخلاص. بعد مقدمة قصيرة (مت 21: 33) يُبنى المثل في درفتين: حُرم رب الكرم من ثمار كرمه رغم الوفود التي أرسلها وأنهاها بابنه (آ 34- 39). حينئذٍ سلّم كرمه إلى كرّامين آخرين يؤدّون الثمار في حينها (آ 40- 44). كل لوحة تبدأ بجملة زمنية: "ولما حان أوان الثمر" (آ 34). "وحين يأتي رب الكرم" (آ 40).
إذا استندنا إلى آ 43 نكتشف المعنى الاجمالي للمثل بحسب متّى. نحن لسنا أمام استعارة عن الخلاص، ولا أمام اتهامٍ يدلّ على خطيئة إسرائيل، بل أمام تعمّق في المثل الأصلي. تطلّع المثل أولا إلى مصير الملكوت، ثمّ إلى شخص القائم من الموت ومصير الإبن. فالنظرة الكنسيّة ضمّت في داخلها الاتجاه الكرستولوجي الذي أبرزه مرقس ولوقا. أما متّى فأعلن أن مجيء الشعب الجديد يرتبط بمصير ذاك الذي يتكلّم والذي سيموت والذي سيقوم.
إذن، يجب أن نأخذ جانبه، أن "نتحزّب" له لئلا يسحقنا حجر الغلق. هذا تحريض يدلّ على الهمّ الرعائي في الجماعة التي تقرأ اليوم المثل لتقدّم درساً لأولادها. فملكوت الله الذي انتزع هو يسوع نفسه. والدينونة التي أصابت إسرائيل التاريخي قد تقع على الكنيسة. هناك دينونة تمارس على مستوى الميثاق الجديد. وقد تكون خطيئة إسرائيل هي خطيئة "الجيل" الجديد. فلا يفلت أحد من واجب إعطاء الثمر لرب الكرم.
خاتمة
نكتشف أولاً في هذا المثل إعلاناً عن عقاب إسرائيل، أقلّه تجاه أولئك الذين رفضوا المسيح. وهذا العقاب يتهدّدنا نحن اليوم أيضاً. ونكتشف ثانياً تتمّة نبوءة سمعان الشيخ. حقاً صار يسوع آية خلاف وعثار: جُعل لسقوط وقيام الكثيرين. كل واحد يختار. أن يبني على هذا الأساس، على حجر الأساس، أم أن يتحطّم ويُسحق. نظرة يسوع كانت نظرتين. نظرة مغضبة إلى عناد أهل المجلس، ونظرة عطف تدعو الشعب إلى التفكير والتأمّل. وانفصل الشعب أقلّه مؤقتاً عن رؤسائه. اعتبر يوحنا المعمدان نبياً وها هو يعترف أقله اعترافاً ضمنياً بالأصل الإلهي لرسالة يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM