الفصل الثّالث: إستعدادات طقسية قَبل الرّحيل

الفصل الثّالث
إستعدادات طقسية قَبل الرّحيل
7: 1 – 10: 10

أ- مُقدّمة:
نجد في هذا الفصل "ملاحقَ " لما قاله كاتبٌ سابق، بحسب المبدأ القائل: لا يجب أن يضيع شيءٌ من تقاليد الآباء، بل يُدوَّن كلّه ولو على حساب الانسجام في التأليف. وإنّ المواضيعَ التي يتألّف منها هذا الفصل قد تجمّعت بحسب تَوارد الأفكار والكلمات: يورد الكاتبُ كلمةً أو فكرةً فيتذكّر أفكارًا غيرها وكلمات، وهذا ما سوف نلاحظه في شرحنا للآيات.
وإليك مواضيع هذا الفصل: تقدمةُ العَجَلات وتنسيقُها يوم تدشين المسكن (7: 1-9)، تقدمة أواني طقسيّة وذبائح يوم تكريس المذْبَح (7: 10- 89)، تعليماتٌ عن كيفيّة إضاءة السِّراج (8: 1- 4)، صيغةُ تكريس اللاويّين للربّ (8: 5- 26). وبعد أن يروي الكاتبُ احتفالاً بالفصح في سيناء (9: 1- 5) يورد أحكامًا تشريعيّة تتعلّق بحالات يُمنع فيها المؤمنُ من الاحتفال بالفصح (6:9- 14). ثمّ يخبرنا كيف غطّت السَّحابةُ المسكن (15:9) فبدت كقائدٍ للشعب في مسيرته، كعَلامة للتوقّف والارتحال، (9: 16- 23). ولكنّ الارتحال لا يتمّ إلاّ عندما يُنْفخ بالبوق (10: 1-10).
لاحظنا أنّ كلمةً يقولها الكاتب تستجلب كلمةً أخرى، ونلاحظ أيضاً كيف أنّ مقاطع من هذا الفصل تكمّل مقاطع قُرئت في فصول أخرى من أسفار موسى الخمسة. فذِكرُ تقادم التدشين يكمّل خبر بناء المعبد (خر 40: 17- 35) مع الأخذ بعين الاعتبار تنظيم الشعب كما قرأناه في سِفر العدد (ف 1- 2). والحديث عن سِراج المعْبَد (8: 1- 4) يكمّل ما قلناه عن هذا السراج في سِفر الخروج (25: 31 ي)، أمّا الأخذ بعين الاعتبار الحقّ المحفوظ للكهنة، فهو حق تؤكّده نصوص أخرى عديدة (خر 8:30؛ لا 3:24 ؛ عد 3: 5- 13؛ 4: 1- 49). أمّا طقس تكريس اللاويّين (8: 5- 26)، فيستوحي نصوصَه من طقوس تكريس الكهنة (لا 6:8- 12)، مع الإشارة إلى حموّ الكهنة على اللاويين، وإلى إبدال أبكار بني إسرائيل ببني لاوي (3: 40- 51). أمّا تنسيق تقدمات العشائر وعَجَلاتها فهو تحسين للتنظيم الذي تحدّثنا عنه سابقًا (4: 1- 49)، وصنع البوقين تكملة لصنع أدوات العبادة (خر 25- 28) وتهيئة لارتحال الشعب من سيناء إلى فاران.
نظر الكاتب إلى هذه المُعطيات المختلفة نظرةً ليتورجيّة فأعطاها وحدتَها من هذه الزاوية وحدّد لها موقعها في مجمل سفر العدد. وهكذا، وبعد أن تنظّم الشعب وتطهّر طقسيًّا وأخلاقيًّا، وبعد أن اجتمع حول المعبد المكرَّس، ها هو ينطلق من سيناء (10: 11) كما غادر مصر بعد ذلك الفصح الأوّل تقوده السحابة في البريّة (خر 13: 21 ي). وبعد كل هذا يستطيع بنو إسرائيل أن يمتلكوا الأرض التي أورثهم الربّ إيّاها (10: 29- 32). ويستطيع الجيش المنظَّم والمطهَّر أن يذهب إلى الحرب المقدّسة (10: 1- 10). وتستطيع جماعة المكرّسين أن تُحيط بتابوت العهد وتسير وراء الربّ في طَوافٍ ليتورجيّ مهيب (10: 11-28).

ب- تفسيرُ الآيات الكتابية
1- تدشينُ المسكن وتكريسُ المذبح
7: 1- 89
7: 1- 9: تدشينُ المسكن
قبل أن يتحرّك تابوت العهد قدّم كلّ رئيس ثورًا، كل رئيسيْن عَجَلةً: لكل عجلةٍ ثَوران.
لائحةُ رؤساءَ بني إسرائيل في هذه الآيات تشبه ما قرأناه في 1: 5- 15.
دُفعت أربع عجَلات إلى بني مراري، لأنّ عليهم أن يحملوا ما يوازي 300 قنطارًا من المعادن والخشب والنسيج (رج 4: 31- 32، خر 38: 21 ي).
لم يُدفع شيء إلى بني قهات: هم لا يحتاجون إلى عجَلة، والأشياءُ المقدّسة الموكولة إليهم يحملونها على أكتافهم ولا يضعونها على عجَلة.
يجدر القول إنّ تابوت العهد كان يُحْمَل على عجلة في زمنِ داود (2 صم 3:6)، ثمّ على أيدي رجال في أورشليم (2 صم 13:6 ؛ 15: 24)، لأنّ وجود العجلة كان نادرًا، ولأنّ أرض أورشليم الوعرة لا تجعل من السّهل استعمالَ العجلة. بعد ذلك نما الاعتقاد أنّ تابوت العهد أقدس من أن يوضع على عجلة، فأخذ الرجال يحملونه بانتظار أن يصبح حمله وَقْفًا على بني لاوي دون سواهم. وبعد تدشين هيكل سليمان سيوضع التابوتُ هناك ولن يتحرّك من مكانه.

آ 10- 89: تكريسُ المذبح
يذكرُ الكاتب تكريس المذبح فيوردُ بطريقة مُملَّةِ لائحة القرابين وأواني العبادة والذبائح. وقد قدّمت كل قبيلة ما قدّمته القبيلة الأخرى. من أجل هذا درجت العادة في بعض الترجمات على تلافي التكرار والاكتفاء بملخّص يعطي المعنى ذاته دون التكرار الرتيب.
إنّ الاسفار التاريخيّة (أو النبويّة الأولى) تروي لنا خبر تدشين الهياكل والمذابح، فتشيرُ إلى المُحرقات والذبائح والصلوات والأناشيد، ولا تلمِّح أبدًا إلى مسْح المذبح أو الهيكل بالزّيت المقدّس (1 مل 3:8- 4، 2 أخ 5: 2- 5، 2 مل 16: 10- 14) الذي سيعمّ استعماله في النصوص الكهنوتيّة المتأخّرة (خر 9:40- 10، لا 8: 10- 11)، والذي أُدخل تذكارًا لما فعله يعقوب في بيت إيل (تك 28: 18). أمّا عدد الذبائح المقدّمة في هذه المناسبة فهو كبير جدًّا (راجع في عهد سليمان، 1 مل 63:8). وسوت ننتظر زمن تدشين هيكل زربابل لنرى تقدمة اثنتي عشرةَ ذبيحةً على عدد أساط بني إسرائيل (عز 16:6 ي).

2- سُرُجُ المنارة وتكريس اللاويّين للربّ
8: 1- 26
8: 1- 4: سرج المَنَارة
كانت المنارة مصنوعةً من الذهب وقد مُسِحت بالزيت هي أيضاً (خر 27:30). هارون وحده يرفع السرج ويضيئها باتجاه المنارة.
للمنارة (أو الشّمعدان) دور في حياة بني إسرائيل. ففي شيلو نجد مصباح الله مضاءً طوال الليل (1 صم 3:3)، وفي هيكل سليمان نجد عشْرَ منارات من الذهب تحملُ كل منها مصباحًا (1 مل 48:7 ي ؛ 2 أخ 7:4 ي) لتضيءَ المعبد. وفي الهيكل الثاني (بعد الجلاء) والثالث (في القرن الأوّل المسيحي) نجد المنارة بفروعها السبعة (خر 25: 31- 40، 17:37- 24) يضيئُها عند المساء (خر 8:30 ؛ لا 3:24) لاويّون من بني قهات (3: 1) فتنير المعبد. ولكنّ نصوصاً لاحقة ستجعل المصابيح تُضاء ليل نهار، وتجعل من الشمعدان المسبعَّ الفروع سراجَ النُّور (1 مل 1: 21) الذي يحمل المصابيحَ السبعة، عيون الربّ التي تجول في الأرض كلّها (زك 4: 2- 10) وتكون علامةَ حضوره في الكون. هذا الشمعدان يمثّل تكريم الخليقة لربّها على مثال أيّام الأسبوع السبعة أو الكواكب السبعة، أو الكنائس السبعْ (رؤ 1: 12 ي، 2: 1- 7)، أو يسوع الممّجد بالقيامة والممتلئ من مواهب الروّح السبع.

آ 5- 26: تكريس اللاويّين وتخصيصهم لخدمة الربّ
بعد أن تحدّث الكاتب عن المعبد وآنيته، روى لنا كيف بدأ اللاويّون القيام بوظائفهم. نجد هنا أولاً (آ 5- 15) طقسًا تطهيرًّيا وذبائحيًّا هو نتيجة الدَّمج بين العديد من الطقوس القديمة: تطهير الأرض، تكريس رئيس الكهنة، مع تقديم الضحيّة ودعوة الجماعة ووضع اليد (لا 8: 2، 3، 6، 14).
يرخص هارون اللاويّين (آ 11) كما تُرخ كل تقدمة أمام الربّ (لا 7: 30، 17:23)، فيدلّ بذلك على أنّهم مُعْطَونْ للربّ بدل الأَبكار في بني إسرائيل.
يضع اللاويّون أيديهم على رأس الثوريْن (آ 12): اللاويّون هم بدل الشعب، والثوران المقدّمان للرب هما بدل اللاويّين.
ونجد هنا ثانيًا (آ 15- 19) المعنى اللاهوتيّ لهذا التكريس: إنّ اللاويّين معطون للرب، ومعطون لهارون ليساعدوا الكهنةَ ويخدموهم. وبما أنّ القرب من الخيمة محرّم على الشعب، فاللاويّون يقومون مقام الشعب في تأدية فعل العبادة.
في آ 25- 26 نقرأ خبر تطهير الكهنة وتقريبَهم إلى الرب بحسب أمره لموسى. هارون يقوم بهذا العمل الطقسي فيكفّر عنهم.
كان سِفر العدد (3:4) قد حَدّد عمر اللاويّ لدخوله الخدمةَ بثلاثين سنةً. ولكن عندما نَقَص عدد اللاويّين الخادمين خُفِّض العمر إلى 25 سنة. أمّا اللاويّون المتقاعِدون (بعمر 50 سنة) فيساعدون إخوتهم في خدمة المسكن (1 أخ 24:23- 27 ؛ 2 أخ 31: 17). يجدر القول إنّ عزرا (3: 8) سيخفض أيضاً عمر اللاويّين الداخلين في خدمة الرب إلى سنّ العشرين.

3- الاحتفالُ بالفصح والسَّحابة والبوقان
9: 1- 10: 10
9: 1- 5: الاحتفالُ بالفصح
يروي سفر العدد في هذا المقطع احتفالاً بالفصح بعد تدشين المعبد وتكريس المذبح. هذا ما سيفعله عزرا (6: 16- 22) بعد تدشين الهيكل الثاني وتنظيم الكهنة. إذا كان اللاويّون هم بدل أبكار بني إسرائيل الذين اقتناهم الربّ يوم الخروج من مصر (8: 17)، فهلِ نعجب أن يتحدّث الكاتب عن حدث الفصح الذي يرتبط بهذا الخروج ارتباطاً وثيقَا؟
يكتفي هذا المقطع بذكر أمر الله (آ 2- 3) لموسى الذي ينفّذ ما أمره به الربّ (آ 4- 5) ويستقي معلوماته من سفر الخروج (12: 9- 14) فيروي لنا الحدثَ ذاته بطريقةٍ عاديّة لا ابتكار فيها.

آ 6- 14: حالاتٌ خاصة للاحتفال بالفصح
يقدّم لنا الكاتب هنا أحكامًا خاصّة للذين مُنعوا من الاحتفال بالفصح في وقته. ينطلق من حادثةٍ خاصة (راجع أيضاً الأسلوب ذاته في 27: 1- 11 ؛ 36: 1- 12) يعرضها موسىِ أمام الربّ (آ 6- 8) فيعطيه الجواب (آ 9- 12): إنّ الذين تنجّسوا أو كانوا في سَفر يستطيعون أن يحتفلوا بالفصح في الشهر الثاني.
يشدّد الكاتب على أهميّة الفصح ويهدّد الممتنعين عن الاحتفال بهذا العيد (آ 13) ويوسّع واجب الاحتفال به على الغريب والدخيل المُقيم وسط الشعب (رج خر 48:12-49).
تجدر الإشارة إلى أنّ الاحتفال بعيد الفصح في الشهر الثاني لا في الشّهر الأوّل، نجده في سفر أخبار الأيّام الثاني (30: 1- 3): دعا الملك حزقيا سكّان مملكة الشّمال إلى الاحتفال بعيد الفصح في الشهر الثاني لأنّه لم يكن قد تقدّس من الكهنة ما يكفي ولا كان الشعب قد اجتمعوا إلى أورشليم. أنكون في هذا المقطع من سفر العدد أمام تقليدٍ آتٍ من مملكة الشمال (الاحتفال في الشهر الثاني لا في الشهر الأوّل) أُدخل في إطار تشريعيّ على أيّام الفُرس؟ هذا ما يبدو معقولاً جدًّا.

آ 15- 23: السّحابةُ على مسكن الرب
ترتبط السحابة بالخروج من مصر (خر 13: 21- 22) وبناء المعبد (خر 40: 34- 38)، ولهذا يذكرها الكاتب بعد الاحتفال بالفصح (9: 1- 14) وقبل إعطاء الإشارة بالمسيرة والارتحال.
هنا تبدو الخيمة والمسكن شيئًا واحدًا، بينما كانا مميّزين في البداية إذ كانت الخيمة موجودة خارج المحلّة (11: 26، 30؛ خر 7:33) والسحابة تنزل عليها بصورة متقطّعة (11: 25، 14: 10 ؛ 7:17). أمّا المسكن فوجود وسط المحلّة (17:2) والسحابة تقيمُ عليه بصورة مستمرّة.

10: 1- 10: البوقان لنداءَ الشعب
بعد الحديث عن السحابة التي تؤذن بالارتحال، يحدّثنا الكاتب عن البوقين اللذين يُستعملان لنداء الشعب إلى الارتحال أو الاجتماع. وكان لهذين البوقين دور ليتورجيّ في احتفالات تكريس المذبح أو تدشين الهيكل (2 أخ 5: 12- 13 ؛ عز 3: 10).
يورد الكاتب أوّلاً أمر الله بخطوطه العريضة (آ 1- 13)، ثمّ يحدّد معنى كل نفخة بالبوق (آ 4- 7) وأخيرًا يتبيّن وظيفتهما الليتورجيّة والحربيّة (آ 8- 10).
في الماضي كانت الليتورجيّا تستعمل البوقَ المصنوع من قَرْن الكبْش (شوفر في العبرانية) وستَستَعمل فيما بعد النفيرَ (حصرة في العبرانية) المصنوع من المعادن والذي كان معروفًا منذ القديم عند المصريّين (وُجد منها ثلاثُ قطَعٍ في قبر توت عنخ آمون). الهتاف (تروعة في العبرانيّة. راجع راع في العربيّة) هو صرخةُ الشعب لترويع العدوّ وتفزيعه (يش 6: 5- 10 ؛ 1 صم 20:17).

ج- ملاحظات على الفصل الثَّالث
1- أهميّة الذبيحة
يشدّد سِفر العدد على قداسة الله الحاضر وسط شعبه فينوّه بدور اللاويّين، وسلطة الكهنة، وقداسة تابوت العهد الذي يُحمل على الأيدي، وطهارة المعبد الذي يُمسح بالزيت ويُغمر بالذبائح، إلاّ أنّه يشدّد بصورة خاصة على المذبح الذي سيصير فيما بعد أهمّ من المعبد. يُمْسَح بالزيت أربع مرات (7: 1، 10، 84، 88) ويدومُ تدشينه 12 يومًا ويتطلّب مقدماتٍ أكثر من تلك المفروضة لتكريس المسكن.
كان المذبح في الأساس ذِكْرًا لظهور الرب (تك 14: 7 ؛ 26: 24 ى) ثم علامةً لحضوره (خر 24: 6 ي). بعد إصلاح يوشيا سيصبح مذبحُ المحرقات المذبحَ الوحيد للرب في بني إسرائيل.
المذبح هو مركز العبادة، وحوله يطوف صاحبُ المزامير قائلاً: "أدخل إلى مذبح الله، إلى إله فرحي وابتهاجي " (مز 26: 6) وأعترف بالكنّارة لك يا ألله إلهي (مز 43: 4). من دون مذبح، لا ذبيحة ولا كهنوت، والمذبح هو الوسيلة التي لا غنى عنها ليتّصل الإنسان بربه.

2- روحانية بني لاوي
اللاويّون مأخوذون من بني إسرائيل (8: 6)، معزولون عنهم ليكونوا للرب (8: 14) بدل أبكار بني إسرائيل (8: 18) الذين هم ملك الرب منذ الخروج من أرض مصر. وهذا الإبدال الذي يشدّد عليه طقس وضعِ اليد (8: 10) يربط تكريس اللاويّين بدعوة الشعب المختار من بين كلّ أمم الأرض (تث 7: 6) ليكون مملكةً كهنوتيّة وأمّةً مقدَّسة (خر 19: 6). إنّ اللاويّين هم العلامة الدائمة على أنّ الرب اختار له شعبًا وأقام معه عهدًا. اختار الله اللاويّين لأنّهم ظلّوا على الأمانة له يوم عبد الشعبُ العجل الذهبي (خر 26:32- 29)، فكان تكريسهم بَدلاً عن تكريس الشعب وساعدوا العهد على الاستمرار وأبعدوا الغضب عن الشعب المنجّس بعبادة الأوثان (1: 53). هذا التكريس يساعد الشعب على التقرّب إلى الله ويؤمّن له وسيلة التكفير عن خطيئته (19:8).
اللاويّون مأخوذون من شعب خاطىء، لهذا يحتاجون إلى تطهير: يُرّش عليهم ماء التطهير (7:8، مز 5: 9)، يحلقون شعْرهم كالبّرص، يغسلون ثيابهم كالشعب يوم ظهور الرب في سيناء (خر 14:19 ؛ لا 8:14)، تُقدَّم عنهم ذبائح الخطيئة فتنزِع منهم ما يفصلهم عن الرب وتجعلهم أهلاً للتقرّب إليه. كل هذه الطقوس التطهيرَّية (بالنسبة إلى الكهنة ستكون أكثر عددًا. رج خر 2:29- 10، لا 12:8- 13) تلفت نظرنا إلى المفارقة بين نجاسة البشر وقداسة الله، وتجعلنا نستشفّ عجز طقوس العهد القديم عن تطهير بني لاوي تطهيرًا يؤهلهم للتقرّب إلى الله. تقول الرسالة إلى العبرانيّين (10: 11- 14): "يقف الكاهنُ اليهوديّ كل يوم فيقوم بالخدمة ويقدّم الذبائح نفسها مراتٍ كثيرة، وهي لا تقدر أن تمحو الخطايا. وأمّا المسيح فقَدَّم ذبيحةً واحدة كفّارة للخطايا... بقربان واحد جعل الذين قدّسهم كاملين إلى الأبد".
اللاويّون مكرّسون للرب بطريقة تفترق عن تكريس الكهنة الذين يلبسون لباسًا خاصاً بهم ويُمسحون بالزيت. أمّا اللاويّون فيقدَّمون للرب عبر ذبيحة تذكّرنا بذبيحة الأبكار في بني إسرائيل (17:8- 18 ؛ خر 13: 11- 16) أو بذبائح التكفير (8: 19). وتضع جماعةُ بني إسرائيل يدَها على اللاويين كما تضعها على ذبيحة الخطيئة ليكونوا بدلاً عنهم (لا 4: 4، 15، 24، 29، 33) ويقدّم موسى (13:8) وهارون (8: 11) اللاويّين للرب فيكونون هبة للرب. حينئذ يعطيهم الرب لهارون (19:8) ليساعدوه في إقامة شعائرِ العبادة. قبل أن يَذبحوا الذبائح يُذبَحون بطريقة رمزيّة، وإذ يكرّسهم موسى يجعلهم ذبيحةَ حيّة.

3- وضْع اليد
إنّ لوضع اليد معاني عديدة. كان بنو إسرائيل يضعون أيديهم على الضحيّة التي سيذبحونها (خر 29: 10 ؛ لا 2:3، 8 ؛ 4:4) فيعبّرون عن تماثُل بين الضحية ومقدّم الضحيّة. وهكذا، وعبر الضحية، يقدّم الإنسان نفسه كضحيّة للرب. وكانوا يضعون أيديهم على شخص فينقلون إليه السلطة التي بين أيديهم، كما فعل موسى مع يشوع بن نون (18:27، تث 34: 9). وكانوا يضعون أيديهم على "تَيْس التكفير" (لا 16: 20- 22) فينقلون إليه خطاياهم وذنوبهم. وكان الآباء يضعون أيديهم على رأس ابنائهم فينقلون إليهم البركة الآتية من لدن الرب (تك 48: 14).

4- السَّحابة
السحابة علامة تكشف حضورَ الله وتخفيه. يقول الكاتب: "وكان إذا رأى جميعُ الشعب عمود السّحاب يقومون ويسجدون كلّ واحدٍ على باب خيمته " (خر 33: 10، رج لا 16: 2). السحابة تدلّ على حماية الله السامي لشعبه (خر 14: 24- 27)، وهو الإله غيرُ المنظور (تث 4: 11) الذي لا يراه إنسان وجهًا لوجه من دون أن يموت (خر 33: 20). قال فيه المزمور (104: 39): "بسطَ السحاب سِترًا لهم يحميهم في النهار، ونارًا تضيء لهم في الليل".
والسحابة وسيلة تعبِّر عن إرادة الله: تحلّ السحابة فينزل بنو إسرائيل، ترتفع السحابة فيرتحل بنو إسرائيل. إنّ حريّة الله السامية لا ترتبط بإرادة البشر، وتصرُّف السحابة بهذا الشكل يدلّ على هذه الحرية. والسحابة هي كالنار التي كانت تُشعل على الجبال لتعطي المعلومات للجيوش. فعلى الشعب إذًا أن يتحرّك بسرعة بحسب أوامر الربّ. والسحابة هي مثلُ فم الله (18:9- 32)، تتكلّم فيسمع موسى، تعطيه رسالةً فيوصلها إلى الشعب الذي ينفّذ مضمونها.
في رمز السحابة نتعلّم الانتباه إلى كلام الله والانقياد له والسرعة في الطاعة لمشيئته. وعندما يتحدّث النبي أشعيا (63: 11- 14) عن الخروج سيذكرُ روح الله القدّوس كدليل على حضوره وسط شعبه: تذكّر شعبه الأيّام القديمة، أيّام موسى وتساءل: أين الذي أصعد شعبه من البحر مع موسى، راعي غنمه؟ أين الذي جعل فيه روحَه القدّوس؟ أين الذي سيّر عن يمين موسى ذراعه السريعة وفلق المياه أمامهم ليتمجّد إلى الأبد؟ أين الذي سيّرهم في الغمار كفرَس في البريّة، فلم يعثُروا؟ كانوا كالمواشي التي تهبط في الوادي، فقادهم روح الربّ إلى الراحة.

5- معنى النفْخ بالبُوق
كان العبرانيّون يستعملون البوق كآلة حربيّة (هو 5 :8، 2 أخ 14:13 ي)، ومع النفخ فيه يهتفون هتافًا مريعًا (10: 5- 6)، هو هتاف الحرب (عا 1: 14 ؛ 2: 2، صف 1: 14- 16) حول تابوت العهد (1 صم 4: 5، 2 صم 6: 5) الذي يحملونه في القتال (2 صم 11: 11). وهكذا بدت مسيرة الشعب إلى أرض الميعاد بشكل حرب مقدّسة توافق ما قاله سفر العدد (ف 1- 2) عن أنّ شعب الله هو جيشُ الله.
وكان الهتاف بالبوق وصراخُ الحرب يرافقان تحرّكات تابوت العهد فيبدوان كطقوس الحرب المقدسة ويذكّران الربّ بمواعيده لشعبه ويثيران هِمّة المقاتلين. يتذكّر الشعب حروب الله القدير في الماضي وخاصةً احتلال أريحا (يش 6: 1- 20) فيتأكّد أنّ النصر سيكون بجانبه (2 أخ 13: 12 ي، 1 مك 4: 40 ؛ 33:5، 16: 8).
وللبوق دورٌ ليتورجيّ أيضاً. يُنفخ فيه فتجتمع الجماعة (2:10، 3) لتحتفل بأعياد الرب، ينفخون فيه فيعبّرون عن فرحهم بتنصيب الملك (2 مل 14:11؛ 2 أخ 23: 13؛ مز 98: 6) أو في النجاح (نح 12: 35- 41)، أو النصر (2 أخ 2: 28). ينفخون فيه فيهتفون لله بمناسبة تدشين المعبد أو إعادة بنائه (2 أخ 5: 12 ي)، أو يتذكرون العهد فيأخذون على نفسهم الالتزام بالأمانة للعهد.
وهكذا، فالبوقُ هو سلاح في الحرب المقدّسة، وعلامة التجمّع لشعب الله، ووسيلة للتسبيح له. وهو سيلعب دورًا مهمّا في أواخر الأزمنة حين تبدأ حرب الله على قوى الشرّ ويتمّ له الانتصار عليها. "قريبٌ يوم الربّ العظيم، قريب وسرج جدًّا... يوم ضررٍ وخبث، يوم إبادة وإِتلاف، يوم ظلمة وديجور، يوم بوق وهتاف مُريع " (صف 1: 14- 16). في هذا الخط تفسّر جماعة قُمْران الفصلَ العاشر من سفر العدد وتطبّقه على حرب أبناء النور مع أبناء الظلمة: ينفخ الكهنةُ في اثني عشرَ بَوقًا فيتشتّت أعداء الرب وينتصر بَنو النور. أمّا سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا فسيجعل الملائكة ينفخون في سبعة أبواق ليعلنوا مراحل خراب هذا العالم الشريّر (رؤ 6:8- 17، 9- 1، 13، 7:10). وعندما يصِلون إلى البوق السابع يظهر انتصار الرب ومسيحه ونهايةُ الحرب المقدّسة (رؤ 11: 5). حينئذ ينفخون في البوق (1 كور 15: 22) لإعلان القيامة (1 تس 4: 16) وجمْع المختارين (مت 24: 31) وبدايةِ مُلك المسيح الممجَّد (مز 98: 6- 9).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM