الفصل الرابع: يسوع في أورشليم

الفصل الرابع
يسوع في أورشليم
19: 28- 21: 38

تأمّلنا في الفصول السابقة لاهوت تاريخ يسوع كما جرى أمام عيوننا خلال صعوده إلى أورشليم واختطافه إلى الآب في عبور من هذا العالم. واكتشفنا أنّ طريق يسوع هي طاعة للروح القدس. في البداية، دُعي التلاميذ ليسيروا وراء يسوع ويسمعوا وحيه. ولكن الإنجيلي قدّم في الوقت عينه المصير الذي سيعرفونه حين يسيرون وراء يسوع. لقد دخلوا إلى أورشليم حيث يموت معلّمهم. هل يقبلون أن يربطوا مصيرهم بمصير يسوع؟
1- تأليف النص وبنيته
إنّ إطار هذا القسم هو الهيكل. ففيه أو بالنسبة إلى الحديث عنه تتمّ الأعمال وتبرز الجدالات. لم نعد كما في القسم السابق في الطريق إلى أورشليم.
يبدأ هذا القسم بلفظة معروفة "وحصل" (وحصل أنه لمّا اقترب من المدينة). فهي صدى لما في 18: 35 (وحصل أنه لمّا اقترب من أريحا). يتّفق معظم الشرّاح على القول إنّ جبل الزيتون والهيكل قسم تدويني. فحول هذين القطبين يتمّ مصير يسوع. ولكن التشديد هو على الهيكل (19: 45، 47؛ 20: 1؛ 21: 5، 37، 38)، وبهذا يختلف هذا القسم عن ف 22- 24. منذ الدخول الاحتفاليّ لمرسَل الربّ عبر الرواق الشرقيّ (19: 45) حتى الإجمالة الأخيرة (21: 37- 38) (وكان في النهار يعلّم في الهيكل، وفي الليل يخرج)، يتمّ العمل كله تقريباً في الهيكل. أما جبل الزيتون الذي يُذكر ثلاث مرات (19: 29، 37؛ 21: 37) فيبدو في المقام الثاني.
وإليك بعض المعالم التدوينية التي تدل على القسمات في هذه المجموعة. نجد أولاً: الطريق من جبل الزيتون إلى الهيكل (19: 29- 48) تتوزّعها ثلاث مرات فعل "اقترب" (آ 29، 37، 41)، ويليها دخول إلى الهيكل (آ 45) حيث شرع يسوع يعلّم (آ، 47). ثانيا: جدالات في الهيكل مع جواب يسوع (20: 1- 21: 4) وكلامه عن معنى التاريخ البشري وضرورة الصلاة المتواصلة (21: 5- 36). وتنتهي المجموعة بإشارة إلى العلاقة بين جبل الزيتون والهيكل (21: 37- 38).
ونستطيع أن نقدّم رسمة لهذه الفصول التي تسبقها رؤيا تكشف الحياة المسيحية (17: 20- 37)، وتختمها رؤيا (21: 5 ي) تهيّئنا للمحن التي تنتظرنا.
أ- من جبل الزيتون إلى الهيكل (19: 29- 48)
- مجيء مرسل الله (19: 29- 40).
- بكاء على المدينة المقدسة (19: 41- 44)
- دخوله يسوع إلى الهيكل (19: 45- 48).
ب- إعلان في الهيكل (20: 1- 21: 38).
- معارضة ودينونة (20: 1- 21: 4).
- الرؤيا أو كشف عن تاريخ البشر (21: 5- 38)
* تجاه المحن (21: 5- 27).
* الصلاة المستمرة (21: 28- 38).
2- تقديم النصّ
إن نشاط يسوع في أورشليم سيصل به إلى الآلام والموت على الصليب. فبعد 19: 28، عاد لوقا إلى الترتيب التدويني في مت ومر.
برز انشداد بين جبل الزيتون الواقع إلى الشرق من المدينة المقدّسة، والهيكل الذي يقع تجاهه ويقع في قلب أورشليم. ونذكر الآن الرباطات الرئيسية في هذه المجموعة. فلفظة "وحصل" (19: 29؛ 20: 1) تدخلنا من جهة في طريق "جبل الزيتون" (19: 29- 37) باتجاه الهيكل (19: 45- 47). ومن جهة ثانية وجد التعليمُ الذي أوصله يسوع إلى الشعب في الهيكل، امتداداً في "الرؤيا الكبرى" بفضل سؤال طُرح عن الهيكل (21: 5: يقولون عن الهيكل إنه مزيّن بالحجارة الكريمة). وينتهي القسم كلّه بالإشارة إلى "الشعب كله" (21: 38) داخل انشداد بين الهيكل وجبل الزيتون.
أ- من جبل الزيتون إلى الهيكل
جاء دخول يسوع إلى الهيكل في امتداد لمثل الدنانير فصار قضيّة تعني "جميع جمهور التلاميذ" (آ 37) في علاقة كل واحد منهم بربِّه (آ 31، 34: الرب يحتاج). لن نجد عند لوقا أثراً لانقلاب شعبي أو لمظاهرة مدمّرة تدعو إلى إقامة مملكة داود كما قال مت 21: 8- 9 ومر 11: 8- 10 (رج يو 12: 13- 19). فاللهجة ليتورجية أكثر منها إخبارية. نحن هنا كما في حجّ خلال عيد المظال.
يجري الخبر بطريقة بسيطة. يورد حدث أول الاستعدادات لدخول يسوع إلى الهيكل (19: 29- 36)، ثم تحقيق هذا الدخول (آ 37- 40). ويرينا مشهد آخر يسوع يبكي على المدينة (آ 41- 44). وفي مشهد ثالث نرى يسوع يضع يده على الهيكل ويطرد منه الباعة (آ 45- 48). توزّعت نصّ لوقا إشارات طوبوغرافية: اقترب من بيت فاجي وبيت عنيا قرب جبل الزيتون (آ 29). نزل من جبل الزيتون (آ 37). اقترب من المدينة (آ 40). دخل إلى الهيكل (آ 45). نجد فقط الإشارتين الأولى والأخيرة في مت ومر.
أخذ لوقا هنا بترتيب مر 11: 1- 26. غير أنه ألغى المقطعين عن التينة الملعونة واليابسة (آ 11- 14- 19- 22؛ رج مت 21: 21- 22) والغفران (آ 25- 26؛ رج مت 6: 14- 15). فقد سبق له وقدّم في 13: 6- 9 مثل التينة التي خيّبت أمل ربّ الكرم وحرّكت الصبر المليء بالرجاء عند الكرّام. ثم إنه زاد قطعة خاصة به. هي تسبيق على الرؤيا: رثاء يسوع للمدينة (19: 41- 44؛ رج 21: 5- 6، 20- 22؛ مر 13: 2، 14؛ مت 24: 2، 15- 16).
وهكذا انطبع تأليفه بطابع شخصي، لاسيّما وأنه يعلن المواضيع التي سوف يتوسّع فيها في القسم الثاني من المتتالية: تعليم للشعب في الهيكل (آ 47- 48). وهذا ما يعود في 20: 1؛ 21: 37. والتلميح إلى حصار المدينة (آ 43- 44) سيعود في 21: 20- 22. ومجيء الملك الذي دلّت عليه أعمال قدرته (آ 37- 38)، سيصير مجيء ابن الإنسان بالقدرة والمجد (21: 27). واقتراب يسوع من المدينة ووصوله إلى جبل الزيتون (آ 29) سيتحوّل إلى اقتراب "فدائكم" (21: 28)، إلى اقتراب ملكوت الله الذي يشبّه بالصيف (21: 30- 31). في هذا الوقت، كان يسوع يقضي لياليه في جبل الزيتون (21: 37؛ رج 22: 39).
"بيتي يكون بيت صلاة" (آ 46). إن تذكر نبوءة أشعيا هذه (56: 7) ساعة دخل يسوع إلى الهيكل ذاهباً إلى لقاء أبيه، ترافقه إشارة تقول بأنهم قرّروا أن "يهلكوه" (آ 47؛ رج مر 11: 18). هم، أي عظماء الكهنة والكتبة ووجهاء الشعب. وهكذا أخذ يدشّن الموقف الذي فرضه على تلاميذه ليواجهوا مجيء ابن الانسان: "الصلاة في كل حين" (21: 36؛ رج 18: 1).
ب- إعلان في الهيكل
هنا وجد يسوع نفسه وحيداً (ذُكر التلاميذ مرة واحدة في 20: 43)، تجاه "كل الشعب" وفي مواجهة مع القوّاد الرسميين: عظماء الكهنة، الكتبة، الشيوخ. وخلال هذين الفعلين الأخيرين يكون "الشعب" بجانب يسوع. واختفاء الفرّيسيين يبرز الطابع السياسي للأحداث المقبلة، معارضةً مع خبر الدخول النبوي والملكي إلى الهيكل. بعد أن اهتمّ يسوع بالهيكل، ها هو يواجه مواجهة مباشرة أصحاب السلطة الدينية والسياسية والاقتصادية.
إنّ مجمل ف 20- 21 يوازي مر 11: 27- 13: 37. وهو ينقسم إلى متتاليتين اثنتين: تتضمّن الأولى الجدالات اللاهوتية في الهيكل (20: 1- 44: رج مر 11: 27- 12: 37)، مع كلام يُوجّه إلى الكتبة (يتوسّع فيه مت 23) ودرهم الأرملة (20: 45- 47؛ 2: 1- 4؛ رج مر 12: 37- 44). وتورد المتتالية الثانية الخطبة عن مجيء ابن الانسان (رج مر 13: 1- 37) التي تسمّى عند لوقا "الرؤيا الكبرى" (21: 5- 36). وضمّ متى (21: 23- 25: 46) أمثالاً سيستعيد بعضها لوقا: الابنان (مت 21: 28- 32). المدعوّون إلى العرس (مت 22: 1- 10؛ رج لو 14: 15- 24) وثوب العرس (مت 22: 11- 14). العبد الأمين أو الشرير (مت 24: 45- 51؛ رج لو 12: 41- 46). العذارى العشر (مت 25: 51- 13). الوزنات (مت 1 25: 14- 30؛ رج لو 19: 11- 27). الدينونة الأخيرة أو دينونة الأمم (مت 25: 31- 46).
إنّ هذه التوسّعات المختلفة في المواد التقليدية، قد تأثرت بالخط الذي اتخذه الإنجيلي. فعند مرقس، دفعت الجدالات في الهيكل ومجيء ابن الإنسان في المجد، دفعت القارئ لكي يدرك عمق السرّ في حياة يسوع وموته. ودفع مت المسيحي إلى الدخول في التتمّة التي هي المسيح. فالمسيح دخل في مجد أبيه، وهو يقود على خطاه كل أبناء الملكوت. لقد فصل متى ومرقس فصلاً واضحاً بين مجموعتي النصوص. فالخطبة عن مجيء ابن الإنسان تتوجّه بالأحرى نحو الآلام والمعنى الذي تتخّذه هذه الآلام بالنسبة إلى المؤمنين.
أما عند لوقا، فالعلاقة مع آلام يسوع وموته، قد عبّر عنها منعطف ف 13 وصعود يسوع إلى أورشليم. وبُنيت خطبة ف 21 بموازاة خطبة ف 17: من جهة، قراءة لمصير كل إنسان. ومن جهة ثانية، قراءة لمصير البشريّة على ضوء مصير المسيح وفي ديناميّته. لهذا كان الجدال أكثر من "ممارسة مدرسية". كان حواراً حول الخيار الذي اتخذه يسوع. والسؤال المعروف في العالم اليهوديّ عن أعظم الوصايا في الشريعة، لم يعد له مكان في هذا الإطار. لقد جعله لوقا في فم عالم الناموس (10: 25- 28) الذي روى له يسوع مثل السامري الرحيم (10: 29- 37).
في ف 20 نجد البداية المعروفة: "وحصل" (وحصل إذ كان يعلّم).هي المرة الأخيرة يرد فيها هذا الفعل قبل أخبار القيامة (24: 4، 15، 30، 51). إذاً لم تكن المعالم التدوينيّة في ف 20- 21 واضحة كل الوضوح، إلا أنها تكفي لكي تبرز مسيرة الخبر.
نلاحظ أولاً الأهمية التي يتخذها "الشعب" (هو لاوس) في هذه المتتالية. ترد كلمة "لاوس" 36 مرة في لوقا، و10 مرات بين 19: 47 و21: 38. و8 مرات في أناجيل الطفولة. استعمل مرقس اللفظة مرتين، متى 14 مرة، يوحنا مرتين أو ثلاثة، أع 48 مرة. تكلّم لوقا عن "كل الشعب" في ولادة يسوع (2: 10) وفي عماده (3: 21). في 7: 29؛ 8: 47؛ 9: 13؛ 11: 53، 18: 43؛ 19: 48؛ 20: 6، 45؛ 21: 38؛ 24: 19 مع تلميذي عماوس. إذن 12 مرة في لو و7 في أع.
إن الاستعمالات العشرة في 19: 47، 48؛ 20: 1، 19، 26، 45؛ 21: 23، 38. هي خاصة بلوقا. أربع مرات حل "الشعب" محل "الجمع" في مر (19: 48؛ 20: 6، 19، 45). وكل مرّة برزت معارضة بين الناس الذين مع يسوع وبين رؤسائهم الروحيين والسياسيين، أعطى لوقا هذه اللفظة (المستعملة في السبعينية لتدلّ على شعب الله) بُعداً لاهوتياً: إنه اسرائيل حين رفض أن يتعرّف إلى مخلّصه ومسيحه. كان جاهلاً فلم يشارك رؤساءه في جريمتهم. وبين المعارضين نجد "عظماء الكهنة والكتبة" (19: 47؛ 20: 1، 19؛ 22: 2، 66؛ 23: 10؛ رج 9: 22) الذين يتابعون عمل "الكتبة والفريسيين" (5: 21، 30، 6: 7؛ 11: 53؛ 15: 2)، ويتحالفون بعض المرات مع الشيوخ (9: 22؛ 20: 1، 22: 52؛ رج 7: 3). وسنجد فيما بعد "الرؤساء" (أو: الاقطاب) في 23: 13، 35؛ 24: 10.
3- التعليم الذي نستخلصه من النصّ
أ- مصير يسوع النبي والملك
ليس ملكوت الله إيديولوجية أو برنامجاً مجرّداً، بل هو حدث يدخل في حياة البشر ويُلزم وجودهم الشخصي. في هذا الإطار، ينير مصيرُ يسوع تاريخ البشر ويوجّهه نحو الآب.
فبعد مثل الدنانير، لم نعد أمام المصير الفردي. لم نعد في طريق، بل على جبل الزيتون وتجاه المدينة (19: 29)، أو في الهيكل، بيت الله (19: 46). إنّ خبر دخول يسوع النبويّ لا يذكر حتى اسم أورشليم. بل إن لوقا يلغي (أو: ينقله من مكانه) العناصر التي تشكّل وساطة بين الهيكل والخارج. ألغى حدث التينة اليابسة ومثل الإبنين، ونقل مثل العرس. ثم إن الخبر لا يتحدّث إلاّ مرة واحدة عن انتقال يسوع من جبل الزيتون إلى الهيكل (19: 29- 45)، وذلك قبل الخاتمة (21: 37- 38).
إن هذه الرسمة التدوينية تعود بلا شك إلى رؤيتي حزقيال. تدلّ الأولى على ذهاب مجد الرب من الهيكل (حز 11: 22- 33) قبل أن ينضمّ إلى المنفيين على جبل كبار (رج حز 1: 1- 28). والرؤية الثانية تدلّ على عودته إلى الهيكل بعد المنفى (حز 43: 1- 9).
في هاتين الرؤيتين، يقدّم النبي تقديماً لاهوتياً نجاة اسرائيل كحدث خلاص. وكما أعلن انطلاق حضور الله وتوقفه على الجبل الشرقي (قال الترجوم: جبل الزيتون) قبل أن يلاقي المنفيين، تنبَّأ أيضاً عن عودته، عن زيارته (افتقاده) (رج لو 19: 44) لشعبه ليقيم معه إلى الأبد. ففي التدوين اللوقاوي، يمثّل اقتراب يسوع من جهة جبل الزيتون و"احتلاله" للهيكل بعد أن أخرج الباعة منه تتمة نبوءات حزقيال: لقد جاء مجد الرب لكي يقيم وسط أبناء اسرائيل.
غير أن تقارباً آخر يحدّد شكل هذا السكن داخل انجيل لوقا: خبر الافخارستيا في جماعة الاثني عشر (22: 1- 20). فهناك توازٍ في العبارات بين مشهد تهيئة الدخول المسيحاني ومشهد تهيئة الفصح. فالرسمة الأساسية هي هي: أرسل يسوع اثنين من تلاميذه ليهيّئا مجيئه. ودلّهما مسبقاً على العنصر الذي يساعدهما على الذهاب (الجحش، رجل). ألغي اسم المدينة هنا وهناك، وكانت النهاية الهيكل أو العلّية في البيت. قادنا الانتقال الأول إلى المعبد حيث يجتمع اليهود. ووصل بنا الانتقال الثاني إلى جسد المسيح ودمه، إلى المركز الذي يبني الملكوت.
وهكذا بدا الدخول إلى أورشليم، في نظر لوقا، محطّة في الطريق. اذا كان يسوع قد اقترب من المدينة فلأنه أراد في النهاية أن يدخل إلى البيت. لا كالمسيح على جحش ابن أتان، بل كرجل يحمل جرّة ماء (22: 10). وفي المدى الجديد الذي هو العليّة، صار الذين تقبّلوا جسده ودمه حجارة في الهيكل الجديد.
ونتساءل: ما معنى جبل الزيتون والهيكل في هذا السياق؟ يرتبط جبل الزيتون ارتباطاً واضحاً بالليل (21: 37): إنه موضع النزاع (22: 39). وهو يمثّل عالم الصمت. وهو موضع الصعود (24: 50؛ رج أع 1: 12). إنه يدلّ على دخول يسوع في قلب العالم، على امحّاء الله الذي هو حضور وبركة (24: 50- 53؛ رج أع 3: 26)، وينبوع نموّ للملكوت.
والهيكل هو الموضع الذي فيه يلاقي الشعب الله. كانت خيمة الشهادة في البريّة فبنى سليمان بناء حجرياً اعتبره اسطفانس مقاومة للروح القدس وربطه باضطهاد الانبياء (أع 7: 44- 53). في هذا الهيكل، أطلق يسوع كلمته النبوية والتزم الدخول في حياتنا (ف 20- 21). ولكنهم سيعارضون شهادته ويقودونه إلى الموت. أما هو فسيعيد إلى الهيكل مدلوله المرتبط بالخروج والعبور (9: 31)، مدلوله كطريق نحو الآب (24: 45- 46) بواسطة الموت والقيامة.
هنا نلاحظ النتائج الكرستولوجية لهذه الرمزية اللوقاوية. فمنذ الآن يستطيع يسوع أن يعلن "الملك" (19: 38)، "الرب والمسيح" (أع 2: 36) بعد أن نال الروح القدس وأفاضه (أع 2: 33) فكمّل صورة موسى والملك: أدخل شعبه إلى أرضه وساسه باسم الله. إنه "القائد والمخلّص" الذي رفعه الله (أع 3: 15؛ 5: 31). ولكنه يبقى في مقدّمة السائرين في طريق الخلاص. إن لقب "ملك" الذي أعطي ليسوع سيزول من أع لأنه ارتبط بالبعد الأرضي لخروجه. سيحلّ محله لقب "الرب" عبر لقب "ابن الانسان" فيشير إلى تلاشي يسوع وعبوره في الموت (9: 44؛ 24: 7) كما يشير إلى مجيئه في المجد (22: 69؛ أع 7: 56). واذ بدا يسوع كالنبي كشف نفسه شاهداً لكلمة النعمة التي تلفّظ بها في الهيكل قبل أن يعلنها على الصليب بصفته وسيط رحمة الآب.
ب- مصير يسوع ومصيرنا
كيف ينير مصير يسوع النبي والملك المنصَّب في أورشليم ليموت فيها، كيف ينير مصير يسوع الذي صار رباً ومسيحاً حين ارتفع عن يمين الآب؟ كيف ينير حياتنا الذاهبة إلى الموت؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه الرؤيا الصغيرة (ف 17) والرؤيا الكبيرة (ف 21). ما هو الفارق بينهما؟ وأية علاقة بينهما وبين ابن الانسان؟ وبعبارة أخرى، نتساءل كيف أنّ يسوع، ابن الانسان، يتدخّل في مصير جماعاتنا ولا مصير البشرية؟ كيف نوفّق بين "يجب" (ينبغي) الني يشرف على حياة يسوع مع الحرية البشرية وثقل النظم الاجتماعيّة والتاريخيّة؟
نبدأ فنتساءل: ما هي فكرة لوقا عن الزمن والتاريخ في ضوء مصير يسوع؟ نتذكّر هنا تواتر فعل "حصل" (غينساي) في لوقا. يرد 129 مرة في لو، 124 في أع، 75 مرة في لا، 55 في مر، 51 في يو. نتذكّر هنا بداية المقاطع مع "وحصل" (23 مرة) "قد حصل" (15 مرة) وعبارة "ما قد حصل" (5 مرات في لو، 5 في أع). يدل هذا الاستعمال في نظر لوقا، على أن بعض الأحداث ترتدي أهمية لافتة وتتّخذ ثقلاً حاسماً بالنسبة إلى يسوع.
نستطيع أن نقرّب هذا الاستعمال من لفظة "اليوم" (سامرون). يستعملها لوقا 11 مرة في لو و9 في أع (8 في مت، مرة واحدة في مر، غابت من يو). نلاحظ في شكل خاص 2: 11 (اليوم ولد مخلّص)؛ 4: 21 (اليوم تمّت هذه الكتابة): 19: 9 (اليوم حصل الخلاص)؛ 23: 43 (اليوم تكون معي).
تدلّ مفردة "اليوم" على زمن الخلاص الذي تدخّل في قلب الواقع البشري، حيث تحصل الأمور. فوقائع الحياة ليست فقط أعمالاً عابرة، إنها أيضاً أحداث (ريماتا، 19 مرة في لو، 14 في أع، 5 في مت، 2 في مر، 12 في يو) تُعطى لنا فيها كلمة (لوغوس) تحيا، يُعطى لنا فيها ابن الإنسان الآتي. نشير إلى أن "لوغوس" ترد 33 مرة في لو (منها 16 في صيغة المفرد) وهي تدلّ على كلمة الله أو كلمة يسوع. وفي أع 65 مرة (مت: 33؛ مر: 24؛ يو: 40). أما "ريما" (كلام، حدث) فتدلّ على تدخّل الله ووحيه في وجود البشر (في العبرية: د ب ر).
في هذا السياق يتخذ الفعل "يجب" (ينبغي) كل معناه. يرد 18 مرة في لو، 23 في أع (مت: 8، مر: 6، يو: 10). نجده بشكل عام في فم يسوع، خصوصاً في أربعة مواضع تدلّ على مصيره. خلال وجوده في الهيكل: "يجب أن كون عند أبي" (2: 49). وقبل اختيار الرسل قال: "يجب أن أبشرّ المدن الأخرى" (4: 43). وقال: "لا يجب أن يهلك نبيّ خارج أورشليم" (13: 33). وقال لزكا: "يجب أن أقيم في بيتك" (19: 5).
وهناك ستة استعمالات لفعل "يجب" ترتبط بمصير "ابن الانسان". "يجب على ابن البشر أن يتألمّ كثيراً" (9: 22). "يجب عليه من قبل أن يتألم كثيراً" (17: 25). "يجب أن تتمّ فيَّ هذه الكتابة" (22: 37). "يجب على ابن الانسان أن يُسلم إلى أيدي الخطأة ويُصلب" (24: 7). "أما كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام" (24: 26)؟ "يجب أن يتمّ جميع ما كُتب عني" (24: 44). أما الاستعمالات الباقية فتعني بالأحرى إرادة الله مش خلال الأحداث التي تحصل. يتجاوب 13: 14 و13: 16 فيدلاّن على ملحاحيّة عمل الله الخلاصي. ويبرز 15: 32 تقبّل الآب الرحوم لابنه. في 11: 42 نجد نظرة إلى إلىرسة، وفي 18: 1 إشارة إلى دينامية الحريّة في قلب أحداث العالم. وفي النهاية، نحن أمام تمييز يمنحه الروح القدس للمؤمنين الذين يعرفون الاضطهاد (12: 12).
كل هذا يفترض "قصد الله" (بولي تو تيو، 7: 30؛ 23: 51؛ أع 2: 23؛ 4: 28؛ 13: 36؛ 20: 27). يستعمل سائر الانجيليون "إرادة" (مشيئة) الله (تالاما): مت: 6 مرات. مر: مرة واحدة. يو: 11 مرة. يستعملها لوقا 3 مرات ليتحدّث عن الله (11: 2؛ 12: 47؛ 22: 42)، ومرة واحدة ليتحدّث عن الانسان (23: 25). رج أع 13: 22؛ 21: 14؛ 22: 14. ونرى مراراً أن قصد الله يتعارض وقصد البشر (23: 51؛ أع 27: 12، 42).
هذا القصد ليس قدراً أعمى يمارسه الله لا البشر. إنه إرادة خلاصية تحرّك حرية الانسان بحرية ابن الانسان. إن قصد الله الخلاصي يعمل عبر أمانة ابن الانسان. فما هو موضع الالتزام الفردي عند كل واحد منا؟ إذا تطلّعنا إلى لقاءات يسوع، إرتبطت بخطين. هناك موضوع شفاء. وفي هذه المناسبة تُقال كلمة فيصل صداها إلى أبعد من الحدث. مرة واحدة أعطى يسوع توصية (8: 39: عد إلى بيتك)، ولكنه اعتاد أن يطلب الانفتاح على النعمة التي تقدّم لنا. ولكن بعد الصعود إلى أورشليم، إرتسم نمط آخر من اللقاء: إن يسوع يطلب مشاركة واضحة في مصيره، ويدعو إلى التزام يحرّك حرّية الانسان.
خاتمة
الحدث الذي يشكّله الملكوت يكشف عن ذاته في عمل به يجعل يسوع حياتنا مطابقة لحياته عبر الخيارات تجاه موتنا ونظمنا العابرة. فمجيء يسوع في تاريخنا البشري يخلق تضامناً بيننا وبينه. بعد هذا يصبح هيكل الله حياة كل انسان. وهكذا برز بُعدا حياة يسوع على الأرض كما اكتشفناهما في مشهد العماد: اعتمد مع الشعب كله، فدلّ على تضامنه معه. وكان في وضع صلاة فدلّ على ارتباطه بالآب. وستقدّم العنصرة لكلّ الذين يدعون باسم الرب (أع 2: 21) الروح القدس الذي يجعلهم مشاركين في مصير يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM