الفصل الثاني والعشرون إنجيل الطفولة

الفصل الثاني والعشرون
انجيل الطفولة
الآب افرام سقط الدومنيكي

أ- مقدمة عامة
يبدأ متّى ولوقا بسرد قصة الحبل بيسوع وولادته وطفولته. بالرغم من تواجد أوجه الشبه بين الروايتين، من حيث ان كلا منهما يحتوي على فصلين، الاّ ان رواية الطفولة في انجيل لوقا أطول مما هي عند متّى.
ان التعبير الذي اطلق على هذه الفصول تحت عنوان "انجيل الطفولة"، اصبح مألوفاً وشائعاً، وسوف استعمله، وان كان تعبيراً غير ملائم اطلاقاً، على هذه الفصول التي تروي طفولة يسوع. اذ انه في متّى 2 وفي لوقا 2/ 1- 40 فقط، نجد إشارة إلى طفولة يسوع، في حين ان الفصل الاول، في متّى ولوقا، يتضمن قصصاً تصف الفترة التي تسبق الولادة. كما ان لوقا 2/ 41-52، يروي جانباً من حياة يسوع وهو في الثانية عشرة من عمره.
ان التعبير لـ "انجيل الطفولة"، غير ملائم، اذ انه لا يحق لنا أن نقرأ هذه الروايات بمعزل عن باقي نصوص الانجيل الذي وردت فيه، أو كأنّها مستقلة عنه. إنها ليست انجيلاً منفرداً، وإن اختلفت في اسلوبها الانشائي عن بقية روايات الانجيل. علينا ان نقرأها مع سيرة احداث حياة يسوع كبشرى خلاص، ولا نجعلها حدثاً مستقلاً عن طفولة يسوع. انه لمن المؤكد أن هذه الروايات لا تنتمي، شأن الروايات الواردة في متّى ولوقا، إلى الفولكلور، بل الى التفكير اللاهوتي، كما نقرأ ذلك في مطلع انجيل مرقس 1/ 1، أو نشيد يوحنا للكلمة 1/ 1- 18.
يمكننا اعطاء تشبيه لفهم هذه الرويات: إن بعض الافلام السينمائية تتناول احياناً في مقدمتها أهم المواضيع. ثم يستخدم المخرج اسلوب "العودة الى الوراء" (باك فلاش)، فيبتدئ العرض بحدث الفِلم الاخير، كما لو كانت بداياته. وهكذا يستخدم متّى ولوقا هذا الاسلوب، إذ انهما يضعان في الفصلين الاولين لانجيلهما ممثلي الانجيل الرئيسيين ويقولان لنا من هو يسوع.
يشير متّى الى معنى مؤلَّفه في المقدمة التي استهلّ بها رواية طفولة يسوع (1-2) وفي الخاتمة التي يختتم بها انجيله (28/16-20). فـ "عمانوئيل " الذي بُشر به يوسف (1/ 23)، سيبقى حاضراً الى نهاية العالم (28/ 20). واذ يقبل يوسف الطفل، وهو من نسل داود، فإن زيارة المجوس تبدو كإشارة الى قبول الوثنيين للبشارة. وكذلك فإن اورشليم ورؤساء الكهنة وهيرودس ينبذون يسوع ويضطهدونه، ويسعى هيرودس لان يقتل الطفل مع اطفال بيت لحم، ويهرب يسوع الى مصر، ثم يلجأ الى الجليل الذي يرمز الى موطن الامم. فرواية الطفولة هي مأساة وهي مثال سابق للموت والقيامة وهي اعلان البشارة للأمم.
ويعرض لوقا في المقدمة مسبقاً، جميع مواضيعه الكبرى التي يعالجها: اورشليم مدينة الخلاص بها يبدأ الانجيل (1/ 9، 2/ 22، 41) وإليها يسيِّر حياتها كلّها 9/ 5-19/ 28 وفيها يموت ويقوم (24/ 46-53). يسوع هو ابن داود، وابن الله الذي تستقبله مريم. دور الروح القدس (11/ 26 - 3). دور النساء: مريم، ام يسوع واليشباع، ام يوحنا، وحنة النبية، ورفيقات يسوع، ومرتا ومريم ... الصلاة والاناشيد: نشيد مريم (1/ 46-55)، ونشيد زكريا (1/ 67-79) ونشيد الملائكة (2/ 14) ونشيد سمعان الشيخ (2/ 29-35)، ونشيد الشعانين (20/ 38). والصلاة في الهيكل، واذلال الاغنياء والمتكبرين ورفع المتواضعين (1/ 39-56)، واسم يوحنا الذي يعني "الرب الحنّان"، وافتقاد الله لشعبه (1/ 57-80). والفرح بمولد يسوع (1/ 14، 2/ 10). البشرى للفقراء (الرعاة هم اوّل الساجدين ليسوع). الاعلان عن يسوع كمخلّص ومسيح ورب. المجد الذي يشع من هذا الطفل على الجميع. في ذروة روايته لطفولة يسوع نجد الهيكل. وأول كلمة استعملها يسوع تتوجه إلى الآب. وكذا نقول عن صعود يسوع الأول الى اروشليم والذي يوحي بالصعود الاخير.
واذا قمنا بدراسة مقابلة في اعمال الرسل لوجدنا أن الفصلين الاولين يشيران أيضاً إلى ولادة الكنيسة.
إن روايات الطفولة تتسم بظاهرة التأليف المتأخر. ولهذا نجد أن هذه الفصول تختلف عن بقية الانجيل. والسبب هو أن الجماعات الاولى لم تكرز بها ولم تتناقلها. فأنّ المادة الرئيسية في تركيب بنية الانجيل، كما وردت في ذاكرة جميع الذين رافقوا يسوع في حياته العلنية، تتمحور حول موت يسوع وقيامته، وحول خدمته وأعماله والآيات التي عملها (اعمال 1/ 22؛ 10/ 41). كما ان الذين لم يكونوا شهود عيان ليسوع، تسلموا هذا التقليد الذي وصل اليهم. هذا ما سيؤكده بولس مرات عديدة (1 قو 23/11 و 15/3) فالنصوص التي تتحدّث عن طفولة يسوع قد دُوّنت في وقت لاحق. فالانجيل بحسب مرقس، وهو اول انجيل دوّن، لا يتحدث عنِ طفولة يسوع. كما ان يوحنا الذي كُتب متأخراً، فقد ظل صامتاً حول أحداث الطفولة. ولكن متّى ولوقا يرويانها علينا، كل بحسب طريقته. فهنالك ما يقرب من ثمانين سنة تفصل ما بين روايات الطفولة والحدث التاريخي نفسه.
ان هذه الروايات تعتمد اسلوباً ادبياً يختلف تماماً عن بقية نصوص الاناجيل. إنها تُدخلنا بطريقة تدريجية إلى اكتشاف هوية يسوع كمسيح واله. فإن متّى ولوقا قد أكثرا من الالقاب المشيحانية والالهية في قصص الطفولة. فكلاهما يقدمان طفولة يسوع في رؤية متكاملة عن دوره كمخلص.
نستطيع ان نلخص المشكلة التاريخية الرئيسية على الشكل التالي: نحن امام روايتين تختلف الواحدة عن الاخرى وكل محاولة لتكوين نص ثالث يكون مزيجاً من الاثنين، سيشوِّه النصوص ويقدم عملية متناقضة للفكر الإِنجيلي. وغالباً ما يظن عامة الناس انهم يعرفون هذه الروايات معرفة جيدة، فيخلطون بينها ويبنون قصة متكاملة من تجميع الاناجيل، كما هو وارد في قصة الالام حيث تكوّنت قصة من "الانجيل المجمّع" (اونكيليون مخنشو). هذا بالاضافة الى الزيادات على روايات الانجيل والتي اتتنا من الاناجيل غير القانونية.
علينا ان نقرأ كل رواية على حدة وكما وردت في كل انجيل، دون أن نتخيّل روايات اخرى، هي من نسج التقوى. بهذه القراءة نكون قد ربحنا الكثير، إذ إننا سنكتشف كل رواية وكأننا نقرأها للمرة الاولى.
بدأت اناجيلنا المكتوبة بتقديم وصف الالام. وأقدم مثال على ذلك، هو انجيل مرقس الذي يبدأ بلقاء غير منتظر بين يسوع ويوحنا، على ضفاف الاردن، وينتهي بإعلان الملاك للقيامة عند القبر الفارغ (16/ 1-8). لا يقول مرقس اي شيء عن طفولة يسوع وحداثته.
فمن خلال مراحل تكوين الاناجيل وصياغة مواده الرئيسية، تم الاختيار والتركيز على كون رسالة الخلاص قد بشّر بها وتم نقلها عن طريق تعليم الرسل. أما المسائل المتعلقة بشخص يسوع، فأنها لم تحتل، في فكر الرسل، المرتبة الاساسية، لان تفسير حياته غير العادية، يبدأ بالموت، ثم القيامة واكتشاف سرّ هذا الرجل واهتدائهم اليه.
ان فهم فحوى الانجيل بهذه الطريقة يجنّبنا المسائل التي تثير اعجاب الناس لاعتقادهم بأن الاناجيل هي حياة يسوع. وعدم ذكر طفولة يسوع عند مرقس ويوحنا لدليل واضح من أن روايات الطفولة ليست احداثاً حرفية حول ميلاد يسوع.
كل هذا يقودنا الى السؤال التالي: لماذا كُتبت روايات الطفولة؟ ولماذا أدخلت في انجيلَيْ متّى ولوقا لاحقاً؟
السبب الأول هو حب الاستطلاع والفضول اللذين لعبا دوراً مهماً في روايات الطفولة القانونية منها والمنحولة. احبّ المسيحيون ان يعرفوا أكثر عن ربّهم ومعلمهم: ان يعرفوا من هي عائلته، اجداده، محل ولادته، واليقين الثابت من ان الطفل، هو ابن الانسان. ان ما يشكل روعة حياة يسوع العلنية ارتبطت بالرجوع الى أصله. وقد يكون الدافع الآخر إلى تدوين روايات الطفولة هو الدفاع عن المسيحية الناشئة. يرى بعض المفسرين أنها نوع من الدفاع ضد انصار يوحنا. وفي رواية لوقا، نجد مثالاً في ولادة يوحنا الذي هو اقلّ شأناً من يسوع، لا بل إن يوحنا نفسه يقرّ بأن يسوع أكبر منه (1/41، 44).
اما النظرية الاكثر قبولاً فهي التركيز على أن الولادة تمت فعلاً في بيت لحم، وقد ادرجت كرّد فعل على الشك اليهودي حول مصداقية يسوع الذي قدم من ناصرة الجليل.
وعن الشك القائم حول الولادة الغير الشرعية، يأتي التأكيد على الحبل البتولي بمثابة تفسير لمثل هذه الولادة، وفي الوقت ذاته، يدافع عن الاتهامات الموجهة الى الأم، مظهراً بذلك قداسة الطفل. ان كثيراً من هذه العناصر تحتوي على تأويل دفاعي، والقسم الاخر، يظل تأويلاً لاهوتياً، في التطور الذي سبق رواية متّى التي جعلت توازياً بين يوسف، الاب الشرعي ويوسف المربي الذي حلم حلماً قاده الى مصر. وفي النص الذي يصف انقاذ يسوع من يد الملك الظالم، الذي قتل كل الاطفال الذكور، نجاته هذه ليست اقل مأساة من رواية نجاة موسى من يد فرعون الشرير. كل هذه التشابيه والذكريات الواردة في العهد القديم، استُخدمت كدفاع ضد التيار اليهودي المعادي للمسيحية، ووسعت فهم المسيحية من ان يسوع المسيح عاش من جديد تاريخ شعبه.
لو اقمنا مقارنة بين الروايتين بحسب متّى ولوقا، لرأيناهما تجيبان على الشك القائم حول مصداقية تاريخية الاحداث التي ترويها. إنَّ اوجه الشبه كثيرة بين الروايتين: 1) كانت مريم مخطوبة ليوسف، 2) كان يوسف من سلالة داود، 3) يبشّر الملاك بميلاد الطفل، 4) الحبل هو من الروح القدس، 5) لم يتم الحبل من خلال الزواج، 6) سمِّي الطفل يسوِع، 7) يسوع هو المخلّص، 8) تمت الولادة ولمّا عاش يوسف ومريم معاً، 9) كان الميلاد في بيت لحم، 10) وكان الميلاد في ايام هيرودس الكبير، 11) يعود الطفل الى الناصرة.
ولكننا، بالرغم من اثبات اوجه الشبه هذه بين هاتين الروايتين، فأننا نجد اختلافاً هاماً بينهما: يختلف النسب بين متّى ولوقا. ينفرد لوقا في روايته لزكريا واليشباع ويوحنا. الاحصاء يدفع يوسف للذهاب الى بيت لحم. وكذلك ينفرد في قصة الرعاة وتقديم يسوع الى الهيكل. اما متّى، فأنه ينفرد، هو ايضاً برواية ظهور النجم، ومؤامرة هيرودس على قتل يسوع، ومقتل اطفال بيت لحم والهرب الى مصر، والعودة من مصر الى الجليل/ الى الناصرة... وقد جرت محاولات للخلط بينهما: تواجد المجوس والرعاة معاً.
ولكن السؤال المطروح هو: ان كان هناك رواية واحدة، (او تقليد واحد) فكيف انشطرت الى روايتين مختلفتين؟ النظرية الشائعة هي أن متّى يكون قد اعتمد على ذكريات يوسف كمرجع لروايته، أما لوقا، فيكون، قد اعتمد على ذكريات مريم. ولكن هذه النظرية لا تجيب على السؤال مطلقاً. فمن جهة تكون مريم مسؤولة عن تزويد لوقا بالمعلومات ولم تخبره عن قدوم المجوس من المشرق؟ ولماذا لم تخبره عن حادثة الهرب الى مصر؟ ومن جهة اخرى، كيف ظل يوسف صامتاً، ولم تعلم مريم بالبلاغ الذي بلّغه اياه الملاك؟ هذه الاسئلة، وغيرها، تدعونا الى ان نأخذ بعين الاعتبار ان الروايتين مختلفتان في بعض الاحداث، وأهمها: في رواية لوقا، 1/ 26 و 2/ 39، نجد مريم وهي شابة في الناصرة، وان الاحصاء الذي امر به اوغسطس، جاء ليدل على ان الميلاد تم فعلاً في بيت لحم. ولكن متّى لا يذكر الناصرة. فمريم ويوسف، هما من بيت لحم، وفيها تتم الولادة. وكذلك نقول عن العودة الى الناصرة. ففي متّى تتم العودة بعد اللجوء الى مصر خوفاً من بطش هيرودس، في حين كان من المفروض ان تكون العودة الى بيت لحم، وليس الى الناصرة. اما العودة الى الناصرة، بحسب لوقا، فتتم بأمان وسلام، ومنها يبدأ يسوع رسالته، وهذا ما لا نجده في رواية متّى، إذ إن العودة جرت بعد مقتل الاطفال.
كل هذا يضطرنا الى التأكيد بأن غالبية الاحداث الواردة في كلتا الروايتين تفسَّر على ضوء قراءة النص قراءة تيبولوجية (نمطية): انها تأخذ معناها وعمقها وتفسيرها وامتدادها من خلال الاحداث والاشخاص الذين يرد ذكرهم في الكتب المقدسة، لا بل انها تتجاوز حرفيتها. فالمجوس الذين قدموا من المشرق، وقد قادهم النجم، هم تأويل موسّع، لمتى، عن بلعام. وهيرودس ليس الاّ توازياً لقصة موسى وفرعون مصر. وحلم يوسف يجد معناه في حلم يوسف بن يعقوب الذي باعه اخوته. ورواية زكريا واليشباع ليست الا نموذجاً لما رواه سفر التوراة عن ابراهيم وسارة.
فهل هذا يعني ان الانجيليين لم يرويا لنا حدثاً قد وقع فعلاً في الزمان وفي المكان؟ للاجابة على هذا السؤال، لا بد أن نشير الى أن الانجيلي مطّلع، وله المام في قراءة الحدث الذي يرويه على ضوء أحداث العهد القديم. انه اسلوب مألوف من قبل محرري العهد الجديد. وهذا ما قام به يسوع، اذ انه لم يكتفِ بقراءة الكتب، ولكنه اكتشف ما ينطبق عليه من خلال عمله، مجيباً بذلك على انتظارات الله ابيه والامال المسيحانية (لم تتحقق النبوءات حرفياً، بمعنى انها كانت قد اعلنت عنه، ولكن يسوع يكتشف يد الله من خلال ما يقوم به اليوم تجاه المرضى والعميان والموتى...).

ب- رواية الطفولة بحسب متّى
1- النسب بحسب متّى (متّى 1/ 1-17): ان الاسماء الموجودة في مقدمة انجيل متّى لا تنطبق وتسلسل النسب الوارد في العهد القديم. ان متّى ليس مؤرخاً ولا يهتم بالتاريخ. التاريخ بالنسبة اليه، ليس بالمعنى الحدثي ولكنه بالمعنى الاجمالي، استمرار لتدبير الله في تاريخ الانسان. انه رجل مؤمن، أي لا يهتم بالحدث فقط، بل يُضفي عليه معنى اجمالياً، حتى وان لم تنطبق كل احداث روايته على الواقع. فإدخال متّى ليسوع ضمن مسلسل تاريخي يعني استمرار مخطط الله.
يقتدي متّى برواية نسب الإنسان الاول (تك 5/ 1: "كتاب سلالة آدم"؛ 2/ 4 "نشأة السماء والارض). ان استعمال فعل ولد لا يشير فقط الى فعل الولادة، وانما إلى الصلة بالماضي. يسوع هو آدم وهو بالتالي يبدأ خلقاً جديداً. ان سفر التكوين يعرف نسل آدم، اما متّى فيعرف نسب يسوع. للنسب في عقليتنا الشرقية وفي بنية شعوبنا اهمية كبيرة؛ يركز متّى على ان يسوع آت من سلالة داود، وانه متجذر في تاريخ عائلة. يسوع يفتتح سفر تكوين جديد، يسوع يبدأ بشرية جديدة. فالقديم يجد معناه في يسوع المنحدر من شعب له تاريخه. انه يواصل مسيرة شعبه. فالماضي لا قيمة له الا بالنظر الى الحدث الجديد الذي يُضفي معنى على الماضي. ليست المهم ان كان تسلسل النسب صحيحاً، بل التشديد على عائلة يسوع البشرية. إن آدم يفتتح الخليقة، وفي يسوع يتم معنى تاريخ اسرائيل.
التاريخ بالنسبة اليه، ليس بالمعنى الحدثي ولكنه بالمعنى الاجمالي: استمرار لتدبير الله في تاريخ الانسان. انه رجل مؤمن، أي لا يهتم بالحدث فقط، بل يُضفي عليه معنى اجمالياً، حتى وان لم تنطبق كل احداث روايته على الواقع. فإدخال متّى ليسوع ضمن مسلسل تاريخي يعني استمرار مخطط الله.
إن تفسير عدد 14 ليس بذات أهمية. يسوع يأتي في ملء الأزمنة. كان هذا التيار السائد في الفكر الرؤيوي، وهو أن المسيح سوف يأتي في نهاية الأسبوع السادس، وهذا العدد يطابق ثلاث مرات أربعة عشر، الواردة في لائحة النسب.
أما وجود أربع نساء، فلدينا ثلاثة تفسيرات: 1) ثلاث نساء غريبات عن الشعب اليهودي، ولكنهن لعبن دورا في سلالة داود، 2) انهن غريبات ووثنيات، وهذا ما يشير إلى طابع الشمولية، 3) غالبيتهن من ذوات سيرة رديئة (زانيات، أو قد تم زواجهن بطريقة غير شرعية): إي بالرغم منٍ الخطأ، وُلد المسيح كباقي البشر، حاملاً ثقل الماضي وإن كان مثقلاً بالجراح. إن مخطط الله يتم وإن اجتاز في الإلتواءات البشرية.
2- متّى (1/18- 25): أقترح أن نضع عنواناً آخر لهذا المقطع عوضاً عن "حبل مريم بيسوع من الروح القدس". إن هذه الآيات لا تتحدّث عن الحبل العجائبي، بل عن إنتساب يسوع إلى يوسف ومن خلاله إلى داود. النص لا ينقل لنا كيف تم الحبل بيسوع، إذ إن متّى لا يهتم أبداً بمريم، بل يصّب إهتمامه كلّه على يوسف. فما يهم متّى هو تغلغل يسوع في عائلة بشرية، وفي سلالة داود. الغاية هي إذاً أعطاء الشرعية لهذا الطفل الذي سيُولد. السؤال المطروح هو: كيف يمكن أن يكون هذا الطفل إبناً لداود ووريث عرشه؟ لا شك في أن النص يتمحور حول الإجابة على الإدعاءات التي كانت موجهة إلى تلاميذ يسوع والقائلة بأن المسيح ليس إبن الله.
3- متّى (2/ 1- 12): قدوم المجوس وسجودهم ليسوع. إن هذه اللوحة تليها لوحة أخرى، لا تقل عنها أهمية: يسوع في مصر، إستشهاد أطفالا بيت لحم والرجوع من مصر والإقامة في الناصرة. يشكل الفصل الثاني من متّى وحدة متكاملة. إنه يتكون من أربعة مشاهد تؤلف المراحل الأربع لقصة واحدة: إنها قصة يسوع وهو يجسد حياة إسرائيل بكاملها. إنه يعيش مأساة شعبه. ولكن الباب ينفتح للأمم، إذ إن إسرائيل هذا لا يقتصر على الشعب اليهودي، بل يدعو اليه جميع الأمم.
من المؤكد أن الغرض الأول والرئيسي من الفصل الثاني هو رواية هيرودس ومحاولته قتل الطفل يسوع. تعود كل هذه اللوحات إلى التوسع المدراشي (درس في العربية). بالرغم من ورود أسماء أمكنة، يُمكن أن تحدَّد جغرافيا، إلا انه ليس مهماً التوقف عليها. "إن هذه المعطيات التاريخية لم يتلقها متّى كما هي. لقد كانت منسوجة في توسعات صيغت في الوسط اليهودي المتنصِّر ممّا يشكل المرحلة الأولى في التدوين والتنميق. ونعرف جيداً، عن طريق الأدب اليهودي في ذلك العصر، طبيعة النوع الأدبي المعروف بـ "الهجاده"، إذ كان يُروى فيها تاريخ العهد القديم مع تعديلات لإبراز بعض ملامحه. ولدينا مدراشيم (جمع مدراش) من هذا النوع تعود إلى ما قبل المسيح في "كتاب اليوبيلات" الذي يروي من جديد تاريخ الآباء حتى موسى... وقد نقل إلينا أيضاً التقليد اليهودي مدراشيم متعدّدة من هذا النوع وهي تتعلق بإبراهيم ويعقوب وموسى وشخصيات أخرى، وقد يعود بعض منها إلى زمن الأناجيل أو ما قبل. وغالباً ما كان لتلك النصوص مكانتها في طقوس الأعياد الكبرى وطقوس عيد الفصح بنوع خاص. فنفهم بالتالي أن يكون اليهود المتنصّرون، وهم ينتمون ثقافياً إلى يهود عصرهم، قد رووا مشاهد حياة يسوع بالأسلوب نفسه. ويبدو أن قصة المجوس تعود إلى ذلك النوع المدراشي الذي يقوم على التوسع في معطاة تاريخية. ولدينا في هذا النص عدة ملامح تبدو قليلة الإحتمال تاريخياً ويمكن تفسيرها بهذه الطريقة على أنها مستوحاة من المدراشيم اليهودية.

ما معنى الأحلام؟
في الفصل الأول يظهر الملاك ليوسف في الحلم ليبشره بأن مريم قد حبلت من الروح القدس، وفي الحلم أُوحي للمجوس ألا يعودوا إلى أورشليم، وفي الحلم أيضاً، يظهر الملاك مرة ثانية ليوسف مبلّغاً إياه أن يهرب إلى مصر، بسبب تهديدات هيرودس، وفي المرة الثالثة يبلغه بأن يعود إلى إسرائيل. إن "ملاك الرب" (تك 16/7، 22/ 11، خر 3/ 2، قض 2/ 1) أو "ملاك الله" (تك 21/17/ 31/ 11، خر 14/19)، لا يشير إلى كائن مخلوق، بل هو الله نفسه. إن هذه التسمية تدل على تدخل الله نفسه.
ولقد أشار يوسيفوس فلافيوس في كتابه "العادات اليهودية" أن الله ظهر في الحلم لعمران والد موسى ليبشره بمولد إبن له. وتأتي مذبحة الأطفال الذكور من اليهود مباشرة بعد ولادة موسى. يوسف بن يعقوب يحلم ويباع فيسكن في مصر. وفي هجاده فصحية يهودية ذُكر أن الله يوعز إلى يعقوب في الحلم ليهرب إلى مصر خوفاً من لابان. إن كل هذه المقابلات تدهشنا وتدعونا إلى الإشارة، هنا، من أن اليهود المتنصرين كانوا مطلعين على تلك الهجاده، وقد استوحى متّى منها، ليروي طفولة يسوع.
وهناك ميزة أخرى تميّز المدراشيم، الا وهي أنها مطعمة باستشهادات من العهد القديم، الأمر الذي يفسر بسهولة في جماعة مسيحية يشكل فيها العهد القديم الكتاب الأساسي، لا بل تحفظه، لكثرة سماع تلاوته.
الفصل الثاني لمتّى هو صدى لتلك الذكريات: إن المأساة التي اتسمت بها حياة يسوع ورسالته تبدأ منذ اليوم في المجابهة التي حدثت بين الملك هيرودس- ومعه رؤساء أورشليم الدينيون- والملك الذي أبصر النور. وبينما يقابل اليهود يسوع بالرفض، يسجد له الوثنيون، كما ستفعل الجماعة التي تحتفل بيسوع وهو قائم من بين الأموات. وفي هذا المعنى تتم نبوءة النبي أشعيا الذي رأى جمهور الوثنيين يدخلون أورشليم وقد استنارت بمجد الله (أش 60 و 62).
ويتمّ يسوع الخروج من مصر (2/ 13- 15). في نظر هوشع (11/ 1)، الإبن هو إسرائيل. يسوع هو إسرائيل الحقيقي الذي سيحقّق ذلك الخروج من مصر، ويهدي إلى أرض جديدة، ليست أرض الميعاد، كما في السابق، بل إلى ملكوت الله.
4- إستشهاد أطفال بيت لحم (2/ 16- 18): سال الدم في إسرائيل، فكان رمزاً مسبقاً للصليب. ونجا يسوع كما نجا موسى من فرعون. ويشير الإستشهاد بأرميا 31/ 15 إلى بكاء راحيل على أولادها من سبطي افرائيم (تك 30/ 22- 24 و 41/ 52) وبنيامين (تك 35/ 16 - 18)، يوم نفوا من رامة إلى بابل (ار 40/ 1)، ويرى متّى في أطفال بيت لحم أولاداً لراحيل، لأن قبر راحيل، حسب تقليد كتابي (تك 35/ 19 و 48/7) هو بالقرب من بيت لحم.
5- الإقامة في الناصرة (2/ 19- 23): رأى متّى في هذه الإقامة إتمام الأنبياء على وجه العموم. لم يرد هذا النص لدى الأنبياء المعروفين، ولا ندري من أين أتى به متّى. ويزيد الأمر تعقيداً أن لكلمة "ناصري"، قراءات مختلفة. فنسبت إلى مدينة الناصرة (متّى 21/ 11، يو 1/ 45، رسل 10/ 38). أو إلى بدعة الناصريين (رسل 24/ 5). وقُرئت بمعنى الشخص النذير والمكرس للرب (عد 6، قض 13/ 5). وقد رأى قسم من المفسرين أنها تشير إلى "جذر يسّى" (أش 11/ 1)، أو إلى كلمة عبرية تعني "البقية" (أش 42/6، 49/6)، أي البقية التي ظلت أمينة من شعب الله. فهل يكون يسوع، في نظر متّى، بعد عودته من منفاه، وعيشه الخفي في الناصرة، رمزاً للبقية الأمينة التي ينبثق منها شعب الله؟ إن تدخل الله وإبلاع يوسف بالعودة إلى مصر، يدعو إلى الذهاب إلى ما هو أبعد، إلى "جليل الأمم" (أش 8/ 23)، وفيه يتم اللقاء بين يسوع وشعبه (4/ 15- 16)، ومن الجليل، سيتم إرسال التلاميذ إلى جميع الأمم (28/ 16).

ج- رواية الطفولة بحسب لوقا
ينفرد لوقا بهذه الروايات، وهي تختلف عمّا يوازيها في متّى 1 - 2، وتتسم بعدة علامات مميّزة. وتكشف صياغتها الأدبية عن تواز بين يوحنا المعمدان ويسوع. فالحلقات تتجاوب إثنتين إثنتين، ما عدا مشهد لقائهما ومشهد ذهاب يسوع في سنّ الإثنتي عشرة سنة إلى الهيكل، وفيه سوف يلفظ يسوع عند أبيه أول كلمة قالها.
من خلال هذه الأساليب الأدبية، يُظهر لوقا الغاية المتوخاة من تلك الروايات، فهي تصف سرّ يسوع وتصف أيضاً رسالة يوحنّا المعمدان، في سلسلة بلاغات أدلى بها الملائكة. وتستوحي هذه الروايات إلى حد بعيد من العهد القديم (اليوناني) في لغته ومواضيعه وأقواله النبوية وحتّى في صياغة عناصره، ولا سيّما في البشارة إلى زكريا الى مريم، وفي النشيدين.

1- طفولة يوحنا ويسوع (1- 2)
هذا قسم خاص بلوقا، محدّد الموضوع والزمان. يستخدم أسلوباً أدبياً أشبه بأسلوب طفولة شمشون (قض 13)، وصموئيل (1 مل 1 - 2)0 اللوحة التالية توضح طفولة المعمدان ويسوع، معروضة بشكل يوازي بينهما:
الطفولتان
يوحنا المعمدان يسوع
1/5-25 البشارة إلى زكريا 1/26-38 البشارة لمريم
1/ 39- 56 الزيارة ونشيد مريم
1/57-58 مولد يوحنا المعمدان 2/ 1- 20 ميلاد يسوع
زيارة الجيران زيارة الرعاة
1/ 59- 79 الخَتان 2/ 21 الختان
22-28 تقدمة يسوع إلى الهيكل
نبوءة زكريا نبوءات سمعان وحنة
نشيد زكريا نشيد سمعان
- 80 حياة يوحنا المعمدان المخفية 2/ 39- 40 حياة يسوع في الناصرة
41-52 يسوع في الهيكل في الثانية
عشرة من عمره
من المحتمل أن يكون لوقا قد استقى خبر البشارة بالمعمدان من تلاميذ يوحنّا، الذين كانوا يشيدون بدور معلّمهم المعدّ للمسيح الآتي. ولربما استقاه من أسرة زكريا. ولكن لوقا يقولب الحدث في أسلوب أدبي مألوف في العهد القديم الذي يعبّر عن ظهورات الرب، وعن البشارة بولادة رجال عظام، قد لعبوا دوراً كبيراً في تاريخ الخلاص. ولنا نماذج من هذه الظهورات في (تك 17/ 15- 21)، وشمشون (قض 3)، وصموئيل (1 مل 1).
أما البشارة لمريم (1/ 26-38): إنه أول نص يحدثنا فيه لوقا عن مريم. في هذه الرواية ينقل الملاك كلمة الله إلى مريم. أتبع لوقا، مرة ثانية أسلوب البشائر، كما في العهد القديم، حيث نجد القالب المألوف لإيصال البلاغ: 1) عرض المشهد (26- 27)، 2) تحية الملاك (28)، 3) الإضطراب (29)، 4) البلاغ (30- 33)، 5) إعتراض (34)، 6) تابع البلاغ (35)، 7) العلامة (36-38)، 8) إنصراف الملاك.
في التحية الإفتتاحية، نرى جبرائيل، وهو ملاك البشارة المسيحانية (دا 9/ 21- 27)، يدعو مريم إلى الفرح (صف 3/ 14- 17 وزك 9/ 9)، وكأن في ذلك كشفًا ضمنيًا بأن الأزمنة المسيحانية افتتحت. فالموضوع يتعلّق بالتحية في مطلع اللقاء بمريم. فالفظة اليونانية قد تعني مجرد السلام والتحية. ومقابلها بالآرامية والعبرية "شالوم" ، أو "سلام" ، وتتخذ هذه العبارة عند الأنبياء معنى "إفرحي". وقد اختارها لوقا، لأنه يكتب لقارئ يوناني، ولأن الكلمة تردد دعوة الأنبياء إلى الفرح بمواعيد الخلاص على يد المسيح. وإذ إن لوقا يضع هذه اللفظة على لسان الملاك، كان ينوي، من دون شك، أن يقدم لنا مريم كرمز لشعب إسرائيل الذي يبشّر بتحيين الحدث المسيحاني.
إن موضوع البشارة يتعلق بحلول الله الأخروي. سوف يشهد المعمدان لانتظار مجيء الله الوشيك. والبلاغ الموجه إلى مريم مفاده أنه قد حان وقت تحقيق هذا المجيء. يصف القسم الأول من البلاغ يسوع (الآيات 30- 33) بأنه المسيح المنتظر. ويستعمل لوقا الآية المألوفة في التبشير بالولادة، وربما يستقيها لوقا من أش 7/ 14، إذ إن الملاك يعد بأن الطفل سيملك على عرش داود أبيه (أش 9/ 6). أما سؤال مريم (34) الذي تفسّره الآية (45) بكونه إيماناً، يطلب الإستنارة، فإنه إنفتاح مريم على مزيد من الكشف. سيكون يسوع، "إبن الله" لأنه سيولد بواسطة تدخل إلهي فريد: ذلك بأن الروح القدس سيحلّ على مريم وأن قدرة العلي التي تجري المعجزات ستظللها.
وإلى ذلك العمل الإلهي يشير أيضاً وصف الطفل بـ "القدوس": أمومة مريم العجيبة تنبئ بحقيقة يسوع: إنه قدوس، وهذا وصف الهي، وأقدم تعبير عن الوهية المسيح في تقليد الكنيسة الرسولية (رسل 3/ 14/ 4/ 27، 30). وإنه ابن الله، وهذا وصف المسيح، لن يتضح معناه الكامل إلاَّ بعد القيامة.
إن البشارة لمريم تتضمن حقيقتين: الأولى هي أن الطفل هو المسيح المنحدر من نسل داود، ولكنّه أيضاً آدم الجديد. وتتخذ أمومة مريم البتولية معناها الكامل. والثانية هي أن مجيء الرب الذي بشّر به الأنبياء يتحقق في المسيح بالذات.
وهكذا فأن سرّ يسوع يُكشف عنه بكماله، منذ البشارة لمريم. ولكن علينا أن ننتظر أحداث الفصح وتبشير بولس ليشهد إنسان بأن يسوع هو إين الله (رسل 9/ 20 و 13/13).
2- ميلاد يسوع (1/2-21)
إن رواية ميلاد يسوع وختانته توازيها قصة ميلاد يوحنّا المعمدان (1/ 57- 66). وبينما رواية ميلاد يوحنّا تشدد على ختان الطفل (في الإتفاق غير المنتظر بين اليصابات وزكريا على إسم يوحنّا)، فإن الإهتمام بيسوع ينتقل إلى ميلاده، كما يفسّره بلاغ الملائكة.
قرأ النقاد رواية الميلاد وأعطوها تفسيرات متضاربة تتباين ما بين الذين يُعطونها طابعاً أسطورياً يرون فيها قصة مستوحاة من القصص الفرعونية المتعلقة بولادة اله، والذين يلجأون إلى الهجادة اليهودية المتعلقة برواية ولادة الشخصيات البارزة في العهد القديم. وهناك من يقر بوجود أساس تاريخي، وقد توسعت فيه أولاً الجماعة الرسولية، ثم جاء الكاتب لوقا وأدرج المشهد في إنجيله.
إن ابتكار لوقا في هذه الرواية هو في مقارنته ميلاد يسوع بمولد يوحنّا. التباين قائم بين الميلادين. فمن جهة، يوحنّا يولد في بيت ويرحب به الجيران والأقارب ويتحدّث به جميع الناس. أما يسوع فولد أثناء سفر، ولم يكن لمريم ويوسف موضع، فوضع في مذود للحيوانات. ولكن مجيئه هو بشرى الفرح المسيحاني للشعب كله. إنه "المخلص". المخلص هو الله (تث 32/15، عش 43/ 11 هو 13/ 4)... أو من يقيمه الله مخلصاً باسمه. ولقب "المسيح الرب" هو ابتكار من لوقا. ومن جهة أخرى يقوم هدف هذه الرواية على إثبات ولادة يسوع في بيت لحم. ويضيف لوقا أن بيت لحم هي "مدينة داود".
إن لوقا ينفرد في روايته للميلاد في المفردات التي يستعملها. إننا نلاحظ ورود عبارات مثل "بشر"، و"فرح"، وموضوع "التعجب"، وهذه مواضيعه هامة عند لوقا.

3- الأناشيد عند لوقا
أ- نشيد مريم (/46- 55): يذكر نشيد مريم بنشيد حنة، أم صموئيل (1 مل 2/ 1- 10)، وبأناشيد مماثلة في العهد القديم (صف 2/ 3- 4، مز 103، تث 7/ 6، تك 15/ 1، 17/ 1). إنه نشيد الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم، وضع على لسان العذراء تعبيراً عن شكرها وعن شكر الجماعة المسيحية كلها، ممثلة بمريم. ورأى مفسرون آخرون أن لوقا نقل نشيداً يهودياً تنشده إبنة صهيون التي أذلّها الرب وامتحنها، ثم رفعها وجعلها أماً لجماعة الله التي تنتظر المسيح المخلص (أش 54/1، 66/7- 12، مي 4/ 10، ار 4/ 31)، وقد جعلها أماً للمسيح (أش 7/ 14)، (مي 5/ 1- 2).
لدينا تكامل ما بين بشارة الملاك لمريم وما بين تحققها في هذا النشيد. إن النشيد يوحي إلينا أن على صنيع الرب لمريم أن يُفهم إنطلاقاً منٍ أعمال الله وصفاته عبر تاريخ الخلاص. ليس صنيع الرب لمريم أمراً يهم مريم فردياً، بل علينا أن ننظر إلى هذا الحدث الذي تعيشه مريم إنطلاقاً من مواعيد الرب لإبراهيم.
ب- نشيد الملائكة: النشيد قسمان في أكثر المخطوطات: "المجد لله في العلى" "والسلام في الأرض للناس أهل رضاه"، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: "المجد لله في العلى"، "والسلام في الأرض"، "للناس أهل رضاه". وقد جاء في الترجمة السريانية، "الرجاء الصالح لبني البشر". قد يكون نشيد الملائكة هذا نشيداً مسيحياً قديماً كنشيد زكريا ومريم، وقد يكون قسماً من نشيد (لو 19/ 38).
يرى جان دانيالو في نشيد الملائكة نوعاً من "ليتورجية الملائكة"، ويقارنها مع ما ورد في مخطوطات البحر الميت. "فموضوع مشاركة جماعة الصدوقيين بالتسبيح مع تسبيح جماعة الملائكة هو موضوع مألوف. وكان ذلك أسلوباً للتعبير عن أن الجماعة هي مكان تواجد الله". فحضور "جند السماء" أثناء ولادة يسوع ما هو إلاّ طريقة للتعبير عن حضور الله في طفل المذود. فنحن إذاً ازاء إثبات لاهوتي رئيسي، الا وهو إثبات الوهية الطفل. أما الصيغة التي يعرض فيها هذا الإثبات فتعود إلى تصوّرات مستمدة من الأدب الرؤيوي القمراني. وليست هذه هي الحالة الوحيدة التي يرتبط فيها، من الناحية الأدبية، المدراش المستعمل من قبل لوقا، بالوسط الصدوقي.
إننا نجد صيغة موازية للوقا 19/ 38 في امتداد لاستشهاد من المزمور 117/ 26. نجد الكلمتين، "السلام" و"المجد"، وترتبط التعابير بالحدث المسيحاني. لدينا هنا، ومن دون شك، صدى لصلاة الجماعة الأولى.
ج- نشيد زكريا (1: 68- 79): يشبه نشيد العذراء، ونشيد سمعان الشيخ، وهو نشيد شكر ورؤيا مستقبلية. قد يكون هذا النشيد يهودياً، أو مسيحياً في كنيسة أورشليم، وقد وضعه لوقا على لسان زكريا، وهو يقرأ في تاريخ شعبه.
إن لكلمة "أفتقد" دلالة خاصة، لا سيّما في كل مرّة يتدخل الله في حياة الشعب، أي زيارته ايّاه زيارة نعمة وبركة. يستعمل هذا الفعل خاصة في مجال الحديث عن الخلاص المسيحاني الأخروي.
إن نشيد زكريا يشبه نشيد مريم من حيث إنه مؤلف إستناداً إلى عبارات ومواضيع واضحة من الكتاب المقدس. إلاّ أن هذا النشيد يختلف عن نشيد مريم على أنه يصعب ضبطه في بنية أدبية متكاملة. فيوحنّا هو الشخصية الرئيسية والحديث في الآيتين هو عنه فقط.
د- نشيد سمعان: يشبه أناشيد العهد القديم، ولا سيّما أناشيد خادم الله المتألم (أش 42/ 6، 49/ 6)، يرى المفسرون صعوبة في تفسير نبوءة سمعان، وهي آخر نبوءة في رواية الطفولة. إن بنت صهيون ستتألم، وفي ذلك إشارة إلى آلام يسوع وإلى تاريخ شعب الله المتمزق من جرّاء هذا الحدث.
إن مريم هي في قلب هذا الصراع إلاَّ أن مريم تخرج منه كأم لإسرائيل الجديد، وتقوم وسط الكنيسة (رسل 1/ 14). إن لوقا يشير بشكل واضح إلى مكانة مريم وحضورها في قلب الكنيسة.
ما يميّز سمعان هو الإنتظار، إنتظار تعزية إسرائيل. والتعزية هي من علامات الزمن المسيحاني، كما جاء في أشعيا (40/ 1) والمعزي هو لقب من ألقاب المسيح. هو الروح القدس كما ملأ اليصابات وزكريا، فهو نزل عليه وجعله يرى في يسوع الطفل المخلص المنتظر "مسيح الرب" (1 صمو 24/7). هذا الذي شارفت حياته عتبة الموت يحمل على ذراعيه رجاء الأمم وحياتهم.
ينشد سمعان ما سوف يقوم به يسوع. إنه يرى بعينيه ما وعد الرب به لشعبه، فقد انتهى إنتظاره ويستطيع أن يقول "الآن أطلق، يا سيد، عبدك بسلام". إن سمعان رأى الخلاص الآتي من لدن الله، خلاصاً أخبر عنه أشعيا (أش 40/ 5). هذا الخلاص ليس مقصوراً على إسرائيل، بل سيصل إلى جميع الأمم (أش 42/ 6 و 49/ 6).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM