الفصل السادس: لا يبقى حجر على حجر

الفصل السادس
لا يبقى حجر على حجر
19: 41- 44

يبدأ مر 13: 2 الخطبة الاسكاتولوجية بإنباء ليسوع حول تدمير الهيكل: "أترى هذه الأبنية العظيمة! إنه لن يُترك هنا حجر على حجر إلا ويُنقض" (رج مت 24: 2؛ لو 21: 6). ويورد إنباء آخر بدمار الهيكل خلال محاكمة يسوع وفي ألفاظ مختلفة: "ثم قام نفر يشهدون عليه بالزور ويقولون: لقد سمعناه يقول: إني انقض هذا الهيكل الذي صنعته أيدي البشر، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غيره" (مر 14: 57- 58؛ رج مت 26: 61- 62). هذا الاتهام الذي يجد صداه في هزء المارين على الجلجلة (مر 15: 29؛ مت 27: 40)، نجد ما يوازيه عند لوقا في محاكمة اسطفانس (أع 6: 14)، وعند يوحنا في إعلان ليسوع بعد تطهير الهيكل (يو 2: 19).
يتساءل الشّراح حول العلاقة بين هذين الانباءين: هل من ارتباط أدبي بين الواحد والآخر؟ هذا ما يقودنا إلى لو 19: 44 حيث يعلن يسوع تدمير أورشليم بيد أعدائها فيقول: "لا يتركون فيك حجراً على حجر".
نتوقّف عند العلاقة بين هذين الانباءين، ثم ننتقل إلى العلاقة بين لو 19: 44 ومر 13: 2.
1- الانباءات حول دمار الهيكل
أ- آراء متعددة
* الأول: رأى في 13: 2 ج (لن يترك هنا حجر على حجر) شكلاً من الانياء الذي يرد بأشكال أخرى في مر 14: 58؛ 15: 29؛ يو 2: 19؛ أع 6: 14. إذن، نسب التقليدُ إلى يسوع إنباء عن دمار الهيكل. لم يخترعه مرقس. مقابل هذا، لم يحتفظ الإطارُ المعطى للإنباء في مر 13: 1- 2 بالمعطية الأولانيّة. وبما أن هذا الإطار أثّر على ألفاظ الإنباء، فهذا ما يجعلنا نشك بأن مر 13: 2 يمثل تعبيراً اولانياً.
* الثاني: إذ أراد مرقس أن يبدأ الخطبة الاسكاتولوجية، عاد إلى قول مثَّل فيه مر 14: 58؛ 15: 29، (رج يو 2: 19؛ أع 6: 14) شكلاً أقدم. إن هذا الشكل الأقدم يعبرّ عن وعي الجماعة المسيحية بأنها تشكّل الهيكل الجديد. لم نعد أمام حديث عن دمار هيكل أورشليم. ربط مرقس هذا المدلول الجديد بالقول فجعله في بداية ف 13 (كما رأى في 13: 14، في "رجاسة الخراب" لا كلاماً عن تنجيس الهيكل، بل عن خرابه).
* الثالث: إن مر 13: 2 يمثّل أقدم شكل لإعلان يسوع، حيث لم يكن بعد حديث عن دمار الهيكل. أما مر 14: 58 وسائر المقاطع التي تتحدّث في الوقت عينه عن الهيكل الجديد، فهي تمثّل أشكالاً ثانوية للقول عينه.
* الرابع: اعتبر 13: 1- 4 مقدّمة صاغتها يد مرقس. والإنباء في آ 2 ج يشكّل تحويلاً تدوينياً للقول القديم الذي حُفظ في مر 14: 58. وفي الخط عينه قيل: ألّف 13: 2 ج على أساس مر 14: 58 وجُعل له إطار يوافقه.
* الخامس: كوّن مرقس إنباء 13: 2 منطلقاً من القول المحفوظ في يو 2: 19 مع قول من المعين الذي يجده في مت 23: 38 ولو 13: 35: "هوذا بيتكم يترك لكم". يركّز 13: 2 عمل مرقس على أساس تقليد يقول إن يسوع أنبأ بدمار الهيكل.
* السادس: لا شكّ في أن آ 1- 4 تنسب إلى مرقس التي دوّنها كمقدمة للخطبة التي تلي. ولكن لا نربط آ 2 ج مع مر 14: 58؛ 15: 29؛ يو 2: 19؛ أع 6: 14 التي تمثّل اعلاناً آخر ليسوع. يجب أن يتمّ التقارب مع لو 19: 44 الذي يعلن لأورشليم أن أعداءها لن يتركوا فيها حجراً على حجر. إذن، عرف التقليد قولين ليسوع، يتميّزان ولا يعود الواحد إلى الآخر.
ب- القول في إطاره
إذ أراد الشّراح أن يبيّنوا أن مرقس دوّن 13: 2 ج، عادوا إلى إطاره (13: 1- 2 ب). هذا الإطار ألّفه مرقس. إذن، ألف أيضاً الإنباء: "لن يبقى حجر على حجر". نحن هنا في جوّ مرقسي (رج مر 5: 2؛ 9: 9). ولفظة "هيكل" تميّز هذا القسم الذي كرّسه مرقس من أجل نشاط يسوع في أورشليم. وهو صدى لما كتبه الإنجيلي في 11: 11، 15 عن دخول يسوع إلى الهيكل. "قال له أحد تلاميذه". هذا ما يسمّى الحاضر التاريخي (لاغاي). "يا معلّم". هكذا اعتاد التلاميذ في مرقس (لا في متّى ولوقا) أن يتوجّهوا إلى يسوع. في آ 2، سبق الإنباء سؤالا ليسوع: "هل ترى هذه الابنية العظيمة"؟ فجواب يسوع عند مرقس يسبقه عادة مثل هذا السؤال، وهذا ما يبرز التأكيد الذي يلي.
ج- القول في علاقته مع مر 14: 58
يرد إنباء بدمار الهيكل في مر 14: 58 وز؛ 15: 29 وز؛ أع 6: 14؛ يو 2: 15 (رج 2 كور 5: 1: نقض هذا الخباء). أعلن يسوع أنه يدمّر الهيكل ويعيد بناءه في ثلاثة أيام: نحن أمام قول ملغز، قول رمزي يتخّذ رنّة اسكاتولوجية. إن مر 13: 2 يتميّز عن هذا الإعلان السّري في نقاط عديدة: الوضوح. لا ينسب إلى يسوع عمل تدمير الهيكل. يلغي فكرة إعادة بنائه التي ارتبطت بمنظار اسكاتولوجي.
هذه العبارة تعود في لو 19: 44: "أعداؤك (يا أورشليم)، لن يتركوا فيك حجراً على حجر". قد نكون أمام تعبيرين يعلنان دمار الهيكل وإعادة بنائه. والعبارة البسيطة التي يمثّلها مر 13: 2 ولو 19: 44 (حيث لا نجد إلا صورة الدمار)، تتحدّث عن الهيكل كله أو المدينة المقدسة. إذن، لا بدّ من العودة إلى لو 19: 44 (لا إلى مر 14: 58) لنفهم الإنباء في مر 13: 2. لهذا سنعود في القسم الثاني إلى لو 19: 44.
2- دمار أورشليم ودمار الهيكل
السؤال الذي يُطرح حول لو 19: 44 هو: هل نجد فيه شهادة مستقلة عن مر 13: 2؛ هناك من يقول إن لوقا يرتبط بمرقس. ولكن تدوين لوقا في 19: 41- 44 يستند إلى ينبوع خاص به. فهذا الينبوع قدّم آ 44 ب: أعداؤك "لن يتركوا فيك حجراً على حجر". وهذا يعني أن الإنباء الوارد في مر 13: 2 انتمى إلى تقليد سابق لمرقس، استقى منه مرقس كما استقى لوقا.
أ- عودة إلى لو 19: 41- 44
إن آ 41- 44 هي من تدوين لوقا، وإن عاد إلى ينبوع سابق. في آ 41: هناك "هوس" (متى). لا ترد في مت. ترد مرة واحدة في مر، 19 مرة في لو، 29 مرة في أع. "بوليس" (مدينة). ترد 26 مرة في مت، 8 في مر، 39 في لو، 24 في أع. "كلايو" (بكى): مت: 2. مر: 3 (+ 1). لو: 11. أع: 2. وعبارة "بكى على" لا نجدها إلا في لو 23: 28 أب. ويجب بشكل خاص أن نلاحظ وظيفة هذه الآية في تدبير الإنجيل الثالث: إنها ترتبط بمجمل الإشارات التدوينية التي تقدّم القسم المركزي في الخبر بشكل صعود إلى أورشليم: 9: 51، 52؛ 13: 22، 33؛ 17: 11؛ 19: 1، 29، 37. وهكذا نصل في 19: 45 إلى الدخول إلى الهيكل. نلاحظ أيضاً 18: 31 مع إشارات تتعلّق بالمحطات الأخيرة (18: 35؛ 19: 1، 29، 37). كما نلاحظ إشارات أوسع في 9: 56، 57؛ 10: 1- 38؛ 13: 31؛ 14: 25؛ 19: 36.
ويبدو عمل الإنجيلي واضحاً في آ 42. نقرأ "رسالة السلام" أي السلام المسيحاني، هنا وفي 14: 32 (من أمر السلام). أما الظرف الزمني "الآن" (نين) فنجده 4 مرات في مت، 3 في مر. ولكن 14 مرة في لو، 25 في أع. وهناك موضوع "الجهل" (عدم المعرفة) الذي يعودوا آ 44 ج؛ رج 23: 34؛ أع 3: 17؛ 13: 27؛ 17: 30. لم تعرف أورشليم رسالة السلام، لم تعرف أن ساعة افتقاد الله لها قد حلّت. وكذلك لم يعرف أهل أورشليم، كما يقول بولس لأهل أنطاكية بسيدية.
ونقول الشيء عينه عن آ 44: "لأنك لم تعرفي يوم افتقادك". لا ترد "انت اون" إلا في لو 1: 20؛ 12: 3؛ أع 13: 23؛ 2 تس 2: 10. ونجد موضوع "الافتقاد" (زيارة الله) مع موضوع "الجهل". رج 1: 68، 78؛ 7: 16؛ أع 5: 14. قد يكون هناك ينبوع استقى منه لوقا لكي يدوّن آ 43- 44 ب. مثلاً فعل "سيناخو" في آ 43، لا يرد في مر، يرد مرة واحدة في مت، 6 في لو، 3 في أع: إن المنظار الذي فيه يتطلّع النصّ إلى دمار أورشليم، ليس منظار كارثة اسكاتولوجية، بل كحدث يرتبط بالتاريخ.
ب- مواد آ 43- 44
قد نكون هنا أمام قصيدة دوّنت في الأرامية. ونلاحظ أمرين: الأول: هناك المقدمة: "فستأتي (لأن ستأتي) عليك أيام". وبعدها، يرد النصّ في خمس جمل قصيرة تبدأ بواو العطف (كاي): يحيق به، يحاصرونك، يضيّقون عليك، يمحقونك، لا يتركون. الثاني: نجد في هاتين الآيتين عدداً من الضمائر (تسعة، يزاد 2 في آ 42، وواحد في آ 44 ج)، عليك (أنت)، يحيق بك (أنت)، اعداؤك (أنت)... هذه الضمائر المتواترة في الأرامية تبدو ثقيلة في اليونانية. وقد حاول لوقا أن يلغيها (مثلاً، لم يقل "أبانا"، بل "أيها الآب"). فلو كتب لوقا هذه "القصيدة" لأعاد كتابتها. ولكنه أخذها من مرجع يرتبط بالأرامية.
إن الصورة التي تقدّمها هاتان الآيتان عن دمار أورشليم، تبدو نسيجاً من التذكّرات البيبلية. فما تقوله آ 43 عن حصار المدينة يستلهم أش 29: 3 (رج 37: 33؛ حز 4: 1- 3). وسحقُ المدينة مع أولادها في آ 44 أيستلهم هو 10: 14؛ 14: 1؛ أدش 3: 26؛ نا 3: 10، مز 137: 9. هذا التصوير المأخوذ من نصوص متعدّدة، قد ينطبق على سقوط أية مدينة في يد جيش عدوّ. وإذا كان ما قيل عن الحصار يوافق ما حصل لأورشليم سنة 70، فنحن لا نجد يا كل فظاعة هذا الحصار شيئاً يذكّرنا بصورة أبناء أورشليم المسحوقين على الأرض (آ 44 أ). لقد رافق كارثة أورشليم نار عنيفة انتهت فيها المقاومة اليهودية. ولكن لوقا لم يذكر هذه النار. لهذا يبدو من الصعب أن نتخيّل أن لوقا الذي كتب بعد أحداث سنة 70، لم يجد إلا إشارات غامضة واصطلاحية، ولَوْ ألّف نصّه بحرّية تامة. فإن ارتبطت آ 43- 44 بأساليب التفسير والفنّ الجلياني، فهذا يعني أنهما تعودان إلى الينبوع الذي أخذهما منه.
وهناك ملاحظة ثالثة لا تعني فقط السياق المباشر، بل القول في 19: 44 ب (لا يتركون فيك حجراً على حجر). فإذا اعتبرنا أن هذه الآية ترتبط بما في مر 13: 12، يجب أن نعترف أن لوقا الذي وصل إلى مر 11: 10، ذهب يبحث عن قول جاء فيما بعد، ثم كرّره في الخطبة الاسكاتولوجية (21: 6). مثل هذا التفسير قد يجد أساسه في مرقس لا في لوقا الذي اعتاد أن يتحاشى التكرار. وإن حصل له وكرّر القول الواحد مرتين، فقد لا يكون لاحظ أنه أمام مرجعين مختلفين. هذا ما نقوله هنا. فالمرجع الذي أخذ منه 19: 44 ب، هو ذاك الذي أخذ منه 19: 43- 44 أ.
خ- لو 19: 43- 44 و23: 29- 31
حين وصل يسوع إلى أورشليم، بكى على المدينة المحكوم عليها بالدمار (19: 41- 44). هذا الحدث الذي يحلّ عند لوقا محل حدث التينة الملعونة (مر 11: 12- 14، 20- 25)، يجد ما يوازيه في مكان آخر: حين خرج يسوع من المدينة ليعيش الآمه، دعا "بنات أورشليم" لا ليبكين عليه، بل على نفوسهن وعلى أولادهنّ بالنظر إلى الكارثة المقبلة (23: 27- 31). إن المشابهة بين الإنباءين تلفت النظر: كلاهما يبدأان بهذه العبارة: "ها ستأتي أيام" (19: 43 أ؛ 23: 29 أ). كلاهما يصوّران عقاب المدينة بواسطة عبارات تذكّرنا بأقوال نبويّة عن شقاء يتحدّث عنه العهد القديم: 19: 43: أش 29: 3؛ 19: 44 أ؛ هو 10: 14؛ 14: 1؛ أما 23: 20 فيورد حرفياً هو 10: 8 ج (يقولون للجبال: اهبطي علينا. وللآكام: غطّينا). وينتهي الإنباءان بقول مصوّر لا يعود إلى التوراة. نقرأ في 19: 44 ب: "لا يتركون فيك حجراً على حجر". وفي 23: 31: "إن كان قد فعلوا هذا بالعود الرطب، فماذا يكون بالعود اليابس"!
إن التقارب بين هذين المقطعين اللذين جُعلا بشكل متوازٍ في بداية ونهاية إقامة يسوع في أورشليم، يتيح لنا أن نظنّ أن كليهما ارتبط بينبوع استقى منه.
هناك موقعان يبدوان على طرفَي نقيض. واحد يقول بأن الإنجيلي ألّف من ذاته 23: 27- 31. وآخر يقول إنه نسخ نصاً سابقاً دون أن يقوم فيه بلمسة واحدة. ولكن هناك بين الاثنين تفاسير متوسطة. مثلاً، إمتلك لوقا قطعة تقليدية قديمة من أصل أرامي شكّلت آ 29- 31. فألّف هو آ 27- 28 ليستطيع أن يُدخل هذه القطعة في خبر الحاش والآلام. وكان رأي معاكس: النواة القديمة لهذه القطعة، نجدها في آ 27- 28، 31. وقد زاد لوقا عليها آ 29- 30. وإذ أراد أن يؤلّف آ 29 (طوبى للعواقر...) استلهم "الويل" عن النساء الحبالى والمرضعات كما نجده في 21: 23، كما عاد إلى قول أش 54: 1- 10 حول سعادة العاقر (التي سيكون لها أبناء عديدون). أما آ 30 التي تبدو بنيتها مماثلة لما في آ 29، فقد عادت بشكل مباشر إلى هو 10: 8.
في المعنى التقليدي والطبيعي، تدلى النقيضة بين العود الأخضر (الرطب) والعود اليابس، على تعارض بين البار والناس الخطأة. وارتباط آ 31 مع آ 28 يماثل بين العود اليابس والنسوة اللواتي يبكين على يسوع: ولكن هذه النتيجة غير مقبولة. يجب أن تُندب هذه النسوة بسبب الآلام التي تنتج عقاب شعب خاطئ: لسن مسؤولات عن المأساة التي تصيبهنّ. وهي مأساة تشير إليها آ 29- 30 بشكل غير مباشر.
خاتمة
ينتج عن هذا البحث أن النصوص الإنجيلية احتفظت بشهادتين تتعلّقان بالقول: "لن يبقى حجر على حجر". إذن، نحن أمام قول كان جزءاً من التقليد الإنجيلي. ووجوده في مر 13: 2 يدلّ على أن مرقس أخذه من تقليد سبقه.
هناك قول يتحدّث عن دمار أورشليم وآخر عن الهيكل. واحد ينسب هذا الدمار إلى عقاب، وآخر إلى عمل الأعداء. واحد يراه في صيغة المخاطب، وآخر في صيغة الغائب. واحد يتوجّه فيه الإنباء إلى أورشليم، وآخر إلى التلاميذ. ومن جهة التفسير يبقى السؤال الجوهري: هل جاء التدمير المعلن في منظار أحداث نهاية الأزمنة (كما في سياق مرقس)، أم بمعزل عن هذا المنظار (كما في لوقا)؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM