الفصل الحادي والعشرون الأناجيل الإزائية

الفصل الحادي والعشرون
الأناجيل الإزائية والتاريخ
الخوري بولس الفغاليّ

حين نطرح المسألة التاريخية في وجه الأناجيل، نجد نفوسنا أمام تيارين يقفان على طرفيَ نقيض. تيار أول يقرأ الإنجيل بطريقة حرفية ويخاف أن يتخلّى عن الحرف المكتوب. يخاف أن يصل إلى روح الإنجيل. وحين تحدثه عن المعنى الرمزي أو الروحي لمعجزة مثلاً، يسألك: إذن، لم تحدث هذه المعجزة؟ وتيار ثان ينطلق من وجه يسوع بعد القيامة فيترك التاريخ جانباً ويتعلّق بتأملات الكنيسة وتنظيماتها فينسى يسوع الذي وُلد في بيت لحم وعلَّم في الجليل والسامرة واليهودية قبل أن يموت في أورشليم. أما نحن فسنحاول أن نطرح المسألة عارفين أن واقع يسوع التاريخي لا شحك فيه. وأن ما عاشه وعمله لم يكن وليد الخيال عند الكنيسة أو الإنجيلي. ولكننا نعرف من جهة ثانية أن الذين يستندون إلى الواقع وينطلقون إلى المعنى الروحي، لا يتخلّون عن الواقع، ولكنهم يحاولون أن يتعمقوا فيه فلا يعود حديثنا عن الإنجيل كلاماً نردّده على ما فعل الأقدمون. لماذا نتمسّك بالماضي وننسى عمل الروح الذي ما زال يساعدنا لكي نستخرج من كنز الأناجيل كل قديم وجديد.

أ- مسألة يسوع التاريخية
1- سؤال وأجوبة
طُرح السؤال مراراً: هل نصل إلى يسوع التاريخ عبر ما تُحدّثنا عنه الأناجيل على ضوء الإِيمان بالقيامة؟ إن الرسل فهموا يسوع وأعماله وأقواله على ضوء القيامة، فهل شوّهت هذه النظرة واقعَ يسوع التاريخي؟
وتعدّدت الأجوبة. قال البعض إننا نستطيع أن ندرك يسوع أدراكاً حقيقياً. واعتبر آخرون أنه تمّ تحوّل في أقوال يسوع. ولكن معظمهم يعتبرون أننا من خلال الأناجيل نسمع حقاً كلمة المخلِّص نفسه. يسوع هو أساس الإِيمان المسيحي. وله فضلاً عن طابعه التاريخي مدلول يتجاوز التاريخ والعالم نجعله في هذه العبارة: إن يسوع يمثّل تدخل الله في صيرورة البشر.
أما جواب الكنيسة فكان واضحاً: نستطيع أن نثق بالأناجيل كوثائق تاريخية. فأصحابها هم شهود رسوليون: متّى الرسول، يوحنّا الرسول، مرقس تلميذ بطرس ولوقا تلميذ بولس.
شدّدت الكنيسة على التاريخية كواقع. ولكن يبقى علينا أن نتعرّف إلى الطريقة التي بها وصل إلينا هذا الواقع التاريخي.

2- برهان معروف
يقولون: صدرت الأناجيل عن كتَّاب صادقين وعالمين بالأمور. إذن، هي تاريخية. ولكن هذا البرهان لا يدلّ على الشكل الذي فيه تكونُ هذه الكتابات تاريخية. كما أنه يشدد على كتاب الأناجيل وينسى النقد الحديث: لم يكن كل من مرقس ولوقا شاهد عيان. وارتباطهما ببطرس وبولس لا يكفي لكي يؤمّن شهادتهما الحرفية. وإنجيل متّى لم يصل إلينا في نسخته الأصلية، بل في ترجمة، بل في نسخة جديدة.
نحن لا ننسى البراهين التي نجدها في التقليد. ولكن، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يستند تبرير تاريخية الأناجيل إلى النقد الداخلي للنصوص. لا نتوقف فقط على ما يقوله التاريخ عن الأناجيل، بل ندرس النص الإنجيلي في ذاته لكي نتعرّف إلى تاريخيته. في هذا المجال، هل نستطيع أن نسمِّي متّى ومرقس شهوداً بالمعنى الذي يتطلبه النقد التاريخي اليوم؟
حين ندرس النصوص نجد في الإنجيليين قبل كل شيء "خُدَّاماً للكلمة". إنهم يهتمون بنقل المعطيات كما تسلَّموها بعد أن بحثوا عن صحتها. هذه المعطيات فُرضت عليهم في أشكال محددة، فاختاروها وجعلوها في رسمة إجمالية تقليدية لم يتجاوزها إلا يوحنّا.
هذا ما قاله لوقا في بداية إنجيله: "لمّا أخذ كثير من الناس يدوّنون رواية الأمور التي تمّت عندنا، كما نقلها إلينا الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة، ثم صاروا عاملين لها، رأيت أنا أيضاً، وقد تقصّيتها من أصولها أن أكتبها لك مرتبة يا تاوفيلوس المكرَّم، لتتيقّن صحة ما تلقيت من تعليم" (1: 1- 4).
سبق مرقس لوقا، وسبقته مراجع أخرى. واتصل لوقا بالذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة وخداماً لها. تقصّى لوقا الأمور، تتبعها عن كثب ثم رتّبها وقدّمها إلى تاوفيلوس. نشير إلى أن الترتيب لم يكن في الدرجة الأولى زمنياً، بل لاهوتياً وتعليمياً.
أما رسمة الأناجيل الإزائية فنقرأها في خطبة بطرس أمام الضابط كورنيليوس وأهل بيته (أع 10: 37- 41). وهي تبرز في أربع مراحل : إستعداد يسوع للرسالة، الرسالة في الجليل، الصعود إلى أورشليم، الآلام والقيامة.
إنطلق الإزائيون من هذه الرسمة وجعلوا فيها موادهم. فإذا تطلَّعنا إلى الوصلات إستطعنا أن نعود إلى المرحلة السابقة للأناجيل الإزائية. حينئذٍ نتساءل: هل يُسأل الإنجيليون عن مواد وُجدت قبلهم؟ الجواب هو نعم. فقد تثبتوا من التقليد الذي وصل إليهم. هذا لا يعني أنهم فوق الكنيسة التي تنقله، بل إنهم تعرّفوا إلى الأشخاص الذين حملوا هذه التقاليد وحاولوا البحث عن أصولها.
أجل، هذا البرهان ينطلق من النقد الخارجي فيؤكد صحة الأناجيل ويستخلص تاريخيتها كنتيجة لهذه الصحة. ولكن يبقى أن نحدّد الشكل الذي فيه تبدو الأناجيل تاريخية.
3- كيف نعرض تاريخية الأناجيل الإزائية؟
هناك عدة مراحل تضم البراهين المعروفة وتجددها. ننطلق من القرن الثاني ونعود إلى الوراء حتّى نصل إلى التقليد الشفهي. وفي كل مرحلة نستعين بالنقد الخارجي والنقد الداخلي لنحيط بالمسألة إحاطة تدريجية ونفهم في أي معنى نستطيع القول إن أناجيلنا هي تاريخية.
نميّز ثلاث مراحل تُوافق المحطات المتعاقبة التي فيها نستطيع أن نتفحص الكتيّبات الإِنجيلية.
* المرحلة الأولى: بما أن الأناجيل الأربعة تشكّل قاعدة الإِيمان الإنجيلي، فقد اعتُبرت في البداية إضمامة واحدة، إنجيلاً في أربعة أشكال، لا كأربعة أناجيل. سمّاه ايريناوس: الإنجيل المربع الوجوه (تترامورفي). هو إنجيل واحد ننطلق من هذه المعطية التاريخية فنبحث على المستوى الحديث عن المواد التي تتضمنتها الأناجيل.
* المرحلة الثانية: إن دراسة الأناجيل الأربعة، كل على حدة (مفرشي كما في السريانية) تُتيح لنا أن نحدّد الفن الأدبي لكلمة "إنجيل"، وأن نتعرّف إلى المعنى الذي به نسمّيها تاريخية.
* المرحلة الثالثة: نعود في النهاية إلى التقليد الإنجيلي السابق لتدوين الأناجيل الأربعة. فندرس المحيط الذي عاشت فيه ونحدد في أي معنى نستطيع أن نمحضها ثقتنا من الوجهة التاريخية.

ب- المرحلة الأولى: الإنجيل المربّع الوجوه.
نكتفي في هذه المرحلة بأن نبيّن أن الأناجيل وثائق تاريخية حقة.

1- الوجهة التقليدية
إعتبر آباء الكنيسة السابقين لمجمع نيقية (325) أن الإنجيل المربع الوجوه هو ينبوع إيمانهم، واستبعدوا كل إنجيل غيره. قبلوا هذه الأناجيل الأربعة على أنها رسولية، ومارسوا عليها عملية نقد دقيقة. بينَّ ترتليانس (إبن قرطاجة) بوجه مرقيون (إستبعد العهد القديم) شمولية وتواصل تقليد التاريخ الذي سلَّم إلينا هذه الكتيبات.
ثم إن الإِيمان المسيحي يستند بطبيعته إلى واقع تاريخي، قبل أن يستند إلى تعليم. فحين نقبل الأناجيل على أنها أسفار قانونية، فنحن نمنحها الشهادة بأنها تاريخية: تاريخية إجمالية قد لا تتجاوب مع متطلبات العلوم الحديثة، ولكنّها تاريخية جوهرية. لماذا نفرض على الإنجيل أن يكون "تقريراً صحافياً مفصلاً"؟ إنه نظرة تاريخية، ولكن همه الأول أن يقدّم لنا التعليم الذي ننتظره نحن المسيحيين.
كل هذا القول يؤكده لاهوتيو العهد الجديد. فالقديس بولس والقديس يوحنّا وصاحب الرسالة إلى العبرانيّين هم لاهوتيون يركّزون تعليمهم على واقع تاريخي: يسوع الذي مات صلباً هو الحي الذي قام من بين الأموات. وإن لهذا الواقع بُعداً تعليمياً، وليس فقط لباساً رمزياً لتعليم سري. إن هؤلاء الكتّاب الثلاثة يكيّفون تعليمهم حسب حاجات قرَّئيهم، ولكنّهم يستندون كلُّهم إلى الواقع عينه. فلا يُعقل أن يرتكز كل هذا على الفراغ. بالإضافة إلى ذلك، فدراسة تصرّفهم تجعل الناقد في الإستعداد الداخلي اللائق للبحث عن مضمون الأناجيل التاريخي: هناك واقع ولكنّه لا ينفصل عن مدلوله التعليمي.
وشهادة بولس لها قيمة خاصة. إنه شاهد مستقل عن الأناجيل ونحن نستطيع أن نقول عنه: إنه صادق وعارف بالأمور. إنه من خدّام الساعة الأولى وهو يعرف الكنيسة الجامعة. والحال، إن شهادته تتوافق مع شهادات الإنجيلييّن في النقاط الرئيسية.

2- الوجهة الحديثة
والعلوم الحديثة تثق بمضمون الأناجيل، وتثُبت التاريخية الإجمالية التي يؤكّدها التقليد، فتقابل بين معطيات الإنجيل وتلك التي تقدّمها كتابات أخرى. لسنا في هذه المرحلة أمام درس أدبي، بل أمام تفحص مضمون النصوص. ففي كل بحث حول عمل تاريخي، نبدأ بتحديد المحيط الذي وُلد فيه هذا العمل ونحدّد زمن تدوينه. وهذا البرهان الأول لا ينفي إعادة بناء النص ولا تأثير الأشخاص على المواد. ولكنّه يزيدنا ثقة بالقيمة التاريخية للعمل الذي ندرس.
* أما الوضع الذي نجده في الأناجيل فهو يوافق ذلك القائم في فلسطين قبل كارثة سنة 70. ثم إن هذه الصورة لا تنفصل عن اللحمة الإِنجيلية.
من الوجهة اللغوية، تدل هذه النصوص المدوّنة في اليونانية، على إتصال بالتوراة وعلى جذور فلسطينية سابقة لإنتشار هذه الكتب في الجماعات الهلنستية (أي أهل الشرق الذين تحضّروا بالحضارة اليونانية). ومن الوجهة الجغرافية تؤكد التنقيبات الجارية منذ قرن من الزمن على تحديد المواقع الإِنجيلية: كفرناحوم، الناصرة، نائين، الطريق من أورشليم إلى أريحا. من الوجهة التاريخية والسياسية، يؤكد لنا المؤرخ فلاقيوس يوسيفوس مثلاً ما قيل في الأناجيل عن الصراع بين اليهود والسامريين، بين الفريسيين والصادوقيين. وتبدو الحياة الإجتماعية بكل وضوحها في الأناجيل، كما نكتشف العادات الدينية في ذلك الزمان: الأعياد، الحج إلى الهيكل، الصلاة في المجامع، راحة السبت. ونكتشف أيضاً التيارات الفكرية: التيار الاسكاتولوجي الذي يتطلّع إلى نهاية الزمن، التيار المسيحاني الذي يتطلّع إلى مسيح من نسل داود. التيار القمراني المنتظر مسيحاً سياسياً ومسيحاً كهنوتياً.
* وإذا عدنا إلى ما قبل سنة 50، فالأعمال والرسائل البولسية تدل على تطوّر سريع في الجماعة المسيحية، سواء في تنظيمها أم في توجهات فكرها. فالنظم الدينية في زمن القديسة بولس تتميّز عن نظام المجمع (أي العالم اليهودي): يرتسم تنظيم تراتبي، تظهر البدع والهرطقات، تتوضح روح الكنيسة الجامعة، وتُطِل الإضطهادات في الأفق. أما الأناجيل فتقدم ديانة لم تنفصل بعد عن المجمع، ومعلماً يهتم مع تلاميذه باحترام الشرائع الموسوية فيدل على أنه من محيطه. ماذا نقول في يسوع حين نسمعه يقول لتلاميذه: "لا تسلكوا طريقاً إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين" (مت 10: 5)؟ إنه حقاً من عصره. وقال أيضاً للكنعانية: "لم أُرسل إلاَّ إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل" (مت 15: 24).
والتعليم المسيحي في أيام بولس يتوجّه نحو تنظيم الكرستولوجيا (الكلام عن المسيح) والسوتيريولوجيا (الكلام عن الخلاص بيسوع) وعن البنفماتولوجيا (التعليم حول الروح القدس) والمعرفة الحقة والتقليد الذي هو وديعة في يد الكنيسة. أما في الأناجيل، فلا نظريات لاهوتية حوله وجود المسيح الأزلي مثلاً أو حول لاهوته. نحن أمام أسلوب قديم يحدثنا عن إبن الإنسان وملكوت السماوات، وهاتان عبارتان ستزولان فيما بعد.
والميول تختلف بين القديم بولس والأناجيل. حارب بولس المتهودين (مسيحيون من أصل يهودي) وآباء الغنوصية (المعرفة الباطنية تكفي للخلاص، ولا حاجة إلى الصليب). أما يسوع فيهاجم الفريسيين كما يهاجم الصادوقيين الذين سيزولون بعد كارثة سنة 70.
* وإذا قمنا بمقابلة مع الأناجيل المنحولة وصلنا إلى أمور تشوِّه التاريخ. ففي إنجيل يعقوب، نرى أن عقم أم مريم يشبه عقم حنة أم صموئيل. وهناك هدف دفاعي لا قيمة دينية له. فإنجيل الطفولة العربي يروي لنا أن الأشجار إنحنت أمام يسوع وقدّمت له ثمارها. وأن يسوع أمات الصبيان الذين لا يريدون أن يلعبوا معه ثم أحياهم. وإنجيل بطرس يوصل القيامة إلى شهود حياديين، فتزول حرية الإِيمان.
وهناك ملاحظات تعليمية. فإنجيل الأبيونيين (شيعة متهودة) يعلن أن يوحنّا لا يأكل الجراد، بل يكتفي بالأعشاب. ويُبرز إنجيل المصريين بغضاً جامحاً للزواج، فيجعل هذا البغض في فم المسيح نفسه.
* في نهاية هذه المرحلة الأولى بدت لنا الأناجيل الإزائية كتيّبات وصلت إلينا بأحسن حال من جهة النصوص، ونسُبت إلى كتَّاب من القرن الأول، وأوردت واقعاً لا ينكره التاريخ الدنيوي، وأشارت إلى محيط يعود إلى الزمن الذي دوّنت فيه.
إذن، أناجيلنا هي وثائق تاريخية حقة. ولكن كيف يبدو ذلك؟ فهناك تاريخ وتاريخ. فعرض الواقع الإِنجيلي ليس مجرداً من كل هدف. هدفه تعليمي. هنا تُطرح بعض الأسئلة: أما تأثرت الأحداث وتحوّلت بسبب بعض الميول والأفكار المسبقة حول الإِيمان؟ أما أعيد بناء التاريخ أو استُنبط انطلاقاً من الخبرة الدينية؟ لماذا نثق بالكتاب ونقول إننا ندرك بواسطتهم إيمانهم بيسوع، لا يسوع نفسه؟ هذا ما يقوله بولتمان.
إذا أردنا الجواب على هذه الأسئلة نقوم بنقد داخلي شبيه بنقد المراجع. وهذا يتم في مرحلتين. ندرس في الأولى تاريخية كل إنجيل، منطلقين من فنِّه الأدبي. وفي الثانية ندرس تاريخية التقليد الإِنجيلي، منطلقين من وحدات وُجدت قبل التدوين الازائي.

ج- المرحلة الثانية: الأناجيل الثلاثة الأولى
ما هو الإِِنجيل كفنّ أدبي؟ إنه يضم أحداثاً ترتبط بتفسير. الأناجيل هي كتيّبات تعليمية تورد خبراً. فلا نطلب منها ميزات كتب التاريخ الحديث. ولكنها في الوقت عينه تتضمن بنية "سيروية" (تعطينا "سيرة" يسوع) خلف الهدف التعليمي. نحن أمام إنجيل، أمام بشرى، أمام خبر طيّب عن واقع حدث فيما مضى. إذن، الأناجيل بطبيعتها كتب تاريخ. ولكن الإِطار الذي وُجدت فيه يدل على أنها لم تدوَّن من أجل هدف علمي. ليست كتب تاريخ محضة.
لهذا، يستطيع النقد الحديث أن يطبق مبادئه على أصحاب هذه الكتيّبات. فيكتشف كيف حوّلوا الواقع من أجل التعليم: أما ضخَّم الكاتبُ الواقع والتعليم وأظهره في مظهر عجيب أو متماسك لكي يجلب إلى دينه عدداً من المتشيعين؟
سؤال قاسٍ. ولكن حين نتفحص النصوص، بما فيها نص متّى، لا نجد هذا الهدف الدفاعي. نحن لسنا أمام أبولوجيا (نص يدافع عن صحة عقيدة أو كتاب) بل أمام أبيفانيا (أي: ظهور إلهي). فالكتّاب لا يمتدحون نفوسهم، بل يختفون وراء مؤلفاتهم. وساعة جُعل الرسلُ في قمة الهرم (رج غل 9:2: أعمدة الكنيسة)، لم يوفّرهم الإِنجيليون فشددوا على بطئهم في الفهم (مثلاً مر 9: 32) وأخبروا بنكران بطرس ليسوع (مر 14: 66- 72= مت 26؛ 69- 75= لو 22: 55- 62= يو 18: 15- 27). هم يطمحون إلى المراكز الأولى تجاه الرب الذاهب إلى الموت (مر 10: 35- 45؛ مت 20: 20- 23؛ لو 22: 24- 27). وساعة كان ينازع معلمهم، استسلموا إلى النوم (مر 14: 37). وساعة قبضت عليه السلطات اليهودية "تركوه كلهم وهربوا" (مر 14: 50). والذي أسلمه كان واحداً من الإِثني عشر (مر 14: 43 ي).
أما المسيح فيبدو في وجه يستصعب "اللاهوتي" التحدّث عنه. يبدو أنه أقلُّ من الآب. هو يجهل يوم الدينونة. هرب أمام الخطر واختبأ في بستان الزيتون. عرق دماً، وعلى الصليب أحس وكأن الآب تخلّى عنه. تعليمه سام وغير مقبول، وهو يواجه ما يقوله الناس دون أن يحاول أن يفرض عليهم رأيه. وتصوَّر معجزاتُه بإيجاز يميّزها عما يشبهها في الكتب المنحولة.
إذن، تبدو الأناجيل مكتوبة من دون هدف دفاعي (دعائي، كما يقول بعض الفكر الحديث). لقد أرادت أن تنقل الواقع الذي تشهد له من دون زيادة. لا شكّ في أن الأناجيل ترى الأمور وتفسّرها بحسب نظرة خاصة، هي نظرة الإِيمان. ولكن بساطة السرد وطرق الكلام، والصعوبات التي تنتج عن كل هذه البساطة في العرض التعليمي، والوحدة المتينة بين التعليم والواقع، وهذا ما يتطلب اعترافاً بلاهوت يسوع، لا اقتناعاً عقلياً به، كل هذا يجتمع ليبيّن لنا أن الأناجيل ليست نظريات تعليمية مجرَّدة، بل شهادة عن واقع تعيشه الكنيسة في الإِيمان.

د- المرحلة الثالثة: التقليد الإِنجيلي
1- نص يرتبط بالواقع
بدت لنا الأناجيل حتى الآن كتيّبات تورد واقعاً وتدعو إلى الإِيمان. ولكن هذا الواقع يطرح سؤالاً: من هو هذا الرجل؟
تلك هي نية الإِنجيليين. ولكن الإِنجيليين كتبوا بعد الحدث بثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر، وانطلقوا من مراجع مكتوبة وشفهية. فهل تكفي سلطتهم لتعطينا ثقة بالمراجع، كما كفتنا بالنسبة إلى لحمة الأناجيل؟ لا شك. لا ننسى هنا طبيعة الإِلهام. فالروح القدس يدفع الكاتب لكي يكتب، ويعينه لئلا يقع في الخطأ. ونقول أيضاً: إعتبر الإِنجيليون نفوسهم "خداما للكلمة" فلم يتلاعبوا بالنصوص التي وصلت إليهم، بل حاولوا نقلها إلينا بأقل ما يكون من التوجيه. إنهم كمؤرخين تفحصوا هذه المراجع وأرادوا أن يكونوا أقرب ما يكون إلى الحقيقة. وهكذا تجنبوا النظرة المثالية التي لا تستند إلى الواقع. فهمُّهم أن يؤسسوا تعليمهم على الواقع، على واقع حي هو يسوع المسيح.

2- الكنيسة المسؤولة
نجد وحدات أدبية سابقة لتدوين الأناجيل الإِِزائية، قد انتشرت هنا أو هناك. من المسؤول؟ لا هؤلاء الكتّاب، ونحن لا نعرفهم، بل الجماعة المسيحية. وهذه الجماعة ليست شعباً مغفلاً لا اسم له ولا لون، بل جماعة منظمة ولها بنيتها: الشهود هم هنا، وقد طُلب إليهم أن ينقلوا ذكرياتهم فيجذّروا تجذيراً متيناً حياة الكنيسة اليوم في ماضٍ ما يزال حياً بواسطتهم وعبر شهادتهم. بالإِضافة إلى ذلك، تتألف الكنيسة من عدة جماعات تتصل الواحدة بالأخرى، فتختلف أو تتوافق. هذا ما نجده بصورة خاصة في 1 كور 1- 2 مع ما في هذا النص من حديث عن التحزّبات في الكنيسة.
إذن، تحققت الكنيسة المتعدّدة والواحدة معاً، من المواد التي تسلّمتها من التقليد. وهذا العمل لم يكن ينبوع "أخبار"، بل عَمِلَ على حفظ التقليد من كل بُعد عن الجوهر، من كل بُعد عن فكر يسوع. ونشير بصورة خاصة إلى موقف الجماعة من التقاليد المختلفة: هناك توافق في الأساس. أما الإِختلافات الطفيفة فهي لا تستحق اهتماماً أكثر من اللازم.
وهكذا يبدو عرض الواقع التعليمي في الإِنجيل قريباً من عمل الفنان لا من عمل المصوّر، من عمل حامل الذكريات لا من مرسل تقرير إلى الصحافة. فالمصوّر يجعل في صورته كل ما يقع تحت عدسته. أما الفنان فيختار لا ليجعل كل شيء في لوحته بل ليشدّد على بعض النقاط دون الأخرى. هو لا يستطيع أن يضع أموراً كثيرة في لوحته، لهذا نراه يختار ويُبرز ما يختاره، لتدخل كلمة الله في أعماق المؤمن. وصاحب التقرير يرسل كل التفاصيل. أما صاحب الذكريات فيختار ما لفت انتباهه وأثَّر في حياته. هذه هي طريقة البشر في التوسع بكلام الله. لا نستطيع أن نحيط باللامحدود من كل جوانبه، لهذا نوجّه نظرتنا إلى حيّز محدود يصل بنا إلى قلب الله. فمن ذاق نقطة من ماء البحر عرف طعمه. ولكن يبقى عليه أن يغوص في الأعماق، وهذا هو الأمر بالنسبة إلى المؤمن: يقدّم إليه الإِنجيلي نظرة إلى يسوع، فيبقى عليه أن ينزح إلى العمق كالرسل وهناك يكتشف غنى الله.
إن الكتَّاب الذين حملوا إلينا التقليد، توقّفوا عند وجهات خاصة من هذا الواقع الوحيد الذي هو يسوع المسيح. شدَّد مرقس على وجه المسيح وابن الله الذي نتعرف إليه تدريجياً. وحدّثنا متّى عن موسى الجديد الذي يحمل إلى البشرية شريعة جديدة لا تختلف عن الأولى بمضمونها بل بمتطلباتها. وحدّثنا لوقا عن هذا المسيح الذي يحمل الرحمة إلى الصغار من فقراء وخطأة ومنبوذين، والفرح إلى جميع البشر. فكيف نزيد لهؤلاء الإِنجيليين أن لا يختلفوا في التفاصيل، وكل واحد حاول أن يقدم لنا لوحة عن يسوع، وما أجملها لوحة!

3- التفاصيل والتاريخ
وهكذا بدت لنا الأناجيل الإِزائية وثائق من التاريخ. ولكنَّها علمتنا في الوقت عينه كيف يتعامل الإِنجيلييون مع التاريخ . يبقى علينا أن نبحث عن هذا الوجه التاريخي للتفاصيل. هناك قيمة تاريخية إجمالية، وعلى المفسرين أن يدرسوا كل مقطع ليحدّدوا فنه الأدبي وكيفية ارتباطه بالتاريخ.
لا شك في أننا نجد الاستعارة والمجاز، كما نرى كيف طُبّق النص على الكنيسة الحية. ولكن ما لا شك فيه أيضاً هو أن طبيعة الجماعة وارتباطها بالروح وقفت سدّاً منيعاً بوجه كل تشويه للتقاليد الأصلية. كما أن بعض التحول صار ممكناً بل ضرورياً، لأن الكنيسة التي هي جسد المسيح، نقلت إلينا النصوص وفسّرتها لنا. فالطريقة الوحيدة التي تساعدنا على فهم أحداث الماضي وأقوال المسيح هي أن علمي وتقليدي معاً/ فالأناجيل وُلدت ونقلت في جماعة، وهذه الجماعة هي في نظر المؤمن أمنا الكنيسة المقدسة. فهل نخاف من السير معها؟
نستطيع أن نحدّد الطابع التاريخي للتفاصيل في المقاطع التي ندرس. ونقول إن أخبار الطفولة لا تتمتع بالمدلول التاريخي الذي تتمتع به أخبار الآلام. لا شك في أن العناصر التي استندت إليها أناجيل الطفولة هي تاريخية (الملك هيرودس، بيت لحم ....) ولكن حصة الدرس الديني (يسمى: مدراش) هي أوسع، والنظرة اللاهوتية هي مسيطرة. أما تفاصيل خبر الآلام فهي دقيقة جداً وقد أوصلها إلينا شاهد عيان.
ولكن لهذه التفاصيل قيمة خاصة، من أية فئة كانت. ونحن نخطئ إن أهملناها. فإن انتزعناها من واقعها الحي الذي ينقلها، خسرت مضمونها كله. ولكن إن أدخلناها في هذا الواقع، بدت ضرورية لكي يدرك القارئ معنى المقطع كله. فالأخبار الإِنجيلية تحمل تفاصيل لها من القيمة ما لها تفاصيل أمثال يسوع. إذن، لا نعزلها عن الفكرة الإِجمالية، ولا ننسى أننا لا نستغني عنها لكي نفهم المثل. من أهملها أخطأ، ولو ظن أنّه ليس أمام تقرير صحافي. فالتفاصيل تحتفظ بأهميتها ومكانتها ومدلولها في أي حال، ولكن كما قلنا، داخل المعنى العام.

هـ- يسوع وحياة يسوع
1- يسوع التاريخ ومسيح الإِيمان
هذا هو التمييز الذي أُطلق في أوروبا خصوصاً في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. يسوع التاريخ هو الذي تعرّف إليه الناس، رأوه بعيونهم، سمعوه بآذانهم، لمسوهم بأيديهم. والمسيح هو وجه الله الذي يتجلى بصورة خاصة في القيامة وعلى ضوء القيامة. ولكن كيف نفصل بين الإِثنين دون أن نمزّق وجه الرب الواحد؟!
نحن في النهاية نتطلع إلى يسوع المسيح الكلمة والرب. يسوع الذي حاول آباء الكنيسة أن يدركوه عبر الأناجيل. يسوع الذي درسه لاهوتيو العهد الجديد. يسوع الذي يشهد له كل من الإِنجيليين. يسوع الذي تشير إليه كل وحدات التقليد الإِنجيلي. لقد بدا لنا يسوع هذا كابن الله الذي جاء يخلص البشر، فذهب بملء حريته إلى الموت قبل أن يقوم في المجد. وهذا التوافق بين كتّاب متفرقين وجماعات تعيش في أماكن مختلفة، بين أشخاص لهم همومهم المختلفة ونظراتهم المتباينة، هذا التوافق يدعونا إلى أن نرى في الأناجيل التعبير عن خبرة دينية والشهادة على واقع حي لا شك في تاريخيته.
وهكذا نقول، إنطلاقاً من العلم والعقل، أننا نصل إلى يسوع التاريخ عبر مسيح الإِيمان. لا شك في أن الانجيليين كتبوا ما كتبوا على ضوء القيامة، وداخل خبرتهم في حياة الكنيسة. إنهم قدّموا لنا مسيح الإِيمان ودعونا إلى موقف الإِيمان. ولكن المسيح الملتحف بالمجد هو يسوع الذي عرف ذل الألم وحقارة الموت. هذا ما يقول بطرس في خطبته إلى اليهود: "إن إله آبائنا مجَّد فتاه يسوع... قتلتم سيِّد الحياة فأقامه الله من بين الأموات" (أع 2: 13- 14). وقال أيضاً: "يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه قد أقامه الله من بين الأموات" (أع 4: 10).
لا هوّة بين يسوع التاريخ ومسيح الإيمان. فهذا القائم من الموت والممجَّد يحمل آثار جراحه (لو 24: 40). ليس روحاً وحسب، وليس من عالم الخيال. قال يسوع: "فالروح ليس له لحم وعظم كما ترون لي" (لو 24: 39)0 أجل، يسوع هو المسيح ولم يتبدّل. أما الذي تبدّل فهو نظرة التلاميذ: رفعهم أليه فرأوا من خلال ذله المجد الذي يتمتع به الآن، واكتشفوا أبعاد حياته في ضوء قيامته. هذا الذي جاع وتعب ونام هو الذي شفى المرضى وغفر الخطايا وأقام الموتى، بل قام هو بنفسه بمجد عظيم.
نحن ننطلق من الإِنجيل فنتعرّف إلى المسيح الذي آمن به التلاميذ. ولكننا لا نبقى مغلقين على عالم إيماننا، بل نكتشف في عالم الإِيمان حضور الواقع التاريخي، حضور يسوع الناصري. ومن جهة ثانية، يجعلني البحث التاريخي في حضرة وجود له بعده التعليمي، وهو يدعوني إلى الإِيمان بهذا الرجل السري الذي يسمّي نفسه مخلص العالم. الجواب في هذا المجال ينتمي إلى عالم الإيمان.
ويقدَّم لنا واقعُ يسوع بشكل سيرة وحياة؟! أجل، يستحيل علينا أن نفصل التعليم الإنجيلي عن حياة الإنسان الإله الذي ذهب بملء إرادته إلى الموت ليخلّص البشر. ولكن الأناجيل ليست كتباً نستطيع أن ننطلق منها لنكتب سيرة علمية يود معاصرونا أن يقرأوها. هناك تفاصيل عديدة تبقى غائبة، ومحاولاتنا الفضولية تبقى في عالم الافتراض. الأناجيل هي قبل كل شيء شهادة. فإن قبلنا بهذا المنطق وصلنا إلى موضوع الشهادة، إلى يسوع الناصري.

2- خلفية تاريخية متينة
حين نتحدث عن طابع الشهادة للأناجيل، فنحن لا ننكر الخلفية التاريخية الموضوعية التي تفرض نفسها على كل باحث مهما كان معتقده أو اهتمامه بالظاهرة المسيحية.
فيسوع عاش في فلسطين، وُلد في زمن أغوسطس وهيرودس ومات في زمن طيباريوس وبيلاطس البنطي. كان يهودياً أصيلاً، وقد بدا كذلك في حياته وتصرفاته. ذهب إلى الحج كما يذهب كل مؤمن، وشارك في صلاة المجمع يوم السبت. شفى المرضى، وجمع عدداً من التلاميذ حوله. كرز بملكوت الله الآتي، وتكلَّم بطريقة شخصية جداً، بحيث إن رنّة صوته لا تزال بارزة في إنجيله. تعلميه تقليدي وهو الذي رفض أن ينقض الشريعة ويهدمها، ولكن هذا التعليم يرفض كل انغلاق على طبقة من الطبقات أو شعب من الشعوب أو بلد من البلدان. هذا التعليم قلَب المفاهيم فصار المثالُ الأعلى للمحبة السامري والخاطئة، والنموذجُ الأكبر لعرفان الجميل السامري والغريب. لهذا لم يفهمه معاصروه، بمن فيهم تلاميذه الأخصاء، وعارضه رؤساء شعبه فحكموا عليه بالموت.
وهكذا مات يسوع قتلاً في زمن بونطيوس بيلاطس. صُلب لأنه اعتبر نفسه ملكاً ومسيحاً. وسار في طريق الموت غير متراجع عن تعليمه. وآخر كلمة يقولها شهود عصره: يذكر تلاميذه أنهم رأوه حياً بعد موته.


3- معرفة محدودة
هذه بعض الخطوط لمعرفتنا التاريخية عن يسوع. ولكن المؤرخ لا يكتفي بها: إنه يريد أن يرٍ سم الحركة السيروية لهذا الإنسان. هو لا يكتفي بلوحة، بل يريد خبراً متواصلاً. لا شك في أننا نضع الخطوط الكبرى لحياة يسوع العلنية: بدأ في الجليل ثم توجّه إلى اليهودية مارّاً على حدود الجليل. ووصل إلى قيصرية فيليبس حيث شهد له سمعان بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحي" (مت 16: 16).
ويحدَّد موقع يسوع بالنسبة إلى يوحنا المعمدان، ذلك الذي يُعدُّ الطريق للرب الآتي. وبالنسبة إلى هيرودس الأب والإبن، منذ ولادته حتى آلامه وموته. وبالنسبة إلى الفريسيين الذين يعتبرّون نفوسهم المعلّمين الوحيدين للشعب (رج لو 9:18: "يحسبون نفوسهم أبراراً ويحتقرون الآخرين").
بدأ يعلم في الجليل، فهدّده هيرودسٍ (لو 13: 31 ي: قولوا لهذا الثعلب). وأُجبر على ترك الجليل خصوصاً لأن الشعب لم يفهمه، ولم يفهم المعنى الحقيقي لمسيحانيته. ليست مسيحانية مجيدة فحسب. بل هي تمر في الآلام والموت. ولهذا سيتوقف يسوع في المرحلة الثانية من حياته، بعد إعلان بطرس لمسيحانيته، سيتوقف عند الإنباء بضرورة الآلام. وسيذهب إلى أورشليم لأنه "لا ينبغي لنبي أن يهلك في خارج أورشليم" (لو 13: 33).
هذه هي المحطات الكبرى والثابتة في حياة يسوع. ولكن هل نستطيع أن نذهب أبعد من هذا؟ لا شك في أنه من الضروري أن نعرف سنة مولد يسوع وموته، لا أن نصل إلى تفاصيل قال بها بعض الشراح: قيلت خطبة الجبل في 19 حزيران سنة 28. وهدِّئت العاصفة في 28 كانون الأول من السنة نفسها، وحدث التجلي في 6 آب سنة 29... كل هذا يتحدّى النقد السليم، ويصل بنا إلى خلط في الأمور يضيّع لها جوهرها، لأننا نضع حينئذ على المستوى نفسه معطيات شبه أكيدة عن زمن موت يسوع مع تحديدات تعود بنا إلى عالم الخيال، فتضيع هذه وتلك.
ونزيد فنقول: حين نبحث عن الأسس التاريخية الموضوعية، نتفحص الوثائق الانجيلية على أنها وثائق وننسى فنّها الأدبي وخصوصاً نظرتها اللاهوتية. نحن نحاول أن نتعرف إلى مسلسل الأحداث دون البحث عن مدلولها الديني. ومن لا يعرف الخطأ الكامن وراء هذا البحث؟ هناك بعض الخير في التعرّف إلى تفاصيل لم يهتمّ بها الإنجيليون في الدرجة الأولى. ولكن الشر كل الشر أن نتوقف عند هذا الحد وننسى الجوهر الذي تدعونا إليه الأناجيل: الإِيمان بمرسَل الآب.


خاتمة
الجوهر ليس في بحث تفاصيل تاريخية دقيقة تشبع فضولنا ولا تدفعنا إلى تبديل حياتنا. الجوهر هو إنجيل يصل بنا إلى يسوع الذي هو المسيح وابن الله (مر 1: 1). وحياة يسوع لا تنحصر في إطار ضيّق شبيه بحياة كل إنسان. حياة يسوع هي إنجيل وبشرى، أي إعلان عن خبر مفرح يطرح سؤالاً على الذي يسمعه. قد لا يكون الإِيمان ضرورياً لكي ندرك شخص يسوع. بل يكفي تعاطف المؤرخ الذي يشارك المسيحيين الأولين في إيمانهم حين يعلنون واقع يسوع. بعد هذا نقول إن فهم يسوع الكامل محفوظ للمؤمن الذي يروح في تعمقه ليصل في نظرته إلى ملء قامة المسيح. أجل، إن الأناجيل هي سيرة يسوع الوحيدة التي نستطيع أن نكتبها. فمن فهم الأناجيل بعينيه وأذنيه وقلبه وكل حياته كانت له ملء الحياة، كان له الإيمان باسم يسوع المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM