الفَصل العَاشِر: الطّاهِرُ وَالنّجِسُ مِنَ الحَيَوان

الفَصل العَاشِر
الطّاهِرُ وَالنّجِسُ مِنَ الحَيَوان
11 : 1 – 47

أ- مقدمة
يتألّف هذا الفصل من وحَدات متعدّدة، ولهذا نجد فيه بعضَ التَرداد والضعف في التنسيق. غيرَ أنّ هناك فكرةً واحدة تتّضح عبرَ كلّ هذه القواعد السلوكيّة وهي أنّ التمييز بين الخلائق الطاهرة والنَجسة بحسب الشريعة، لا ينطلق من أُسس صحيّة تتوخى سلامةَ الإنسان، بل من اعتبار هذه الحيوانات تحمل عاداتٍ ينفر الإنسان منها. بالإضافة إلى ذلك، نقول إنّ النظرة الى الطاهر والنجس أمرٌ معروف في الديانات القديمة عامّةً، والديانات السامية خاصّة. لذلك سنجد أنّ ما اعتبره العالم القديم نجسًا اعتبره العبرانيّون نجِسًا. وما اعتبره جيران بني إسرائيل طاهرًا، اعتبروه هم طاهرًا، أللهمَّ إلاّ في بعض أمور شاذّة قليلة.
إنّ الطهارة بحسب الشريعة تعني التمام والكمال؛ والطاهرُ هو النَموذج الكامل لهذه أو تلك من الخلائق. فإن أخذ صنفٌ من الحيوان سِماتٍ من فئة أخرى، جرَّ مع هذه السمات النقصَ والبلبلة، وهدّد نظام الكون بالدمار. هذه المخالفة لنظام الكائنات هي، على ما يبدو، أساس التفريق بين الخلائق الطاهرة والخلائق النجسة. فالحيوانات النجسة هي التي تُبرز سِمات نوع آخرَ غيرِ نوعها. الحيوان الدابّ على الأرض يصبح نجسا إن كان له سماتُ سمك البحر. وكذلك الطير إن أخذ سمات دوابِّ الأرض.
وراء هذا التمييز نجد التعليم الكهنوتيّ منذ الفصل الأول من سفر التكوين. عندما خلق الله ميّزَ وفصل بين أقسام الكون المتعدّدة. فصل بين المياه الفوقيّة والمياه التحتيّة، بين النور والظلمة، وبين الأرض والبحر، وعيّن لكل خليقة المكان الذي تقيم فيه، والسماتِ التي تتحلّى بها، فكانت العصافير في الهواء والدوابُّ على الأرض والأسماك في البحار. ولا يحِقّ لخليقة ان تنحرف عن طبعها الخاصّ وإلا اتّصفت بنقص في الكمال وصارت نجسة.
يجدُر القول هنا أنّ التفسير الكتابيّ حوالَي القرن الأوّل المسيحيّ، سعى إلى إعطاء سبب أخلاقيّ في حديثه عن هذه الحيوانات النجسة التي يمنع أكلُها. نذكر فيلون الإسكندريّ وأوريجنس وغيرَهما. ونقرأ مثلاً أنّ الإنسان لا يأكل الحيوانات المفترسة الشرسة لكي يحفظ نفسه من الشراسة والعنف. ولكننا في هذا المجال تركنا التفسير الحرفيّ أو العلميّ، وأخذنا بالتفسير الرمزيّ أو التوافُقيّ.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
(آ 11: 1-8) البهائم التي على الأرض: هذه هي الحيوانات التي تأكلونها.. والنموذَج الأول عن الحيوان الطاهر هو البقر أو الضأن. من هذين الحيوانين انطلق العبرانيّون لتصنيف الحيوانات، ولكنّ الأمر لم يكن ممكنًا في تنظيم جميع الحيوانات في هذا الإطار. وعندما نتساءل نحن: لماذا يؤكل هذا الحيوان ويترك ذاك؟ فالجواب موجود في هذه المحرّمات التي سبقت التاريخ بقِدَمها، فلا نستطيع أن نعطي لها تفسيرًا.
(آ 9-12) الحيوانات المائيّة: نموذج الحيوان النجِس هو الحيّة، وبه يشبّه السمَكُ الذي لا زعانفَ له ولا قشور.
(آ 13-19) النجس من الطير: الكلمة العبرانيّة التي تترجم النجس هي "طما" (راجع طما في السُريانيّة أي دنس ونجس وفسد). أمّا في هذا النصّ فالكلمة هي "شقص" التي نقابلها بفعل سقط الذي يعني في ما يعني، صار حقيرًا ومكروهًا.
(آ 20-28) الحشرات المجنّحة: كل لَمس لهذه الحشرات يجعل الإنسان يتّصل ويتّحد بها. من أجل هذا حرَّم الأقدمون لمسَ هذه الحشرات. أمّا سفر اللاويّين فهو ينطلق من فكرة سموّ الله ليحدّث شعبَ الله عن هذه المحرّمات. يكتفي بالقول: هو رجس لكم، هو رجس لكم، من مسَّ جثّته يكون نجسًا.
(آ 29-43) الحشرات التي تدبّ على الأرض: كلّ من يمسّ هذه الحيوانات النجسة يصبح نجسًا. والنجاسة تنتقل كالعَدوى من جسم إلى جسم.
(آ 44-45) المعنى الدينيّ لهذه المحرّمات: بعد أن أورد المشترع القواعد التي تمنعنا من لمس أيّ شيء، يرجع الى الأسباب الأساسيّة لهذه المحرّمات، فيعطينا فيها درسًا لاهوتيًّا يُبيّن من جهةٍ العلاقةَ بين هذه الحشرات والحيّة اللعينة التي يكرّمها بعض الشعوب المجاورة لبني إسرائيل؛ ومن جهة ثانية إنّ إله العهد الساميّ مَقامُه يدعو شعبه إلى الأخذ بحياة أخلاقيّة خاصّة. أنا الرب إلهكم، فتشبّهوا بي. كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس.
(آ 46-47) الخاتمة: "تلك هي شريعة..." يلخّص الكتاب في جملة واحدة ما قاله في فصل كامل (رج 7 : 37 ).

ج- ملاحظات أنتروبولوجيّة
1- الحَلال والحرام

الحَرام هو ما نمنع عنه، فنمتنع ونمسك عنه؛ والحريم هو ما حُرِّم فلم يُمَسّ. يحظَّر الشيء على البشر لأنّ قوةً أقوى منهم حازته لنفسها فمنعته عنهم. أمّا الحلال فهو عكسُ الحرام. إذا كان مكانًا ، يمكننا أن ننزل فيه، وإن كان شيئًا يمكننا أن نمَسَّه دون خوف أو حذر.
يمكننا أن نلاحظ أنّ جميع الديانات تَعرِض ما يسمّى الحلالَ والحرام ، وتشدّد على المحرّمات والمحظورات، ومن تعدّاها كان جزاؤه الموت.
لقد درس الخبراء بعلم الإنسان هذه المحرَّمات عند القبائل البدائيّة ، في أفريقيا أو أوقيانيا، واكتشفوا ظواهر مشتركة بين ما نقرأه في سفر اللاويّين ، وما نكتشفه في هذه المجتمعات. وقال بعضهم إنّ ما يمنع الانسان عن المحرّمات هو الخوفُ من قوّة سرّية؛ وإنّ ما دفع الناس الى تنظيم الأمور المحرّمة هو مساعدة الناس فلا يقعون في الحرام. وقالوا أيضا: إنّ المحرّمات لا تدخل في إطار المنطق، على الأقلّ في إطار المنطق الذي نعرفه نحن منطقًا علميًّا يبحث عن علّة متطوّرة لكل شيء. ولكن الأقدمين جعلوا كلّ المحرّمات في إطار خاصّ بهم، فأعطوا لكلّ شيء ولكلّ حدَث ولكل عمل معناه العميق المرتبط بالطبيعة والمرتبط خصوصًا بتلك القوّة التي تسيطر على الطبيعة.
2- المقدّسات

القداسة في العربيّة تدلّ على الطهارة والبركة ، وتدلّ على كل منزّه من كل عيب أو نقصد. أمّا الشيء المقدّس فلا يمَسُّه شخص غيرُ مقدّس أو غيرُ مكرّس. وأمّا القُدس أو المكانُ المقدّس، فحرام أن يدخله من لم يكن له حقٌّ في ذلك كرئيس الأحبار مثلاً.
القداسة تعارض النجاسة التي تَعني ما هو غيرُ طاهر وغير نظيف. الشيء المقدّس هو الشيء المكرّس والمخصّص لخدمة الله. في العالم القديم لا أرضَ حِياديّة، فكل أرض إمّا هي مقدّسة وإمّا هي نجسة، إمّا هي مخصصة للإله أو لعامّة الشعب. من هنا أهميّةُ إحاطة الحَرَم بسور، فلا يُنتهكُ ولا تذهب حُرْمته، ويبقى التوازي بين المقدّس و"النجس". فلو أنّ المقدّس اكتسح كلّ شيء لسيطرَ الخوفُ على الإنسان، فلم يعد يجرؤُ أن يتحرّك أو يفعل شيئًا. ولكن إن اختفى المقدّس، يصبح الكون فارغًا، وكلُّ ما هو خارجَ القُدس يُضحي من دون معنى

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM