لفصل الرابع عشر
المسيح في إنجيل لوقا
الخوري جان عزّام
مقدمة
نعتمد في دراستنا على تحليل لأسلوب لوقا الروائي بما له من خصائص مميّزة في عرض الأحداث التي رافقت حياة المسيح على الأرض منذ بدء بشارته في الجليل وحتى قيامته وظهوره لتلاميذه ثم صعوده إلى السماء.
لا شك أن كثيرين من الشّراح قد حاولوا فهم كريستولوجيا القديس لوقا باعتمادهم على أساليب متعددة، منها شرح أهم النصوص التي تبين هوية المسيح. إن من خلال تعاليمه أو أعماله العجائبية أو من خلاله محاكمته وغيرها؛ ومنها ما اعتمده البعض الآخر في درس أهم القابه التي دُعي بها أو أطلقها عليه الآخرون أو أطلقها هو على نفسه؛ وقد حاول هؤلاء أن يدرسوا هذه الألقاب بخلفياتها المتصلة بنبوءات العهد القديم أو ببعض أبرز شخصياته التاريخية والرمزية كموسى وإيليا والنبي النهيوي وعبد يهوه المتألم والمسيح الملك وإبن الإنسان وكذلك الألقاب التي يفترض أنها ثمرة إيمان الكنيسة الأولى بالمسيح القائم من الموت ويتميّز منها لقب الرّب ولقب ابن الله والمخلّص. وتتعمّق هذه الأبحاث وغيرها بدراسة كريستولوجيا لوقا من خلال فهم مميزات المسيح الإنسانية كقربه من الخطأة ورحمته للمرضى والبائسين وكذلك مميزاته الإلهية كعلاقته الخاصة بالآب وبالروح القدس والحبل به من عذراء...
وسنستفيد نحن بالطبع من مجمل هذه الدراسات وسنذكر أهمّ ما جاء فيها في معرض بحثنا الحاضر. ونقسّم دراستنا إلى خمسة فصول:
أ- عرض لشخصية المسيح كما بدت في بدء بشارته في الجليل (لو 4: 14- 9: 50).
ب- عرض لشخصية المسيح كما بدت في رحلته الصاعدة من الجليل إلى أورشليم (9: 51- 19: 44).
ج- عرض لشخصية المسيح كما بدت في أهم الأحداث التي رافقت وجوده في أورشليم: بشارته- محاكمته- آلامه- موته (19: 45 – 23 : 56).
د- عرض لشخصية المسيح في ظهوراته لتلاميذه (لو 24).
هـ- خلاصة كريستولوجيا إنجيل لوقا.
أ- عرض لشخصية المسيح كما بدت في بشارته في الجليل (لو 14:4-50:9)
1) دينامية الرواية بحسب إنجيل لوقا:
يُظهر لوقا قدرة روائية إستثنائية في تركيزه على شخص المسيح في هذا القسم من إنجيله. ولذلك نراه يستغل أو يهمل بعض العناصر المكونة للرواية للوصول إلى هدفه. فكيف فعل ذلك؟
أولاً: إن المكان الذي تتمّ فيه الأحداث له معنى رمزي يساهم في اكتشاف دينامية الأحداث وما يتخللها من عقد وحلول للوصول إلى الغاية الأساسية من الرواية. نجد مثلاً أن لوقا نفسه يتعمدّ سرد احداث أعمال الرسل بطريقة تُظهر إنتشار الكنيسة والبشارة من أورشليم باتجاه السامرة ومنها إلى آسيا الصغرى فاليونان وأخيراً عاصمة الأمبراطورية روما حيث قمة الشهادة المسيحية مع بطرس وبولس.
أما في هذا القسم من إنجيله فهو يتعمّد حصر الأحداث في الناصرة وكفرناحوم وبعض قرى الجليل الأخرى (لو 4 : 43) ومن جديد إلى كفرناحوم (7: 1)، حتّى إننا لا نستطيع تبيان مكان بشارة المسيح في الفصلين الثامن والتاسع. وهكذا يتصح لنا أن لوقا لا يستعمل الإطار المكاني كعنصر مميّز ومساعد لروايته.
ثانياً: إذا كان لوقا لا يركّز على الأمكنة، إلاّ أنه بالمقابل يركزّ على الأشخاص الذين تصل إليهم البشارة. فالمسيح، منذ البداية، يعلن بأن نبوءة أشعيا قد تمت فيه وفيها: "روح الربّ عليّ مسحني لأبشر المساكين وأرسلني أنادي بإطلاق الأسرى وعودة بصر العميان، وأحرّر المقهورين وأنادي بسنة مقبولة لدى الرب" (4: 16). هم الفقراء إذاً، والمساكين من يزمع أن يذهب إليهم ذاك الذي "عليه روح الربّ" "والمرسل". ويشكل هذا الإعلان برنامجاً واضحاً لعمل المسيح ويساهم في تقدم الرواية بانتظار تحقيق هذا البرنامج وما سينتج عنه.
ثالثاً: في كل رواية، يلعب بعض الأشخاص البارزين دوراً مهماً في دفع الرواية إلى خاتمتها. فمنهم من يساهم في تعقيد الأمور بمعارضته لمجرى الأحداث كما هو مخطط لها ومنهم من يساهم في حلحلة العقد بمساندة صاحب الدور الرئيسي وهكذا دواليك...
أما في رواية لوقا، فالواضح أن برنامج المسيح التبشيري يسير بخطى ثابتة ويستقطب حوله الجموع وحتى الفريسيين وعلماء الشريعة أنفسهم (لو 5: 1؛ 5: 15؛ 17:5، الخ).
صحيح أن المسيح ينتقد الفريسيين والمشترعين الذين رفضوا عماد يوحنّا، وهؤلاء يعتبرون إدّعاءه مغفرة الخطايا تجديفاً (5 : 21) ويستاؤون من معاشرته لجباة الضرائب والخطأة (5: 30)، ولكن موقفهم هذا لا يتطور باتجاه مزيد من المعارضة أو بالتآمر على قتله كما يبيّن الإنجيلي مرقس ذلك منذ بداية إنجيله (6:3). على العكس، نجد أن أحدهم يدعو المسيح ليتكئ إلى مائدته (36:7). وهنا أيضاً يدّعي المسيح مقدرة على مغفرة الخطايا فيكتفي الفريسيون الحاضرون بسؤال متعجب: "من هو الذي يغفر الخطايا؟" (49:7).
أما الشخصية الجماعية الأخرى التي تظهر في هذا القسم من الإنجيل، فهم التلاميذ الذين دعا بعضاً منهم في 5: 11 و 5 :27 ثم اختار منهم إثني عشر سماهم رسلاً وأرسلهم وأعطاهم سلطاناً مماثلاً لسلطانه (9: 1-6).
وبالرغم من تطور واضح في تكوين شخصية التلاميذ والرسل وفي علاقتهم بالمسيح، إلاّ أن معرفتهم له تبقى عاجزة عن إدراك هويته الحقيقة. فصحيح أن المسيح يخصّهم بتعليم خاص دون سائر الجموع (8: 9- 15) وصحيح أنه خصّ بطرس ويعقوب ويوحنّا بالتجلي أمامهم (9: 28- 36) وان بطرس والرسل قد اعترفوا به "مسيح الرب"، إلاّ أنه من الواضح أنهم لم يفهموا إعلانه الأول والثاني عن ضرورة آلامه وموته في أورشليم (9: 22، 43- 45) ولا هم فهموا معنى التلمذة الحقيقية عندما اختلفوا على من هو الأعظم بينهم.
رابعاً: يبقى أن نسأل إذاً، عن العنصر الحقيقي المكوّن لدينامية الرواية في هذا القسم من إنجيل لوقا.
2) هوية يسوع:
إذا كانت شخصيات الرواية لا تساهم مباشرة بتطور القصة الروائي، فإنها جميعها تساهم في سؤال مهم يتردد على ألسنتها دون إستثناء: من هو هذا؟
منذ البداية، تساءل أهل الناصرة عن هوية ابن قريتهم الذي يدّعي انه مرسل (4: 22)، والفريسيون يتساءلون مرتين عمن هو هذا الذي يغفر الخطايا؟ (5: 21 و 7: 49) والجمع في كفرناحوم يتساءل: "ما هذه الكلمة؟" وكذلك يوحنّا المعمدان يرسل له رسلاً يسألونه: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟" (18:7- 20) وكذلك الرسل يتساءلون: "من ذا الذي يأمر الرياح نفسها والمياه فتطيع؟" (8: 25). حتى إن صيته وصل إلى هيرودس أمير الربع فنراه يسأل من هذا الذي أسمع عنه كل هذا؟ (9:9). وأخيراً، يسأل المسيح نفسه رسله عمن تقول الناس إنه هو (18:9).
فما هي هوية يسوع هذه؟
في جواب التلاميذ على سؤال يسوع عمن تعتقد الناس أنه هو، نفهم أنه بنظرهم إما يوحنّا المعمدان وإما ايليا النبي وإما أحد الأنبياء الذين قاموا من الموت (19:9) وهذا ما يذكرنا بما سمعه هيرودوس نفسه عندما تساءل عن هوية يسوع (7:9- 8). والحقيقة أن الجميع تقريباً كانوا يعتقدون بأنه نبي عظيم أو أنهم كانوا يتلمسون فيه ملامح النبيّ. وهذا الإعتقاد يرتكز على أمرين: تعاليمه وعجائبه.
نلاحظ بأن لوقا يشدّد كثيراً على هذه النقطة مردّداً دائماً بأن يسوع كان يعلّم أو يتكلم بسلطان وأن الجموع كانت مندهشة من تعاليمه (4: 31- 37) ومن قدرته على شفاء المرضى. فالإرتباط إذاً واضح بين الكلمة بسلطان والقدرة على الشفاء وما ميزتان أساسيتان لكل نبيّ وبخاصة للنبي ايليا. ولعلّ أهمّ إعلان عن صفته النبوية هو ما قاله الشعب بعد شفاء ابن أرملة نائين: "قد قام بيننا حقاً نبيّ عظيم" (39:7).
ويتردد الفريسيون من جهتهم، في الإعتراف به نبيّاً ولكنهم لا يملكون إلاّ أن يندهشوا لقوة كلمته وعجائبه. وما دعوته إلى مائدة أحدهم إلاّ دليل على نوع من إحترام له وإعتراف بميزاته وإن كان الشك يساورهم دائماً حوله.
وكما رأينا سابقاً فالمسيح نفسه يبدأ بشارته بإعلان برنامج نبوي يتحقق فيه ومن خلال رسالته (16:4). ويشبه نفسه بإيليا واليشاع في رفضه إجتراح العجائب في وطنه الناصرة (4: 24- 30)، مع ذلك فلا يمكننا إعتبار هذا إعلاناً واضحاً منه بأنه نبي. كما أن لوقا- كاتب الإنجيل- لا يتدخل أبداً ليعلن أن المسيح هو النبي. فما هي هوية يسوع الحقيقية إذاً؟
إن تركيز لوقا على الأسئلة عن هوية المسيح وإكتفاءه بإعلان ما اعتقده الناس من صفات نبوية عند المسيح يدخلان في إطار أسلوبه الروائي الذي يشدّد على أن المطلوب هو التعرّف إلى هوية المسيح الحقيقية بالنظر إلى تعاليمه وآياته وأخذ الموقف منها.
ففي هذا القسم من الإنجيل يمكننا القول بأن الكريستولوجيا عند لوقا هي في التعرّف إلى المسيح وليس في ألقابه.
فالفريسيون الذين يرفضون النظر إلى تعاليمه وآياته أنها حقاً من الله، يبقون في شك عميق حول هويته، والجموع التي اندهشت لتعاليمه واجتذبتها قوة آياته رأت فيه نبيّاً عظيماً.
ويوحنّا المعمدان الذي هيأ له الطريق يسأله إذا كان هو المسيح الآتي والمسيح يجيبه من خلال القيام بأعمال شفاء عظيمة ومنها قيامة الموتى تأكيداً على أنه هو ولكن دون أن يجيبه صراحة.
حتى الرسل الذين اعزفوا به "مسيح الله" وهو ما يؤكد تعرّفهم إلى هويته بطريقة أعمق من الآخرين، يظلّون عاجزين عن إدراك معنى إعترافهم هذا.
وكما يلاحظ الشرّاح عادة، فالمسيح لا يعطي نفسه لقباً سوى "إبن الإنسان" وهو لقب قريب جداً من "الإنسان" وليس له منحى نهيوي واضح، على الأقل في هذه المرحلة من الإنجيل.
فهوية المسيح الحقيقية لا تظهر بعد، وفي هذا يبقى لوقا أميناً لتطور الأحداث التاريخية كما حصلت في حياة المسيح نفسه مما يترك السؤال عن هويته قائماً ومن الضروري إكمال الرواية وقراءة القسم الثالث من إنجيله لمحاولة فهمه بشكل أعمق.
ب- شخصية المسيح كما بدت في صعوده إلى أورشليم (لو 9: 51 -44:19)
هنا أيضاً نستكشف بعض العناصر الروائية التي استغلها لوقا في كلامه عن صعود المسيح إلى أورشليم.
1) المكان:
منذ بداية المسيرة يعلن الإنجيلي أنه "لمّا آن أن يُرفع ولىَّ "يسوع" وجهه شطر أورشليم" (9: 51). وتنتهي مسيرته (19: 37- 44) بدخوله إلى أورشليم وبكائه عليها ثم بدخوله إلى الهيكل في (19: 45) حيث سيبدأ القسم الرابع من الإنجيل.
والمسيرة تنطلق من حدود السامرة (9: 52) إلى أماكن عديدة لا يذكر الإنجيلي أيّا منها حتى 18: 35 حين دخل إلى أريحا وهي بالقرب من أورشليم. ومن حيث التطور المكاني نجد أن مسيرته لا تتعدّى حدود السامرة حتى 17: 11 حيث نجد أنه ما زال بين السامرة والجليل. ومن جهة أخرى نجد أن ذكر أورشليم يتردد طيلة المسيرة التي تتصف بتطور روائي واضح من خلال الأفعال التالية: لغاية الفصل 17 يستعمل الإنجيلي أفعال "شق طريقه إلى أورشليم" "توجه إلى أورشليم" وفي 18: 31 وبعد دخوله أريحا يستعمل فعل "صعد إلى أورشليم" ثم فعل إقترب من المدينة في 18: 35 وأخيراً رأى المدينة في 19: 41.
كل ذلك يبيّن مدى أهمية أورشليم الحاضرة دائماً في ذهن المسيح منذ بداية الطريق وخلالها وحتى الوصول اليها. ومع ذلك، فالوقت الذي يفصله عنها منذ بدء المسيرة كافٍ للتوضيح لسامعيه وأتباعه حقيقةَ هويته وذلك من خلال تعاليمه وآياته.
2) الأشخاص:
لا نلاحظ تطوراً بارزاً في مقاومة الفريسيين وعلماء الشريعة له إلاّ في استيائهم المتزايد من إخلاله بشريعة السبت (13: 11- 13 و 14 : 1 - 6) ومن مؤاكلته للعشارين والخطأة (15: 2- 19: 7) ومحاولة بعضهم إتهامه بأنه يشفي بقوة بعل زبوب (11: 14).
ولكننا نلاحظ أن المسيح نفسه يزيد إنتقاداته لبعض سامعيه وبخاصة للفريسيين وعلماء الشريعة والأغنياء...
3) هوية المسيح:
بعد إعلان بطرس أن "أنت مسيح الله" في نهاية القسم الثاني من الإنجيل، لا نجد أي سؤال عن هوية المسيح في هذا القسم الثالث ولا أحد يسمّيه نبيّاً أو يطلق عليه لقباً آخر حتى نهاية القسم. وكأن هذا الإعلان المسيحاني قد وضع حداً للتساؤلات عن هويته وصار المطلوب أن يأخذ كل واحد موقفاً منه إما بقبوله وازدياد التعرّف إليه باتباعه في الطريق، وإمّا برفضه ومقاومته. أما يسوع فيبدو عازماً على الكشف عن هويته، وإن بطريقة غير مباشرة، وذلك بإيضاحه لحقيقة هويته النبوية وبكلامه المتزايد عن الملكوت.
فمن جهة أولى نرى أن المسيح يكمل كلامه عن حقيقة رسالته النبوية مشدداً على إرتباطها بالألم والموت. فبعد إعلانه مرتين في القسم السابق بأنه عازم على الصعود إلى أورشليم ليتألم ويموت فيها وعدم فهم تلاميذه لهذا الكلام، نجد أنه يؤكد هذا التوجه في 29:11 "لن يعطى لهذا الجيل سوى آية يونان النبي"، وفي ردّه على الفريسيّين الذين جاؤوا يحذرونه من أن هيرودس يريد قتله: "فليس لنبي أن يهلك خارج أورشليم" (13: 33). وليس كلامه عن المصير الذي لاقاه الأنبياء على أيدي الرؤساء والملوك سوى طريقة غير مباشرة للكلام عن معرفته المسبقة للمصير الذي ينتظره في أورشليم.
وهنا يتضح لنا أن مفهوم المسيح لنفسه كنبي يختلف تماماً عن مفهوم الآخرين له، وهذا ما يفسّر كما قلنا الرفض المتزايد لشخصه وتعاليمه...
ومن جهة ثانية، نلاحظ أن هذا القسم مليء بإعلانات الملكوت بعكس القسم السابق. ففي بداية الطريق إلى أورشليم يرسل الإثنين والسبعين ليعلنوا أنه "قد اقترب ملكوت الله" (10: 9- 11)، وفي ردّه على متهميه بأنه رئيس الأبالسة يجيبهم: "إن كنت أطرد الشياطين بأصبع الله فهذا لأن ملكوت الله قد حضر" (11: 20)، وفي 17: 20 يؤكد للفريسيّين بأن "ملكوت الله بينكم". وفي موازاة ذلك يبدو أن محور أمثاله وتعاليمه الأساسي هو هذا الملكوت الذي يمكن تمييز قسمين أساسيين فيه:
+ إعلان الملكوت وشروط الدخول اليه ووقت مجيئه وهوية
+ وتلميحات واضحة إلى هوية الملك التي تصل إلى قمتها بإعلانه ملكاً عند دخوله إلى أورشليم.
وكما لم يفهم أحد حقيقة هويته النبوية تعاظمت المقاومة له لأنه ربط رسالته بالقرب من الفقراء والمساكين والخطأة، كذلك سيُساء فهمُ هويته الملكية وحقيقة الملكوت المزمع تحقيقه. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهمية أورشليم التي بينّاها سابقاً. فهذه المدينة التي توجَّه إليها المسيح هي المكان الذي سيحقق فيه ملكوته ولكنّها أيضاً المدينة التي سترفض الملك الآتي إليها.
وهذا الأمر يبيّنه المسيح في مثل الأمناء (19: 11- 28) حيث إن كلام مواطنيه واضح: "لا نريد هذا ملكاً علينا" (19: 14) وفيه تلميح إلى رفض أورشليم لملكها.
وكما كانت عاقبة رافضي الملك وخيمة، كذلك ستكون عاقبة أورشليم وخيمة لأنها "ما عرفت (ما قبلت) إفتقاد الله لها" (19: 41- 44).
ج- عرض لشخصية المسيح كما بدت في بشارته في أورشليم:
1) المكان:
بعد دخوله أورشليم وإعلانه ملكاً تتركز نشاطات المسيح وتعاليمه في مكان واحد تقريباً وهو الهيكل. فمنذ الآية 45 من الفصل التاسع عشر يخبرنا الإنجيلي بأنه دخل الهيكل وشرع يطرد الباعة. وفي 47:19 نقرأ أنه كان يعلّم كل يوم في الهيكل. وهكذا في 20: 1 حتى إنه كان يمضي نهاره كله في الهيكل وليله في جبل الزيتون (37:21). وليست نبوءته عن خراب الهيكل وأورشليم إلاّ دلالة على المتغيرات الأساسية التي ستحدث في المدينة بعد دخول المسيح إليها.
2) الأشخاص:
يرافق هذا التركيز على الهيكل، تغيّب للفريسيّين وعلماء الشريعة وظهور لعناصر ثلاثة جديدة في الرواية وهم: الأحبار، والكتبة وأعيان الشعب وهؤلاء الثلاثة يؤلفون السلطة اليهودية المحلية في أورشليم. ولا يتأخر هؤلاء في إضمار الشرّ له فينوون على قتله (47:19- 8) وهي المرة الأولى التي يخبرنا فيها لوقا بأن أحداً قد قرّر قتله. وتبعاً لذلك تبدأ المجابهة الحادة بينه وبينهم وتصير مجادلات قوية معه حول شرعية السلطان الذي به يعلّم (20: 1- 8) ويحاولون الإيقاع به بموضوع إحترام سلطة القيصر (20: 20- 26) ويلجأون إلى طرح سؤال معجزٍ ة عليه عن قيامة الأموات (27:20- 40). وفي كل ذلك يخرج منتصراً عليهم مما يزيد رغبتهم في قتله (16:20- 19).
ومن جهة يزيد في انتقاده لهم فيضرب مثل الكرامين القتلة وفيه إشارة واضحة إليهم (20: 9- 15) ويحذر من الكتبة (20: 45- 47) ويدين الأغنياء في إشارة واضحة إلى أعيان الشعب (21: 1) ويتنبأ بخراب الهيكل مركز قوة الأحبار (21: 5- 6) فيظهر بوضوح أن القطيعة بين يسوع وبين هؤلاء قد وصلت إلى حيث لا رجعة. وهذا ما يدفع بهؤلاء للإسراع في وضع مؤامرتهم عليه موضع التنفيذ (22: 2). وهكذا، يوصلنا لوقا إلى العقدة الأساسية في روايته ويجعلنا ننتظر الأحداث الآتية بشغف، خصوصاً أن المتآمرين على يسوع كانوا يتلمسون كيف يقضون عليه من دون إثارة الشعب الذي يعتبره نبيّاً (القسم الثاني) وينظر اليه كمسيح ملك ابن داود (القسم الثالث).
3) هوية المسيح:
إذا كان الشعب قد قاوم بطريقة غير مباشرة رغبة الرؤساء بقتل يسوع فابليس الذي قاومه منذ البدء (14: 1- 13) يقدم لهم العون الكافي. هكذا ينبري أحد تلاميذه وهر يهوذا الإسخريوطي لمساعدتهم بعد أن دخل فيه إبليس (3:22- 4).
تحقيق نبوءة العبد المتألم بشخص يسوع:
يمكننا التوقف عند سرد لوقا لمحاكمة يسوع بدءاً من مجلس اليهود وانتهاء بتسليمه ليُصلب. ولكن هذه الأحداث قد درست بشكل كافٍ وأظهر الشرّاح أهمية الألقاب التي أعطيت له "كالمسيح" "وملك اليهود وإبن الله" وما قاله هو عن نفسه من، أن إبن الإنسان يجلس من الآن عن يمين العزّة الإلهية" مبيناً حقيقة مجده وارتباطه الوثيق بالآب.
ولكننا نوّد أن نظهر إحدى خصائص إنجيل لوقا الأساسية في عرضه للأحداث، حين بيّن أن يسوع هو الذي تحققت فيه نبوءة عبد يهوه المتألم.
فلوقا يستعمل المحاكمات التي أخضع لها يسوع ليبي برارته وبراءته من التهم الباطلة التي وجهت اليه. فبينما يستنتج رؤساء الشعب بعد محاكمتهم له بأنه يدّعي أنه المسيح، وأنه ابن الله (66:22- 71)، يُفاجَئ القارئ بأن التهمة التي أرادوا إدانته على أساسها أمام بيلاطس هي أنه "يفتن الأمّة وينهي عن إداء الضريبة إلى قيصر ويدّعي أنه مسيح الله" (23: 2).
ومن خلال الأحداث السابقة يتبيّن للقارئ أن كل هذه التهم باطلة. وتأكيداً لهذه الحقيقة، يعلن بيلاطس لليهود بأنه "لم يجد أي ذنب لهذا الإنسان" (23: 4). وبعد محاكمة عقيمة عند هيرودس لم يجد هذا ما يتهم به يسوع فاكتفى بازدرائه وإرساله مجدداً إلى بيلاطس (6:23- 12). ومن جديد يعلن بيلاطس براءة يسوع من كل التهم الموجهة اليه (14:23) ويؤكد أن هيرودس لم يجد هو أيضاً ما يؤكد هذه التهم (23: 15).
من ناحية ثانية، نلاحظ تشديداً خاصاً عند لوقا على معاملة يسوع كلص وثائر. فبعد قول يسوع لتلاميذه أنه سيتم فيه ما جاء في سفر أشعيا أنه "أُحصي مع الأثمة" مؤكداً بوضوح تحقيق نبوءة عبد يهوه في شخصه (37:22)، يعود يسوع فيسأل الذين أتوا للقبض عليه: "ألص أنا لتخرجوا عليّ بسيوف وعصي" (22: 52). وبالفعل، يذكر لوقا بأنه قد اقتيد مع مجرمَين آخريَن (32:23)، بعد أن طالب رؤساء الشعب بإطلاق برأبا الذي يؤكد لوقا مرتين بأنه مجرم ومفتن قام بعصيان في المدينة (23: 19- 25).
وهكذا فكل الأحداث تبيّن أن نبوءة عبد يهوه قد تمت في يسوع فلم يتألم فقط بل صُلب ومات متهَّماً بجرائم لم يقترفها. واستناداً إلى كل ذلك يمكننا فهم المواقف المتتالية من يسوع والتي كانت بمثابة إعتراف ببراءته. فالنساء اللواتي رافقنه على الطريق إلى الجلجلة كنَّ يولولن ويلطمن الصدور كمن يبكي باراً مظلوماً لا مجرماً (27:23)، ولص اليمين يعترف ببراءته (23: 40- 41)، وقائد المئة يعترف بأن "هذا الإنسان كان حقاً باراً" (47:23). والجموع التي طلبت صلبه بعد أن اعترفت به نبيّاً وملكاً عادت تقرع صدورها بعد مشهد موته. نستنتج من كل هذا أن المحور الأساسي لرواية لوقا في هذا القسم من إنجيله هو إظهار تتميم نبوءة عبد يهوه المتألم في شخص يسوع بالإضافة إلى كل ما يتعلق بألقابه الأخرى.
د- شخص يسوع المسيح القائم من الموت:
يسرد لنا الفصل الرابع والعشرون من لوقا ثلاثة أحداث رئيسية تحصل بعد القيامة. فالنساء اللواتي ذهبن لتحنيطه وجدن القبر فارغاً. وتحدث اليهن ملاك الرّب معلناً قيامته من بين الأموات ومشدداً على ضرورة تذكر كلامه من أنه "على إبن الإنسان أن يسلّم إلى أيدي الخطأة، وأن يصلب، وفي اليوم الثالث يقوم"؛ ويخبرنا لوقا بأنهن تذكرن كلامه (24: 1-8).
وتلميذا عمّاوس لا يتعرّفان إليه إلاّ عندما كسر الخبز وبعدما شرح لهما الكتب مبتدئاً بموسى وكل الأنبياء. ويعترفان فيما بعد بأن قلبهما كان يضطرم حين كان يحدثهما في الطريق ويشرح لهما الكتب (26:24- 27- 32). وأخيراً عندما تراءى المسيح للتلاميذ ذكَّرهم من جديد بما قاله لهم، ولم يفهموه في حينها، بأنه ينبغي أن يتم فيه كل ما كتب في توراة موسى، والأنبياء والمزامير، ثم فتح أذهانهم ليفهموا الكتب، وبخاصة ما جاء في الكتاب: "إن المسيح ينبغي أن يتألم، ويقوم في اليوم الثالث من الأموات" (24: 44- 46).
وتنتهي هذه المشاهد الثلاثة بشهادة يرويها الذين التقوا الرّب: فالنساء ذهبن وأخبرن الرسل، وتلميذا عمّاوس عادا ليخبرا الرسل، والمسيح نفسه يؤكد للرسل بأنهم سيشهدون له. هذا الفصل الأخير من لوقا هو في الوقت عينه ختام لما يمكن أن نسميه كريستولوجيا الإنجيل وبداية لكريستولوجيا أخرى ذات طابع كنسي يكملها لوقا في كتاب أعمال الرسل. إنها كريستولوجيا التعرّف إلى شخص المسيح من خلال ثلاثة أمور.
+ قراءة كتب العهد القديم بكونها قد تحققت في شخص المسيح.
+ ضرورة التعرف إلى المسيح التاريخي من خلال أقوال وأعمال وأحداث تاريخ حياته كلها.
+ التعرف إلى المسيح من خلال "الشهود" على هذه الأحداث.
من هنا نفهم مقدمة لوقا الشهيرة الذي يؤكد فيها إرتباط البشارة بأحداث تّمت فدوّنها ونقلها شهود عيان، ويعبرّ عن رغبته بكتابتها من جديد، ولكن بما يُظهر تسلسلها التاريخي منذ البدء (إنجيل الطفولة) وإنطلاقاً من البشارة في الجليل مروراً برحلة المسيح الصاعدة إلى أورشليم وتحقيق عمله الخلاصي بآلامه وموته وقيامته.
هـ- خلاصة لأهم عناصر كريستولوجيا لوقا من الناحية الروائية:
الكريستولوجيا عند لوقا هي تعرّف إلى المسيح: منذ بداية إنجيله، يعلن المرسلون السماويون كلّ ألقاب المسيح الرئيسية إن للأشخاص الأساسيّين في الرواية (زكريا، مريم، الرعاة، سمعان الشيخ) أو للقارئ نفسه. وهذه الإعلانات هي بمثابة أقوال نبوية سماوية.
غير أن التعرف إلى هوية المسيح الحقيقية يبدأ منذ إعتلانه في الناصرة وحتى قيامته وظهوره للتلاميذ.
وكنا قد سجلنا سابقاً مواقف الأشخاص المختلفين عنه.
فالفريسيون وعلماء الشريعة بقوا في شكهم بهويته الحقيقية وفضلوا بالنتيجة عدم الإعتراف به نبياً كما رآه الشعب والتلاميذ.
وزملاؤهم الأحبار والكتبة وأعيان الشعب قرروا قتله لما سمّوه إدعاءً بأنه المسيح الملك وابن الله. وبالرغم من أنهم رفضوا الإعتراف بألقابه هذه، إلاّ أنهم ساهموا من حيث لا يدرون في تأكيد هذه الألقاب حيث إنهم لم يجرؤوا على إتهامه بها أمام بيلاطس وفضلوا إختراع الأكاذيب عنه متهمين إيّاه بإفتان الشعب وبرفض الخضوع لسلطة القيصر. ولعل في موقف بيلاطس نفسه والنساء وقائد المئة والشعب كفه ما يؤكد إعترافهم المباشر ببراءته من التهم التي على أساسها حكم عليه بالموت.
أما التلاميذ فتعرّفهم إلى المسيح يتبع تطوراً ملحوظاً: منذ البداية فكانوا يدعونه معلماً، ثم بدأوا يدعونه ربّا على الطريق إلى أورشليم. وإعلان بطرس أن "أنت مسيح الله" يختم القسم الأول، وإعلان التلاميذ مجتمعين "مبارك الملك الآتي بإسم الرّب" يختم القسم الثاني.
وهكذا في القسم الأخير، يتعرّفون اليه قائماً من الموت ويفهمون إرتباط آلامه وموته بهويته المسيحانية الحقيقية وذلك بعدما فتح أذهانهم ليفهموا الكتب وهو ما كانوا قد عجزوا عنه في السابق.
خلاصة عامة:
نستنتج من كل ذلك أن الأشخاص يلعبون دوراً بارزاً في تعريف القارئ إلى هوية المسيح كما عرضها لوقا، وذلك من خلال تطور معرفتهم له أو حتى من خلال رفضهم له. فالذين يقبلونه (التلاميذ والشعب) يظهرون للقارئ كيف اكتشفوا هويته الحقيقية من خلال إصغائهم لتعاليمه ورؤية الآيات التي صنعها. أما الذين يقاومونه أو يرفضونه، فأنهم يؤكدون حقيقة هويته وصحة الألقاب المسيحانية التي أطلقت عليه وذلك بالنظر إلى تناقضاتهم وأكاذيبهم التي يبنيها كاتب الإنجيل نفسه بأسلوبه الروائي المميَّز.
غير أننا نستطيع القول بأن الذي يلعب الدور الأول في التعريف عن هوية المسيح هو يسوع نفسه. فهو الذي يبدأ منذ إعتلانه في الناصرة بالربط بين شخصه وتحقيق نبوءة أشعيا المسيحانية. وهو الذي يمنع الأرواح من كشف هويته كقدوس الله وابن الله مبيناً بذلك ضرورة التعرف اليه من خلال كلامه وآياته. وهو الذي يستدرج تلاميذه للإعتراف به مسيحاً بعد أن سألهم عن هويته في نظرِ الناس وفي نظرهم. وهو الذي يُظهر نقص هذه المعرفة بكلامه عن آلامه وموته الذي لم يفهمه التلاميذ. وهو الذي يدفع التلاميذ لإعلانه ملكاً عند دخوله أورشليم. وهو الذي يدفع بمن أرادوا محاكمته لتمييز شخصه عن المسيح التقليدي بكلامه عن نفسه كإبن الإنسان الجالس عن يمين العزة الإلهية مما جعلهم يفهمون إدعاءه بأنه إبن الله. ولعلّ في مسيرته مع تلميذي عماوس أفضل بيان لدور المسيح الأساسي في كريستولوجيا لوقا عندما نقابل بين إعترافهما به "نبياً قادراً بالكلمة والآيات" (24: 19- 21)، وبين قوله لهما بأن "المسيح كان يجب أن يتألم قبل الدخول في مجده تتميماً للكتب" (24: 25- 27). ولا نقول جديداً إن أكدنا بأن مسيح إنجيل لوقا لا يُظهر أي ضعف أو جهل، به، هو القادر على كل شيء والعارف بكل الأمور قبل حدوثها فيتميز بثقة تامة بنفسه وبالله أبيه حتى وهو على الصليب، فلا يصرخ "الهي الهي لماذا تركتني" بل "يا ابتاه أغفر لهم" و"يا ابتاه في يديك استودع روحي" وللص اليمين: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 34، 43، 46).
في الختام نود أن نؤكد بأن كريستولوجيا إنجيل لوقا التي يبنيها المسيح نفسه إن لجهة التعرف اليه أو لجهة تبيان المفهوم الحقيقي لألقابه المسيحانية على قاعدة أنه ينبغي أن يتألم تحقيقاً للكتب، هذه الكريستولوجيا تُبقي الباب مفتوحاً لإكمالها في كتاب لوقا الثاني في أعمال الرسل، حيث يتحقق قول المسيح لرسله: "وأنتم شهود على ذلك".