الفصل الثالث عشر
مدخل إلى إنجيل لوقا
الخوري بولس الفغالي
1- مقدمة
إختلف لوقا عن متّى ومرقس، فأشار في بداية إنجيله إلى الأسلوب الذي اتّبعه حين دوّن كتابه، وإلى الهدف الذي ابتغاه: تقصّى جميع الأمور من أصولها وكتبها بترتيب. وهكذا يستطيع تاوفيلوس أن يتيقّن من صحة التعليم الذي تلقّاه (3:1- 4).
لوقا مؤرخ، وهو يستعمل مقدّمة المؤرخين وأساليبهم. لقد سأل شهود عيان عن الأحداث. قام ببحث دقيق وشامل قبل أن يقدّم أساساً متيناً لتعاليم سيعرضها على محبّ الله، تاوفيلوس، بل إلى كل أحباء الله، ونحن منهم. وبعد أن قام لوقا بكل هذا، سعى إلى تدوين ما وصل إليه من معلومات في خبر متتابع.
ولكن لوقا هو أكثر من هذا. هو إنجيليّ. هو حامل بشارة وخبر طيّب. ليس هو فقط ذلك اليوناني المثقَّف والمؤرِّخ الدقيق، بل ذلك الشاهد الذي اتصل بشهود عيان. وهؤلاء الشهود هم أكثر من مخبرين. إنهم "خدّام الكلمة"، عاملون من أجل الكلمة. في هذا المجال نكتشف شخصية لوقا العميقة.
فالعبارات الدنيوية التي استعملها كانت لباساً أدبياً منمقاً فوق واقع مسيحي أصيل. فالشهود العيان يُسَّمون في اللغة المسيحية الشهود والشهداء، هؤلاء الذين يشهدون بكلامهم وحتى بحياتهم من أجل الإِنجيل. والأحداث التاريخية المرويّة هنا صارت بشارة إنجيلية. فالتقليد التاريخي هو في الوقت عينه تقليد ديني. إنه يدعو إلى الإيمان، ويحمل إلينا الخلاص. إن المعلومات التي قدَّمها لوقا إلى تاوفيلوس كانت في البداية "تعليماً وكرازة مسيحية"، قبل أن تصير بشرى مدّونة. والكفالة التاريخية التي يقدّمها لوقا لصديقه تشدّده في إيمانه بالمسيح.
هذا ما نقرأ في مطلع إنجيل لوقا الذي يشير أيضاً إلى أن كثيراً من الناس أخذوا "يدوّنون رواية الأمور التي تمت عندنا" (1: 1). ولكن لوقا لا يقول لنا من هم هؤلاء "الكتَّاب" الذين عاد إليهم في تدوين إنجيله. كما لا يقول لنا كيف رتّب مواده، وهل وجد ترتيباً سابقاً استقى منه. ويشدّد على أن هذه المحاولات التي قام بها الكثيرون لم تنبع من شهود عيان وحسب. هل يعني هذا أن لوقا لم يستند إلى متّى الآرامي أو اليوناني؟ ربّما. هل يعني أن الثقة التي محضها القراء للسابقين هي تلك التي يطلبها منهم. مهما يكن من أمر، نحن أمام محاولات عديدة أشار إليها بابياس حين تحدّث عن الإنجيل الأول.
قال لنا لوقا في بداية إنجيله الأسلوب والهدف. وسيقول لنا في بداية سفر الأعمال مضمون هذا الإِنجيل: جميع ما عمل يسوع وعلَّم منذ بدء رسالته إلى اليوم الذي رُفع فيه إلى السماء (أع 1: 1- 2). ونستطيع أن نوضح هذا الكلام من خلاله خطبة بطرس إلى كورنيليوس: بدأ كل شيء في الجليل بعد المعمودية التي نادى بها يوحنّا. مسح الله يسوعَ بالروح القدس والقدرة، فمضى من مكان إلى آخر يعمل الخير ويبرئ جميع الذين استولى عليهم إبليس. لأن الله كان معه. وأعماله معروفة في جميع بلاد اليهود وأورشليم، وكذلك موته معلَّقاً على خشبة الصليب. وفي النهاية، أقامه الله في اليوم الثالث.
هذا هو مضمون إنجيل لوقا. فلا بدّ أن نتعرف إلى كاتبه وإلى التاريخ الذي فيه كُتب، قبل أن نصل إلى تصميمه وتعليمه اللاهوتي.
2- كاتب الإنجيل الثالث
أ- الشهادات التقليدية
ماذا تقول لنا النصوص؟ تحدّث بابياس عن مرقس ومتّى، ولكن لم يصلنا من هذا الذي كان أسقف منبج (هيرابوليس، شمالي حلب) وكتب في نهاية القرن الأول المسيحي، لم يصل شيء يتعلّق بالقديس لوقا. لكننا نقرأ إسم لوقا منذ منتصف القرن الثاني، في قانون موراتوري. "ألإنجيل الثالث هو الكتاب بحسب لوقا. لوقا هو ذاك الطبيب الذي رافق بولس بعد صعود المسيح. هو لم يرَ الرب في الجسد. ولهذا عمل قدر ما استطاع، فبدأ كلامه منذ ولادة يوحنّا".
ونقرأ في الكتاب الثالث من مؤلف إيريناوس "ضد الهراطقة": "وكذلك لوقا، رفيق بولس، دوَّن في كتاب الإِنجيل الذي كان ذاك (= بولس) يكرز به". وقال في مكان آخر: "إعتُبر لوقا أهلاً للثقة بأن يقدّم إلينا الإنجيل".
وعارض ترتليانس مرقيون (الرافض للعهد القديم)، فأكَّد عادة الكنائس الرسولية بأن تقرأ في ليتورجيتها إنجيل لوقا. وتحدّث إكلمنضوس الإِسكندراني عن المسيح الذي وُلد في عهد أوغسطس. وبرّر كلامه قائلاً في موشّياته: "هذا ما كُتب في الإِنجيل بحسب لوقا". وقابل في مكان آخر إرتباط لوقا ببولس مع ارتباط مرقس ببطرس.
وقال أوريجانس في شرحه لمتّى إن الإنجيل الثالث هو إنجيل لوقا الذي أمره بولس بأن يكتبه للوثنيّين. ونرى في ما تركه أوسابيوس وإيرونيموس وغيرهما صدى للتقليد.
وفي النهاية نقرأ ما يقول المطلع المناهض لمرقيون وقد دوِّن في القرن الثاني (أو ربما القرن الرابع): "لوقا هو سوري من أنطاكية. كان طبيباً وتلميذ الرسل. تبع فيما بعد بولس حتى إستشهاده. خدم الرب خدمة لا عيب فيها، فلم يتزوج ولم يكن له أولاد. مات في بيوثية (اليونان) ممتلئاً من الروح القدس، وهو بعمر ثمانين سنة. وهكذا، إذ كانت أناجيل قد كُتبت من قبل، إنجيل متّى في اليهودية وإنجيل مرقس في إيطاليا، كتب لوقا بإلهام من الروح القدس، هذا الإنجيل في مناطق إخائية (اليونان). قال في البداية إن أناجيل أخرى كُتبت قبل إنجيله. ولكن بدا له من الضروري أن يعرض للمؤمنين الذين من أصل يوناني، خبراً كاملاً ومرتباً عن الأحداث".
إذن، يبدو التقليد شاملاً. وهو يصل إلينا من كنائس سوريا ورومة وأفريقيا الشمالية والإِسكندرية. وهو يحدّثنا كله عن الأنجيل الثالث الذي دوَّنه لوقا الطبيب ورفيق بولس. وهو تقليد قديم نستطيع أن نمحضه ثقتنا، مع العلم أن الآباء إهتموا أول ما اهتموا بالحديث عن أقوال الرب، لا عن الذين نقلوا إلينا هذا الأقوال. وكما بدأ المبدعون يقدّمون نظرياتهم، إهتمت الكنيسة، لأسباب دفاعية، (أبولوجيا) بصحة الكتّيبات التي تتضمن أقوال الرب.
أول تأكيد يشير إلى كاتب الإِنجيل يعلن أنه لوقا. وجاء إعتبار ثان جعله ذاك الطبيب ورفيق بولس. بعد هذا، تحدّث التقليد عن إنجيل بولس. وتضخّم التقليد فتخيَّل تفاصيل تقوية حول لوقا: إنه أحد التلامذة السبعين (أو: 72). إنه أحد تلميذَي عمّاوس ورفيق كليوبا. إنه الرسام الذي احتفظ بقسمات وجه مريم العذراء. ولكن هذا "التلوين" لا يفسد الأساس الأول للتقليد الذي يحدّثنا عن لوقا، صاحب المؤلَّف الذي يشتمل على الإِنجيل الثالث وأعمال الرسل.
ب- معطيات النقد الداخلي
ماذا يقول النص؟ إن النقد الداخلي يؤكّد ما قاله التقليد الكنسي. فهناك إجماع لدى الشَّراح. فهم ينسبون الإِنجيل الثالث وسفر الأعمال إلى كاتب واحد: لغة واحدة وأسلوب واحد. ومخطط واحد يشرف على جزئَيْ هذا المؤلف الواحد الذي يحدّثنا عن إمتداد كلمة الله إلى أقاصي الأرض. ومتسلّم الكتابين هو واحد. إنه تاوفيلوس المذكور في مطلع الإنجيل (1: 3) وفي مطلع الأعمال (1: 1).
ونقول من جهة أخرى إن كاتب الأنجيل الثالث والأعمال هو صاحب المقاطع الواردة في صيغة المتكلم الجمع في سفر الأعمال. نقرأ مثلاً في 16: 10- 17: "فأبحرنا (نحن) من ترواس واتجهنا (نحن) تواً إلى ساموتراكية... فمكثنا بضعة أيام في هذه المدينة، ثم مضينا..." (رج أع 20: 5- 21: 18؛ 27: 1- 16:28). هذا يعني أن لوقا هو رفيق بولس، وهو يتحدّث بإسمه.
وبين الأشخاص الذين من أصل وثني والذين رافقوا بولس في أسفاره، نستطيع أن نسمي مع لوقا ديماس (كو 14:4؛ فلم 2:24 تم 4: 10)، قرسقس (2 تم 4: 10)، أرتيماس (تي 3: 12)؛ زيناس وإبلوس (تي 13:3). لا نتكلّم هنا عن تيطس الذي لا يُذكر في رفقة بولس إلاَّ بمناسبة إنعقاد مجمع أورشليم سنة 49- 50 (غل 2: 1- 3).
تتحدّث النصوص عن لوقا، ونحن لن نبحث عن شخص مجهول، كما يفعل بعض النقاد الغربيون. بل نتوقف عند لوقا الطبيب ورفيق القديس بولس.
أثر بولس على لوقا، مثلاً في خبر تأسيس الأفخارستيا (لو 22: 14 - 20؛ رج 1 كور 11: 23- 27). قال ترتليانس: إن بولس كان منير لوقا، لا سيما في مواضيع حنان الله ورحمته، في جو الفرح والصلاة، في النظرة الشاملة إلى الخلاص. كل هذا المناخ البولسي يوكّد لنا القيمة التاريخية للإنجيل الثالث. ليس هو فقط "لاهوتاً" عن المسيح، بل بحثاً تضيء عليه خبرة بولس مع المسيح.
ويقول التقليد عن لوقا إنه كان طبيباً. فالمستوى الرفيع لتأملّه يوافق ما نعرفه من ثقافة الأطباء في ذلك الزمان. فهناك كلمات يستعملها لوقا وهي تدل على معرفته بالألفاظ الطبية. نقرأ مثلا في 38:4 عن حماة سمعان التي كانت "مصابة بحمّى شديدة". وفي 18:5 نقرأ عن المُقعد، وفي 5: 31 عن الأصحاء (لا الأقوياء). وفي 7: 10 يقال لنا: "رجع المرسلون إلى البيت فوجدوا الخادم قد ردت إليه العافية" (رج 8: 44؛ 21: 34).
3- متّى كتب انجيل لوقا وأين كتب؟
1- متّى كُتب الإنجيل الثالث؟
* ماذا تقول المعطيات التقليدية؟
يجعل التقليد إنجيل لوقا في المركز الثالث، أي بعد مرقس، كما في قانون موراتوري وعند أوريجانس وإيرونيموس. وهناك تقليدان محدَّدان بعض الشيء ولكنهما يختلفان كل الإختلاف. يقول إيريناوس إن لوقا ألّف إنجيله بعد موت بولس أي بعد سنة 67. ويقول إيرونيموس الشيء عينه في تفسيره لإنجيل متّى. ولكنّه سيتراجع فيما بعد عن هذا القول، فيتبع أوسابيوس القيصري، ويجعل تأليف الإِنجيل الثالث يتم في رومة، يوم كان بولس بعد حياً، أي قبل سنة 67.
* ماذا تقول معطيات النقد الأدبي؟
يتدارس النقد الأدبي الوضع فيحدّد موقع إنجيل لوقا بالنسبة إلى معطيات أخرى محدّدة في الزمن، ويتوقف عند ارتباط لوقا الأدبي بهذه المعطيات.
وإليكم أهم الآراء:
الأول: دُوّن إنجيل لوقا بعد سنة 95. يقول أصحاب هذا الرأي: ما نقرأ في أع 46:5 (قام توداس قبل هذه الأيام، فتبعه نحو 400 رجل) يرتبط بالمؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس. ولكن النقّاد يرفضون هذا البرهان. ويزيد أصحاب هذا الرأي: إن لوقا يرتبط بيوحنّا. نجيب: لا شك في أن هناك تقاربات عديدة بين لوقا ويوحنّا، ولكن هذا لا يعني تبعيّة لوقا ليوحنّا، بل إتصالاً بتقليد واحد وإرتباطاً بمحيط واحد.
الرأي الثاني: دُوّن إنجيل لوقا بعد سنة 70. يقول أصحاب هذا الرأي: يعلن لوقا نفسه أن كثيراً من الناس كتبوا قبله. وهذا ما يدعونا إلى إفتراض فترة زمنية لا بأس بها. نقول: يجب أن لا نضخم لفظة "كثير". فمنذ البدايات المسيحية كانت محاولات عديدة لتدوين بعض التقاليد وترتيبها.
وهناك من يرى في تصوير دمار أورشليم البرهان بأن الحدث قد حصل (19: 43- 44؛ 21: 20، 24). أورد مت 24: 25 ومر 13: 14 كلام يسوع حول "رجاسة الخراب" (رج دا 9: 27؛ 11: 31؛ 12: 11). أما لو 21: 20 فحدّد هذه الرجاسة بما يلي: "فإذا رأيتم أورشليم قد حاصرتها الجيوش، فاعلموا أن خرابها قد اقترب" (لو 21: 20). وأوضح لو 21: 24 نوعية هذا الخراب فقال: "يسقطون قتلى بحد السيف، ويُؤخذون أسرى إلى جميع الأمم. وتدوس أورشليم أقدامُ الوثنيّين إلى إن ينقضي عهد الوثنيّين" (أي: أزمنة تبشير الوثنيّين). إذن، أوضح لوقا على ضوء الحدث نبوءة يسوع التي تهدّد أورشليم.
ولكن هناك من ينتقد هذا الموقف فيقول: إعتاد لوقا أن يوجز الاستشهادات البيبلية ويغفل التلميحات إلى الكتاب المقدس. فلماذا غيرّ في أسلوبه؟ ثم إن العبارات المستعملة هنا توافق حصار كل مدينة. وقد يكون لوقا رجع في تصويره هذا إلى العهد القديم. مثلاً تث 28: 64: "يبعثرك الرب بين جميع الشعوب، من أقصى الأرض إلى أقصاها". وهو 9: 7: "جاءت أيام العقاب! جاءت أيام المجازاة".
الرأي الثالث: دُوِّن لوقا قبل سنة 70. هناك من يحدّد موقع الإِنجيل الثالث بالنسبة إلى سفر الأعمال. وبما أن سفر الأعمال دوّن بعد الإِنجيل قبل سنة 67 (وحتى قبل سنة 64) فيكون أن الإنجيل كُتب حتماً قبل سنة 67 (بل 64).
ما هو الرأي الذي نختاره؟ نبدأ فنقول إن هذا الموقف لا علاقة له مباشرة أو غير مباشرة بحقيقة الايمان والأخلاق. ولهذا، فالذين يأخذون بالرأي الثالث يجعلون الإِنجيل قريباً من الأحداث. والذين يجعلون تدوين الإِنجيل حوالي سنة 85، أي بعد مرقس ومتى، فهم يجعلون لوقا قريباً من يوحنا. أما نحن فنأخذ بهذا الرأي الأخير ونقول: دوّن لوقا إنجيله قبل إنجيل يوحنا، ولكن المسافة بين الاثنين لم تكن كبيرة جداً.
ب- أين كتب الانجيل الثالث؟
هناك أماكن عديدة: اليونان: أخائية أو بيوثية. قيصرية، الاسكندرية أو رومة... لا جواب قاطعاً.
ولكن مهما يكن من أمر، فقد كتب لوقا إنجيله إلى أناس يعيشون خارج فلسطين، وهم بالتالي لا يعرفون عوائد موطن يسوع وطرق حياته (رج مثلاً القرميدات في بيت كفرناحوم، 5: 19). ونقول ثانياً: كتب لوقا لمسيحيين جاؤوا من العالم الوثني، لهذا أغفل عدداً من الاستشهادات الكتابية. يكفي هنا أن نقابل بين عظة الجبل (يسوع هو موسى الجديد) وعظة السهل (عالم لوقا عالم منفتح على الأمم الوثنية). قال يسوع في مت 43:5- 44: "سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك. أما أنا فأقول لكم: أحبوا اعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم". هذا ما قالته الشريعة وحدّدته جماعة قمران تجاه أبناء الظلمة. أما القديس لوقا فاكتفى بالقول: "وأنتم إيها السامعون، فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا من أجل المفترين الكذب عليكم" (6: 27- 28).
4- كيف ألّف لوقا إنجيله؟
1- تصميم الإنجيل الثالث ومراجعه.
* كيف يبدو تصميم الإنجيل الثالث؟
إنه واضح في خطوطه الكبرى، وهو يتوافق في قسم من أقسامه مع ما نجده في إنجيل مرقس.
فبعد المقدمة، نجد نفوسنا في الجليل (3: 1- 9: 50)، ثم في الطريق إلى أورشليم (9: 51- 19: 27)، وأخيراً في أورشليم حيث تتمّ أحداث الموت والقيامة (19: 28- 24: 53).
إذا ألقينا نظرة إجمالية، نرى أن لوقا يقدم متتالية شبيهة بمتتالية مرقس، ثم متتالية خاصة به. فبعد 3: 1- 19:6 (رج مر 1: 1 - 35:3) نجد القاطعة الصغيرة (6: 20- 3:8) التي تبدأ بعظة يسوع الكبرى. وبعد 8: 4- 9: 50 (رج مر 4: 1- 9: 40، ما عدا 6: 45 - 8: 26)، نجد القاطعة الكبرى (9: 51 ي) أو صعود يسوع إلى أورشليم: "ولما حانت أيام ارتفاعه" (حرفياً: خروجه أي موت يسوع و صعوده).
يتقيّد لوقا بمصدر هو مرقس أو قريب جداً من مرقس، ولكنّه يضم إليه تقاليد خاصة جمعها من الكنائس. ولنا عودة إلى هذا الوضع عندما ندرس المسألة الإِزائية.
إن التقليد المشترك بين متّى ومرقس ولوقا، يقدّم لنا لحمة الإنجيل. واستفاد لوقا من تقاليد إضافية تتقاطع مراراً مع ما جمعه متّى، أو من ذكريات استقاها من بعض التلاميذ أمثال كليوبا (18:24) وفيلبس (أع 21: 8)؛ ومناين رفيق طفولة هيرودس وأخوه في الرضاعة (أع 13: 1؛ رج لو 23: 7- 12)، والنساء القديسات (لو 8: 1- 3؛ 10: 38؛ 23: 27- 28، 49؛ 24: 10)، ومريم أم يسوع (لو 1- 2). أما الاتصال بين الانجيل الثالث والانجيل الرابع فيعود إلى تأثير المحيط اليوحناوي على القديس لوقا.
* ما هي مراجع لوقا؟
يتفق معظم الشّراح على القول إن مرقس كان المرجع الرئيسي لإنجيل لوقا. ولكنهم يختلفون حين يحاولون تحديد مراجع أخرى.
هناك من يتحدث عن "إنجيل التلاميذ" الذي يشرف على القاطعة الكبرى (الصعود إلى أورشليم). ويحاول عدد من الشرّاح أن يعيدوا بناء بدايات لوقا انطلاقاً من خبر الآلام ومن أقسام يستقل فيها الإنجيل الثالث عن مرقس: إما تلك التي تعود إلى رسالة يسوع في الجليل (3: 1 - 4: 30)، وإما التي تعود إلى الصعود إلى أورشليم (19: 1- 27، 37 - 44). ولكن براهينهم لم تقنع أحداً، فسماها بعضهم: خياله وسراب. وهناك فئة ثالثة تتخلى عن إيجاد إنجيل يقف خلف التقاليد الخاصة بلوقا، فيرى في هذه التقاليد عدة وثائق مكتوبة أو تقاليد شفهية.
فشل الشراح في بحثهم عن مراجع لوقا. ولكن هذا لم يمنعهم من اكتشاف المبدأ الذي اتبعه لوقا في تدوين إنجيله: هو المؤرّخ وهو خادم الكلمة. سنعود إلى خادم الكلمة حين نتحدث عن الوجهة التعليمية في الإنجيل الثالث. أما المؤرخ فنكتشفه من خلال إشارتين. الأولى: وضع الأحداث في الزمن، والثانية: مسيرة الخبر الإنجيلي.
ب- وضع الأحداث
* نقدم أوّلاً النظرات الإِجمالية البارزة: لوحة احتفالية تفتتح خبر ولادة يسوع (2: 1- 3)، وأخرى في بداية رسالة يوحنّا (3: 1- 2) تعدّد سبعة حكّام في ذلك الوقت. ثم تأتي تحديدات زمنية نسبية تزيد على ما وجدناه في سائر الأناجيل: تمّ اجتماع المجلس الأعلى "حين طلع الصباح" (22: 66)، لا خلال الليل. وفي مكان آخر يُلغي لوقا "المؤرخ" كلاماً يعتبره غير محدَّد. قال متّى ومرقس ان التجلي حصل "ستة ايام" بعد اعتراف بطرس بيسوع. أما لوقا فقال: "بعد نحو ثمانية أيام" (9: 28). وإن تواضع المؤرخ يجعل لوقا يقول "قرابة" "نحو" أمام الأرقام المحدّدة. "وكانت مريم عند اليصابات نحو ثلاثة أشهر" (56:1). "وكان يسوع عند بدء رسالته، في نحو الثلاثين من عمره" (3: 33). "وكانوا نحو خمسة آلاف" (9: 14؛ رج 22: 59؛ 44:23).
ويلغي لوقا أيضاً ما يعتبره تكراراً. وجد تقليداً خاصاً يتحدّث عن دعوة التلاميذ الأولين (5: 1- 11) فاستغنى عن خبر مر 1: 16- 20. وهناك أخبار ترد في مرقس ولكن لوقا يوردها في سياق آخر. مثلاً، قول الكنيسة عن يسوع (مر 22:3- 30)، يرتبط بموقف ذويه منه. ولكن لوقا (11: 14- 23) يجعله في إطار الصعود إلى أورشليم. ونقول الشيء عينه عن يسوع في وطنه الناصرة (مر 6: 1- 6)0 أما لوقا 16:4 - 30 فقد جعل من هذه "الزيارة" إلى بلدته برنامج عمله التبشيري (رج أيضاً مر 49:9- 50؛ لو 34:14- 35؛ مر 10: 41- 45؛ لو 24:22- 27).
ثم إن لوقا يتهرّب من الخبرين القريبين. حدثنا مرقس عن تكثيرَين للخبز، واحد يتوجّه إلى العالم اليهودي (مر 6: 30 ي) وآخر يتوجّه إلى العالم الوثني (مر 8: 1 ي)، فألغى لوقا الخبر الثاني واحتفظ بالأولى (9: 10- 17). وبدت لعنة التينة (مر 11: 12- 14، 20 - 25) تكراراً لمثل التينة التي لا تثمر (6:13- 9؛ 6:17) فلم يوردها. وكذا نقول عن السير على المياه (مر 6: 45- 52) القريب من تهدئة العاصفة، والدهن بالطيب في بيت عنيا (مر 3:14- 9) القريب من غفران حصلت عليه الخاطئة (لو 36:7- 50). لماذا الحديث عن مثول يسوع أمام المجلس الأعلى مرة أولى ومرة ثانية (مر 14: 55 - 64؛ 15: 1)؛ تحدّث مرقس (23:15) عن الخمرة الممزوجة بمرّ، أما لوقا (23: 36) فتحدث عن الخل.
وتحاشى لوقا القول بأن العاصفة هدأت في "يوم الأمثال" (مر 4: 35؛ لو 8: 22). وأشار إلى أن التجلي حدَث في الليل: إعتاد يسوع أن يصعد الجبل ليصليّ، كما إعتاد أن يصليّ خلال الليل (9: 32، 37؛ رج 6: 12؛ 22: 39- 40). وتحدث عن صعود مثلث ليسوع إلى أورشليم، لا صعود واحد، كما نرى ذلك عند مرقس.
وأخيراً، يقدّم لوقا بعض المعلومات الجغرافية: كفرناحوم هي مدينة في الجليل. والناصرة أيضاً (4: 31؛ 1: 26). "بحر الجليل" صار عنده "بحيرة جنسارت" (5: 1؛ 8: 23). قال مت 10: 33: "من أنكرني أمام الناس، أنكره أمام أبي الذي في السماوات". أما لوقا (9: 26) فتوسّع: "من يستحيي به وبكلامي يستحيي به ابن الانسان، متى جاء في مجده ومجد الاب والملائكة الأطهار" (رج مت 16: 27؛ مر 8: 38). قال مت 21: 1: "ولما قربوا من أورشليم، ووصلوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون" (رج مر 11: 1). أما لوقا فذكر بيت فاجي وبيت عنيا، عند الجبل الذي يقال له جبل الزيتون، فجاء قريباً من مرقس (لو 19: 29).
* وهناك إشارات سلبية
لقد قام لوقا ببعض التصحيحات والتحديدات التي تدل على ضعفه كمؤرخ. ولكننا نجد غياب تفاصيل تدل على أن لوقا جهل فلسطين، وما عرف طرق البناء فيها (5: 19؛ 6: 47- 49) وعوائدها (6: 29؛ 7: 14؛ 8: 5- 6) ومناخها وطوبوغرافيتها (4: 29؛ 9: 10؛ 12: 55؛ 29:21). لماذا سمح لنفسه بأن ينقل بعض الأحداث من مواضعها ليجعلها في موضع آخر؟ مثلاً: حدث الناصرة (16:4- 30)، دعوة التلاميذ (5: 3- 11)، مقدمة الخطبة الأولى (6: 12- 19)، الحديث عن أسرة يسوع الحقيقية (19:8- 21)، شفاء برتيما (35:18- 43)، خبر العشاء الأخير والإنباء بالخيانة (22: 15- 20، 21- 23).
فوضع المؤرخ في العصور القديمة يختلف عن وضعه اليوم فيما يخصّ الكرونولوجيا (تسلسل الأحداث) والطوبوغرافيا (تحديد الأماكن). فما يجب علينا هو أن ندرس أسباب هذه التبديلات.
- السبب الأول يرتبط بالتأليف الدراماتيكي. بدا للوقا أنه من الأفضل جمع كل ما يخص شخصاً من الأشخاص قبل أن ينتقل إلى موضوع آخر. مثلاً، رأينا يوحنّا المعمدان في السجن قبل الوقت، بل قبل عماد يسوع (3: 20: جعل يوحنّا في السجن). وهكذا فرغ المكان ليسوع. وفي موضع آخر تترتبّ الأخبار فتدلّ على واقع تاريخي معقول: فنحن نفهم جواب التلاميذ إلى نداء المخلص بعد سرد بعض المعجزات (5: 1- 11). جعل لوقا خصوم يسوع مجموعة واحدة منذ البداية (5: 17): "وكان ذات يوم يعلّم، وبين الحاضرين بعض الفريسيين ومعلمي الشريعة أتوا من جميع قرى الجليل واليهودية ومن أورشليم". والباعة طُردوا من الهيكل حالاً بعد دخول يسوع إلى أورشليم (19: 45- 46). ويتوزع خبر العشاء الأخير بطريقة منطقية: العشاء السري، خيانة يهوذا، الحديث عن السلطة التي هي خدمة، وأخيراً الإنباء بإنكار بطرس (22: 14- 28). ونقول الشيء عينه عن مشهد انكار بطرس ليسوع (54:22- 62): بطرس يتبع يسوع عن بعد، بطرس قرب النار. رأته جارية، ثم رآه رجل. وما إن أعلن بطرس ما أعلن من جهله ليسوع حتى صاح الديك.
- السبب الثاني يرتبط بالبناء اللاهوتي الذي أراده لوقا منطلقاً من المراجع التي في يده. نحن هنا في مجال يحسّ فيه المؤرخ أنه غريب عنه.
فالقاطعة الكبرى تقدّم لنا مثلاً له مدلوله. تبدو وكأنها ترسم أمامنا رسماً دقيقاً لسفر إلى أورشليم. تُكرر ثلاث مرات أن يسوع يصعد إلى أورشليم. المرة الأولى في 9: 51- 53: "ولما حانت أيام ارتفاعه عزم على الاتجاه إلى أورشليم". والمرة الثانية في 13: 22: "وكان يمر بالمدن والقرى، فيعلّم فيها، وهو سائر إلى أورشليم". نحن هنا أمام انتقال إلى قسم جديد في هذا الصعود (13: 22- 17: 10). والمرة الثالثة في 17: 11: "وفيما هو سائر إلى أورشليم، مرّ بالسامرة والجليل". تلك هي الطريق التي سيتخذها الرسل حين ينطلقون إلى الرسالة (أع 1 :8). ولقد قابل النقاد هذا الصعود المثلث بما في إنجيل يوحنّا (7: 1 - 13؛ 10 :22؛ 54:11). هنا يلتقي لوقا مع يوحنا ليشدّد على أهمية أورشليم في حياة يسوع ولا سيّما في موته.
ونحن نكتشف هذا البناء اللاهوتي في إغفال لوقا لمعطيات طوبوغرافية نجدها عند مرقس. ففي 17:5 و 46:9 لا يذكر لوقا كفرناحوم (رج مر 2: 1؛ 33:9) ما كما لا يذكر بحر الجليل في 27:5؛ 17:6؛ 8: 4 (رج مر 2: 13؛ 3: 7؛ 4: 1). وفي 9: 43 ب لا يذكر لوقا بحر الجليل (رج مر 9: 30)، وفي 8: 39 لا يذكر المدن العشر (ديكابوليس، رج مر 5: 20). وخلاله صعود يسوع إلى أورشليم لا يتوقف لوقا عند المواقع الجغرافية. مثلاً، لا يذكر قيصرية فيلبس (رج مر 8: 27). ولا يشير إلى الطريق (رج مر 10: 17)، ولا إلى الهيكل (مر 12: 35)، ولا إلى الخزانة (مر 12: 41). لا يقول عن يسوع إنه جلس على جبل الزيتون (مر 13: 3) أو إنه وصل إلى جتسيماني (مر 14: 32). هل نقول أنه جهل هذه الأمكنة، أم أنه لم يرد التوقف عندها فيلتصق نظرنا بها؟ فكل مكان يمكن أن يكون قيصرية فيلبس، وفيه يطلب منّا يسوع أن نتخذ موقفاً تجاهه: من أنا في رأيكم أنتم؟
ج- مسيرة الخبر الانجيلي
* نجد أول ما نجد خبراً متتابعاً للأحداث.
فلوقا يعرف فن الانتقالات. إنه يقدم إلى القارئ خبراً متتابعاً للأحداث. وهو بذلك يتفوق من ناحية الأسلوب على مرقس. ففي 33:5، يطرح الفريسيون أنفسُهم بعد أن انتقدوا يسوع لأنه يأكل مع الخطأة، يطرحون سؤالاً حول صوم التلاميذ. نحن أمام خبرين يتجاوران عند مرقس، ويقعان في سياق واحد. قابل 8: 11 (مر 4: 13) و 16:8 (مر 21:4) و 40:8 (مر 21:5) و 22:9 (مر 31:8)، و 9: 28 (مر 9: 2). "وإليكم مغزى المثل". "ولما رجع يسوع". "وقال: يجب". "وبعد هذا الكلام".
وفي مقاطع أخرى، يهيئ لوقا الطريق للانتقالات. فكرازة يوحنا المسيحانية قد هيّأتها الحاشية حول تأثير كرازة التوبة هذه على الجموع: تساءلوا: أما يكون المسيح (15:3)؟ ونقول الشيء عينه عن 4: 1: "ورجع يسوع من الأردن، وهو ممتلئ من الروح القدس". هذا الروح الذي ناله في المعمودية. ونقرأ في 5: 1: "وازدحم الجمع عليه لسماع كلمة الله". وهكذا نستعد للنداء الذي سيسمعه التلاميذ الأولون.
ويوجّه لوقا خبره بتعليقات تهيئ الأحداث اللاحقة. ترك إبليس يسوع حتى الزمن المحدد (4: 13). وهو سيعود في 22: 3، 53. تحدّث عن يوحنا المعمدان الذي "أقام في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل" (1: 80). وهكذا تهيأنا لأن نقرأ في 3: 3: "كانت كلمة الله إلى يوحنا بن زكريا في البريّة". ونقرأ في 3: 20 عن سجن يوحنا، فنستعد لسماع هيرودس يقول: "أنا قطعت رأس يوحنا" (9: 9). وهيأت 8: 1 - 3 الطريق أمام 23: 49- 55...
* ونجد خبراً مركزاً على أورشليم
حين نقرأ إنجيل لوقا نكتشف فنّه الرفيع في تركيز إنجيله على أورشليم. ترك الإنجيل الثالث انطلاق يسوع إلى حدود الجليل (مر 6: 45- 26:8). وأغفل اسم قيصرية فيلبس (مر 27:8) والجليل (مر 8: 30). وحوّل كلام يسوع عن موضع اللقاء بعد القيامة. نقرأ في مر 28:14: "ولكن بعد قيامتي أسبقكم في الجليل". وذكَّر الملاك النسوة بهذا الكلام: "إذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: إنه يسبقكم إلى الجليل" (مر 7:16)0 أما لو 6:24- 7 فقال: "تذكروا ما قاله لكم حين كان في الجليل".
إذن، نحن أمام خبر موّجه نحو هدف محدَّد. هو أورشليم. بدأ الإنجيل الثالث في أورشليم (1: 5) وانتهى في أورشليم (24: 52 ي). وفي إنجيل الطفولة سيُذكر صعودان إلى أورشليم. الأول، يوم كان الطفل ابن أربعين يوماً، صعدا به إلى أورشليم (2: 22). والثاني، لما بلغ الصبي إثنتي عشرة سنة (42:2). وفي خبر التجارب، ينتهي الخبر في أورشليم (9:4- 12)، لا على الجبل كما في متّى (8:4- 10).
* وهناك الصعود إلى أورشليم
تبدو القاطعة الكبرى بشكل صعود احتفالي إلى أورشليم. فقد جمُعت الأخبار والأقوال في هذا الإِطار. هناك خطب هجومية (11: 14 - 14: 24) يجمعها موضوع واحد. وهناك أقوال مرتّبة حول كلمة تتكرّر في أكثر من مقطع (12: 1- 12؛ 25:14- 35؛ 16:16- 18).
ويركز لوقا، شأنه شأن متّى (قد يكون مصدر الإِنجيلَين قد ركّز على ذلك)، على الرقم ثلاثة: ثلاثة أخبار دعوة: "قال له رجل... وقال لآخر... وقال له آخر" (9: 57- 62). ثلاثة أقوال عمّا يميّز التلاميذ: "أوليتُكم سلطاناً تدوسون به الحيات... إفرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماء... طوبى للعيون التي تبصر ما أنتم تبصرون" (18:10- 24). ثلاث تعليمات عن الصلاة: "قال لهم: إذا صليتم فقولوا... وقال لهم: من منكم له صديق... إني أقوله لكم: إسألوا تُعطوا" (10: 1- 13). ثلاثة أمثال عن رحمة الله (15: 1 - 32)، ثلاثة أقوال عن الشريعة ( 16: 16- 18)، ثلاثة آراء مختلفة (17: 1-6).
قد يُذكر الظرف الذي فيه قيلت كلمات يسوع. ولكن قد يكون الرباط بين المقطوعات رخواً: بعد ذلك (10: 1)، في تلك الساعة (10: 21). وقد لا يكون رباط البتة. مثلاً في 10: 25: "وإذا أحد علماء الشريعة".
جمع لوقا هذه المواد في إطار واضح، فألغى الإشارات الطوبوغرافية لتتوجّه أنظارنا فقط إلى أورشليم. وهكذا جاءت النتيجة مذهلة.
في 9: 51، يواجه عبد الله المتألم النزاع (رج أش 6:50 ي حسب السبعينية)، أو بالأحرى يعود إلى الله (رج يو 13: 1: "ينتقل من هذا العالم إلى الآب"). وفي 9: 53 نجد أن السامريين لا يستقبلون يسوع "لأنه يتجه إلى أورشليم" (وجهه موجّه).
ويتابع لو 56:9: "فمضوا إلى قرية أخرى". ما اسمها؟ هذا ما لا يقوله لوقا. ثم يشير إلى أنهم "كانوا في الطريق". فجاءت ثلاثة أخبار متلاصقة تجمعها كلمة "تبع": أتبعك حيث تمضي... قال الآخر: إتبعني... أتبعك يا رب". وفي 10: 1 يتحدث الإنجيل عن "كل مدينة أو مكان أوشك أن يذهب إليه". وبعد عدد من الخطب، يتكلم النص عن عودة التلاميذ، عن مثَل المسافر اليهودي الذي أعانه السامري. ويستعيد لوقا خبره: "وبينما هم سائرون (في الطريق)، دخل قرية" (38:10). قد تكون بيت عنيا، وهذا أمر يعرفه لوقا ولكنه لا يذكره.
وتأتي بعد ذلك عبارات غامضة "كان يصليّ في بعض الأماكن" (11: 1). "وكان يمرّ بالمدن والقرى، فيعلّم فيها، وهو سائر (في طريقه) إلى أورشليم" (22:13). بعد هذا، جاء من نصح يسوع: "أخرج واذهب من هنا" (13: 31، ولكن من أين؟). أما هو فأجاب: "يجب أن أتابع طريقي لأنه لا ينبغي لنبي أن يهلك في خارج أورشليم" (13: 33). وبعد هذا وجّه يسوع إلى أورشليم كلام الإِنذار: "يا أورشليم، يا أورشليم" (13: 34).
ولكننا لم نصل بعد إلى أورشليم. أعطى يسوع بعض التعاليم خلال تناول الطعام (14: 1- 24). ثم قال الإنجيل: "وكانت جموع كثيرة تسير (في الطريق) معه" (25:14)0 الكل هم في الطريق. وجاء تعليم في الأمثال. وبعد هذا قال لوقا عن يسوع: وبينما هو سائر (في الطريق) إلى أورشليم، مر بالسامرة والجليل (أو على حدود السامرة والجليل)، ودخل قرية من القرى (17: 11- 12).
وبعد هذا "الطريق" التقى لوقا بخبر مرقس: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فيتمّ جميع ما كتب الأنبياء" (18: 31). ويستعيد الإنجيل الثالث تحديداً طوبوغرافياً أخذه من التقليد المشترك: "دخل يسوع إلى أريحا" (19: 1؛ رج 18: 35). ولكن لوقا يعود إلى طريقته الخاصة: "قال يسوع أيضاً مثلاً لأنه كان قريباً من أورشليم، ولأنهم كانوا يظنون أن ملكوت الله يوشك أن يظهر في الحال" (عاجلاً، لا يستطيع الناس أن ينتظروه) (19: 11).
ثم يرد الدخول الاحتفالي إلى أورشليم. "بعد أن قال هذا، تقدم (سار في الرأس) صاعداً إلى أورشليم. ولما قرب من بيت عنيا" (19: 28 - 29). "ولما قرب من منحدر جبل الزيتون" (19: 37). "ولما اقترب، ورأى المدينة بكى عليها" (19: 41). "وحين دخل الهيكل" (19: 45).
وسائل أدبية قد تبدو غريبة، ولكن تأثيرها كبير جداً. ثم إن القاطعة الكبرى ليست جسماً غريباً في الإنجيل. هذا الإنجيل بدأ في أورشليم. ويسوع الذي عاد "منتصراً" إلى المدينة المقدسة، يكتفي بأن "يقيم خيمته" في جبل الزيتون ومن هناك سيُقاد إلى السجن، إلى أورشليم، حيث يُدان ويُحكم عليه ويُصلب. وفي أورشليم سيقوم ويظهر للتلاميذ. ومن بيت عنيا سيصعد إلى السماء. ويعود التلاميذ إلى أورشليم وهم يسبّحون الله. وسيعلن سفر الأعمال انتشار الإنجيل من أورشليم إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8).
من هذا التحليل لبنية لوقا الأدبية، نفهم أن الإنجيل الثالث، شأنه شأن إنجيلي متّى ومرقس، ليس سيرة حياة يسوع كما يريدها العالم الحديث. وزَّع لوقا مواده آخذاً بعين الاعتبار مراجعه، فكان "مؤرخاً". ولكنه كان قبل كل شيء "خادماً للكلمة" وحامل إنجيل البشرى. هو لم يتلاعب بمراجعه، فاقتصر فنه على تنظيم بعض المعطيات التقليدية، وعلى إبراز هذه المعطيات في إطار النظرة المشتركة التي عرفها متّى ومرقس.
5- الوجهة التعليمية
حين نقرأ إنجيل مرقس نرى أنه قدّم لنا سر الإله الإنسان في شخص يسوع. وحاول متّى أن يعرض لنا تفسيراً ينطلق من الكتاب المقدس في عهده القديم. لم يجهل لوقا نظرة مرقس ولا نظرة متّى (هناك براهين كتابية عديدة: 17:4؛ 18: 31؛ 17:20...)، ولكنه قدم نظرة أخرى، نستطيع أن نعتبرها أوسع مما في الإِنجيلَين الأولين.
سعى لوقا إلى عرض تاريخي لأحداث الخلاص. حاول أن يقدّم "رسمة. تاريخ"، لنفهم الأحداث بأسبابها. هو لا يكتفي بإيراد أحداث ووقائع من حياة يسوع. بل هو يفسرّها. ولكن، بما أنه لم يكن شاهد عيان، فلم يستطع أن يقدم مثل يوحنا "إنجيلاً روحياً". غير أنه عرف مع الجماعة المسيحية الأولى أن يسوع قام، فأسقط على أحداث حياة يسوع المذهلة نور سر الآلام والقيامة، وهو سيبين في سر الأعمال انتصار إيمان الكنيسة عبر الاضطهادات.
لوقا هو إنجيلي مخطّط الله. فإذا أردنا أن نبسط الأمور قلنا: سر الفصح هو قلب هذا المخطط، والروح القدس هو محققه، وجماعة المؤمنين هي غايته.
أ- سر الفصح
* إنباءات الآلام والقيامة
إن إنباءات الآلام والقيامة تنتمي إلى التقليد المشترك بين متّى ومرقس ولوقا، فهناك ثلاثة إنباءات تتوزع صعود يسوع إلى أورشليم (مت 16: 21 وز؛ 17: 22- 23 وز؛ 20: 18- 19 وز). أما عند لوقا، فيسبق الإنباء الأول تنبيهٌ خاص بلوقا: "ضعوا جيّداً في رؤوسكم هذه الكلمات" (9: 44). ويرتبط الإنباء الثالث ببرهان كتابيّ (18: 31). ويتفرَّد لوقا فيقول: "ولكنهم لم يفهموا كل هذا. وظلت هذه الكلمة مخفية عنهم، فلم يفهموا معناها" (18: 34). وهكذا شدد لوقا على ما شدد عليه مرقس في الإنباء الثاني (مر 45:9)، وما أشار إليه متّى في الإنباء الأول بالنسبة إلى بطرس وحده (مت 16: 21 - 23).
وزاد لوقا على هذه الإنباءات وحياً وصل إلى التلاميذ ساعة التجلي حول حضور موسى وإيليا على الجبل: لقد كان موضوع محادثتهما مع يسوع نهاية يسوع في أورشليم (9: 21). والملاك سيذكّر النسوة بهذه الإِنباءات بعد دراما الآلام (7:24)، ويسوع القائم من الموت سيذكِّر المسافرين إلى عماوس (24: 25- 26)، كما سيذكِّر الرسل في العلية (24: 45- 46) بهذه الآلام التي تسبق المجد.
وحسب لوقا، يرغب يسوع في "معمودية" الآلام (12: 50)، ويعلن أن على كل نبي أن يموت في أورشليم (13: 32- 33)، وأن على ابن الانسان أن يتألّم ويُرذل قبل أن يظهر كالبرق (17: 24- 25). غير أن لوقا لم يذكر الحوار الذي جرى بين يسوع وتلاميذه بعد التجلّي: "كذلك سيعاني إبن الإنسان منهم الآلام" (مت 17: 12؛ مر 9: 12: "يعاني آلاماً شديدة ويُزدرى").
وهناك إشارات أخرى مثل الصعود إلى أورشليم (رج مت 20: 17 وز). كما نجد بعض الرموز في إنجيل الطفولة. فيسوع هو علامة خلاف (2: 34) وهذا ما يظهر خصوصاً ساعة الآلام. وسيُوجَد يسوع في الهيكل "بعد ثلاثة أيام" (46:2). هي الأيام التي تفصل الموت عن القيامة. ونقول الشيء عينه عن كرازة يسوع في الناصرة (4: 16- 30). جعلها لوقا في رأس الحياة العلنية: يسوع هو موضوع إعجاب (4: 22)، ثم موضوع بغض ومحاولة قتل (29:4). ولكنه اجتاز بينهم متابعاً طريقه (4: 30؛ رج 7: 30؛ 8: 20). فهو من الآن قد انتصر على الموت.
* ألقاب يسوع المسيح
يحدثنا متّى (9: 4 وز) عن يسوع الذي يعرف الأفكار العميقة في القلوب. وهذا ما يشدّد عليه لوقا في 8:6 (بمناسبة شفاء يوم السبت: "علم أفكارهم")، وفي 47:9 بعد جدال بين التلاميذ: "فعلم يسوع ما يساور قلوبهم" (حرفياً: مباحثة قلوبهم، مر 33:9). ويسوع يعرف أيضاً الآب كما يعرفه الآب: "أحمدك يا أبت، رب السماء والأرض... ما من أحد يعرف الإبن إلاَّ الآب، ولا مَن يعرف الآب إلاّ الإبن ومن شاء الإبن أن يكشفه له" (10: 21- 22= مت 25:11 - 27).
يتفرّد لوقا فيسمي يسوع كما سماه المسيحيون الأولون: كيريوس، الرب. نقرأ خبر إقامة شاب نائين: "فلما رآها الرب، أخذته الشفقة عليها" (7: 13). وفي إرسال وفد يوحنا المعمدان: "أرسلهما إلى الرب يسأله" (19:7؛ رج 10: 1، 39، 41...). وهذا اللقب يوازي لقب المسيح الممجّد كما نقرأه في فل 2: 11: "يشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيداً لله الآب" (رج 1 كور 16: 22: "إن كان أحد لا يحب الرب").
شدَّد مرقس على السر المسيحاني. ومع أن لوقا لم يتخلّ عن هذا الموضوع (رج 4: 35، 41؛ 5: 14؛ 8: 56؛ 9: 21)، فلقب الرب غطَّى على لقب إبن الإنسان. وهذا ما نراه واضحاً في 26:8: تحدث متّى (16: 27) ومرقس (38:8) عن مجد الله فقط. أما لوقا فتحدث أيضاً عن مجد الإبن الشخصي الذي سيظهره يسوع في تجليه. إن إبن الإنسان الذي نستحيي به هنا هو ذلك الممجَّد منذ الآن بانتظار المجد الفصحي (26:24).
فالمسيح عند لوقا هو الملك. هذا ما نكتشفه لدى الدخول إلى أورشليم: "تبارك الآتي، الملك، باسم الرب" (19: 38). وحين يقدّم الإنجيل الثالث مثل الأمناء، فهو يختلف فيه عن مثل الوزنات كما يقدمه متّى. إنه يشدد على الطابع الملوكي: "كانوا يظنون أن ملكوت الله... لا نريد هذا ملكاً علينا... فلما رجع بعدما حصل على المُلك... فليكن لك الملك (السلطان)... أولئك الذين لم يريدوني مَلكاً عليهم" (19: 12، 14، 15، 17، 27؛ رج مت 25: 14- 30 الذي يتحدث عن رجل لديه عبيد).
ب- ملكوت الله والروح القدس
* ملكوت الله
البشرى هي ملكوت الله (43:4؛ 8: 1) كما تحدثت عنه الكرازة المسيحية الأولى. (16: 16؛ 18: 29؛ أع 1: 3؛ 8: 12). حين يورد لوقا هذه اللفظة، فهو لا يدل على الواقع الإلهي الذي يعمل على الأرض (كما عند متّى)، بل الملكوت الإسكاتولوجي أو السماء، الذي يُشرف على تصّرفنا على الأرض ويتطلب منا الإيمان.
نقرأ مثلاً في 27:13- 29: "فيقول لكم: لا أعرف من أين أنتم. إليكم عنّي يا فاعلي السوء جميعاً! فهناك البكاء وصريف الأسنان، إذ ترون إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله، وترون أنفسكم في خارجه مطرودين. وسوف يأتي الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، فيجلسون إلى المائدة في ملكوت الله" (27:13- 29).
نحن هنا أمام الديان في نهاية الأزمنة، نحن في إطار الوليمة المسيحانية. ونقرأ أيضاً في 14: 15: "وسمع ذلك الكلام أحد الجلساء على الطعام فقال له: طوبى لمن يتناول الطعام في ملكوت الله". نحن هنا أيضاً في جو الوليمة المسيحانية كما في رؤ 9:19: "طوبى للمدعوين إلى وليمة عرس الحمل".
ومثل الزارع لا يعني الحضور السري للملكوت، كما عند متّى ومرقس، بل متطلبة الإيمان. قال يسوع: "والذين على جانب الطريق هم الذين يسمعون. ثم يأتي إبليس فينتزع الكلمة من قلوبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا". أجل، إن الكلمة تُقبل بالإيمان. وهذا الإيمان يقود إلى الخلاص، ونقرأ أيضاً في 8: 15: "وأما الذي في الأرض الطيبة فيمثِّل الذي يسمعون الكلمة بقلب طيب وكريم ويحفظونها، فيثمرون بثباتهم". يتحدث لوقا عن الأخطار التي تهدد الكلمة، فيطلب من المؤمنين الثبات المحن. فقد قال لنا ربّنا في مكان آخر: "بصبركم تقتنون نفوسكم" (19:21).
ويمكننا أن نقابل مت 28:16 وز الذي يتحدث عن مجيء الملكوت مع لو 27:9 الذي يتحدث عن رؤية الملكوت. فإن كان الملكوت حاضراً على الأرض (17: 21)، فهو حاضر في شخص إبن الإنسان (17: 22). وهذا ما يفسر كلام يسوع: سيأتي لكوت (2:11: "ليأت ملكوتك")، ولكنه قد جاء وحل بيننا. قولوا للناس: "إقترب منكم ملكوت الله" (10: 9). وزاد يسوع في معرض دفاعه عن نفسه: "إذا كنت باصبع الله أطرد الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله " (11: 20).
* الروح القدس
إذا كان ملكوت السماوات يبدو في وجه ديناميكي عند متّى، فعند لوقا، يصبح الروح القدس هذا الواقع الإلهي الذي يعمل على الأرض. ليس الملكوت هو الذي ينزل من السماء، بل الروح القدس الذي يحَلّ كعطية وموهبة. والذي يعمل الآن ويدل على قدرة الله هو الروح. هذا أوضحه لوقا في أع 1 :8: "الروح القدس ينزل عليكم، فتنالون قوة". تساءل الرسل: هل هذا وقت إعادة الملك إلى إسرائيل؟ فحوّل يسوع أنظارهم عن هذا الملكوت وثبّتها على الروح القدس: إنه القوة، إنه نازل.
الروح القدس هو الموهبة العظمى. قال يسوع: "إذا كنتم أنتم لأشرار تعرفون أن تعطوا العطايا لأبنائكم، فكم أحرى بأبيكم الذي في السماء أن يعطي الروح القدس لمن يسأله) (13:11). شدّد لوقا على عطية الروح القدس، أما متّى 7: 11 فقال: "العطايا الصالحة". ونلاحظ في السياق عينه اختلافة في 11: 2. قال النص الأصلي: "ليأتِ ملكوتك". أما الاختلافة فقالت: "ليأتِ علينا روحك القدوس وليطهرنا، أو ليطهرنا".
والروح القدس هو في الإنجيل قوة من النوع النبوي. هناك أشخاص يحرّكهم الروح: يوحنا (1: 15، 80) ووالداه، زكريا (1: 67: "امتلأ أبوه زكريا من الروح القدس") وأليصابات (1: 41: امتلأت من الروح القدس"). وسمعان الشيخ الذي نزل الروح القدس عليه، الذي ألهمه الروح "أنه لا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب فأتى الهيكل بدافع من الروح" (2: 25- 27).
هذا الروح حضر وقت الحبل بيسوع (1: 35). ومنذ البداية كان يسوع "ممتلئاً من الروح القدس" (4: 1). "بقوة الروح، ترك يسوع البرية ليجترح المعجزات (4: 14)، بهذه القوة التي تجعله يشفي المرضى (4: 17) ويطرد الشياطين "باصبع الله" (11: 20؛ رج مت 28:12 الذي يقول: "بروح الله أطرد الشياطين). بالروح يتهلل يسوع (10: 21) فيحمد الله. إنه ذلك الذي "مسحه الله بالروح والقوة" كما يقول القديس بطرس (أع 10: 38). وأخيراً، الروح هو الذي ويعلّم التلاميذ ماذا سيقولون خلال الاضطهادات: "لا يهمكم كيف تدافعون عن أنفسكم، أو ماذا تقولون. لأن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوا" (12:12؛ مت 10: 20؛ رج مر 13: 11: لستم أنتم المتكلمين، بل الروح القدس).
ج- مناخ إنجيل لوقا
* مناخ المديح والتمجيد
يتردّد في إنجيل لوقا المديح وفعل الشكر وتمجيد الله. فمريم تعظم الرب (1: 46 ي)، وزكريا يبارك الله (1: 66، 68 ي)، والملائكة في بيت لحم يسبِّحون الله ويقولون: المجد لله في العلى (13:2- 14). سمعان الشيخ يبارك الله ويسلم حياته إلى الله (28:2- 29)، وحنة النبية تحمد الله وتحدّث بأمر الطفل كل من كان ينتظر افتداء أورشليم (38:2).
شُفي المخلّع فمضى إلى بيته وهو يمجد الله (5: 25). ورأت الجموع أموراً عجيبة فمجَّدت الله (5: 26). قام ابن أرملة نائين، فاستولى الخوف على الناس ومجدوا الله (7: 16). وانحلت المنحنية الظهر، فأخذت تمجد الله (13: 13). رأى الأبرص أنه برئ فرجع وهو يمجّد الله بأعلى صوته (17: 15)، وكذا فعل الأعمى (18: 43) والتلاميذ حين دخلوا أورشليم (19: 37- 38) والضابط عند موت يسوع (47:33). ويقدّم لنا لوقا لوحة في نهاية إنجيله: رجع التلاميذ إلى أورشليم "وكانوا يلازمون الهيكل ويباركون الله" (24: 53).
وسنسمع صدى هذا التمجيد والتسبيح في فم الجماعة المسيحية الأولى. فهم خلال اجتماعاتهم "يسبحون الله وينالون حظوة عند الشعب" (أع 47:2). وحين شُفِيَ المخلع على يد بطرس، مشى وأخذ "يسبح الله" (أع 8:3)، بل إن "جميع الناس كانوا يمجدون الله على ما جرى" (أع 4: 21). أدخل بطرس أول وثني إلى الكنيسة، فكان دخوله إيذاناً بتمجيد الله (أع 18:11). وفتح بولس الباب للوثنيين، ففرحوا ومجّدوا كلمة الرب (أع 13: 48؛ 21: 20).
* مناخ الفرح
الفرح، البهجة، التهليل، إنشاد السعادة. تلك هي الكلمات التي تتردّد في إنجيل لوقا. والفعل "أنجل" (أي حمل الإنجيل) يحمل دينامية لا يحملها الاسم. فهو يعني بشرَّ، حمل البشرى، حمل الخبر المفرح.
نجد فعل "أنجل" في مت 11: 5: يسوع يحمل البشارة إلى الفقراء". ويحدثنا مر 16:4 (= مت 13: 20= لو 13:8) عن فرح الذين يتقبلون الكلمة. ويشير مت 2: 10 إلى فرح المجوس حين شاهدوا الطفل، إلى فرح التلميذ الذي اكتشف كنزاً مخفى في حقل (مت 13: 44)، إلى الفرح الذي يملأ السماء (مت 25: 21، 23: ادخل فرح سيدك)، إلى فرح المرأتين اللتين جاءتا إلى القبر يوم القيامة: تركتا القبر بسرعة وهما في خوف وفرح عظيم (مت 8:28).
هذا في متّى ومرقس. أما في لوقا فالفرح يجتاح إنجيله. فمولد يوحنا سيكون مناسبة فرح وابتهاج، فيفرح بمولده أناس كثيرون (1: 14). فرحت به أليصابات وفرح جيرانها وأقاربها معها (58:1). حين بشّر الملاك مريم قال لها: إفرحي، إبتهجي (نقول عادة السلام وهذه الكلمة لم تعد تكفي لأنها صارت مبتذلة في حياتنا اليومية) (28:1). حين سمعت أليصابات سلام مريم قفز الولد من الفرح في بطنها (1؛ 41، 44). هذا الفرح الذي به بشر الملائكة الرعاة (2: 10).
عاد التلاميذ من الرسالة وهم فرحون (17:10)، فحدّد لهم يسوع الباعث الحقيقي لفرحهم (10: 12)، وأعلن فرحه هو وابتهاجه (10: 21). فرحت الجموع حين رأت المعجزات تتمّ أمامها (17:13)، وفرح زكا العشار حين استقبل يسوع (6:19) كما فرح التلاميذ في دخول يسوع إلى أورشليم (17:19) وتلميذا عماوس اللذان كانا يسيران كئيبين (17:24). ظهر يسوع للتلاميذ فلم يصدّقوا من الفرح (24: 41). ولما انفصل عنهم في صعوده "رجعوا إلى أورشليم وهم في فرح عظيم" (24: 52). انتهت رسالة يسوع المنظورة، وبدأت رسالتهم هم.
يفرح البشر ويفرح الله حين يستقبل الخاطئ العائد. ففرحه بخاطئ يتوب يشبه فرح الرجلٍ الذي أضاع خروفاً ثم وجده (3:15 - 7)، والمرأة التي أضاعت درهماً فوجدته (15: 8- 10). فرح الله يعبر عنه الأب الحنون. عاد الإبن الضال فأعلن الأب للأخ الأكبر: "وجب علينا أن نتنعم ونفرح، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد" (15: 32). هذا الفرح السماوي هو ما وعد به الله المضطهدين، بل دعاهم إليه حين يبغضهم الناس ويرذلونهم ويشتمونهم (23:6= مت 5 :12؛ رج أع 5 :41).
طوبى، هنيئاً، ما أسعد الذين يسمعون البشرى! هناك التطويبات الأربع في لوقا (6: 20- 21)، وهناك غيرها تتوزع في إنجيله. طوبى ليوحنا إن عرف أن لا يتشكك بيسوع (23:7= مت 6:11)، طوبى للأعين التي ترى ما يراه التلاميذ (23:10= مت 16:13)، طوبى للعبد الأمين (12: 43= مت 24: 46).
وعند لوقا بصورة خاصة، الطوبى للتي آمنت (1: 45)، ولمريم التي تهنئها كل الأجيال بسعادتها (48:1). طوبت امرأة من الجمع تلك التي حملت يسوع في بطنها وأرضعته من ثدييها (27:11). وطوّب يسوع "من يسمع كلمة الله ويحفظها" (28:11). كما طوّب الخدامَ الساهرين (12: 37- 38)، وذاك الذي يدعو الفقراء والعرج والعميان الذين لا يقدرون أن يكافئوه (14: 14).
ويرتبط السلام بهذه الطوبى، بهذا الفرح. لا ذلك السلام الذي يحمله العالم (12: 51= ت 10: 34؛ رج يو 27:14)، بل ذلك الذي يعطيه يسوع (7: 5؛ 48:8= مر 5: 34) منذ ولادته. هذا السلام لم تعرف أورشليم أن تتقبّله (19: 42)، مع أن التلاميذ أعلنوه فقالوا: "السلام في السماء والمجد في العلى" (38:19). هذا السلام أعطاه يسوع القائم من الموت (24: 36؛ رج يو 19:20، 21: 26) لأنَّه جاء يبشّر (فعل أنجل) بالسلام (أع 36:10). وعلّم تلاميذه أن يفعلوا مثله: "أي بيت دخلتم قولوا: "السلام على هذا البيت" (10: 5= مت 13:10).
* مناخ الصلاة
يتحدّث الإِزائيون عن يسوع الذي يصلي حين تكثير الأرغفة (9: 16 وز) وفي العشاء السري (17:22، 19 وز). يحدّثنا متّى عن يسوع الذي سبّح وهلّل (أنشد مزامير الهلال: 113- 118) (مت 26: 30= مر 14: 26) قبل أن يخرج إلى جبل الزيتون. كما أنه صلّى بعد تكثير الأرغفة: "ولما صرفهم صعد الجبل ليصلّي في العزلة" (مت 23:14= مر 46:6).
ويتفرّد لوقا بالحديث عن يسوع يصليّ حين ينال المعمودية (3: 21)، وخلال حياته الرسولية (5: 16: "كان يعتزل في البراري ويصلي"، رج مر 1: 35). صلىّ يسوع قبل أن يختار الإثني عشر (6: 12)، وقبل أن يعترف به بطرس "مسيح الله" (9: 18)، وخلال التجلي (9: 28-29). عاد التلاميذ من الرسالة فتهلل يسوع ورفع صوته في الصلاة (10: 21): "أحمدك يا أبت". رآه التلاميذ يصلي فسألوه: "علّمنا أن نصلي" (11: 1). صلىّ يسوع ليثبّت بطرس في الإيمان (22: 32)، وصلّى من على صليبه (23: 34)، وقبل موته (46:23).
والناس يصلّون في إنجيل لوقا. حين كان زكريا يقدّم البخور، كانت "جماعة الشعب كلّها تصلي" (1: 10). ولقد صلّى زكريا، فسمع الله صلاته (13:1). وتميزت حنَّة النبية بتعبدّها وتكرّسها للصوم والصلاة (2: 37). ولقد اعتاد تلاميذ يوحنّا أن يقيموا الصلوات (5: 33).
واحتفظ لنا لوقا ببعض الصلوات. نشيد المباركة الذي تلاه زكريا (1: 68- 79): "تبارك الرب الإله". ونشيد التعظيم الذي فاهت به العذراء مريم (46:1- 56): "تعظم نفسي الرب". ونشيد الملائكة: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام" (2: 14). ونشيد الإستسلام الذي أطلقه سمعان الشيخ بعد أن رأت عيناه خلاص الله (29:2- 32).
واجب الصلاة واجب ملح: "إسألوا تعطوا. أطلبوا تجدوا. إقرعوا يُفتَح لكم" (9:11= مت 7:7- 11). يسبق لوقا هذا القول بمثل الصدّيق اللجوج (11: 5- 8): "إن لم يقم ويعطه لكونه صديقه، فإنه ينهض للجاجته". إذن، لا بد من الإلحاح في الصلاة. ويلي هذا القول ويثبته مثلُ القاضي الظالم (18: 1- 8). هو أنصف المرأة التي "صرعت" له رأسه بإلحاحها. "أفما ينصف الله مختاريه الذين ينادونه نهاراً وليلاً"؟ صلاة من غير ملل. وصلاة متواضعة في مثل الفريسي والعشار: "من رفع نفسه وُضع، ومن وضع نفسه رُفع" (18: 14).
إن الإيمان ينال كل شيء (6:17؛ رج مت 17: 20؛ 21: 21 - 22؛ مر 23:11- 24). علينا أن نطلب من رب الحصاد (2:10= مت 38:9) ليرسل فعلة لحصاده. علينا أن نصلي من أجل مضطهدينا (28:6= مت 44:5). علينا أن نصلي ونسهر (36:21= مر 33:13) لئلا ندخل في التجارب (22: 40، 46 وز).
د- إنتشار الإنجيل في العالم
الروح حاضر في صلاتنا (10: 21؛ 13:11). الروح حاضر في الملكوت. ولكن العمل الذي يقوم به لا يكمن أولاً في ثمار حضوره، كما في الفرح والصلاة. فهو يريد أن يبني جماعة تضم كل المؤمنين. يريد أن يبني "الكنيسة" (لا ترد هذه الكلمة في إنجيل لوقا، ولكنّها ترد في سفر الأعمال).
يبيّن متّى أن القطيعة مع الشعب اليهودي كانت الشرط الضروري لانتشار الإنجيل. أما لوقا فرأى هذه الشمولية منذ البداية، وهي حاضرة في مخطط الله. جاءت الشمولية في متّى في النهاية، وبعد أن عاشت الكنيسة مأساة رفض الشعب اليهودي للمسيح. أما عند لوقا، فالشمولية واقع يُلقي بضوئه على الإنجيل. الشمولية هي الإنجيل.
يتوجّه لوقا في إنجيله إلى قارئ غير فلسطيني. وهكذا يجعل البشارة تشع مباشرة وراء حدود إسرائيل.
أهمل لوقا كل ما يُشتم منه موقفٌ يهودي بارز: السؤال المتعلّق بقانون الطهارة في الطعام (مت 15: 1- 20 وز)، خبر الكنعانية (مت 15: 21- 28 وز)، دعوة إيليّا (مت 17: 10- 13 وز)، السؤال حول الطلاق الشرعي (مت 19: 3- 9 وز)، الإنباء بالمسحاء الكذبة (مت 24: 23- 25 وز)، كلمات يسوع الآرامية أو التعابير الآرامية التي نجدها في التقليد (مر 5: 41؛ 7: 34؛ 11: 10؛ 14: 45...). وهناك المعارضة بين الشريعة القديمة والشريعة الجديدة التي شدّد عليها متّى (17:5 ي)، فتركها لوقا. وهناك المقابلة بين بر الفريسيّين وبر المسيحيين، كما أن هناك تنبيهاً بأن لا يذهب الرسل (أقلّه في فترة أولى) إلى الوثنيّين (مت 10: 5).
كل هذا أغفله لوقا. ولكنّه في المقابل أوضح الشمولية التي تتضمنّها بعض التقاليد. وصل متّى في سلسلة نسبه إلى داود وإبراهيم. أما لوقا فربط يسوع بآدم (38:3). أنشد الملائكة السلام لا للشعب اليهودي وحسب، بل لجميع البشر: "السلام للبشر الذي يحبون الله" (2: 11). وحين أورد نبوءة أشعيا، وصل بها لوقا إلى النهاية: "فيرى كل بشر (جسد) خلاص الله" (3: 6؛ رج أع 2: 21؛ 28:28). منذ البداية، نقرأ في نشيد سمعان الشيخ أن هذا الولد سيكون "نوراً يتجلىّ للوثنيّين" (2: 32؛ رج 13: 28- 29 = 8: 11- 12). وفي النهاية نعرف أن على هذا الإنجيل أن يُعلَن في كل الأمم (24: 47؛ رج مت 28: 19- 20).
إمتدح يسوع إيمان الضابط الوثنىِ (7: 9= مت 8: 10)، وأظهر أن السامري (الذي يعتبره اليهودي وثنياً) أفضل من الكاهن واللاوي في ممارسة الرحمة (10: 25- 37). وذلك السامري الغريب، قد تميَّز عن التسعة الباقين: "عاد وحده وهو يمجّد الله" (17: 11- 19).
هـ- إنجيل الحنان والصلاح
قال القديس بولس: ولمّا تجلىّ لطف الله ورحمته (تي 3: 4). وقال أيضاً: في نظر الله، لا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حر، لا رجل ولا إمرأة (غل 28:3). لقد صار المسيح الخفي ظاهراً للجميع (كو 1:26 - 27).
فالخطأة وجدوا في يسوع صديقاً لهم (7: 34= مت 19:11)، لا يخاف أن يتعامل معهم (27:5، 30 وز؛ 15: 1 ي). لقد أبرز لوقا ما أورده التقليد المشترك، وأتبعه بخبر زكّا: "دخل بيت رجل خاطئ ليقيم عنده" (7:19). بالإضافة إلى ذلك أكّد يسوع أن الخطأة هم حصّة الله، على أثر توبتهم (15: 1- 32) وبفضل طول بال الله وصبره. هنا نقابل بين التينة التي لُعنت فيبست عند متّى (18:21- 22= مر11 :12 - 14)، وبين تلك التي لم تثمر فأعطيت مهلة سنة كاملة قبل أن تقطع (لو 6:13-9).
لم يغفر يسوع فقط للمخلّع (20:5 وز)، بل للخاطئة في بيت سمعان الفريسي (7: 36- 50)، وللمسؤولين عن موته (23: 34). بكى بطرس حين نظر إليه يسوع وهو في المحاكمة (22: 61)، ونال اللص الفردوس الخلاصي ساعة قال: "أذكرني" (23: 39- 42). وقرعت الجموع صدرها حين عادت من الجلجلة (48:23). الجميع يستطيعون أن يُصلُّوا مثل العشار: "اللّهم إرحمني أنا الخاطئ" (18: 13).
والنساء اللواتي إحتقرهن العالم يحتللن عند لوقا مكانة مميّزة. هناك مريم العذراء واليصابات وحنة النبية وأرملة نائين (7: 11- 17). هناك الخاطئة التي جاءت إلى بيت سمعان (7: 36- 50؛ رج 26: 6- 13 وز)، والنساء اللواتي تطوّعن مع يسوع (8: 1- 3) وتبعنه حتى الصليب (23: 49 - 55؛ 24: 10- 11). وهناك مرتا ومريم الأختان اللتان جمعتا الصلاة إلى العمل (10: 38- 42) والمرأة التي هنَّأت أم يسوع (11: 27-28)، والمنحنية الظهر التي وضع يسوع يده عليها فانتصبت من وقتها وأخذت تمجّد الله (13: 11- 17). ولا ننس نساء أورشليم اللواتي كن يضربن الصدور وينحن عليه فيعبرّن عن موقف كل الذين رأوا في يسوع نبياً ذاهباً إلى الموت. وفي النهاية، نرى النسوة في أمثال لوقا. في 15: 8- 10 ننظر إلى المرأة تبحث عن درهم أضاعته. وفي 18: 1- 8 نرافق هذه الأرملة التي لا تتراجع حتّى يعطيها القاضي الظالمُ حقها.
والغرباء هم موضوع إهتمام يسوع. أراد يعقوب ويوحنّا أن تنزل النار من السماء وتأكلهم، فانتهرهما يسوع (9: 54- 55). وهؤلاء الغرباء هم مثال يحتذى به: الضابط الوثني هو موضوع إعجاب يسوع (7: 9)، والسامري المنبوذ هو ذلك الذي "يقدّره" العالِمُ بالشريعة ويحاول أن يعمل مثله (10: 36- 37)، والسامري الأبرصَ الذي عاد يمجّد الله جعل يسوع يتساءل: أين التسعة؟ أما كان فيهم من يرجع ويمجّد الله سوى هذا الغريب (17:17- 18)؟
هذا هو القطيع الصغير الذي يستطيع أن يعيش من دون خوف، لأن الملكوت هو له (12: 32). وهو يتألف من الصغار، لا من الحكماء والأذكياء (10: 21). فابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلّصه.
غير أن حنان يسوع هذا ليس رخاوة وتدليعاً للناس. فهناك كلمات قاسية للسعداء في هذا العالم: الويل لكم أيها الأغنياء، الويل لكم أيها الشباع، الويل لكم أيها الضاحكون، الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس (6: 24- 26). وهناك تنبيه إلى الذين يرفضون التوبة: "إن لم تتوبوا تهلكوا بأجمعكم" (13: 1- 5)، وتهديد للتينة العقيمة (9:13)، وتوضيح لمصير الغني الذي تجاهل الفقير الملقى عند باب داره (16: 19- 31)، وبكاء على أورشليم (19: 41- 44)، وجواب إلى نساء أورشليم: "ستأتي أيام يقول فيها الناس: طوبى للعواقر، طوبى للبطون التي لم تلد، وللثُدي التي لم تُرضِع" (29:23).
و- الإنجيل قاعدة حياة
* إنجيل لوقا يجعلنا في إطار إجتماعي.
حين يفصّل يوحنّا للجموع وللعشارين والجنود بمَ يقوم واجبهم اليومي (10:3- 14)، فهو يقول: مَن عنده قميصان يعطي من ليس له قميص. من كان عنده طعام فليعط من ليس عنده. والعشار لا يجبي أكثر مّما فُرض له. والجندي لا يتحامل على أحد ولا يظلم أحداً.
ويقول يسوع في "خطبة السهل": "أعط دوماً لمن يسألك" (6: 30). "كونوا رحومين" (36:6)0 أعط كيلا مفصّلاً بحُبّ. في كل وقت، لا من أجل الدينونة فقط (38:6).
نحن ندعو إلى مائدتنا المساكين قبل الأغنياء، لئلاّ ننال المكافأة في هذا العالم (14: 12- 14). والهوة التي حفرها الغني خلال حياته على الأرض بينه وبين الفقير، هي باقية في الآخرة: "بيننا وبينكم هوة عميقة. فالذين يريدون الإجتياز إليكم لا يقدرون" (16: 26). وحين احتقر الفريسي في قلبه العشَّار (والخطأة) إنفصل عن سائر البشر، وبالتالي إنفصل عن الله نفسه. فخسر رضى الله، لم يتبرر (18: 14).
* إنجيل الأغنياء والفقراء
أشار لوقا إلى أن عدداً من الأغنياء تبعوا يسوع: يوسف الذي من الرامة (23: 50)، زكّا العشار (19: 2، 8)، وحنة إمرأة مدير الخزانة لدى هيرودس (3:8). ولكنّه لا يقول ما قاله مر 10: 21: نظر يسوع إلى الشاب الغني وأحبه.
فأصدقاء يسوع هم الفقراء. لم يأت إليه المجوس ليسجدوا له، بل الرعاة (8:2). ولم تُدفَع عنه فديةُ الأغنياء، بل فدية الفقراء: زوجا يمام أو فرخا حمام (2: 24). المثال الذي يقدّمه هو لعازر الفقير (16: 20) والأرملة المسكينة التي لم تعطي الفائض، بل جميع ما تملك، وهو ما تحتاج إليه من أجل معيشتها (4:21). ويسوع نفسه ليس له موضع يُسند إليه رأسه (58:9= مت 8: 20).
قال يسوع: "طوبى للفقراء". وقال: "الويل للأغنياء". فلوقا لا يحصر كلامه في الوجهة الروحية للفقر، بل هو يشدّد على واقع الفقر الملموس وما يصنعه الله من أجل الفقراء والأغنياء. "حط المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين. أشبع الجياع خيراً والأغنياء صرفهم فارغين" (1: 52- 53).
البشارة تُحمَل إلى الفقراء (4: 18؛ 7: 22 وز). فهم سعداء (6: 20)، ويدخلون "من دون واسطة" إلى ملكوت الله الذي هو لهم منذ الآن. أما الأغنياء فهم تعساء ويجدون نفوسهم في وضع سيء. هم يجمعون الكنوز لنفوسهم لا من أجل الله (12: 21). وهكذا ينسون ربهّم (12: 13- 20: الغني الجاهل)، ويتجاهلون إخوتهم (16: 19- 31). والفريسيون ليسوا فقط منغلقين على ذواتهم مكتفين بقداسة أعمالهم (18: 14). إنهم علاوة على ذلك "يحبون المال" (16: 14). ولكن ما هو موضوع تقدير كبير لدى الناس هو موضوع كره لدى الله (16: 15).
إذن، مامون (إله المال، هو يعطي الأمان والثقة بالنفس) هو ظالم. نستطيع أن نستعمله بمهارة فنوزّعه على فقراء سيصيرون أصدقاءنا (9:16). ونستطيع أن نتعامل معه بالأمانة وكأنه خير غريب أوكلنا الله به (16: 10- 12). ولكن لوقا يعلن بشدة: لا تستطيعون أن تعبدوا في الوقت نفسه الله والمال (16: 13).
* إنجيل التجرّد والكفر بالذات.
يبدو التجرّد في التقليد المشترك نتيجة سر الفصح. فهناك رباط واضح بين الإنباءات بالآلام والشروط لاتباع يسوع. فبعد الإنباء الأول (9: 22: "يجب على إبن الإنسان أن يعاني آلاماً شديدةً")، قال يسوع للناس أجمعين: "من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني... ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وفقد نفسه أو خسرها" (23:9- 25 وز). نحن هنا أمام قاعدة دائمة في حياة المسيحي: يزهد كل يوم، يتجرّد كل يوم، يحمل صليبه كل يوم.
نتخلّى عن كل شيء، ولا نستند إلى المال (13:12- 21)، بل نجعل ثقتنا كلّها في الله الذي يهتم بنا ويؤمّن لنا "خبزنا كفاف يومنا" (12: 22- 32). لهذا، بيعوا أملاككم وأعطوها صدقة للمساكين (12: 33؛ رج مت 6: 19-20).
هناك شروط تفُرض على التلميذ الذي يريد أن يتبع يسوع، ترد عند الإِزائيّين. ولكن لوقا زاد: "يجب أن يبغض الإنسان إمرأته ونفسه" من أجل ملكوت الله (29:18). نحن هنا في عبارة قريبة ممّا نقرأ في متّى (19: 12) عن الذين كرّسوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات (خصيان من أجل ملكوت الله).
ويزيد لوقا: من لا يتخلّى عن جميع خيراته لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً (16:14، 23). هناك تشديد على لفظة "كل" "جميع". حين تبع التلاميذ الرب تركوا "كل شيء" (5: 11). ودعا يسوع لاوي "فترك كل شيء" (28:5). كما دعا الوجيه الغني فقال له: "بِعْ جميع ما تملك ووزِّعه على الفقراء" (22:18). ولكن الغِنَى منعه من هذا التجرّد. فكان له الغم والحزن بدل الفرح. أجل، كل عودة إلى الوراء، كل نظرة إلى الوراء هي موضوع شجب ولوم: "من وضع يده على المحراث والتفت إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله" (9: 62). لا يستطيع الدخول إلى هذا الملكوت، وبالأحرى لا يستطيع إعلانه. إنه في رفقة الموتى (9: 60) الذين لم يجدوا حياة الملكوت.
هذا هو القديس بوقا. إنه إنجيلي مخطط الله وقصده في البشر. وهو في الوقت عينه ذلك الذي يحدد بطريقة ملموسة متطلبات التعليم الإِنجيلي. يذكرّنا أنه علينا أن نحمل صليبنا كل يوم. ولكنّه يبيّن لنا في الوقت عينه أن الروح القدس يعمل فينا، وأن الروح الذي تفيضه فينا البشارة هو أعظم عطايا الله.