الفصل الخامس: دخول يسوع إلى أورشليم

الفصل الخامس
دخول يسوع إلى أورشليم
19: 28- 40

إنّ دخول يسوع إلى أورشليم يرد في الأناجيل الأربعة. الاختلافات عديدة بين إنجيل وآخر، منها اللافت ومنها الذي نكاد لا نراه. لهذا السبب، سننطلق من نظرة شاملة إلى انجيل لوقا ثم نعود إلى ما تقدّمه الأناجيل الأربعة عن هذا الحدث المسيحاني الذي انطلق من جبل الزيتون ليصل إلى أورشليم. هناك أُعلن الملك الآتي باسم الرب. هناك أعلن المجدُ في الأعالي والسلام في السماء على ما أنشد الملائكة ليلة الميلاد.
1- نظرة اجمالية إلى النص
مع هذا الحدث يبدأ القسم الخامس من انجيل لوقا. لقد انتهى سفَر يسوع الطويل (الصعود إلى أورشليم). وعاد لوقا فانضمَّ إلى الأناجيل الثلاثة لكي يروي دخول يسوع إلى أورشليم. يكرَّس هذا القسم من الإنجيل اللوقاوي بشكل خاص، لعمل يسوع في الهيكل الاورشليمي. فالأحداث الأربعة (28- 40، 41- 44، 45- 46، 47- 48) هي أحداث انتقالية، لأنها تبدو أيضاً كقمّة في السفَر الذي تحدّثنا عنه. وهي في الوقت عينه تصوّر بشكل عام اقتراب يسوع وردّة الفعل هناك. أورشليم هي مدينة مصيره وهيكلها هو بيت أبيه.
هيّأ لوقا قرّاءه لهذا القسم من الإنجيل بإشارات عديدة إلى أورشليم التي طبعت بطابعها صعود يسوع إليها. في 9: 51: صمَّم أن ينطلق إلى أورشليم. في آ 53: كان متوجّهاً إلى أورشليم. في 10: 30: رجل منحدر من أورشليم. 13: 4: الساكنين في أورشليم (رج 13: 22، 33، 34؛ 17: 11؛ 18: 31: ها نحن صاعدون إلى أورشليم، 19: 11: كان قد اقترب من أورشليم).
مع هذا الحدث الأول من هذا القسم (19: 28- 40)، وصل يسوع إلى جوار المدينة واستعدَّ للدخول إليها حيث ينادى به ملكاً (وسيذهب إلى الهيكل مباشرة. يضع يده عليه كما على المدينة وكأنهما يخصّانه). وهذا الحدث يتمّ أيضاً ما أعلن في 13: 35. فقد قال يسوع في رثائه لأورشليم: "أردت أن أجمع بنيك، فلم تريدوا. فها هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً. وأقول لكم: لن تروني حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب".
أ- نواة الحدث
تعود نواة هذا الحدث الذي هو دخول يسوع الملكي إلى هيكل أورشليم، إلى إنجيل مرقس (مر 11: 1- 10؛ مت 21: 1- 9). عمل لوقا كما فعل متى، فأعاد صياغة الحدث ليتوافق مع هدفه، ولكنه هكذا حوّل مواد مرقس بعد أن أقحم في المتتالية الحدثين السابقين (زكا العشار، 19: 1- 10، مثل الدنانير، 19: 11- 27). لقد ألّف لوقا آ 28 لتكون مقدّمة انتقالية. إنها تربط هذا الحدث بالمثل الذي سبقه (يسوع هو الملك العائد إلى ملكه، 19: 12) وتعود نواتها إلى المعين. وإن آ 29- 38 ترد كما في مرقس بعد أن ألّف لوقا آ 37 وزادها. حاول بعض الشرّاح أن يبيِّنوا أن لوقا استعمل غير مرقس في تأليف آ 29- 36، 38، ولكن البرهان لم يكن مقنعاً.
إنّ تدوين لوقا واضح. في آ 29: وحصل. في آ 30، تحويل الفعل اليوناني "أتى به" (رج آ 35). في آ 31: ألغى لوقا نهاية الآية: "ثم يردّه إلى هنا سريعاً" (مر 11: 3). استعمال جملة اسمية في آ 33: وفيما هما يحلاّن الجحش. وفي آ 34، وضع لوقا الخطبة المباشرة. قالا: "الرب يحتاج إليه" (مر 11: 6: قالا لهم كما قالت يسوع). في آ 36، لم يذكر لوقا الاغصان (مر 11: 8) بل اكتفى بالقول: "أخذ الناس يفرشون أرديتهم". في آ 38 زاد "الملك" وأغفل "هوشعنا"، كما أغفل العودة إلى مملكة داود أبينا، وأحلّ محلّها نداء آخر: "السلام في السماء والمجد في العلى". مع أن هذا التدوين ضمّ في بعض وجهاته عنصراً أو عنصرين من التقليد اليوحناوي، إلا أن هذا التأثير لا يدلّ على وجود مرجع آخر غير مرقس.
ونعود إلى آ 39- 40. أولاً: لسنا مؤكدين بأن هاتين الآيتين تعتبران جزءاً من هذا الحدث، لاسيّما وأن بعض الشرّاح يربطونهما مع آ 41- 42. ثانياً: يبدو أنهما شكل قريب من ست 21: 15- 16. ثالثاً: هناك شرّاح يعتبرون آ 37- 40 وحدة متكاملة. هذه النظرة الأخيرة تهمل التشابه بين آ 38 وهدف لوقا.
زاد لوقا آ 37 في موضع دراماتيكي من انجيله ليبرز هذا الموضع الجغرافي القريب من أورشليم، ويجعل المديح لله من أجل المعجزات التي صنعها يسوع يصل إلى المدينة المقدسة.
ب- لوقا ويوحنا
يشبه هذا الحدث اللوقاوي خبر دخول يسوع إلى أورشليم كما في يوحنا (12: 12- 6). هناك جمع كبير حاضر في أورشليم (من أجل الفصح (12: 1). جاء إلى ملاقاة يسوع ورفاقه، حين عرف أنهم داخلون إلى المدينة. جاء مع سعف النخل وهتفوا: هوشعنا. مبارك الآتي باسم الرب، مبارك ملك اسرائيل. وحين بدأ التطواف، وجد يسوع جحشا فركبه، وهكذا تمت كلمات زك 9: 9 (هناك قسم. والقسم الآخر في أش 40: 9). وزاد الانجيلي تفسيره: لم يفهم التلاميذ علاقة هذا الحدث بالكتب إلا فيما بعد.
هناك أربعة أمور تجعل المشهد اللوقاوي قريباً من المشهد اليوحناوي. الأول: دخل يسوع إلى أورشليم راكباً على حمار. ثانياً: الهتاف المأخوذ من مز 118: 26: مبارك الآتي باسم الرب (استعمل أيضاً في متى ومرض). ثالثاً: زيادة لقب "ملك" (كمّله يو 12: 13 فقال: ملك اسرائيل). رابعاً: يسمّى الحيوان في لو 19: 33، 35 "الجحش" (وهي الكلمة التي استعملها يوحنا حين أورد نص زك 9: 9).
أما الاختلافات بين يوحنا ولوقا فهي كثر أهمية. أولاً: لا يعرف خبر لوقا شيئاً عن الجمع الخارج من أورشليم للقاء يسوع. ثانياً: لا يتحدّث لوقا عن سعف النخل (ابتعد لوقا أيضاً عن مر 11: 8). ثالثا: لا يقول لوقا: ملك "اسرائيل" (ربما لسبب سياسي). رابعاً: سيجهل وجود الحيوان. خامساً: لا يذكر زك 9: 9 وكيف تمّت النبوءة (ربما لسبب سياسي). سادساً: لا يذكر تفسير الانجيلي الرابع حول عدم الفهم عند التلاميذ.
مقابل هذا، يتبع لوقا مرقس، فيصوِّر يسوع. أولاً: آتياً من بيت فاجي وبيت عنيا وجبل الزيتون. ثانياً: عارفاً كل شيء عن الجحش. ثالثاً: مرسلاً تلميذين مع التعليمات لكي يأتيا به. رابعاً: جالساً على الحيوان المجلَّل بالاردية وماشياً على أردية مفروشة على الأرض. خامساً: نازلاً من جبل الزيتون. سادساً وأخيراً: متقبِّلاً تحيّة الناس وهتافهم "السلام في السماء، والمجد في العلى". ونذكر أيضاً أن تطهير الهيكل في انجيل يوحنا لا يرتبط مع خبر دخول يسوع إلى أورشليم.
ج- الأساس التاريخي والمسيحاني
إنّ نواة الحدث (آ 28- 38) تُفهم من الوجهة النقديّة كخبر حول يسوع ارتبطت به آ 39- 40 بشكل إعلان للخبر. فالعلاقة بين آ 39- 40 والباقي، ومختلف الأشكال التي بها وصل خبر يسوع إلينا، تطرح علينا سؤالاً حول تاريخيته. إذا كانت آ 39- 40 شكلاً مستقلاً عن مت 21: 15- 16 حيث الأطفال (لا التلاميذ) يلامون، فيردّ يسوع على هذه التهجّمات بإيراد من مز 8: 3. حيئذ يُطرح سؤالا حول موقع هاتين الآيتين وشكلهما في الطبقة الأولى من التقليد الإنجيلي. بالإضافة إلى ذلك، إنّ "وجود" الجحش في خبر يوحنا يتعارض بقوة مع معرفة يسوع المسبقة في خبر الازائيين حول الحيوان (أو الحيوانين كما في مت 21: 7). ثم إنّ استعمال زك 9: 9 بطرق مختلفة في الأناجيل الازائية يطرح سؤالاً.
إستعمل لوقا لفظة "جحش" (بولوس). وحيث نجد عبارة "ما ركب عليه أحد من قبل" يعكس فكرة مر 11: 2 مع زك 9: 9. أما مت 21: 4- 5 فقد أورد بوضوح زك 9: 9 قائلاً: "وكان هذا ليتمَّ ما قاله النبي".
إنّ الأساس التاريخي للمشهد قد يكون دخول المسيح إلى أورشليم مع جمهور من الحجّاج الفرحين والمنتظرين الخلاص. وركب يسوع حماراً وهتف له تابعوه كلام مز 118: 26. هنا يجب أن نتذكر أنّ يسوع في التقليد اليوحناوي قد ذهب أقله ثلاث مرات إلى أورشليم (2: 13؛ 5: 1؛ 12: 12). أما التقليد الازائي فلا يعرف ليسوع إلاّ صعوداً واحداً إلى أورشليم من أجل عيد الفصح (مر 14: 1؛ مت 26: 2؛ لو 22: 1). جاء الحجّاج إلى عيد حنوكة (أو تدشين الهيكل) أو عيد المظال. ودخل يسوع معهم.
هل إن لدخول يسوع إلى أورشليم إشارة مسيحانية في نظر رفاقه (الطبقة الأولى في التقليد الانجلي)؟ من الصعب أن نقدِّم جواباً على هذا السؤال. ولكن حين نما التقليد الانجيلي (الطبقة الثانية والطبقة الثالثة)، فُهم هذا الدخول بشكل مسيحاني.
يقول كومل: إذا كان يسوع دخل إلى أورشليم راكباً على حمار وسط هتاف الجموع، واذا كان التلاميذ قد تذكّروا هذا الواقع فيما بعد، فهذا يعني أن يسوع جعل نفسه في خط زك 9: 9. فالرابانيون قد طبّقوا هذه الآية على المسيح، فعرفها يسوع كما عرف معناها. ولكن لم يؤثِّر التأويل المسيحاثي لنص زك 9: 9 على انتظار مسيحاني ناشط. غير أنّ يسوع ربط نفسه بهذه النبوءة وأظهر أنه يريد أن يكون مسيحاً بدون أبهَّة، أنه يريد أن يكشف عن ذاته في عمل وضيع يرتبط بنهاية الأزمنة.
عمل لوقا مع مرقس فبدّل بعض التفاصيل في خبر دخول يسوع إلى أورشليم. إهتم بأن لا يُفهم دخولُ يسوع إلى أورشليم كحدث اسكاتولوجي (وصول مملكة أبينا داود، مر 11: 10). أو كحدث سياسي (إعادة الملك إلى اسرائيل، أع 1: 6). بل إن يسوع جاء إلى أورشليم كأحد الحجّاج، فهتف له الناس كما للملك، وهيَّأ مصيره، آلامه، وانتقاله إلى الآب.
د- معنى الحدث في انجيل لوقا
أولاً: سار يسوع في طريقه من الجليل، فدخل إلى مدينة مصيره وهدفِ كل تجوّلاته (23: 5)، إلى الموضع الذي منه "يُرفع" (9: 51)، إلى موضع عبوره (إكسودس) إلى الآب (9: 31).
ثانياً: لم يدخل يسوع فقط إلى مدينة مصيره، بل إلى هيكله. ولما يدخل فقط كحجّ من الحجّاج آتٍ من أجل الفصح بعد أن حيَّاه الحجّاج بالتحيّة المسيحانية (مز 118: 26)، بل "الملك" و "ذاك الآتي" (نفهم في المعنى اللوقاوي هذه العبارة). هذه التحية تذكِّرنا بـ 13: 35 حيث ذُكر الاستشهاد في خبر الصعود إلى أورشليم. أما الآن "فالآتي" ليس فقط عبارة ملكية تعطى له، بل صدى يتوافق مع سؤال حمله وفد أرسله يوحنا من سجنه: "هل أنت هو الآتي" (7: 19)؟ وبكلمة أخرى، إن التحية التي هتف بها "حشد التلاميذ" (آ 37) هي مثقلة بمدلول أخذته من ملاخي (3: 1. من هنا أخذ الازائيون لقب الآتي).
إذن دخل يسوع أورشليم "الملك"، "ذاك الآتي" وكتتمّة نبوءة ملاخي. قالت السبعينية في مت 3: 1: "ها أنا مرسل رسولي وهو يهيِّئ الطريق أمامي. وفي الحال يأتي الرب الذي انتظره إلى هيكله ومرسل الله الذي تنتظرون. ها هو آتٍ، يقول الرب القدير". لهذا ذهب يسوع مباشرة إلى "الهيكل" (آ 45) كما يقول لوقا.
ثالثاً: اعترض الفريسيون على هذا الهتاف يطلقه التلاميذ ليسوع. وشرح يسوع كالمعلم: "إن سكت هؤلاء صرخت الحجارة" (آ 40). لا بدّ من هذا الهتاف حتى لو جاء من الحجارة التي بها بُنيت أورشليم بناءً محكماً (مز 122: 3). وكما في بداية خبر الصعود إلى أورشليم، رفض السامريون أن يدخل يسوع إلى قراهم (9: 52- 53)، فالفريسيون يرفضون الآن دخوله إلى أورشليم (تساوى السامريون واليهود).
"إقتربت أيام ارتفاعه" (9: 51). قد جاءت هذه الأيام ولكن بمعنى جديد مع أن "ملكوت الله" لا "يوشك أن يظهر" (19: 11). فالآن "كل ما كُتب في الانبياء" عنه قد تمّ (18: 31) في هذه المدينة. ستحمل "هذه الأيام" يسوع عبر الألم إلى "المجد" (24: 26) وتفتح الطريق من أجل تاريخ الخلاص. فيكمّل طريقه بواسطة الشهود الذين رافقوه من الجليل، الذين جنَّدهم للعمل وسلّمهم المهمة (24: 48).
إن الدخول إلى هيكل أورشليم هو تدشين مرحلة الآلام، وهو المرحلة الأخيرة في حياة يسوع. ولكن قبل بداية الآلام الخاصة، عليه أن يمارس في أورشليم رسالة التعليم في الهيكل. هو يصل الآن. لم نعد في المعنى الاسكاتولوجي ولا في المعنى السياسي. هو لا يأتي ليقيم الملك في أورشليم. إنه يأتي كملك أورشليم ومنها ينطلق السلام السماوي في طريق جديدة. وهذا التشديد على يسوع "الملك" في مشهد الدخول سيتواصل في خبر الآلام.
2- التقليد الانجيلي المربَّع
هنا نعود إلى ما يقوله كل من الانجيليين عن حدث هذا الدخول إلى أورشليم
أ- خبر مرقس (11: 1- 10)
نلاحظ خبراً في خبرين. من جهة، أرسل يسوع تلاميذه يهيّئون المطية (آ 1- 6). ومن جهة ثانية، هتفت له الجموع (آ 7- 10). هذه الرسمة نجدها أيضاً في خبر الاستعداد للاحتفال بالفصح (مر 14: 12- 16). هذا يعني أن يسوع رتّب كل شيء كما شاء. مهما يكن السّر حول مستقبل المسيح المباشر الذي فيه دخل التلاميذ، فالأوامر التي أعطيت لهم هي واضحة ولا لبس فيها.
ما نكتشفه عند مرقس هو الحديث عن "مملكة المصلوب". نجد أولاً مقابلة بين لقب "الرب" (الذي لا يرد مراراً عند مرقس كما عند متى ولوقا) ولقب "المعلّم" في 14: 14. هذا وضع فريد في الإنجيل الثاني: يسوع يتحدَّث عن نفسه على أنه "الرب" كما اعتاد أن يعلن نفسه "ابن الانسان". لسنا فقط أمام لقب تهذيبي (السيد) يُحتفظ به للشخصيات الكبيرة أو معلّمي الشريعة (رابي) أو حتى الملك. "كيريولس" تترجم هنا يهوه أي: الرب الإله.
بعد هذا، فالجحش في نظر مرقس هو مطية الملك المسيحاني. والهتاف الذي يرتفع يدل على أنَّ يسوع هو ابن داود، هو الملك، هو ملك اسرائيل، كما قالت الأناجيل فدلت على طريقتها في تأوين مز 118: 25- 26.
إن دخول يسوع إلى أورشليم هو جزء من منطق الوعد الداوديّ الذي أعطي لاسرائيل. ولكن يجب أن ندخل إلى "بقية" اسرائيل ونقاسمه إيمانه لكي ندرك ما يتمّ في "مدينة الملك العظيم" (مز 48: 3). وهذا ما يميّز النبوءة عن تحقيقها.
الآلام هي الحدث العظيم الذي به يرفض يسوع كل تكرار عقيم (كل سنة) فيكفل إلى الأبد أمانة الإنسان لكلمة الله. فالدور الحقيقي للدخول إلى أورشليم هو إيصال المسيح إلى مدينته ليتحمّل فيها الآلام. إنه الملك المنتظر. بل سيعلنه الضابط الروماني: "ابن الله حقاً".
ب- خبر متّى (21: 1- 9)
أولاً: تدوين إجمالي وتأوين الكتب
يستلهم متى في العمق خبر مرقس، ولكنه يقوم أيضاً بتحوّلات عديدة. وهو يرافق يوحنا في استعمال قسم من زك 9: 9. كان هدف متى أن يشدِّد على أتضاع يسوع وتواضعه إِبّان دخوله المسيحاني إلى مدينة الملك العظيم (رج مت 5: 35). إن يسوع هو ملك، شرط أن يكون قبل ذلك "الملك المتواضع". إلى مثل هذا الملك تتوجّه تطويبة الودعاء في مت 5: 5. وكان الملك نفسه قد أعلن: "أنا وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29).
دخل يسوع إلى أورشليم من أجل مسيرة دراما الآلام، التي بدونها لا يستطيِع أن يكون ملكاً حقيقياً. هنا نفهم إلى أيّ حدّ "مسحن" (أعطى طابعاً مسيحانياً) قول زك 9: 9 المعروف جداً عند اليهود. وألغى عبارة "إبتهجي بكل قواك يا بنت صهيون"، فأزال علامة الفرح (الواضحة جداً عند لوقا). مقابل ذلك، أحلّ محلّها الكلمات الأولى في أش 62: 11، فأشار ساعة كان يستعدّ يسوع ليتحمّل آلامه في أورشليم، إلى نظرة اسكاتولوجية حول أورشليم التي ستعود إلى بهائها بشكل نهائي (أش 60: 1- 62: 12).
ثانياً: حيوانان ومطية واحدة
يذكر متى هنا "الجحش" و"الاتان" (آ 2، 5، 7). إن نص زكا 9: 9 يتحدّث عن حيوان واحد (جحش ابن أتان). أو لا يرتبط بأي حيوان آخر (كالفرس). ووجود الاتان بجانب الجحش يدلّ على أنه ما زال صغيراً. هذا ما يقابل كلام مر 11: 2: ما ركب عليه إنسان.
وتظهر صعوبة أخرى. تقوله آ 7: وضع التلاميذ أرديتهم على الحيوانين وصعد يسوع "عليهما"! هنا لا ننسى الرقم، الذي يرد بتواتر في انجيل متى. فالحماران سيكونان شاهدين. وهما بخصوعهما سيدلاّن أولئك الذين رفضوا أن يسيروا في طريق الرب كيف يتصرفون. هنا نتذكر حمار بلعام (عد 22: 21- 35). رأت الأتان ملاك الرب قبل أن يراه "النبي" بلعام، وخضعت لأوامره قبل أن ينحني النبي ويسجد إلى الأرض. ونتذكَّر أيضاً كلام أش 1: 3: "عرف الثور قانيه والحمار معلفاً هيّأه صاحبه، أما اسرائيل فلم يعرف، وشعبي فلم يفهم".
ثالثاً: "ابن داود" هو "الرب"
جمع الانجيلي الدخول إلى أورشليم مع أعميَي أريحا (كما فعل مرقس). ففي خبر الشفاء (مت 20: 29- 34)، يذكر "الجمع" (آ 31، اوخلودس، يقول لو 18: 39: الذين يسيرون في المقدمة) فيدلّ على الدخول إلى أورشليم. وفي 21: 1- 9 نجد "الجمع الكبير جداً" (آ 8). ثم "الجموع الذين قدّامه والذين وراءه" (آ 9. أي: كل الذين يتبعون يسوع). كل هذه الجموع صرخوا، شأنهم شأن الأعميين: "ابن داود". هذه الإشارة الخاصة بمتى (عبارة مختلفة في مر 11: 9- 10) و لو 19: 38، تشدّد على الرباط العميق بين مت 20: 29- 34 ومت 21: 1- 9. نحن أمام لحظتين احتفاليتين تدلاّن على مرحلتين في مسيرة واحدة: الأولى تدل على الطريق الصاعد من أريحا إلى أورشليم. والثانية، على الدخول إلى أورشليم.
والمرحلة الثالثة في هذه المسيرة الصاعدة (بها يلتحم أيضاً الدخول إلى أورشليم) هي الهيكل. أبعد متى كلى نصّ يتوسّط الدخول إلى أورشليم والدخول إلى الهيكل (أخّر حدث التينة العقيمة إلى مت 21: 18- 19؛ ق مر 11: 12- 14)، لكي تتوالى المقطوعتان (بل المقطوعات الثلاث إذا حسبنا خبر أعميي أريحا) توالياً تاماً وتلتحمان. في حدث الهيكل، أقحم متى عنصرين خاصين به: شفاء "عميان وعرج" (رج 2 ص 2، 5: 6- 10، تقارب مع داود الذي يحتلّ أورشليم). حدث الأولاد الذين يهتفون هم أيضاً ليسوع: ابن داود.
أين يتمّ هذا الهتاف؟ في الهيكل، قلب مدينة الملك العظيم. وهو يعود بشكل ضمني ولكنه واقعي إلى مز 8: أيها الرب ربنا، ما أعظم اسمك في كل الأرض (آ 2، حسب السبعينية). وهكذا نجد التلاءم بين "ابن داود" و"الرب". وكنّا قد وجدناه في هتاف الأعميين: "ارحمنا، يا ابن داود" (20: 31). وهكذا نكون في مسيرة ليتورجية مع محطات ثلاث، في مسيرة حجّ تنتهي بتتويج المسيح في مسكن الرب الوحيد في أرض اسرائيل.
وسيعطي خبرُ الآلام هذا التتويج مدلوله الحقيقي. فـ "ابن داود" الذي نهتف له، هو الملك المتواضع (آ 5). وهو أيضاً ابن الإنسان الذي يصعد إلى أورشليم لكي يسلّم (20: 18: الانباء الثالث بالآلام). إن "ابن داود" هو "الرب" حين يكون "الملك المتواضع". هذه هي قمم ثلاث في انجيل متى.
ج- خبر يوحنا (12: 12- 19)
إن نص يوحنا ليس خبر دخول إلى أورشليم. ففي نظر يوحنا، قد جاء يسوع في السابق إلى هذه المدينة خلال رسالته العلنية. فالطريق التي تقود هنا إلى أورشليم (آ 12) هي موضع "مظاهرة". إختلف يوحنا عن مرقس ومتى اللذين يجعلان "مسحة بيت عنيا" في بداية خبر الآلام (مر 14: 3- 9؛ مت 26: 6- 13)، فجعلها حالاًَ قبل "الدخول المسيحاني" (12: 1- 11: يسوع يُمسح كملك).
أما الخبر فيختلف بشكل ملحوظ عمّا في الاناجيل الثلاثة. غير أن هناك تقارباً بين يوحنا ومتى (إيراد زك 9: 9)، وتقابلاً بين يو 12: 17- 18 (آية لعازر) ولو 19: 37 ("المعجزات" التي جعلت النالس يهتفون).
ما هو موقع ومضمون فعلات الشعب وكلمات الهتاف؟ إختلف يوحنا عن الازائيين الثلاثة، فحدّد موقعها في القسم الأول من خبره. وسبب هذا القلب نجده في كلمات الهتاف نفسها: "ذاك الآتي" هو "ملك اسرائيل". طبع النصَّ بطابع سياسيّ ووطنيّ (رج 1: 49؛ 6: 14)، فابتعد كل البعد عن العبارة الموازية في لوقا.
في القسم الثاني من الخبر اليوحناوي (آ 12 ي)، قام يسوع بفعلة نبوية (غير منتظرة): وجد جحشاً فركب عليه. إن ايراد الكتاب المقدس الذي يلي هذه الفعلة يعطيها بُعدها وأهميتها. "ها ملكك يأتي" (زك 9: 9). أغفل يوحنا تفكير يسوع السابق في عمله، واستعدادات التلاميذ له، كما أغفل عبارة متى "وديعاً وراكباً على جحش". فالعنصر الذي يفهمنا هذا الايراد نجده في كلماته الأولى: "لا تخافي، يا ابنة صهيون". يعود هذا النص إلى صف 3: 14- 16: "ترنّمي، يا ابنة صهيون... الرب ملك اسرئيل هو في وسطك فلا ترين شراً من بعد. في ذلك اليوم يقال لأورشليم: لا تخافي يا صهيون".
تلك هي خلفيّة نص يوحنا وسياقه المباشر وتسمية يسوع "ملك اسرائيل". إن الصورة (الإلهية) للملك قد تعرّت من كل أثر "وطني" في صف 3. فقد دخلت في مجموعة أقوال تبدأ بهذه الكلمات: "في ذلك اليوم أجعل للشعوب شفاهاً طاهرة ليدعوا باسم الرب ويعبدوه بقلب واحد" (آ 9). هذه هي الصورة التي يُسقطها يوحنا على "ملك اسرائيل" كما هتفت له الشعوب.
إن تقديم ملكية المسيح بشكلها الشامل، على مثال ملكية الله نفسه في أورشليم (صف 3: 15 ب)، تنطلق من اسرائيل إلى سائر الشعوب. هذا ما يقوله يوحنا في 12: 19. وهذا ما يهيّئ الطريق لوَحْي يقدّمه يسوع لليونانيين (12: 0 2)، ساعة تمجيد ابن الإنسان (12: 23).
3- خبر لوقا (19: 28- 40)
نبدأ ببعض ملاحظات تفصيلية، ثم نتحدّث عن موضوعين خاصين بلوقا.
أ- ملاحظات تفصيلية
أولاً: آ 28- 29
"بعد أن قال هذا" (آ 28)، يعني بعد أن أكمل مثل الدنانير (19: 11- 27) مع إشارة إلى شخصه كملك ذهب إلى أرض بعيدة ليأخذ لنفسه لقب ملك. لهذا لن يأتي الملك حتى يعود مع هذا اللقب الذي منحه الله إيّاه بجدارة. وقبل عودته، عليه أن ينتقل إلى أبيه، إلى حين خروجه و عبوره (9: 31).
"إنطلق يسير في المقدمة". هو فعل "بورويستاي" الذي يعود في ذروة هذا المشهد. هو في الماضي، وهذا ما يدل على التواصل والاستمرار. هو دوماً يسير أمام تلاميذه. فيبقى عليهم أن يتبعوه (رج مر 10: 32؛ ق لو 18: 31). تحرّك من الشرق، من أريحا، إلى أورشليم، إلى الغرب.
"دنا من بيت فاجي وبيت عنيا" (آ 29). حين يصعد الإنسان في الطريق الرومانية، من أريحا إلى أورشليم، يمرّ قرب بيت فاجي وبيت عنيا القريبتين والواقعتين على التلة المشرفة على أورشليم من الشرق (فوق وادي قدرون). تبع لوقا مر 11: 1 حين ذكر بيت فاجي وذكرها قبل بيت عنيا. بسّط متى مرجعه فذكر فقط بيت فاجي (مت 21: 9).
كانت بيت فاجي (التين الفجّ قدّمه مع خبر التينة العقيمة) قرية صغيرة على جبل الزيتون، ولكن موقعها بالضبط ليست معروفاً. يماثلونها اليوم مع ابوديس إلى الجنوب الشرقي من بيت عنيا وفي المنحدر الجنوبي الشرقي لجبل الزيتون. نحسّ لدى قراءتنا لوقا الذي يتبع مرقس، أن المسافر الآتي من أريحا يمرّ أولاً في بيت فاجي ثم في بيت عنيا. ولكننا لا نستطيع أن نستخلص الشيء الكثير من ترتيب مرقس لهاتين القريتين. بعد الصليبيين، حدّد بعضهم بيت فاجي في كفر الطور، في الجبل.
وكانت بيت عنيا قرية صغيرة أخرى، تبعد 3 كلم تقريباً إلى الشرق من أورشليم وعلى المنحدر الغربي لجبل الزيتون. ذُكرت في يه 1: 19 (حسب السبعينية: باتاني أو بيت عاني) وربما في نح 11: 32 (عنَنية). هي بيت العناء والفقر والحزن، أو ربما بيت حنانيا، بيت عنانيا (لا وجود للحاء أو العين في اليونانية). ستُذكر بيت عنيا أيضاً في 24: 50؛ رج مر 11: 1، 11، 12؛ 14: 3؛ مت 21: 17؛ 26: 6؛ يو 11: 1، 18؛ 12: 1 (لا نخلطها مع بيت عنيا بجانب الاردن، يو 1: 28). اليوم تُسمى القرية العازارية بعد أن حدّد موقع مدفن لعازر على يد أحد الحجّاج في القرن الرابع.
"الجبل المسمّى جبل الزيتون". هذه تلة من عدة تلال تشرف على أورشليم من الشرق وعبر وادي قدرون. وتمتدّ هذه "السلسلة" من الشمال إلى الجنوب على امتداد ثلاثة أميال تقريباً مع ثلاث "قمم" أعلاها رأس المشارف (أو جبل سكوبوس). إن القمة المركزية اعتُبرت دوماً جبل الزيتون (زك 14: 4). أما القمة الجنوبية فترتفع فوق قرية سلوان وتسمّى مراراً جبل الفساد.
"أرسل اثنين من تلاميذه". يبدأ الخبر: وحدث أنه...
ثانياً: آ 30- 31
"جحش". تبع لوقا مر 11: 2 فسمّى الحيوان "بولوس". استعمل مت 21: 2 "اونولس" (حمار) بسبب ما يرد في زك 9: 9. لم يغيرّ متى فقط اللفظة، بل صوّر لنا يسوع وكأنه يطلب "مطيتين" ليركب عليهما.
"مربوط هناك". رأى بعض الشّراح في هذه العبارة تلميحاً إلى تك 49: 11. بارك يعقوب يهوذا لأنه "يربط بالكرمة جحشه، وبالدالية ابن أتانه". ويبدو أن هذا النص حمل معنى مسيحانياً. ويبدو التلميح أوضح في الخبر المتّاوي الذي يرتبط بالعهد القديم أكثر من الخبر اللوقاويّ.
"ما ركب عليه أحد". أخذ هذا التفصيل من مر 11: 2. لا نتوقّف عند المنطق البشري فنقول: كيف ركب يسوع جحشاً وصعد به الجبل؟ نحن هنا في مقابلة مع حيوان الذبيحة. يجب أن لا يعلوه نير. يقول عد 19: 2: "بقرة لم يعلها نير" (رج تث 21: 3؛ 1 صم 6: 7).
"الرب يحتاج إليه" (آ 31). يأخذ لوقا هذا الجواب من مرقس. هنا نقول كما سبق، إن "الرب" (كيريوس) هو يهوه كما عرفه العهد القديم.
ب- لم يدخل يسوع إلى أورشليم
تبع لوقا (كما رأينا) مرقس في القسم الأول من خبره (آ 28- 35). لكنه قام ببعض التصحيحات.
نلاحظ أولاً أن لوقا لم يُشر إلى دخول يسوع إلى أورشليم. بل قال فقط (آ 28، 41) إن المسيح توجّه إلى هذه المدينة، أو اقترب منها. لقد أدخله الانجيلي حالاً "إلى الهيكل" (آ 45). إن هذه الملاحظة مهمّة بالنسبة إلى الشميلة اللوقاوية: كل شيء يبدأ في الهيكل (1: 5 ي؛ 24: 53).
وهناك إشارة أخرى لافتة في هذه الآية الأولى من الخبر اللوقاوي: استعمال لفظة "أورشليما" ليدلّ على المدينة المقدسة. إعتاد لوقا أن يستعمل الصيغة العبرية "أورشليم" التي لا نجدها إلا مرة واحدة في متى (مت 23: 37، ونجدها 26 مرة في لو، 39 مرة في أع). يبدو أن لوقا يستعمل أورشليم حين يرافق ذكر المدينة بُعدٌ لاهوتي، أي حين تلعب المدينة دوراً محدّداً بالنسبة إلى تاريخ الخلاص الذي مركزه تاريخ يسوع.
ولكن هل يثبت الشواذ القاعدة؟ وهل أراد لوقا أن ينقل أهمية الحدث من "أورشليم" إلى "الهيكل"؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فلماذا؟ إن التحليلات التالية تتيح لنا أن نجيب على هذا السؤال. هناك ظاهرة مماثلة نجدها في خبر تقديم يسوع إلى الهيكل (2: 22 ي) وهو المقطع الوحيد في لو 1- 2 حيث تسمّى المدينة المقدسة "أورشليما". فإلى الهيكل سيأتي سمعان "مدفوعاً بالروح" (2: 25). وفيه يلتقي يسوع على ذراع والديه ليتمّ "فرائض الشريعة، ويعلن مجيء "الخلاص" (2: 38) لجميع الأمم.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يبدو 19: 28- 40 صدى لنص 13: 35: "لن تروني إلى أن يأتي يوم تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب". أن تكون هذه الجملة خاتمة مناداة يسوع لأورشليم (رج 19: 41- 44 الذي هو رثاء لأورشليم، ويربط بين 19: 28- 40 و19: 45- 46 الذي هو دخول إلى الهيكل) أمر يلفت النظر. فمتَّى جعل هذه المناداة (التي انتهت كما عند لوقا مع مت 18: 26) حالاً بعد الخطبة الاسكاتولوجية، بعد الدخول إلى أورشليم (23: 37- 39) بوقت طويل. لهذا، يجب أن نبيّن الترابط بين 13: 35 و19: 28- 40.
إنّ آ 37 تتضمّن أموراً غنيّة وخاصة بلوقا. يُذكر أولاً جبل الزيتون الذي ذُكر في آ 29 (كما في متى ومرقس): إن استعادة اسم المكان هذه تدلّ على أن حدثاً جديداً يبدأ. وسوف نرى أن الأمر هو كذلك. ونقول الشيء عينه عن تكرار فعل "اقترب" (دنا). إذن، نحن أمام موازاة مع آ 29 (ولما دنا... ولما دنا...).
عبارة "كل حشد" هي خاصة بلوقا. "وكل حشد التلاميذ" عبارة نجدها في أع 6: 2، وهي تدلّ على جماعة المسيحيين. إن هذا التقريب بين الإنجيل الثالث وأعمال الرسل يبدو مهماً جداً لإلقاء الضوء على لو 19: 37. ففي الشميلة اللوقاوية، تتداخل الاكليزيولوجيا (قول في الكنيسة) والكرستولوجيا (قول في يسوع المسيح) في كل صفحة من صفحات مؤلفه (لو+ أع) بحيث يجب أن نقرأ لو وأع كما في خبرة الورق الشفّاف. وهكذا نلج إلى المدلولات التي تؤلِّف مجمل دينامية الانجيل الثالث والاعمال. بعد هذا يمكننا أن نتساءل عن 19: 37: أما تدلّ "مجموعة التلاميذ" منذ ذلك الوقت، على جماعة مؤمني شعب الله الجديد الذي كوّنه يسوع المسيح؟
وهناك أيضاً فعل خاص بلوقا: ايناين: سبّح. من المفيد أن نلاحظ العلاقة بين "رأى" و"سبح". نجدهما في 2: 20، 18: 43؛ أع 3: 9. واللوحة التالية تدلّ على التقارب بين النصوص الاربعة:
لو 2: 20 لو 18: 43 لو 19: 27 أع 3: 9
الرعاة كل الشعب جميع جمهور التلاميذ كل الشعب
يمجدون رأى طفقوا رأوه
ويسبحون فسبّح يسبّحون يمشي
الله الله الله فسبّحوا
عن كل ماسمعوا على كل المعجزات
ورأوا التي رأوا الله
يتألّف كلّ من هذه المقاطع من أربعة عناصر متشابهة. الأول: فاعل يتبدّل، ولكنه يدلّ في مرتين على الشعب، وبمناسبة شفاء. أما المفعول به فهو دوماً الله. وهناك عمل: سبّح. والباعث على التسبيح: رأى (أعمال الرسل). الله الذي هو موضوع التسبيح هو أيضاً بسبب أعماله الينبوع والباعث. وهكذا تتكوّن مسيرة (أصلها في الله) ترفع الإنسان إلى مستوى ذاك الذي يوجّه إليه المديح.
دخل هتاف يسوع (19: 37) في سلسلة بدأت ببداية الإنجيل (2: 20)، فحمل المشهد والأشخاص إلى موضع فيه يجد زمان البشر ومداهم بُعداً آخر: هناك ارتفاع بالنسبة إلى العمل السابق: ففي نظر لوقا، يسوع والمؤمنون المتضامنون معه في مصيره، تحرّروا من العبوديّات الأرضيّة الملتصقة بدخول ملكي إلى أورشليم. بعد هذا، نفهم الباعث الذي دفع لوقا إلى إلغاء الدخول إلى أورشليم: فعلَ هذا فأبرز الدخول إلى الهيكل الذي هو مسكن الله الذي لا لبس فيه. ونفهم أيضاً أن يرد مز 118: 26 (مبارك) للمرة الثانية والأخيرة (عكس متى). فإن أداة "حتى" (13: 35) قد وصلت إلى هدفها ونهاية مسيرتها مع يسوع وعبر الدراما التي يعيشها والتي تقوده إلى المجد (مسيرة الصعود النبوية: موسى وإيليا ظهرا في المجد، كلّماه عن خروجه الذي يتمه في أورشليم، 9: 31). التقت الاسكاتولوجيا بالتاريخ وتسجّلت فيه. والإنسان الذي اختبر هكذا اختباراً حقيقياً يجد نفسه أمام عمل مشاهدة وتأمل، عمل يحرّره ويمتلكه بكليته في آن (19: 37 ب). إن تاريخه يلتقي الاسكاتولوجيا ويتعامل معها.
ج- عاملون في ليتورجيا سماوية
تتضمن آ 38 الوسيلة التي بها نفهم كل المقطع في عبارة "هو الملك" (باسيلوس). نحسّ بأهمية وبُعد هذا اللقب (يختلف لوقا هنا عن متى ومرقس ويوحنا) على ضوء آ 37 (التي حلّلناها) و آ 38 ب: "السلام في السماء والمجد في أعلى السماء". والتوازي واضح هنا أيضاً مع 2: 13- 14
لو 2: 13- 14 لو 19: 37- 38
جمهور (بلاتوس) كل جمهور (بلاتوس)
من الجند السماوي التلاميذ
المجد لله في السلام في
أعلى السماء السماء
والسلام على الأرض والمجد في
للناس الذين يرضى عنهم أعلى السماء
مشهد مماثل في بداية حياة يسوع ولا نهايتها. والتوافق بين "جمهور الجند السماوي" و"كل جمهور التلاميذ"  واضح: في الحالتين نحن أمام عاملين في ليتورجيا سماوية. ثم إن لوقا تفرّد فألغى "هوشعنا" من خبر الدخول إلى أورشليم     (آ 38). لقد أراد أن يتجنّب كل ما يذكّرنا بحجّاج الأرض وما يشير إلى طموحاتهم الوطنية. فعبر العلامات التي تدلّ على وجود علاقات عضوية بين هذين النصين (المجد في أعلى السماء)، يجب أن نلاحظ ما يميّزهما في الوقت عينه. نقرأ من جهة: "السلام على الأرض" (2: 14). ومن جهة ثانية: "السلام في السماء" (19: 38). ففي داخل الاندفاع الذي يكشف مجد الله، ندرك حركتين متقابلتين: انحدار وصعود. لهذا ترك "الله" (2: 14)  مكانه  السماوي    "للملك"   (19: 38)، فكان تحوّل له معناه.
ونقول الشيء عينه عن كلمات التسبيح والمجد: لقد انتقلت من أفواه الكائنات السماوية (2: 14) إلى أفواه "التلاميذ"    (19: 38) الذين أخذوا مكان الرعاة والملائكة. انقسمت هاتان الفئتان خلال انحدار يسوع في وقت ميلاده، فاجتمعتا الآن في وقت ارتفاعه: "كل مجموعة التلاميذ" أي كما في أع 6: 2: المؤمنون بيسوع المسيح.
واللوحة التالية تبيّن ترابط كل هذه العناصر.
لو 12: 14، 20 لو 19: 37- 38
*جند السماء كل جمهور التلاميذ (آ 37)
- المجد في أعلى السماء لله - رأى كل المعجزات
- السلام على الأرض للبشر - سبّحوا الله
* الرعاة (آ 20) (كل جمهور التلاميذ)    (آ 38)
- رأوا كل ما - المجد في أعلى السماء للملك
سبّحوا الله السلام في السماء
إنّ السياق الذي دخلت فيه مقطوعة لو 19: 28- 40، يتضامن مع التعبير الأصيل للدخول إلى أورشليم. فإن آ 28 (قال يسوع هذا) تربط هذا الخبر بمثل الدنانير (19: 11- 27) الخاص بالانجيل الثالث. ومقدمة هذا المثل (آ 11 في امتداد 9: 45 و18: 34) تدلّ بوضوح على أنَّ هذا المثَل هو صورة رمزية عن ارتفاع يسوع (آ 12)، وهو حدث سيكون الدخول (أو عدم الدخول: هو لا يريد أن ينتقم كما فعل الملك في المثل) خبراً مسبقاً ونبوياً. وهكذا نكتشف في هذا المقطع تصحيحاً لاهوتياً أو كرستولوجيا لمسيح يبرز اقترابُه من أورشليم وجهةً لا تتوافق مع مجمل الانجيل.
خاتمة
أمام هذا الدخول الاحتفالي، لم يستطع الشعب ولا السلطة السياسية أن يبقيا في اللامبالاة: فيسوع قد أعلن ملكاً شرعياً ومسيح اسرائيل. هتفت له الجموع بسعف النخل التي ترمز إلى شعب مستقلّ (1 مك 13: 37- 51). وهو ذهب مباشرة إلى الهيكل الذي عليه يتأسّس كل النظام الديني والسياسي في اسرائيل. إحتلّ "السور الخارجي"، وجعل منه "مركز القيادة". ولم يتجرّأ عظماء الكهنة ولا السلطات الرومانية أن يمنعوه من هذا الدخول (والاحتلال). ومع ذلك، فقد أغفل الانجيليون تأثير الواقع السياسي، وشدّدوا لا على المواجهة السياسية، بل حدّدوا موقع الأحداث في ضوء القيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM