الفصل الثاني: طهارة المحلة والشعب

الفصل الثاني
طهارة المحلة والشعب
5: 1 – 6 : 37

أ- المقدّمة
نجدُ هنا شرائع متنوّعة تقطع سِياق الحديث عن تنظيم الجماعة واستعدادها للارتحال: نفْي المُنجّسين (5: 1- 24)، قواعد تتعلّق بمسّ حقّ القريب (5: 5- 10)، تقدمة الغَيْرة بالنسبة إلى امرأة ظُنت زانية (5: 11- 13)، أحكام المنذورين (6: 1- 21)، صيغة يبارك بها الشعب الكهنة (22:6- 27).
مواضيع متعدّدة وفنون أدبيّة متنوّعة ولكنها تدخل كلّها ضمن إطار تشريعي. هناك التّعليم (5: 1- 4، 6: 4- 8)، وهناك الفَتوى (5: 6- 10، 11- 12، 6: 31، 9- 12)، وهناك شعائر التطهير والذبائح (5: 15- 31؛ 6: 9- 12، 13- 21، 24- 26).
نصوصٌ ترجع إلى أزمنة متفرّقة، منها شريعةُ الذبائح (5: 5- 10 ؛ 13:6- 20؛ رج لا 5- 7) وشريعةُ الطهارة (5: 1- 4؛ 6: 9- 12؛ رج لا 12- 15) اللّتان كُتبتا في زمن متأخّر. ومنها ما يحدّد بالتفاصيل مداخيلَ الكهنة (5: 9- 10، رج لا 7: 1 ي ؛ عد 18: 8- 19). أمّا تقدمة الغيْرة (5: 15- 22) وبعضُ عادات المنذورين (6: 19) فترجع إلى أيّام الحرب المقدّسة ورفض ممارسات السّحر المعمولِ بها في كنعان.
نحن هنا أمام سلسلة من التشاريع تمتدّ على أجيال فتعكس متطّلبات ديانةِ بني إسرائيل في إطار الطّهارة والنّذُور. بعد أن تغذّى الكاتب المُلهمَ بروحانيّة الأنبياء، ولاسيّمَا حزقيال، وبسفر التَّثنية، ها هو يعتبر شعب الله جماعةً مقدسةً مجتمعةً حول الله القُدّوس المقيم وسط المحلَّة. وهذا الشعب الذي يتهيّأ للارتحال إلى أرض الموعد، لن يصل إليها ولن يبقى على قيد الحياة إلاّ إذا كان أمينًا لشريعة الربّ وعهده. من أجل هذا كان من الطبيعيّ أن يَنْفيَ المشترع من المخيّمِ كلَّ من لا يتحلّى بالطهارة التي تخوّله التقرّب من الله القُدّوس (5: 1- 4)، وأن يفرض على المُختلسين ردَّ ما اختلسوا (5: 5- 10)، وأن تُكشف كلّ خطيئةٍ وتَلقى عقابَها، وأن يبرّأ كلّ من إتّهم جَورًا (5: 11- 13)، وأن يكون في هذا الشعب نخبةٌ تُدعى إلى عمل عظيم فتكرّس نفسَها بنذر للربّ (6: 1- 21). بعد هذا تستطيع الجماعة التي تقدّست وتطهّرت أن تتقبّل بركة الله بواسطة كهنته (6: 22- 27).

ب- تَفسيرُ الآيات الكتابِية
1- أحكام طقسية
5: 1-31
5: 1- 4: نَفي المنجسَّين من المحلّة
أوّل شيء يقوم به المشترع ليؤمّن طهارة المحلّة (أو المخيّم) هو نفيُ المنجّسين: كلّ أبرص (لا 46:13 ؛ 22: 4) أو من به سيلان (لا 15: 2 15؛ تث 23: 10- 15)، أو منجَّس بميْت (لا 4:22) وهكذا تصبح شريعة خاصة بزمن الحرب (تث 23: 10- 15 ؛ 1 صم 21: 5- 17) أو بالخدمة الكهنوتيّة (لا 22: 4) شريعة تُطبّق على الشعب كلّه وفي كلّ وقت. بما أنّ الله حاضر وسط شعبه، فعلى الشّعب أن يكون طاهرًا فلا يُنجِّس المحلّة بخطيئة (تث 23:21).

آ 5- 10: ألتّعويض على القريب
إنّ نقاوة الشعب تفرض عليه أن يكفّر عن كل الذنوب، الطقسيّة منها والأخلاقيّة. لهذا يورد المشترعُ هنا قضيّة التعويض على القريب: يَرُدّ ويزيد الخُمْس (لا 5: 16، 13)، ويقدِّم ذبيحةَ تكفير (لا 16:5، 18، 25)، ويُقِرّ بخطيئته التي اقترفها (لا 5: 5 ؛ يش 19:7).
في آ 8 تُطرح قضيّة خاصة. مات صاحبُ الحقّ فإلى من يُعوض المذنب؟ يردُّ ما سلبه إلى الله ويقدِّم الذبيحة المفروضة.

آ 11- 31: تقدمةُ الغَيْرَة
مِياهٌ مُرّة هي مياه تحملُ الشرّ إلى صاحبها إذا كان خاطئًا (خر 23:15- 25).
* في آ 20 ي نجدُ عناصر سحريّة أُدخلت في إطار الإيمان بالربّ.
* آمين أي حقًّا وبالتأكيد. بهذه الكلمة تَقبلُ المرأة بكل ما تحمِل إليها كلماتُ الكاهن من تهديد إن كانت مذنبة (تث 27: 15- 26).
* تكون المرأةُ لعنةً (آ 27) أي سيقولون لكلّ امرأةٍ وقعت في ما وقعت فيه هذه: كوني ملعونةً مثلَ هذه. هناك نص آخر (حز 8:2- 3:3) يَقضي بأن تأكلَ المرأةُ نصّ اللعنة.
* يأخذ عيّنةً (في العبرانية زكرتة. آ 26) فيجعل الله يتذكّر مقدِّم التقدمة فيرأف به.
* أراد المشترع أن ينزع من الشعب كلّ ظنٍ بالشرّ، فأدخل قاعدةً أو بالأحرى عملاً طقسيًّا يبرّىء ساحةَ المرأة المتّهمة بالزنى. بعد مقدّمة تعرض حالات مختلفة (آ 11- 4) يورد الكاتبُ أعمال وأقوال الكاهنِ والرجلِ والمرأة (آ 15- 28).
* هناك حالتان. الأولى: زنى اقترفته المرأةُ حقًّا ولكن لا شيء يشهَد عليها (آ 12، 13، 29، 30)، الثانية: لا زنى، بل غَيرْة رجلٍ يظنّ بأمرأته، ولا بدّ من تبديد هذه الظنون (آ 14 ،20).
* من أجل هذا نجد طَقسيْن. الأوّل يصل بنا إلى إفحام المذنب وذلك بواسطة المياهِ المُرّة (آ 15، 16، 17، 19، 20، 22، 24)، الثاني يتضمّن تقدمةَ الغيْرة، وهي ذبيحة تحلفُ فيها المرأة فتبدّد ظنونَ الرجل (آ 15، 18، 21، 25، 26).
* إنّ الحالتين اللتين يذكرهما سفر العدد لهما شبا في أحكام قانون حمورابي الذي يقول: إن سمع رجل اخبارًا عن امرأته فاتّهمها بالخيانة، عليه أن يُخضعها لتحكيم النهر: تُرمى في الفُرات، فإن نجت اعتُبِرتْ بريئةً، ومياه النهر وهي فيض من الإله "أفسو" تحكمُ الحكمَ العادل. أمّا العبرانيّون فقد لجأوا إلى المياه المرّة لأنّ نهرَهم قليل العمق ولأنّه يقع على حدود أرضهم. أمّا لماذا يعتبر هذا الماء مقدّسًا؟ فلأنّه كان يؤخذ من حَوْض النُّحاس الموضوع في الهيكل والمطهر بترابِ المعبَد (19: 9).

2- شريعةُ المنذورين للربّ
6: 1- 27
6: 1- 21: الإنسان الذي ينذُر نفسَه للربّ
بعد مقدّمة قصيرة (آ 1- 2) يُعطي المشترع القواعدَ التي يخضع لها الناذر (آ 2- 8) ثم الحلولَ لمشكلة الناذر الذي انقطع نذُره بسبب لمْسِه لميْت (آ 9- 12). وبعد أن يصوّرَ الاحتفالات التي ترافق نهايةَ النذْر (آ 13- 20) يختم كلامه (آ 21) قائلاً: تلك شريعةُ من نَذر أن يكون ناسكًا.
يبدأ النص بشكل فَتْوى: أي رجل أر امرأة نذَر نفسه...
لا حدودَ زمنية لنذره، ولكنّنا نفهم أنّ النذر يكون لزمن محدّد.
يُمنع على الناذر شيءٌ واحد: العنبُ وما يخرج منه من نَقيعٍ أو مُسْكِر. لقد كان الخَلّ الممزوج بالماء شرابًا معروفًا في الشرق القديم (را 2 : 14، مت 48:27). أمّا معارضة استعمال محاصيلِ العنب فهي رفضت لحياة الحَضَر على مِثال الركابيّين (إر 35: 5- 8) الذين لا يَبنون بيتًا ولا يزرعون ولا يغرسون كرْمًا.
يُفرض على الناذر اثنان: لا تمرَّ موس على رأسه، لا يتنجّس بميْت ولو كان أباه أو أمّه. إن عادة إرسال الشَّعر عادةٌ معروفة في الشّرق كمصر أو غيرها. إنّ الشعر يرمز إلى القوّة، ونحن نتبيّن ذلك من قصّة شمْشُون (قض 7:16- 30) الذي قصّ شعره فزالت قوّته. بالاضافة إلى ذلك، يصير شعرُ المنذور مكرّسًا فيحرَق لئلا يتنجّس. انّ المنذور يشبه رئيسَ الكهنة (لا 21: 1- 11) في أمور عديدة، ويفرض عليه أن يحافظَ بدقّة على متطّلبات الطهّارة (19: 1ي).
النذر لزمن محدّد يتفرعّ من النذر مدى الحياة (قض 13: 5، 1 صمِ 1: 11). بالنّذر يلزم الإنسانُ نفسَه بخدمة الربّ. والنذر متروك لمبادرة كلّ مؤمن، رجلا كان أم امرأة.
ويبدو القسم الثاني (آ 9- 12) أيضاً بشكل فتْوى فتحلّ قضيّة الناذر الذي تنجّس بميْت بلا تعمُّد. حينئذ يقدّم الناذر يَمامتيْن: الأولى تكون محرقةً والثانية ذبيحةَ خطيئة.
وتكون حاله كحال المرأة النجسة بعد الولادة )لا 12: 1- 8) أو كالأبرص (لا 14: 22-28) أو المنجّس بسيلان (لا 13:15- 15، 28-30). يبقى منجَّسًا سبعة أيّام (لا 14: 9، 13، 28) ويقدّم خَروفًا إذا استطاع، لأنّ تقدمة اليمامتيْن هي تقدمةُ الفقراء (لا 6:12- 8 ؛ 14: 10- 22).
هذه القاعدة التي نقرأها هنا تجهل شريعةَ عزْل المنجَّس عن المخيَّم (5: 1- 3) أو تطهيرَه بماء مطهّر (19: 11- 13) وتقارب شريعةَ الطهارة كما نقرأها في سفر اللاويّين (ف 12- 15). أمّا المقطع الذي نقرأه فمزيج بين تقليديْن مختلفيْن، واحد يتحدّث عن ذبيحة الخطيئة (حطأة في العبرانية) وعن تقديس (قدش في العبرانية) الناذر، وواحد يتحدّث عن ذبيحة الإِثم (اشم في العبرانية) وعن تكريس النّاذر. أمّا كلمة "نزر" العبرانية فتعني الشخصَ المنذورَ وتعني أيضاً العلامةَ الخارجيّة لحالة المنذور وهي إرسال الشَعر. وتعني ثالثًا التاجَ المقدّس (خر 29: 6) الذي يجعله رئيسُ الكهنة فوق العمامة. وهكذا يكون تكريس المنذور كتكريس رئيس الكهنة.
الخطيئة المذكورة هنا هي مخالفة طقسيّة غير متعمَّدة: غبَن الإنسانُ الربَّ فحُقّ للربّ التعويضُ. تورد الشريعة الخطأ غير المتعمَّد بالنسبة إلى الطهارة، ولا تقول شيئًا عن المنذور الذي يخالف نذرَه بطريقة متعمّدة: أي عقاب ينتظره؟ نقرأ في 30: 3: أيّ رجلٍ نَذر نذرًا للربّ... فلا يرجع عنه، بل يعمل بكل ما نَطق به.
يحتوي القسم الثالث (آ 13- 20) رُتْبة طقسيَّة تبدأ بمقدّمة (وهذه رتبة الناسك) تعوّدنا أن نقرأها في سائر الر"تب الطقسيّة (لا 6: 2، 7: 11، 37) وفي شريعة الطهارة (لا 12: 7؛ 13: 59 ؛ 14: 32؛ 15: 32). يحدّدُ هذا القسم حصّةَ الكاهن (رج 8:5- 10، لا 28:7- 34)، ويذكر ذبيحةَ الكبْش (لا 14: 10)، ولكنه لا يتوّقف طويلاً على التّقدِمة وَسكيبها (رج 15: 1ي).
نلاحظ أنّ هذا النصّ هو مزيج من نصوص متعدّدة (عُرفت يوم دُوّنت شريعةُ الطهارة). ونلاحظ أيضاً التقاربَ بين الرتبة الطقسيّة الخاصة برئيس الكهنة (رج 29: 1 ي، لا 8: 1ي) وتلك الخاصة بالمنذور. فالرتبتان تفرضان ثلاثَ ذبائح (خر 29: 11- 21، لا 8: 14، 18، 22) مع السَّكيب. بالاضافة إلى ذلك فالناذر يرفع مع الكاهن تقدمتَه، وهذا ما لا يفعله المؤمن العادي.
لا نجد مَنذورًا واحدًا قام بما تطلبه هذه النِصوص القديمة التي نقرأها هنا. وإنّ عادة إرسال الشعر والامتناع عن الخمر هي قديمة جدَّا. والمنذور لا ينجّس رأسه المكرّس لأنّ نَذْر إلهه على رأسه. وعندما ينتهي من النذْر يمكنه أن يحلقَ شعره علامةَ نذَره (تك 49: 26، تث 33: 16: يرتبط النذر بالبركات الإلهيّة).
المنذور الوحيد الذي تُحدِّثنا عنه التوراة هو شمشون الذي نذر للربّ نفسه ناسكًا (قض 13: 5- 7). كان يشارك الآخرين في ولائمهم وما كان يحرُم نفسَه الخمر (قض 14: 10). أمسك جثّة أسد (قض 14: 6- 8) وحمار (قض 15: 15) وجثّةَ أحدِ الفلسطيّين (قض 19:14) وما اعتبر أنه تنجّس. كانت قوته تكن في شعره بخِصَلِه السَّبع (قض 19:16) علامة قوة روح يَهْوَه الذي أعطاه أن يقهرَ أعداءه (قض 13: 25، 14: 6، 19، 15: 14) كما أعطى قوةً لغيره من أبطال الحرب المقدّسة (قض 2:5).
لم يُدعَ صموئيل منذورًا للربّ مع أنّه أعُطي للرب وما كان له أن يحلق شعرَ رأسه (1 صم 1: 11). كرّسته أمّه لخدمة الربّ فحصل بالذبائح التي قدّمها على النصر على أعدائه (1 صم 7: 2- 14). كان منذورًا وقاضيًا (أو حاكمًا) ونبيًّا. وهكذا فالمنذورُ شخص اختاره الربّ، وكان شعرُه المسترسل علامةَ قدرة لا تُقهَر يُعطيه الله إيّاها لينجّيَ الشعب من أعدائه.

آ 22-27: بَرَكةُ الكهنة
وُضعت هذه البركة هنا كجواب لتكريس الناذر نفسَه للربّ.
الكهنة يباركون الشّعب (تث 8:10؛ 21: 5): يُضيء الربّ بوجهه أي يبتسم لكم فيظهر رضاه عليكم. يرفع الربّ وجهه أي ينظر إليكم بعطف ويستقبلكم في دياره. يمنحكم السلام أي يعطيكم مِلء السعادة والهناء.
يجعلون اسمي علامةً أو خَتْمًا: يدلّ على أن الشعب يخصّ الربّ (أش 44: 5 ؛ حز 9: 4). تَعتمِد البَرَكة على الاعتقاد بفاعليّة الكلمة: عندما يتلفّظ الكهنة باسم إلهِ العهد، فهم يجعلون هذا العهد حاضرًا بمواعيده وبركاته ومتطّلَباته.

ج- ملاحظاتٌ حول الفصل الثّاني
1- كلّ خيانة للربّ هي خيانة للقريب أيضاً، لأن محبة الله تفترض محبّةَ القريب. إن الله يكفل العدالة بين البشر، فمن تعدّى على القريب يكون وكأنّه قد تعدّى على الله.
2- يَذكرُ المقطعُ الأوّل من ف 5 دَوْر الكاهن الذي يعمل على تنقية الشّعب وعلى التكفير عن خطايا اقتُرفَت ضدّ الله. وهذه الخطايا (معل في العبرانية. راجع في العربية المغل أي الفساد) تعني كلّ خيانة للعهد (خر 14: 13؛ 20: 27)، كلّ تجاوز في شعائر العبادة (يش 22: 16، 20، 31، لا 5: 15)، وكلّ ضرر بالقريب (لا 5: 21). فالضرر بالقريب يُعْتبرُ نقضاً للعهد بحسب تعليم عاموس (7:5- 17) وأشعيا (1: 16- 20) وسفر التثنية (24: 5- 22). وهكذا فحضور الربّ وسط المخيّم يفرض الإقرارَ بالخطايا والتكفيرَ عنها، لأنّ كل خطيئة، وإنْ فرديّة، تؤثّر على طهارة الشعب كلّه.
3- انطلاقًا من تقدمَة الغَيْرة (5: 11- 13) سنرى أنّ ديانةَ بني إسرائيل ستتنقّى شيئًا فشيئًا من كل أثَر سحْر ومن كل رباط بالعالم الوثني. ليست المياهُ مقدّسةً بحدّ ذاتها، إنها مقدسةً لأنّ تراب المعبد وُضِع فيها، وهي لا تفعل بذاتها بل بفعل الربّ (5: 21) الحاضر وسط شعبه، والذي وحده يَمتحن ما في القلوب والأفكار (مز 7: 10، إر 17: 10) فيكشفُ الخطايا الخفيّة ويدين بالعدل وينفّذ الحكم بحق المذنبين.
ولكنّنا في هذه الحالة نكون كمن يجرّب الربّ (تث 16:6) ونفرض عليه أن يجرحَ مُعجزةً ليبيّن خطأَ المرأة أو براءتها. غير أنّ الشريعة هي شريعةُ الربّ (5: 11)، وقد وُضعت أوّلاً لتحميَ المرأة من عنف رجلٍ غيور يتصرّف بطريقةٍ اعتباطيّة. ومع ذلك فهذه العادة سوف تزول في بني إسرائيل ولن تأخذَ بها المسيحيّة (مت 9:19؛ يو 8: 1-11).
4- الناذر نفسَه للربّ يقابل النّاسك أي العابد المتزِّهد الذي يفرز نفسه فينفصل عن الغير ليتفرّغ لخدمة الربّ. يمتنع عن الخمر ليتذكّر الحياة في البريّة، ومن سقى ناذرًا حمرًا فجريمته توازي من استهان بكلام النبيّ أو تناسى عهد الربّ (عا 2: 12). ويترك شَعْره مسترسلاً ليتذكّر عظائم الربّ في شعبه.
الناذر هو إذن رجل مملوءٌ من قدرة الله وشاهدٌ على حضور الربّ المخلِّص. من أجل هذا، فالناذَر الدائم له مكانتُه في مخطَّط الله كالنبي (عا 2: 12) والقاضي (صموئيل) والكاهن (لا 21: 1- 5). من أجل هذا أيضاً نعتبرُ يوحنّا المعمدان ناذرًا. اما العاداتُ الثلاث، أي الخمْر والشَّعر والميْت فهي أمور خارجيّة وهي أقلّ أهميةً من التكريس للربّ. في هذا المعنى يفسر بعضُ الآباء كلمةَ "نذور" الواردةَ في مَتّى (2: 32) بأنها تدلّ على المسيح "قُدّوس الله" (مر 1: 24؛ لو 4: 34، يو 69:6) أي المكرِّس نفسَه الله.
هناك من ينذُر نفسَه مدى العمر، وهناك من ينذرها لزمن محدود، فيُعرِب عن عِرفانه لله المخلّص ويتذكّر أفضال الله عليه. هو يقوم بعمل كبير ويشارك في عظائم الله بانقطاعه عن الخمر، بطهارته الطقسيّة، بسخائه في تقدمة الذبائح والتبرّع بما تملكه يدُه. إن النذْر يحافظ في قلب الشعب على مناخ من السّخاء الروحي والأخلاقي شبيه بذلك الذي نجده في العالم الرهبانيّ الذي ينذُر نفسه لخدمة الربّ والنفوس من خلال النذور الثّلاثة التي هي الفقر والطاعة والعفّة.
5- إن مبدأ طهارة المحلّة يصلُح أيضاً للكنيسة التي هي هيكلُ الله (1 كور 3: 16؛ 2 كور 6: 16). كير أنّ طهارة الكنيسة لا تقتصرُ على الأمور الطقسيّة. فالخطيئة هي ما يتعارض وعملَ الروح القُدُس فيها، لهذا تَطرُد من داخلها بعضَ الخطأة كالزناة والقَتَلة والمجرمين والهراطِقة (أي المُبْدعين). أمّا الهراطقة، وهم زناة بلسانهم ، فيخطأون ضدّ الروحِ القدس (مت 12: 31- 37) ولهذا يُنَفَون من الكنيسة (مت 18:18). ويبقى بعد كلّ هذا أنّ طهارة الكنيسة لا تتحقق على هذه الأرض، بل في أورشليم السماويّة (رؤ 22: 5) يومَ يصير الله كلاً في كلّ شيء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM