الفصل الحادي والأربعون :تفسير الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي

الفصل الحادي والأربعون
تفسير الرسالة الأولى
إلى أهل تسالونيكي

تُقسم الرسالةُ إلى أهل تسالونيكي إلى قسمين: في القسم الأول (1: 1- 3: 13) نتعرّف إلى كنيسة تسالونيكي منذ تأسيسها، وفي القسم الثاني (4: 1- 28:5) نجد تحريضات رسوليّة عن مجيء المسيح وعن الحياة المسيحيّة التي سنحياها بانتظار هذا المجيء.
أ- القسم الأول: كنيسة تسالونيكي
(1: 1-13:3)

1- كنيسة التسالونيكيين (1: 1-3)
آ 1: 1: "من بولس وسلوانس وتيموتاوس إلى كنيسة التسالونيكيّين التي في الله الآب وفي الربّ يسوعَ المسيح، نعمةٌ لك وسلام!". هذا العنوان يدلّ على وجود كنيسة في تسالونيكي بُنيت بسرعة وكادت أن تزول لولا "نشاطٌ في الايمان وجهادٌ في المحبّة وثباتٌ في الرجاء". والتعلّق بتقاليد الرسل لم يجلب على أعضاء هذه الكنيسة المنافع المادية، بل المعاكسات. معارضة اليهود، تهجّمات الناس، مشاكسات الإدارة والحكم. ومع ذلك لم تمض بضعةُ أشهر حتى كتب بولس إلى كنيسة تسالونيكي، لا إلى هذا الشخص أو ذاك الذي ساعده في عمل الرسالة مثل ياسون أو غيره (أع 17: 6).
الكنيسة في مفهومها اليونانيّ هي مجمع الشعب (أع 17: 5) أو جماعة المؤمنين الذين يحقّ لهم أن يناقشوا الشرائع ويصوِّتوا عليها لتصبح نافذة في الحياة المشتركة. أما اليهود فلهم كلمتان: "عدة" وهي التي ستُتَرجم كلمة مجمع وكنيس. "وقهل" (رج في العربيّة قول أو صوت) وهي التي ستُترجم كلمة كنيسة لأنها صوت الناس إلى هذه الدعوة. يتوجّه بولس بكلامه إلى كنيسة، إلى جماعة، لأنه مؤسّس كنيسة قبل كلّ شيء.
هذه الكنيسة ليست جماعة الشعب. إنها تجتمع في الله الآب والربّ يسوعَ المسيح. كلمة "في" تدلّ على وحدة حميمة بين الكنيسة من جهة، وبين الله الآب والرب يسوعَ المسيح من جهة ثانية. فالكنيسة لا توحّد فقط بين الأعضاء، بل وأيضًا بين الأعضاء والله. وتدلّ أيضًا على السبب. فالآب والربّ هما سبب تجمّع التسالونيكيّين في كنيسة. هما يدعوان الناس ويجمعانهم. والكنيسة هنا تعني الجماعة المحليّة.
نلاحظ أن الله هو الآب (رج أيضًا 1: 3؛ 3: 11، 13). فالوحي الذي حمله يسوع عن الله دخلَ قلبَ الجماعات المسيحيّة. فالعلاقات الفريدة بين يسوع والآب (يدعوه "أبّا" في صلاته) هي في أساس انتشار لقب الآب الذي يتوجّه به المسيحيّون إلى الله.
الربّ يسوع المسيح: نجد هنا طريقتين للتعبير عمّا في أعماق الإيمان. فيسوع المسيح هو الاسم الذي يردّده المسيحيون فيضمّون في تسمية واحدة "يسوع الناصريّ"، النبيّ القويّ بالعمل والكلام" (لو 24: 19) والمسيح الذي مُسح فتمّت فيه مواعيد الله.
يسوعُ الربّ هو أول اعتراف إيمانيّ مسيحيّ (1 كور 12: 2). ولقب الرب يذكّرنا بتمجيد المنبعث وسيادته على الكون وسكانه (رج أع 2: 36). ويزيد بولس ضمير المتكلّم الجمع فيقول "ربّنا" (نحن) ليدلّ على علاقات خاصّة بين المسيح والمسيحيّين وليقول للوثنيّين الذي يتعبّدون للقيصر ويسمّونه الربّ (كيريوس) أن المسيحيّين لهم ربُّ آخر، هو يسوع المسيح.
ذكرَ بولسُ الآبَ والابنَ، وسوف يذكر الروحَ القدس في آ 5.
النعمة والسلام. هذه هي العبارة المتّبَعة في الرسائل وهي تجمع الكلمة اليونانيّة (النعمة) إلى الكلمة العبريّة (السلام). هناك مخطوطات تزيد بعد السلام عبارة "من قبل الله الآب ومن ربّنا يسوع المسيح" (رج 2 تس 1: 1).
من هو سلوانس (رج 2 تس 1: 1؛ 2 كور 1: 19؛ 1 بط 12:5)؛ هو سيلا المذكور في أعمال الرسل (15: 22، 32)، ونبيّ أورشليم الذي اختاره بولس في بداية جولته الرسوليّة الثانية (أع 15: 40؛ 16: 19 ي؛ 17: 4 ي؛ 18: 5). يحمل اسمين يتفرّعان من الاسم السامي إلى اللغة اليونانيّة (سيلاس) وإلى اللغة اللاتينيّة (سلوانس).
أما تيموتاوس فتبع بولسَ وسلوانسَ انطلاقًا من لسترة (أع 16: 1-3؛ 17: 14ي؛ 18: 5؛ 19: 22؛ 20: 4). سيكون تلميذًا لبولس الذي سيحترمه كثيرًا ويسلّمه مهمّات دقيقة في الكنائس (3: 2-6؛ روم 16: 21؛ 1 كور 4: 17؛ 16: 10؛ 2 كور 1: 19؛ فل 2: 19 ي).
آ 2-3 بعد أن يسلّم بولس على المؤمنين، يشكر الله على النعم التي منحها للكنائس (13:2؛ 9:3؛ 2 تس 1: 23؛ 13:2). وهنا يعبّر عن إعجابه بعمل الله في قلوب أناس بدّلوا حياتهم واجتمعوا في كنيسة. وهذا الجديد الذي يعيشه التسالونيكيّون يعبّر عنه بولس بثلاث عبارات: نشاط في الايمان، جهاد في المحبة، ثبات في الرجاء. في 8:5 يكلّمنا بولس عن درع الايمان والمحبة وعن خوذة الرجاء. وفي 3: 6 عن الايمان والمحبّة. إيمان التسالونيكيّين نشيطٌ لأنه يُنتج عملاً يتجسّم في حياة من المحبة. ومحبّتهم مجاهدة لأنها ليست عاطفة وحسب، بل تَظهر في أعمال ملموسة ويمكنُها أن تقود صاحبَها إلى الشهادة والموت. أما رجاؤهم فهو ثباتٌ لا تراجعَ فيه وقوّةٌ تساعد المؤمن على الانتظار.
هذا المثلَّث (الايمان والرجاء والمحبّة) سابقٌ للقديس بولس، وقد ردَّده مرارًا في رسائله بحسب الترتيب الذي نجده هنا (8:5، أف 1: 15-18؛ كو 1: 4- 5)، أو هو يجعل المحبّة في المقام الأول (روم 5: 1-5؛ 12: 16-19؛ 1 كور 13:13؛ غل 5: 5 ي). أو هو يورده بطريقة معاكسة (أف 4: 2- 5). ونجد أيضًا الايمان والمحبّة (3: 6؛ 2 تس 1: 3)، الثباتَ والايمان (2 تس 1: 4)، المحبّة والثبات (2 تس 3: 5). أما الفضائل الواردة هنا فهي ترتبط بالصعوبات التي تعانيها الكنيسة الفتيّة.
"ما أنتم عليه بربّنا يسوع المسيح". هنا يربط بولس بين يسوع المسيح والايمان والمحبّة والرجاء عند المسيحيّين. يسوع هو الذي جعل هذه الفضائل ممكنة إذ أخذها على عاتقه بطريقته الخاصّة. والمسيحيّون أبناءٌ مع الابن، أبرارٌ مع البارّ. من هنا نستطيع أن نقول: ما أخذ المسيحيّون من المسيح، ليس فقط إمكانية الإيمان، بل وأيضًا إمكانيّة المحبّة والرجاء، ونمطًا من العلاقات يربطنا بالله بواسطة المسيح. إذًا لسنا أمام الايمان والرجاء والمحبة كما في شعب العهد القديم، بل أمام البرّ الذي تمّ لنا بموت يسوع وقيامته. فيسوع عبّر في آلامه عن إيمانه ومحبّته ورجائه، بطريقة فريدة، ففتح أمامنا، إمكانيّات جديدة. كان التسالونيكيون قبل تنصّرهم يعبدون الله ويمارسون هذه الفضائل، ولكنّ ارتدادهم أدخلهم في عالم جديد دشّنه يسوعُ المسيح، هو عالم برّ الله بالايمان الذي حصَلنا عليه بيسوع المسيح (روم 22:3؛ فل 1: 11).

2- ولادة كنيسة التسالونيكيّين (4:1- 10)
آ 4 تذكّر بولسُ أمام التسالونيكيّين مواضيع شكره فعاد إلى الله الآب، أصل مصيرهم بالاختيار الذي اختارهم به. وها هو يقدّم موضوع شكر آخر يسيطر على فكرته. يتوجّه إلى قرّائه فيسمّيهم إخوةً أحباءَ في الله فينظر إليهم في نور الله الذي حلّ عليهم والذي جعل حياتهم تتخذ معنى جديدًا لأن اختيارهم هو تعبير حبّ الله المجّاني لكلّ واحد منهم. أما ما هي علامات الاختيار هذا؟ كلامُ الله الذي ظهر عند المرسلين ثم عند الذين آمنوا بكلمتهم.
آ 5 وصل بولس ورفيقاه إلى تسالونيكي وألقوا خطبةً دينيّة سمَّوها "إنجيلنا". وهذا الإنجيل لم يصل إلى التسالونيكيّين بالكلام وحدَه، بل بقوّة الروح القدس.
كلمةُ الله نقرأها في هذه الآية وفي 13:2. حيث نفصل بين كلمة نقولُها فيسمعُها المؤمنون وبين كلمة الله. هذه الكلمة تسمعها آذانٌ بشريّة وتتقبّلها على أنها كلمةُ الله. بالنسبة إلى بولس، إذا كان الانجيل كلامٌ فهو كذلك بسبب نتائجه. الله يتكلّم عبر ما يقول الرسول حين لا تناسب نتائجُ كلماته نتائج كلمات خطبة إنسانيّة. والنتيجة هي إيمانُ التسالونيكيّين، وثباتُهم في هذا الايمان، وتحوّل حياتهم في المحبّة. فإذا كان بفعل تعليم نقله أناسٌ فارتدّ أناسٌ آخرون والتصقوا، على إثره، بالايمان بحيث يشعرون أنهم إذا تخلّوا عن إيمانهم تخلُّوا عن وجودهم، حينذاك نعرف أنَّ الله تكلّم، أن الله فعل. ومن خلال هذا الإعلان البشريّ يلج الله قلبَ السامع فيدعوه إلى الايمان وينعش فيه هذا الايمان. فعندما يتجاوب إنسانٌ مع نداء الايمان، فهو لا يعطي جوابه لإنسان بل لله: إنه يتجاوبُ وكلمةَ الله. وسيوضح بولس أنه عندما يعلن إنجيل موت يسوع وقيامته، فقدرة الله التي أقامت يسوع هي تفعل في قلوب البشر.
أجل، إن كلمة الله في تسالونيكي كانت حدثًا بالقوّة والروح القدس والنجاح التامّ.
بالقوة والروح القدس. يربط بولس بين هاتين الكلمتين فيقول مثلاً في 1 كور 2: 4: "كان كلامي وتبشيري برهانًا على روح الله وقوّته" (رج 1 كور 15: 43؛ روم 15: 13، 19). ويقول أيضًا في أف 3: 6: "وأتوسّل إلى الله أن يسلّحكم بالقوّة بروحه" (رج أف 3: 5-7). إذًا نحن أمام قوّة الانجيل وقوّة الله. قال بولس: "أنا لا أستحي ببشارة المسيح، فهي قوّة لخلاص كلّ من يؤمن" (روم 1: 16). هذا يعني أن قوّة الله حاضرةٌ في إعلان الانجيل، الله الخالق والمخلص والذي أقام يسوع من بين الأموات. هي قوة لأنها تدعو إلى الإيمان وتنعشه. لا قوة بشريّة تستطيع أن تنتج الإيمان، لأن الايمانَ عمل الله وعمل كلمته.
قوة وروح من أجل نجاح الانجيل، وجماعةُ تسالونيكي هي علامةٌ لنجاح إعلان الانجيل، ولكنّها ليست نجاح الرسل. هذا النجاح يرجع إلى قوّة الله وعمل الروح القدس.
هنا نفهم لماذا تتّخذ هذه الاعتباراتُ اللاهوتيّة عن كلمة الله مكانًا في فعل الشكر: فنجاح إعلان الانجيل هو حقًا معجزةٌ وعملٌ عظيم من أعمال الرب يستطيع أن يغذّي صلاة الشكر التي رفعها بولس إليه.
آ 6-7 أجل، وُلدت كنيسةُ تسالونيكي من تبشير الرسل، واقتدت بالربّ والرسل وسائر الكنائس. لم تكن كنيسة تسالونيكي أولَ كنيسة تعاني من الاضطهاد، فقد سبَقها الربُّ والرسل وكنائسُ اليهودية. مصير هذه الكنيسة يطابق منطق الانجيل.
اقتبل الرسلُ الكلمة فجلب عليهم هذا القبول الضيقات. هنا نتذكّر ما حصل لبطرس والرسل (أع 4: 1ي؛ 5: 17 ي؛ 12: 1ي)، وبولس ورفاقه (أع 44:13 ي؛ 4:14 ي؛ 16:16-24؛ 5:17-8، 13-14؛ 12:18-17). وقبل الرسل احتمل يسوعُ الموت وآلام الصليب أمانةً لكلمة الله ولمخطَّط الآب كما يظهر في الكتب المقدّسة.
خلال وقت المحنة هذا، لم يكتف التسالونيكيّون بتقبّل كلمة الله، بل قبلوها بفرح الروح القدس فاقتدوا بالربّ الذي دخل في مجده عبرَ الموت. ونحن لا ننسى فرح الرسل لما جُلدوا للمرة الأولى: "تركوا المحفل فرحين لأنهم وُجدوا أهلاً لأن يتحمّلوا الإهانات من أجل اسم يسوع" (أع 5: 41). وسيقول بولس الكلام عينه في رسائله: "ومع كلّ مصاعبنا، فقلبي ممتلئ بالعزاء، فائضٌ فرحًا" (2 كور 7: 4؛ رج 6: 4- 10؛ 13: 9؛ فل 2: 17- 18؛ كو 1: 24).
اقتدى التسالونيكيّون بالرسل فصاروا بدورهم مثالاً لجميع المؤمنين في مكدونية وأخائية. قال بولسُ هذا الكلام لا ليمالقَ التسالونيكيّين بسبب فضائلهم، بل ليعلن أن عمل الله نجح في التسالونيكيّين كما ينجح الفنّان في رسم لوحة.
آ 8- 10 وأعلنت الكرازةُ في تسالونيكي، وسارت الجماعة الجديدة بخطى واسعة نحو الخلاص. الكرازة تعليمُ الانجيل يدعو الناس إلى الايمان المسيحي، وإعلان لموت يسوع وقيامته كحدث خلاصيّ (رج 1 كور 4: 14؛ 5: 9- 10؛ 15: 1 ي). وسمع التسالونيكيّون هذه الكرازة فاهتدوا، عادوا عن ضلالهم وغيّروا وُجهة حياتهم. حادوا عن الأوثان، ومالوا إلى الله فعبدوه.
الله الحيُّ الحقّ هو الإله الذي يعبده اليهود. فإن كلّمهم بولسُ ذكرَ يسوعَ وما فعله الله في شخص يسوع. أما إذا كلّم الوثنيّين فهو يبيّن لهم أن الايمان بيسوع هو الايمان بإله يسوع الذي اختبره شعبُ الله إلهًا حيًا وحقًا. الله هو الحيُّ والأوثان مَيتة. الأوثان كذْبٌ والله حقّ.
العبادة كلمةٌ قريبةٌ من العبوديّة. نعبدُ اللهَ فنصبح له، ونعترف به ربًا في الصلاة والطاعة له والعمل بمشيئته (4: 3).
ونحن ننتظر من السماوات ابنه الذي أقامه من بين الأموات، يسوعَ الذي ينجّينا من الغضب الآتي. الانتظار يذكّرنا بالثبات (آ 3)، والايمانُ بالمسيح المنبعث نعبّر عنه بموقف انتظار ابن الله (رج 5: 1- 11)، انتظار هادئ وواثق لأن ابن الله الذي ننتظره ينتزعنا من الغضب الآتي، من غضب الله.
الغضبُ صورةٌ معروفة في العهد القديم. وهو يدلّ على دينونة الله في بداية الأزمنة الأخيرة. هذه الصورة التي تُسند إلى الله عواطف بشريّة تعبّر عن موقف الله تجاه أعداء شعبه وتجاه الخاطئين المتمرّدين. لا توافق بين الله والخطيئة الرافضة. هناك غضب لأن الدينونة تصبح عند الأنبياء، أمرًا ملموسًا في العقوبات والدمار.
في إطار الدينونة الآتية، يرسم بولس لوحةً متعارضة. من جهة، الجماعةُ المسيحيّة. ومن جهة أخرى، اليهودُ الذين يضطهدون الرسل والكنائس (2: 15- 16). الآن لعبت الجماعةُ المسيحيةُ الدورَ الذي حدّده الأنبياءُ لشعب اسرائيل، فصارت شاهدةَ الايمان وعابدةَ الله الحقّ وعرَّفت به الشعوب.

3- الرسل في تسالونيكي يوم ولادة الكنيسة (2: 1- 12)
يقدّم بولس نفسه ويقدّم رفيقيه دون دفاع، لأن لا خصومَ ولا مفترين ولا معلّمين كذَبة. هم موفدو الله الحقّ وليسوا كهؤلاء الوعّاظ المتنقّلين الذين ينشرون عبادات وتعاليمَ ليُرضوا كبرياءهم وجشعَهم وفجورَهم.
2: 1-2 الآية 1 تعرض الموضوع الجديد. ذكّرتنا نهاية ف 1 كيف استقبل التسالونيكيّون الرسل. والآن سنرى كيف عاشوا وتصرّفوا. لم تبدأ صعوبات الرسل في تسالونيكي بل منذ تأسيس أولا جماعة مسيحيّة في مكدونية. فمنذ تأسيس كنيسة فيلبّي، عرف بولس ورفيقاه الألم والإهانة (رج أع 17: 16- 40). ولكن هذا لم يمنعهم من متابعة طريقهم الرسولية، بل تابعوها بهدوء وثقة متَّكلين على الله الذي يرسلهم. فلكي يقوم إنسانٌ بإعلان الانجيل بهذه الثقة، يجب أن يعيَ رسالَته وأن يؤمن بدعوته. لو كان الرسلُ حاملي دعاية مأجورين، لما كانوا وجدوا مثل هذه القوّة التي دفعت بهم إلى أقاصي الأرض.
آ 3-4 ويحدّد بولسُ مجمل العمل الرسولي ويسمّيه "تحريضًا" (رج 4: 1). نحن أمام إعلان الإنجيل وما يتطلّب ذلك من خلقيّة. أما صفات هذا التحريض السلبيّة فهي ثلاث: لا ضلال، لا دنس، لا حيلة.
لا ضلال، ولا خداع يسلبُ العقل. والرسل لم يقدّموا تعليمًا خارجيًا لم يؤمنوا هم به بكل كيانهم، ولم يعدوا المؤمنين بمنافع غير موجودة. لا دنسَ، أي لا دعوةَ إلى ممارسات دنسة كما في السابق. لا حيلةَ ولا فخَّ يسلب الناس حرّيتهم. إن إعلان الانجيل ترك الناس أحرارًا في أن يقبلوه أو يرفضوه.
بل... (آ 4). ويقول بولس بطريقة إيجابيّة ما الذي دفعه إلى العمل الرسولي: الوعي أن الله اختارهم وأرسلهم. الله امتحنهم، وهو العارف القلوب والكلى، وجعلهم في بوتقة فطهَّرهم كما في النار. وهذه المحنة حين تأتي من الله لا تهدف إلى إظهار فضيلة من الفضائل بل إلى خلق الانسان وإعداده لعمل ما أو رسالة.
إذًا من الخطأ أن نعتبر أنَّ الله اكتشف عند الرسل صفات بشريّة تساعدهم على نشر الانجيل: وبولس سيقول عن نفسه إنه غير قادر على خدمة العهد الجديد (2 كور 3: 5-6)، و"إنه أصغرُ الرسل ولا يحسب نفسه أهلاً لأن يدعوهُ أحد رسولاً" (1 كور 15: 9). إذًا، ما كان عمل الله في رسله؟ أشركهم في آلامه. ولا ننسى أن موضوع الآلام المنقّية والضروريّة لتثبيت الايمان والرجاء، أمر مألوف في الكرازة الرسوليّة الأولى (يع 1: 2-3؛ 1 بط 1: 6-7؛ روم 5: 2-4)، وأن الظروف الصعبة في الحياة الرسوليّة والآلام والاضطهادات تشهد على أن الرسل هم خدّام حقيقيّون للإنجيل. ولا يزال الله يمتحن بهذه الصورة رسلَه فيخلق فيهم إمكانيّة إعلان المسيح الذي مات ثمّ قام من بين الأموات، ويشركهم في آلامه.
ولهذا فلا يهمّ الرسول أن يرضي الناس، أو أن يحوز على رضا الناس ويربح "شعبه" بكلّ الوسائل كما يفعل أناس يرغبون في أن يزيد تأثيرهم على الناس. نظرة الله تكفي بولس الذي يهمّه أن يرضي الله الذي يختبر القلوب. نحن نرضى الآخرين حين نقدّم لهم الخدَمات ونعمل لهم ما يطلبون، وحين تطابق إرادتُنا إرادتهم. أمّا العمل الرسوليّ الحقّ فهو مطابقة الحياة المسيحيّة للإنجيل وحسب، بل إنه مطابقة تصرّفنا لتصرّف الله نحو أناس يطلبونه وينتظرون كلمته.
آ 5-6 ويظهر مثلّثٌ سلبيّ جديد: لا تملّق، لا طمع، لا طلبَ مجد. التملّق يقوم باستعمال وسائل ترتبط بالكذب لتؤثّر على شخص أو لتنتفع منه.
أما التسالونيكيّون فيعرفون أن الرسل لم يتملّقوهم بل أظهروا عيوبَهم ونواقصَهم. والطمع يدفع الانسان إلى طلب المزيد من الربح. أما الباعث على عمل الرسل فلم يكن همُّ الغنى. وسيقول بولس إن الرسل عملوا في الليل والنهار لئلاّ يثقِّلوا على أحد (آ 9). وسيوضح في 1 كور 3:9-18 أنه يفتخر بإعلان الانجيل مجّانًا. يقول: يشهد الله عليّ أني لم أقبل مساعدةً إلاّ من أهل فيلبّي وتحت شروط. ولم يطلب الرسلُ مجدًا أو نجاحًا شخصيًا يجلب لهم احترام الناس وإعجابهم.
آ 7-8 كان يحقّ علينا أن نثقّل عليكم لأنّا رسلُ المسيح... لكن الرسل تخلّوا عن هذه الحقوق (رج 1 كور 9: 1 ي). فالرسول ممثّل المسيح المعتمَد، هو سفير (2 كور 5: 20)، وبهذه الصفة يحقّ له أن يثقّل على الناس. نلاحظ هنا أن بولس يسمّي سلوانس وتيموتاوس "رسلاً". ولكن هذه الكلمة ستنحصر في ما بعد بالاثني عشر الذين رافقوا يسوع من الجليل إلى أورشليم. فنحن نقرأ في 1 كور 15: 5-7 أن المسيح ظهر لبطرس ثم للرسل... ثم ليعقوب ولجميع الرسل. فلقب رسول يليق بغير الاثني عشر، يليق ببولس وكل الذين أرسلوا لإعلان الانجيل.
وحنَونا عليكم بسلطة رسوليّة وادعة. أجل، بدل ثقل السلطة الرسوليّة المؤسَّسة على حقوق الرسل، عرض بولس الوداعة: صرنا ودعاءَ بينكم. هذه الوداعة هي صفة الملوك والحكّام في التقليد اليوناني. في هذا الإطار من الوداعة تُمارس السلطة فتهتمّ بالخاضعين لها ولا تقسو عليهم. في هذا السبيل قارب آباء الكنيسة بين العبارة "وديعًا بينكم" وبين كلمة المسيح (أنا بينكم كالخادم"، لو 22: 27). جعل يسوع نفسه الوديع والمتواضع القلب، أصغر الجميع وخادمهم. ولهذا لم تكن سلطته ثقلاً على الناس.
حنَونا عليكم حنوّ الأم على أولادها... كيف نلمس هذه الوداعة في ممارسة السلطة الرسوليّة؟ يعود بولس إلى صورة المُرضع التي تهتمّ بالأولاد حتى الفطام، بل إلى صورة الأم التي تغذّي أولادها وتسهر عليهم إلى أن يصيروا قادرين على مجابهة صعوبات الحياة. التعليم والتربية طعامٌ وشراب (1 كور 3: 2)، ولكن بولس يشدّد على الحنان لا على الطعام بعد أن صار المؤمنون أحبّاء الرسل. البرهان على هذا الحبّ الخارق هو أن الرسل أرادوا أن يشاركوهم في حياتهم، لا في بشارة الانجيل وحدها. أجل، أراد الرسل أن يعطوا قلوبهم وحياتهم وكل ما يؤسّس رسالتهم.
آ 9-12 هنا نقرأ عن محبّة الرسل الملموسة تجاه الجماعة المسيحيّة. والمحبّة في العهد الجديد لا تبقى على مستوى العواطف والكلام بل تصل إلى العمل. وبرهن الرسل عن محبّتهم بالجهد والتعب، بقساوة الحياة وبما احتملوه خلال إقامتهم في تسالونيكي. والواقع الذي يؤثّر في المؤمنين هو أن الرسل عملوا بأيديهم في الليل والنهار فلم يثقِّلوا على أحد. إذًا لم يكتفوا بإعلان الانجيل، بل أعلنوه وما طلبوا في المقابل شيئًا، حتى ولا طعامهم. رج 2 تس 3: 8: "لا أكلنا الخبز من أحد مجّانًا، بل عملنا ليلاً ونهارًا بتعَب وكدّ حتى لا نثقّل على أحد منكم" (رج 1 كور 9: 13 ي).
ولم يكتف الرسل بالعمل، بل وافق تصرّفُهم كرازتَهم. ويمكن التسالونيكيّون... والله أيضًا... أن يشهدوا بذلك. اليهود والوثنيّون نظروا إلى الرسل كلٌّ من زاويته. أما المؤمنون فيعرفون أن سلوك الرسل كان "نزيهًا عادلاً لا لومَ فيه". نزاهة وقداسة، عدالة ودقّة في المعاملة. وسيطلب بولس إلى الله أن "يقوّي قلوبهم بقداسة لا لوم فيها" (3: 13) ويحفظهم منزّهين عن اللوم (5: 23).
ووسّعت آ 10-12 النظرة حتى شكّلت خاتمةً لهذه المجموعة الأولى 1: 2- 12:2. ويقابل بولس موقفه بموقف الأب والمربّي كما قابله بموقف الأم والمُرضع. والمربّي يستعمل وسائل تربوية ليصل أولادُه إلى الهدف الأخير ويكرّسوا له جهدهم.
وهذه الوسائل ثلاث: فهو يعظ ويحرّض، وهو يعزّي ويشجّع فلا يكتفي بوضع الأساس (1 كور 3: 10) بل يؤمّن صلابة البناء بعده. وإذ يعزّي يحافظ على الرجاء ويهدّئ القلوب الخائفة القلقة وهو يناشدهم فيدعوهم بطريقة احتفالية ويلقي بثقل شخصه وسلطته ليقنعهم بأن يأخذوا القرار ويلتزموا به. ومجموع عناصر هذه التربية الرسوليّة الأبويّة هو في خدمة تربية المؤمنين ليثبتوا في حياتهم. هذا كلّه سيكون موضوع ف 4- 5.
وهذا السلوك الجديد لا تبرّره اعتباراتٌ أخلاقيّة وفلسفيّة وإنسانية، بل دعوة الله في الكنيسة. وجوابنا يصبح الدافع الأول لأخلاقيّة المسيحيّة: لدخول في عالم الإيمان والمحبّة والرجاء. كل هذا يفرض تحوّلاً. وهذه الدعوة لا تصل إلى هدفها الأخير مع تأسيس الكنيسة بل حين تصبح الكنيسةُ ملكوت الله. وملكوت الله عند القديس بولس لا يشمل كما عند الانجيليّين بُعدًا حاضرًا، بل هو في نهاية نموّ الكنيسة وصيرورتها التاريخيّة (1 كور 15: 22-23، 50، ملكوت الله يتبع قيامة الموتى).
ومجد الله ليس واقعًا يختلف عن الملكوت. هو ملكوت مجده لأن فيه يكتشف بطريقة شاملة ونهائيّة حضور الله الحامل السعادة. فيبقى على المؤمنين أن يعيشوا عيشًا يليق بهذه الدعوة، وأن يعتبروا هذه الدعوة ذات قيمة في كلّ سلوكهم.


4- بولس يمتدح إيمان التسالونيكيّين (13:2-17)
آ 13 يعود بولس الرسول إلى فعل شكر يرتبط لا بالآيات. 1-12 وحسب، بل بالآيات 1-12 التي تقدّم سببًا ليشكروا الله ولا ينقطعوا عن شكره. فهم قد كرزوا بالانجيل كأناس أرسلهم الله (آ 2-4) وتصرّفوا تجاه التسالونيكيّين بالتجرّد والمحبة اللذين تفرضهما هذه الرسالة (آ 5-12). لهذا يستطيعون أن يرفعوا آيات الشكر لأن إخوتهم في تسالونيكي قبلوا كرازتهم على أنها كلمة الله. ولو كان الأمرُ غيرَ هذا لكان مجيئُهم اليهم عبثًا وباطلاً (آ 1). يقول بولس: حمَدنا الله وسنحمده أيضًا مرةً ثانية، وهو يشهد للمسيحيّين على صحّة رسالته بينهم. عمَّ يشكر الله؟ لأن التسالونيكيّين سمعوا كلمة الله يكرز بها المرسلون فقبلوها، لا كأنها كلامُ بشر يُشبه ما يسمعه الناس في الساحات أو زوايا الهياكل أو قاعات المتكّلمين، بل كأنها كلمة الله. وهي لكذلك. وفيمَا يرى السامعُ في هذه الكلمة كلمةَ الله ويقبلُها كذلك، يسمعُ نداء الله فيُعطي الايمان ويتحقّق الاختيار من قبل المسيح (1: 4). ولهذا نفهم كيف أن إيمان التسالونيكيّين المتجاوبَ مع الكرازة أوحى إلى بولس أفعال شكر متتابعة. كانت الكرازةُ القسمَ الأول، والإيمانُ القسمَ الثاني من عمل الله الذي بدأ بالكرازة وانتهى بالايمان. وإذا كان مجيء الرسل ناجحًا فلأنهم كانوا حقًا عمّالاً في حقل الربّ يكرزون بالانجيل ويوجّهون بمحبة خطى الكنيسة الأولى، ولأن التسالونيكيّين آمنوا ففتحوا قلوبهم لعمل كلمة الله فقبلوها بالإيمَان.
آ 14 على مثال كنائس الله في اليهوديّة (رج 1: 6-7). هذا المصير الذي يؤول إليه سرّ المسيح الفصحيّ، لم يكن مصيرَ الرسل فحسب، بل مصير كنائس اليهوديّة. فالاضطهاد أصاب الفئة الهلّينيّة من كنيسة أورشليم (أع 7: 1ي). ولاحق بولسُ المسيحيّين المشتَّتين (أع 3:8-4) حتى إلى دمشق (أع 9: 1ي؛ 4:22-5؛ 9:26- 11). وهكذا كتب التسالونيكيّون صفحة في تاريخ الشهادة ليسوع وللإنجيل بالآلام والاضطهادات: تألموا من أبناء أمّتهم كما تألّم أبناء كنيسة اليهوديّة من أبناء أمّتهم. لقد تأثَّرت سلطات المدينة بضغط من اليهود ففرضوا على المسيحيّين أمورًا ثقيلة. وهكذا يحدّد بولس شريعة انتقال الانجيل وتأسيس الجماعات المسيحيّة: كما أن إعلان الانجيل على يد المسيح لم يحمل ثماره إلاّ عبر سرّ الموت، هكذا سيعرف الرسل المصير عينه، وكذلك كنائس اليهوديّة وكنائس اليونان. وسيكتب بولس في هذا الصدد: "ونريد أن نخبركم بما فعَلته نعمةُ الله في كنائس مكدونية. فهم مع كثرة المصاعب التي امتُحنوا بها، تحوّل فرحُهم العظيم وفقرُهم الشديد إلى غنى بسخائهم" (2 كور 8: 1-2).
آ 15-16 هناك شرّاح اعتبروا أن القدّيس بولس لم يكتب هاتين الآيتين. وقدّموا برهانًا لقولهم السببين الرئيسيَّين التاليَين: تقول آ 15 "لا يُرضون الله ويعادون جميع الناس". هذا الكلام يتعارض مع روم 9- 11 حيث يتطرّق بولس إلى رفض اليهود الايمانَ بالانجيل، وإلى معنى هذا الرفض لتاريخ الخلاص. هنا نجد روحًا عدائيّة، أما في روم 9- 11 فبولس يسمّيهم إخوته ويصلّي لأجلهم. هذا الكلام يمكن أن يكون كتب في ما بعد، بعد انفصال اليهود عن المسيحيّين. ونقرأ في آ 16: "نزل عليهم في النهاية غضب الله". أتُرى بولس يتنبّأ؟ مثل هذا الكلام يفترض دمار الهيكل وأورشليم وتشتّت اليهود.
ولكن هل نحسب أننا نقرأ فكر بولس فقط في روم 9- 11 ولا نقرأه في مكان آخر؟ بل نقول إنّ بولس حين كتب الرسالة الأولى إلى التسالونيكيّين هو غيره حين كتب الرسالة إلى الرومانيّين، أي بعد ستّ سنوات. وسببُ التبدّل لا يعود إلى اليهود الذين ظلّوا يعارضون الانجيلَ وبولسَ نفسَه إلى النهاية، ولا يعود إلى أنّ بولس عادى أبناء أمّته ثمّ أحبّهم. السبب هو أنّ بولس فهم بصورة أفضل تاريخ الخلاص وقيمة الوقت لتحقيق مخطّط الله.
يوم كتب بولس 1 تس كان مقتنعًا باْن يوم مجيء الرب قريب، ومجيءُ الربّ يحمل الدينونة التي أعلن عنها الأنبياء (رج أش 13: 9). قبل ارتداده اعتبر الوثنيّين أعداءَ الله. أما بعد ارتداده فاليهود صاروا أعداء الله وأعداءَ شعبه، ولهذا سيحلّ عليهم غضبُ الربّ.
ولكن يومَ كتب بولسُ رسالته إلى الرومانيّين كان قد خطا خطوةً في تفهّم الانجيل الذي علّمنا أن الفشل يدخل في مخطّط الله (مر 4: 1-12؛ يو 12: 39- 41؛ أع 28: 26-28؛ أش 6: 9- 10). وفشلُ الانجيل بحسب روم له مدلولٌ إيجابيّ. هناك أولاً بقيّةٌ من الشعب اليهوديّ صاروا تلاميذ يسوع فكانوا امتدادًا من إسرائيل إلى الكنيسة. ولكن "بسبب خطيئة اليهود صار الخلاص للأمم" (روم 11: 11). فلو كان بنو إسرائيل بمجملهم تقبّلوا تعليم الإنجيل، لما كان للوثنيّين مكان في الكنيسة... وهكذا بعد رحلة رسوليّة طويلة يستعدُّ فيها بولسُ للذهاب إلى إسبانيا مارًا في رومة، نراه يخطّط مستبعدًا قرب مجيء الربّ فصار يرى في عدم إيمَان أبناء أمّته شرطًا عابرًا للرسالة إلى الأمم. إذًا لا بدّ من القبول بتطوّر في فكر بولس الرسول في هذا المجال. حسبَ أن النهاية قريبةٌ وأن اليهودَ صاروا أعداء يسوع فاستحقّوا الغضب الآتي. فهمَ أن النهاية بعيدة فجعل اليهود في مخطّط الله الشامل: إذا كان في زلّتهم غنى العالم وفي نقصانهم غنى لسائر الشعوب، فكم يكون الغنى في اكتمالهم (روم 11: 12). لا! لم يرذل الله شعبَه (روم 11: 1) وسيأتي يوم يخلُص فيه جميع بنىِ اسرائيل (روم 11: 26)، بل جميعُ الشعوب.

5- بين ذهاب الرسل وبعث الرسالة (17:2-3: 10)
ابتعد بولس عن التسالونيكيّين فقلق عليهم: أين صار إيمانهم وثباتهم في المحن التي أصابت الجماعة؟ هل تزعزع (3:3)؟ نجح المجرّب فأبطل عمل المبشّرين (3: 5)؟
أما الموضوع الذي يدور حوله هذا المقطع فهو الضيق والمحنة والشدّة. هنا يعود بولس إلى ما علّمه للتسالونيكيّين فيذكّرهم أن الخصومة لا بدّ آتية على الذين آمنوا بيسوع (رج أع 14: 22؛ يع 1: 2-3، 12؛ 1 بط 1: 6-7؛ روم 2:5-4).
آ 17- 20 حاول بولس، ولكن عبَثًا، أن يرى وجه التسالونيكيّين مرةً ثانية. طُرد من تسالونيكي فوجد نفسه فجأه كأم (آ 7) أو كأب (آ 11) حُرما من أولادهما. وضعٌ مؤلم لا يستطيع الرسول أن يتحمّله طويلاً. ولكن رغم البعد، ظلّ التسالونيكيّون حاضرين لدى قلب الرسول، كما لو لم يكن يفصلهم عنه شيء. حاول بولس أن يضع حدًا لهذا الانفصال (آ 18). فكرّر المحاولات ليذهب إليهم فاصطدم كلَّ مرة بحاجز منيع لا يحدّده. ترك بولس تسالونيكي لأن حياته كانت في خطر (أع 17: 5 ي). أيكون الحاجزُ هذا الخطَر على حياته؟ فمهما يكن من أمر، فبولس يرى في الحاجز الذي يؤلم قلبه ويقيّد رسالته، عملَ الشيطان أكبر عدوّ للمسيح وكنيسته.
هل من المعقول أن يتخلّى بولس عن كنيسة هي إكليل افتخاره في يوم مجيء الرب في مجده؟ فالتسالونيكيّون هم رجاء بولس، لأنه يأمل أن يقف معهم أمام الرب ويعلن أن تعبه لم يكن باطلاً (3: 5). وهم فرحه، لأنه يرى فيهم عمل الرب بواسطة خدمته (2: 13)، ويسرُّ لأنهم يرضون الله. وهم إكليلٌ يفتخر به لأنهم يشهدون لانتصار يسوع في جولات الرسول (روم 15: 17 ي). أجل، إن التسالونيكيّين (رج فل 4: 1) هم رجاؤه لأنهم أول من اعترف بإيمانه في الألم. ويستنتج: أجل، أنتم مجدُنا وفرحُنا.
هنا نتوقّف عند مجيء الرب. فالكلمة اليونانيّة تعني الحضور والمجيء (1 كور 17:16؛ 2 كور 6:7)، مجيء ابن الانسان على سحاب السماء (مت 24: 27، 37، 39)، مجيء الرب لخلاص الكنيسة ودينونة العالم.
أما عبارة مجيء الرب فنقرأها عند القديس بولس في 19:2؛ 13:3؛ 4: 15؛ 23:5؛ وفي 2 تس 2: 1؛ 8 وفي 1 كور 15: 23 (مجيء المسيح) وفي رسالة يعقوب (5: 7، 8) وبطرس الأولى (1: 16؛ 3: 4). من أين جاءت هذه العبارة؟ من العهد القديم الذي حدّثنا عن مجيء يهوه (الربّ) ليدين العالم ويقيم مُلكه. أدخل بولس هذه العبارة في 1 تس، أول كتب العهد الجديد، فتجذّرت في كلمات يسوع تعلن مجيء ابن الانسان على السحاب (مر 38:8؛ مت 25: 31). وعندما كثر المؤمنون بيسوع المسيح المصلوب والمنبعث انتظروا بحماس مجيئَه المجيد الذي يبرّر إيمانهم ويتمّ خلاصًا كان الروح تسبيقًا له وعربونًا (أع 3: 19؛ روم 8: 23). والدعاء "ماراناتا"، أي تعالَ أيها الربّ (1 كور 16: 22) يسوع (رؤ 22: 20)، يشهد لانتظار مجيء الرب منذ أيام الكنيسة الأولى.
3: 1 ونتوقّف عند رسالة بولس في تسالونيكي. فبعد أن يورد لنا محاولاته اليائسة ليذهب إلى كنيسة عزيزة على قلبه (17:2-20)، يعلن أن صبرَه فرغ ولم يعد يقدر أن يحتمل الانفصال عن إخوة يحتاجون إليه. لم يستطع هو الذهابَ إلى تسالونيكي، فسيرسل إذًا تيموتاوس، ويحرم نفسه من رفيقه الوحيد، ويفرض على نفسه أن يعيش في العزلة في أثينة بعد أن بقي سلوانس في بيرية ليثبّت الكنيسة هناك.
آ 2 ويعطي بولس تيموتاوس ألقابًا تدلّ على ما يربطه به في الإيمان: هو أخونا بصفته عاملاً في حقل الله، أي بشارة الانجيل، وهو معاوننا في بشارة المسيح، وهو خادم الله. لا بدّ أن التسالونيكيّين عرفوا في شخص تيموتاوس ممثلاً حقيقيًا لبولس: حمل الأخبار إلى كنيسة تسالونيكي وحلّ محلّ الرسول عند مؤمنين تُركوا وحدَهم ولمّا يمض زمنٌ على ارتدادهم. فكان عليه أن يثبّتهم في إيمانهم فلا يتزعزعون وأن يحرّضهم في ما يخصّ إيمانهم لأن القنوط والشكّ والخطيئة تهدّدهم في كلّ خطوة من خطاهم.
آ 3 وعلى تيموتاوس أن يسهر لئلا يتزعزع أحد منهم في الشدائد، شدائد كنيسة تسالونيكي (1: 6) وشدائده الخاصة التي يمكنها هي أيضًا أن تزعزع الكنيسة. لا يفصل بولس بين شدائده (17:2 ي) وشدائد التسالونيكيّين (6:1؛ 2: 14) التي هي حصّة المسيحيّين. يتحدّث بولسُ عن هذه الشدائد، مشيرًا إلى الظروف التي تفصل الرسول عن التسالونيكيين (2: 17 ي) وإلى المعارضة التي لاقاها التسالونيكيّون (2: 14؛ 3: 4). فيجب ألاّ تكون هذه الشدائد معثرةً لإيمانهم لأنهم عرفوا، من صليب المسيح، أنهم سيواجهون الجهاد والتجارب والالام الخاصة بنهاية الزمن ليعبروا بواسطتها إلى ملكوت الله (أع 22:14).
آ 4-5 وكان بولس قد نبّه التسالونيكيّين إلى هذا. لم يعد يتحمّل بُعده عن التسالونيكيين، فأرسل تيموتاوس ليستخبر عن إيمانهم. هل هو ثابت أم هل تزعزع؟ وأخذ القلق بقلب بولس وهو العارف أن المجرّب يستفيد من الشدّة ليقضي على الايمَان في القلوب ويجعل تعب الرسل وكأنه لم يكن.
آ 6 ورجع تيموتاوس إلى بيرية، وجاء مع سلوانس إلى كورنتوس (أع 18: 5). لا يذكر بولس إلاّ تيموتاوس الذي قام بمهمته خيرَ قيام (3: 2). وهو يكتب متأثّرًا بما جاءه من أخبار، وفرحًا بالرباط الذي ربطه من جديد بكنيسة التسالونيكيّين عبر شخص رسوله. أجل، التسالونيكيّون يؤمنون بيسوع المسيح ويحبّون بعضُهم بعضًا (4: 9). وهكذا زالت مخاوف الرسول لأن المؤمنين لم يتزعزوا (3: 3). ثم إن التسالونيكيّين ما زالوا متعلّقين برسولهم مع أنه تركهم فجأة، ويشتاقون إلى رؤيته كما يشتاق هو إلى رؤيتهم.
آ 7-8 المهمّ أن التسالونيكيّين حافظوا على إيمانهم وهذا ما عزّى بولس في كلّ شدائده. إلى أي شدائد يلمح بولس؟ ربما إلى تلك التي عاناها في كورنتوس. ثم إن تعزيات الله وسط رسالته هي اختبار ثابت عند الرسول، فيقول مثلاً في 2 كور 7: 6: "ولكن الله الذي يعزّي المتّضعين عزّانا". هو إله كل عزاء. يعزّينا في جميع شدائدنا لنقدر أن نعزي سوانا في كلّ شدّة (2 كور 1: 3- 4). أما الآن فعزاؤه يقوم بأن يعرف أنّ عمل الله لم يتوقّف في تسالونيكي وأن الكنيسة ثابتة. خاف من أن تتغلّب حيلُ المجرّب على إيمان التسالونيكيّين فكاد يفقد الحياة، وأما الآن وبعد أن عرف أنهم ثابتون في الايمان والطاعة للربّ فلقد عادت الحياة إليه.
آ 9- 10 فأيّ شكر يوازي الفرح الذي أحسّ به من أجلهم. ارتاح الآن، فلم يعد يحاول الذهاب إلى التسالونيكيّين، ولكنه ينتظر من الله هذا اللقاء الذي يتوق إليه بكل قلبه، ليس فقط من أجل الفرح الذي سيحسّ به من أجل الفائدة التي سيقدّمها لإخوته حين يكمّل ما نقص من إيمانهم. فالنقص موجود في إيمان التسالونيكيّين، والرسل تركوهم، قبل أن يعلّموهم كل الحقائق المسيحيّة، ويربّوهم في الحياة الجديدة، ويدلّوهم على كل غنى نعمة المسيح وعظمة متطلّباته. لو كان إيمان التسالونيكيّين كاملاً لكان تأثيره كبيرًا على حياتهم. إذًا سيكمّل بولس كل نقص في إيمانهم ليصلح أيّ خطأ في تصرّفهم الأدبي. وسيبيّن لنا القسمُ الثاني من الرسالة ماذا سيعمل.
أجل، ويعود بولس إلى الفرح والعزاء، ولكنه يبقى واعيًا للنقص الحاصل في إيمان التسالونيكيّين. ولهذا يكتب هذه الرسالة ويتشوّق إلى أن يعود فيرى وجه أبنائه من جديد.

6- خاتمة القسم الأول: صلاة (3: 11-13)
تتوجّه هذه الصلاة إلى الله أبينا وإلى ربّنا يسوع المسيح في وقت واحد. الآب والربّ يؤلّفان وحدة. وتتضمّن طلبتين رئيسيّتين، واحدة لبولس وأخرى للمسيحيّين.
يسأل بولس لنفسه أن يستطيع المجيء إلى تسالونيكي فيتمّ له ما رغب في آ 10، ويسأل للمسيحيّين والنموّ والتقدّم في المحبّة. أجل، إن تقدّم الحياة المسيحيّة هو نتيجة الصلاة والعمل البشريّ.
والمحبّة التي يتمنّاها بولس محبّة شاملة بعضنا لبعض، بل ولجميع الناس. أما المثال فمحبّة الرسل لجماعة تسالونيكي (2: 1-12؛ 17:2؛ 3: 10) التي بانت عبر عطاء نفوسهم لهم. وهذه المحبّة مهمّة بسبب الطابع الإسكاتولوجي. في 1 كور 13 يحدّد بولس أنّ الايمان والرجاء والمحبّة ذات قيمة أبديّة ولكن أعظمهن المحبة. بفضل هذه المحبّة تتثبّت قلوبُ المؤمنين وتتشجّع إلى النهاية تجاه المحن والشدائد، فيثابرون على القداسة. هذه القداسة تجعل الانسان بلا لوم. ولهذا يطلب بولس ألاّ يجد الربُّ، في يوم مجيئه، أيَّ لوم عند المؤمنين.
ذكر بولسُ مرارًا مجيء الرب. ففي 1: 10 قال إن المؤمنين ينتظرون مجيء ابن الله من السماوات، وفي 19:2 انتظر أن يجد الفرح والرجاء في ذلك المجيء. وها هو يعود إلى هذا المجيء حيث يكون الرب حاضرًا في كلّ شيء، لأنّ كلّ حضور الكنيسة وكلَّ عمل رسوليّ يتوجّهان في انتظار نشيط نحو كمال هذا المجيء.
سيجيء ربُّنا مع جميع قدّيسيه، لا مع المؤمنين الذي سيُخطفون ليذهبوا إلى لقائه، بل مع الملائكة، على ما قال زك 14: 5 (ويأتي الربُّ إلهي ومعه كلّ قديسيه أي ملائكته). ونحن نعرف أن العهد الجديد يجعل في رفقة المسيح الملائكة القدّيسين (مر 38:8؛ لو 26:9). ونلاحظ أيضًا أن 2 تس 1: 7 تتحدّث عن مجيء الرب المجيد برفقة ملائكته. نحن هنا في إطار ليتورجي، وما يهمّنا، في الدرجة الأولى، هو عظمة الربّ ورهبتُه عند مجيئه. وينتهي هذا القسم، في بعض المخطوطات، بكلمة آمين، ممّا يعني استعمال هذا النص في الليتورجيا.
ب- القسم الثاني: تحريضات رسولية (4: 1-28:5)
هذان الفصلان الأخيران يمثّلان القسم التحريضيّ من الرسالة لأنه يتضمّن توجيهات في الأخلاق وفي حياة الجماعة، كما يحدّدها الرسول باسم الايمان المسيحيّ.

1- مقدمة (4: 1-2)
التحريض بالنسبة إلى القديس بولس عمل رئيسيٌّ من أعمال مؤسّس الكنيسة، وهو يختلف عن فرض وصايا وقواعد أخلاقيّة لأنه مؤسَّس على يسوع المسيح. التحريض إعلانٌ للإنجيل في نتائجه العمليّة الملموسة وفي المتطلّبات المرتبطة بالايمان.
هذه المتطلّبات ليست جديدة بل هي تذكير بما "تعلّمتموه منا". نهاية فعل الشكر الأول حدّدت الخطّ الرئيسي: لتعيشوا عيشة تليق بالله الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده (2: 12). وهذا المستقبل الذي يعد به الربُّ المؤمنين يتجذّر في سرّ يسوع الفصحي. ولكن بولس يعود إلى هذا المستقبل لا إلى الماضي ليستَقي المتطلّبات المسيحيّة التي تتجسّد في المحبّة بكل أشكالها. وتجاه هذا المستقبل يجب أن نرضي الله بصدق وأمانة، فيشهد سلوكُنا لعلاقة حميمة مع الله. إذًا، ستستنير الحياة المسيحيّة كلها بهذا المستقبل بمجيء ربّنا المنتظَر.
في كل هذا يريد بولس لجماعته أن تتقدّم، أن تتابع المسيرة في خطّ رسمه لها، فترضي الله. أما التعليمات فهي من الربّ يسوع ونحن نتقبّلها في الايمان والطاعة للربّ الذي نعترف بسلطته.

2- الأخلاقيّة الجنسيّة والزواج المسيحي (3:4-8)
نقرأ أولاً دعوةً إلى القداسة. فنداء الله لأناس ليجتمعوا في كنيسة هو نداء للقداسة. لقد تمنّى بولس مرتين (13:3؛ 23:5) أن يقدّس الله قرّاءه. الله هو القدّوس، وهو يدعو أبناء كنيسته إلى القداسة. إرادة الله تحمل متطلّبات، هي تدلّ على أن الجماعة المسيحيّة تختلف عن سائر الجماعات. ولهذا يحدّثنا بولس عن الآخرين (4: 5، 12 ,13؛ 5: 6)، فيشدّد على ضرورة إظهار الفرق بين المدعوّين إلى أن يكونوا قدّيسين وبين الآخرين.
وهذه القداسة لها نتائج في عالم الأخلاقيّة الجنسيّة. هنا يبرز تحريض في ثلاث نقاط وينتهي بتوضيح قصير.
النقطة الأولى: امتنع عن الزنى بكل أنوعه. النقطة الثانية: اتّخذ امرأةَّ في القداسة والكرامة. النقطة الثالثة: احترم حقوق غيرك من المتزوّجين. وما الذي يدفعنا إلى الأخذ بهذه المتطلّبات؟ الله الذي دعانا إلى القداسة لا إلى النجاسة.
إتّخذ امرأةً في القداسة والكرامة. يتحدّث النصُّ عن إناء نصونه. فعاد الشّراح إلى اليونانيّة وتكلّموا عن الجسد الذي نصونه. أما الذين عادوا إلى تقاليد المعلّمين اليهود ففهموا العبارة بمعنى المرأة التي نتّخذها فنصونها. وهكذا يكون هذا الكلام قريبًا ممّا ورد في 1 بط 3: 7: "وأنتم أيها الرجال، عيشوا مع نسائكم عارفين أن المرأة (الإناء) مخلوقٌ أضعف منكم". تحريض بولس ليس نصيحة في الزواج بسبب خطر الزنى (1 كور 7: 2)، بل تشديد على طريقة العيش في الزواج. إن بولس يعارض هنا بين حياة مسيحيّة زوجيّة وبين الفلَتان الجنسيّ الذي عرفته مدنٌ تأثّرت بالمدنيّة الهلّينيّة. في هذا الإطار يكون التشديد على عبارتي "كلّ واحد" و"زوجته الخاصة" تلميحًا خفيًا إلى وحدة الزواج والأمانة في الحياة الزوجيّة. نحن نجد في النص عبارة في القداسة والكرامة، ثم شهوة الوثنيّين الذين لا يعرفون الله. مثل هذه الشهوة تجعل المرأة شيئًا، بينما هي خُلقت لتكون مساعدةً للرجل.
ونتساءل: لماذا تكلّم بولس عن الزواج ولم يذكر المحبّة، كما فعل في أف 5: 26- 32؟ نجيب: شدّد بولس على المحبة وسيعود إليها. أما نستغرب أن تسيطر المحبّة على علاقات الناس بعضُهم ببعض دون أن تسيطر في الحياة الزوجيّة؟ ونجيب ثانية أن الكرامة التي يتحدّث عنها بولس قريبة من المحبّة. وإليك بعضَ الأمثلة: في روم 2: 10 نقرأ: أحبّوا بعضًا كإخوة وتنافسوا في إكرام بعضكم بعضًا؟ وفي 1 بط 3: 7 يصبح الإكرام موقف الرجل نحو امرأته: أظهروا لنسائكم الإكرام (رج 1 كور 12: 23- 24).
ونصل إلى النقطة الثالثة: احترم حقوق غيركَ من المتزوّجين. هناك كلمتان يختلف عليهما الشّراح: يُسيء إليه أو يظلمه. أما نحن فنقول الإساءة إلى الغير في الحياة الزوجيّة. وفي هذا الإطار، نقول إن بولس يتكلّم وللمرة الثالثة عن الأخلاقيّة الجنسيّة. لماذا هذا الغموض في كلام بولس؟ لأن الحشمة تمنعه من التكلّم بوضوح في هذا المجال. ألم يقل في أف 3:5: "أما الزنى والطمَع والنجاسة فلا يليق بالقدّيسين حتى ذكرُ أسمائها"؟
ما الذي يدفع المؤمنين إلى القبول بهذه المتطلّبات؟ "لأنّ الربَّ ينتقم في هذه الأشياء كلّها، كما قلنا لكم من قبلُ وشهدنا به". لا نجد كلمة "ينتقم" في العهد الجديد إلاّ في روم 13: 4. وهي تدلّ على السلطات السياسيّة التي تعاقب المدنيّين. أما هنا فنحن أمام عقاب الربّ يسوع، في خطّ العهد القديم (مز 99: 8؛ 94: 1). هذا الكلام يوجّهنا نحو الدينونة الاسكاتولوجيّة، نحو الرب الذي سيأتي كديّان فيُحاسب كلَّ واحد حسب أعماله. فيجب أن نقف أمامه أبرياء وبلا عيب (13:3؛ 5: 23). والنظرة إلى الدينونة الأخيرة تبيّن أهميّة تحريض القديس بولس: الربّ لا يستطيع أن يُغمض عينيه عن سوء سلوك الذين يؤمنون به. فالانسان حرٌّ في أن يؤمن أو لا يؤمن، ولكن إن آمن فرَض عليه إيمانُه متطلّبات جديدة. وسيكون الله متطلّبًا بالأخص من الذين تجاوبوا ونداءه ولبَّوا دعوته.
ما دعانا الله لنبقى في النجاسة، بل لنحيا بالقداسة (آ 7). دعانا الله لا بالكلام فقط (1: 5) بل بموت ابنه من أجلنا. ونحن نلبّي دعوته حين ندخل، بسبب قيامة المسيح، في جماعة تشارك في قداسة الله. فمن عاش في النجاسة دنّس هذه القداسة. هذا الكلام سيوضحه بولس حين يقول في 1 كور 3: 16- 17: "أما تعرفون أنكم هيكلُ الله وأن روحَ الله يسكن فيكم؟ فمن أفسد هيكلَ الله، أهلكه الله لأن هيكل الله مقدّس، وأنتم أنفُسكم هذا الهيكل".
ويختتم بولس كلامه: "من رفض هذا التحريض لا يرفض إنسانًا بل الله الذي يمنحكم روحه القدوس" (آ 8). نحن على مستوى الأمور الخطيرة، على مستوى التهديد، وبولس في ذلك هو صدى لكلام يسوع في لو 10: 16: "من سمعكم سمعني، ومن رذلكم رذلني، ومن رذلني رذل الذي أرسلني". كيف يستطيع الناسُ أن يدخلوا في علاقة مع الله؟ حين يستقبلون رسل الله لأنهم يمثّلون يسوعَ المرسلَ من الله. والانفصال عن الله يتّخذ الطريق عينها: نرذل مرسل المسيح فنرفض المسيح بالذات. هنا لا يسمّي بولسُ نفسَه، ولكن العبارة واضحة: من يرفض الرسول لا يرفض إنسانًا بل الله.
وهذا الرفض خطيرٌ لأن الله هو إله العهد. والعبارة "الله الذي يمنحكم روحه القدّوس" تذكرنا بنبوءة حزقيال (37: 14) عن العهد الجديد: وأجعل روحي في داخلكم فتحيون. ثم إن التشديد على التقديس دفع الرسول إلى ذكر الروح، أداة كلّ تقديس. والعهد الجديد الذي أعلنه إرميا وحزقيال هدفُه تجديد القداسة في شعب الله بتنقيته من كل نجاسة. فنقرأ في حز 25:36-27 (ق مع 4: 1- 8): "أُظهر قداسة اسمي العظيم... حين أُظهر قداستي فيكم... أرشُّ عليكم مياهًا نقيةً فتصيروا أنقياء. أطهّركم من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم... وأجعل فيكم روحًا جديدًا... أجعل فيكم روحي وأجعلكم تسيرون بحسب شرائعي".
هنا لا يُعطى الروح للجماعة، بل لكلّ واحد من الجماعة، وهذا ما يفرض سلوكًا يوافق انتماءَنا إلى شعب العهد. يقرأ بولس حزقيال على ضوء موت المسيح وقيامته فيعلن: أقيم العهد الجديد وأعطي روحَ الله الموعودَ به حتى للذين ليسوا من نسل ابراهيم. هذا العهد هو أساسٌ آخر لمتطلّبات القداسة التي أوردها القديس بولس.


3- المحبّة الأخويّة الملموسة (9:4- 12)
يعلن بولس أنه من النافل الحديث عن المحبّة الأخوية، ولكنه مع ذلك يذكرها سريعًا. فمراسلوه يعيشون هذه المحبّة التي دفعته إلى رفع آيات الشكر إلى الله (3:1؛ 6:3-9). ثم إنّ نبوءة أشعيا (13:54) عن إعادة بناء أورشليم، عروس الربّ (كلُّ بنيك سيكونون معلّمين من عند الربّ)، ونبوءة إرميا (31: 34) عن العهد الجديد (لا يعلّم كلُّ واحد قريبَه وكلُّ واحد أخاه قائلاً: إعرف الربّ)، تطبَّقان على التسالونيكيّين الذين تعلّموا من الله المحبّة الأخوية وأظهروها داخل جماعتهم (يحبّ بعضكم بعضًا)، وتجاه سائر الجماعات المسيحيّة (جميع الإخوة في مكدونية كلّها). ولكن يبقى عليهم مع ذلك أن يَنمُوا في هذه المحبّة: يعيشون حياة هادئة، يهتمّ كلُّ واحد بشغله، يكسَبون رزَقهم بعرق جبينهم.
أيّ مرض رآه بولس فقدّم له الدواء؟ انتشرت بلبلةٌ ولَّدَها اليقين أن مجيءَ الربّ قريب. هذا الافتراض يستند لا إلى 1 تس بل إلى 2 تس 3: 6-12، ولهذا فهو لا يرضي الذين يحسبون أن قرب مجيء الرب يجعل الناس يضاعفون عملهم. أيكون أنَّ بولس يدعو جميع المؤمنين إلى العمل بعد أن كان وقفًا على العبيد؟ الأمرُ معقول، وبعض التسالونيكيّين كانوا من التجّار أو الملاّكين الكبار الذين لا يحتاجون إلى العمل بأيديهم ليقوموا بأود حياتهم، كان عندهم من يخدمهم فعاشوا في كسَل هائج. لهذا يدعوهم بولس ليعيشوا عيشًا هادئًا فتتحسّن علاقاتُهم مع الآخرين. وأفضل وسيلة لإيجاد هذا السلام هو العمل اليدوي كيفما نظر الناس إليه.
وطريقة الحياة هذه ستكون شهادةً حسنةً لغير المسيحيّين وتعطي استقلالاً للإنسان، أي حريّة تجعله لا يرتبط بأحد من أجل حاجات الحياة البسيطة ولا تكون به حاجة إلى أحد. نحن لسنا أمام اكتفاء يجعلنا نحتقر ما يمكن أن يحمله الغير إلينا، ولا أمام رفض لتكامل الأعمال في المجتمع، بل أمام ظلم نُزيله بسبب وجود المتطفّلين.
ولكن، أية علاقة بين العمل اليدويّ والمحبّة الأخويّة؟ لماذا نضع حاجزًا بين المحبّة والعدالة؟ ثم إن عمل بولس اليدويّ (9:2) كان تعبيرًا عن محبته للتسالونيكيّين. وهكذا يساعد العملُ اليدوي على المحبة الاخوية.

4- الرجاء في مجيء الربّ والحياة المسيحيّة (13:4-5: 11)
13:4 يحدّثنا بولس عن موت المؤمنين على ضوء الرجاء. لا نريد أيها الإخوة أن تظلّوا في جهل... وها هو يقدّم لهم تعليمًا مهمًا بعد أن وصلت إليه معلوماتٌ عن البلبلة التي حدثت في كنيسة تسالونيكي على إثر وفاة بعض أعضائها. هل سيفوتهم مجيء الربِّ المجيد؟ هل يكون حظُّهم أقلَّ من حظّ المؤمنين الذين سيظلّون أحياء حتى ذلك المجيء؟ ومن يثق في نفسه أنه لن يموت قبل يوم الرب؟ إذًا، لا بدّ من تبديد هذا الغموض المؤلم بالنسبة إلى مصير الراقدين، أي الموتى.
لئلاّ تحزَنوا كسائر الناس الذين لا رجاءَ لهم. هل يعني بولس أن المسيحيّين لا يحزنون لموت إخوتهم فيتميّزون عن غير المؤمنين؟ أو هل يعني أن المسيحيّين يمارسون شعائر الحداد بطريقة تختلف عن طريقة اللامؤمنين الذين لا رجاء لهم؟ لم يرفض الرسول شرعيّة الحزن (روم 12: 15؛ 1 كور 12: 26)، بل أعلن أن حزن المسيحيّ أمام الموت له صفةٌ خاصة: إنه يستنير بالرجاء والعزاء الموعود. وهو بهذا يختلف عن موت الذين لا رجاء لهم. وبما أن لا رجاء إلاّ في المسيح (3:1؛ 1 كور 15: 19)، فالذين لا رجاء لهم هم اليهود (2: 16) والوثنيّون. ولكن بولس يتوجّه بالأخصّ إلى الذين كانوا وثنيّين وصاروا إخوتَه فأحسّوا باليأس أمام الموت. فهل ترك بولس التسالونيكيّين بلا رجاء، أمام الموت يسلبه منهم موت بعضهم؟ لا، ولكنّهم كانوا ينتظرون مجيء الربّ القريب الذي يضمّهم في مجده (3:1، 10؛ 2: 19ي؛ 13:3)، فلهذا حزنوا لموت بعض منهم، لن يكونوا مع الربّ عند مجيئه. هم أبناءُ الرجاء ولذلك يحزنون. وسيبيّن لهم بولس أن الرجاء بالربّ يسوِع المسيح (3:1) هو للمؤمنين أمواتًا كانوا أم أحياء، وأن الموتى المؤمنين سيُجمَعون مع الأحياء ليلاقوا ربَّنا في مجده ويشاركوه في مُلكه.
آ 14 فإذا كنّا نؤمن بأن يسوع مات ثم قام... يؤسّس بولس برهانه على يقين الايمان الذي يقرّ به التسالونيكيّون كما يقرّ به هو أيضًا. وفعل الايمان هذا يحدّثنا عن يسوع، لا عن المسيح (1 كور 3:15 ي)، ولا عن الربّ (روم 9:10)، ولا عن ابن الله (1: 10؛ روم 1: 3). لكنّ يسوع هو موضوع إيماننا لأنه المسيحُ والربُّ وابنُ الله، فيذكّرهم بولس أنهم يؤمنون بموت يسوع وقيامته، هو الانسان الذي بدأت فيه قيامة الموتى فكان عربونَها (1 كور 15: 20 ي). لاشكّ في أنّ بولس حدّث التسالونيكيّين عن قيامة الموتى التي لا تنفصل عن قيامة يسوع (1 كور 15: 12-20). ولكنّه لم يعلمهم بامتياز الأحياء الذين يقومون قبل الأموات (آ 16؛ 1 كور 15: 23)، في يوم مجيء الربّ. هذا الكلام إذًا عن القيامة العامّة في آخر الزمان مفتَرضٌ هنا، كما في 1 كور 15: 24.
إذا كنّا نؤمن... إذًا نستطيع أن نؤمن... لم يقل بولس هذا، فبدَّل بناء الجملة وقال: فكذلك نؤمن بأن الذين رقدوا مع يسوع سينقلهم الله إليه مع يسوع... وهكذا ينتقل فكرُ بولس إلى ما يهمّه، إلى الله سيّد التاريخ السامي ومنفّذ المخطّط الفدائيّ الذي يشكّل موتُ يسوع وقيامتُه فيه العملَ الحاسم. الله سيكمّل ما بدأ به فينقل الذين رقدوا مع يسوخ عند مجيئه المجيد. هذا هو الدافع الذي أثار القلق والحزن في قلوب التسالونيكيّين في ما يخصّ موتاهم: لم يُحرموا، لن يفوتَهم يومُ الربّ. الله سينقلهم مع يسوع. والعلاقة الحميمة بين هذا الفصل النهائي وموت المسيح وقيامته تفترض أن الموتى المؤمنين سيقومون. لم يقل بولس هذا وهو يعجّل في إعلان الواقع الحاسم: إنهم سيشاركون في مجد الربّ الظافر: الله سينقلهم إليه. كيف وبأيّة وسيلة وبمَن؟ بيسوع، وقد ذكَرنا موته وقيامته. يسوعُ سيكون وسيطَ تكملة العمل الفدائيّ، في نهاية الزمن كما كان وسيطَه في قلب تاريخ الخلاص.
آ 15 يبرّر بولس ما قاله في آ 14 وقد بدا جريئًا: هذا ما نقوله راجعين إلى كلام الربّ. كلامُ الربّ يورده بولس بحريّة وهو يعطي التعليم التالي كلّ ثقله. ماذا يقول هذا الكلام؟ نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الربّ لن نتقدّم الذين رقدوا. قوّة انتظار مجيء الربّ هذه يعبّر عنها بولس وكأنه سيبقى حيًا مع التسالونيكيّين في يوم مجيء ربّنا. وكلامه جوابٌ على سؤال قلق: هل سيُحرم الموتى؟ أما يتميّز الأحياءُ عن الموتى؟ هل ينتظرُ الموتى القيامةَ العامة لينضمّوا إلى الربّ ويشاركوه في مُلكه؟ لا، يجيب بولس الرسول. لا امتيازَ للأحياء، وهم لا يسبقون الأموات لدى الرب حين يأتي ليملك على الأرض. ولكن كيف يتساوى الأموات والأحياء عندما يأتي الربّ؟ هذا ما سيفصح عنه بولس في آ 16-17.
آ 16 لأن... ويسرد بولس السبب الذي لأجله يؤكّد أن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لن يتقدّموا الموتى... فالربُّ نفسُه سينزل من السماء. فكما في أع 1: 9- 11 رُفع يسوعُ المنبعثُ إلى السماء وجلس عن يمين الآب (روم 34:8؛ أف 1: 20)، كذلك سينزل في يوم مجيئه من السماء ليعرّف كلّ الخلائق بمُلكه (1 كور 15: 24 ي)... عند الهُتاف... نلاحظ أن المجيء لا يهمّ بولس إلاّ بقدر ما ترتبط به قيامة المؤمنين. ولهذا، فالكلمات الثلاث (الهتاف، النداء، الصوت) لا تحدّد المجيء وحدَه، بل المجيء في ارتباطه بقيامة الذين هم للربّ (1 كور 5: 52). وهي تدلّ على وقائع ترافق نزول الربّ من السماء وتجتذب قيامة المؤمنين. في آ 14 قال بولس إنّ الربّ هو أساس جمع الموتى المؤمنين والذين يقومون مع يسوع حين مجيئه المجيد. ولهذا فالهتافُ ونداءُ الملاك وصوتُ البوق تدلّ على تدخّل الله السامي. الهتافُ يتوجّه إلى الموتى في المسيح، وهو الكلمة القدير الذي يقيمهم. ويرتبط الهتافُ بنداء رئيس الملائكة يرافقه صوتُ بوق الله، وهو علامة الأحداث الأخيرة: هكذا يبدو لنا المعنى. ولكن ما يهمّ بولس هو عملُ الله: فيقوم الذين ماتوا في المسيح. هذا هو الواقع الرئيسيّ الذي أراد بولس أن يُقنع به التسالونيكيّين ليعرفوا أن حظَّ موتاهم لن يكون أقلَّ من حظّ الأحياء عند المجيء: الحدَث الأول الذي يرتبط بنزول الربّ من السماء ليكون قيامةَ الموتى المؤمنين (1 كور 15: 52). والموتى في المسيح، أي الذين ماتوا وهم مؤمنون بالمسيح، يشكّلون طغمة القائمين، وسيقومون وحدَهم في مجيء الرب.
آ 17 في بضع كلمات يرسم بولس أمامنا تحقيق الرجاء (رج آ 14) الذي يبدأ بقيامة الموتى المؤمنين (آ 16)، فيقول: ثم نحن الأحياء الباقين نُرفع معهم في السحاب لملاقاة الربّ في الفضاء. إذًا، لا فرق بين وضع المؤمنين الراقدين وبين وضع إخوتهم الباقين. سيجتمعون كلُّهم ويكون مصيرُهم واحدًا. أجل، لا شيء يفصل المؤمنين الأحياء عن إخوتهم المؤمنين الموتى، بل يكونون معًا. ولا يشدّد العهد الجديد على الوجهة الشعبيّة للرجاء المسيحي: أن يُرفع المؤمنون، هذا يعني أن الباقين سيتحوّلون فيلبسون أجسادًا روحيّة كالقائمين من الموت (1 كور 15: 22 ي). فكما حدث للمسيح يوم صعوده (أع 1: 9) كذلك سيُرفعون معًا في السحاب. هذه صورٌ تكشف عمل الله وتُخفيه في وقت واحد.
لماذا يَرفع المؤمنون؟ ليلاقوا الربّ في الفضاء. صورة دقيقة وملموسة تذكّرنا بمدينة تخرج إلى لقاء ملك يزورها فتستقبله بأبّهة قبل دخوله المدينة. إذًا، صورة مأخوذة من العالم اليوناني، ومأخوذة من العهد القديم حيث نقرأ أن موسى أخرج الشعب من المخيّم لملاقاة الرب (خر 17:19). إن استقبال المسيحيّين للربّ النازل من السماء نسخة منقولة إلى نهاية الزمن عن لقاء بني اسرائيل لربهم عندما نزل على جبل سيناء.
أين يتمّ اللقاء؟ في الفضاء، بين السماء حيث ينزل الرب (آ 16) والأرض حيث يُرفع المؤمنون في السحاب. ما هي وُجهة موكب الربّ وأخصّائه؟ سيتوجّه إلى الأرض التي سيملك عليها الربّ يسوعُ إلى أن يضع تحت قدميه كل القوى المعادية (1 كور 15: 25 ي).
وهكذا نكون كلّ حين مع الربّ. هكذا لن ينفصل المؤمنون عن الربّ، كما لم ينفصلوا عنه في جسدهم (2 كور 6:5؛ فل 1: 24) أو حين ماتوا (آ 16). أن نكون مع الربّ، هذا هو الهدف الذي يعيّنه الرسول لمصير المسيحيّين. عبارة متحفّظةٌ تُبعدنا عن صور عالم الجليان اليهودي. ولكنّنا نتساءل عمّا عناه بولس حين قال للمؤمنين إنهم سيكونون كلَّ حين مع الربّ؟ هل يعني حياةً حميمةً مع الربّ؟ نعم، بل أكثر من ذلك، إنها تعني مشاركة المؤمن في مجيء الرب ومُلكه ومجده. سنشارك المسيح حياته كقائم من الموت ونرافقه في موكب مجيئه. إن فكرة مشاركة التلاميذ في مُلك المسيح ومجده تردُ مرارًا في العهد الجديد (مت 13: 43؛ 25: 34؛ رؤ 5: 10؛ 22: 5؛ روم 5: 17؛ 8: 17؛ 1 كور 4: 8؛ 2 تم 12:2). ولكنّنا نشدّد بصورة خاصة على 1 كور 15: 23-28 الذي يساعدنا على فهم 1 تس 13:14-18. في هذا النصّ يؤكّد بولس أن المؤمنين يقومون في المجيء وأن ملكوت الله على الأرض الذي يدشّنه هذا المجيء، سيدوم إلى أن يضع كلَّ أعدائه تحت قدميه (1 كور 15: 25)، والأعداء هم الرئاسات والسلاطين والقوى والموت.
آ 18 لقد قال بولس ما فيه الكفاية من أجل هدفه (آ 13)، وها هو يدعو التسالونيكيّين ليعزّي، ليشجّع بعضُهم بعضًا بهذه الكلمات التي تضع حدًا لجهلهم وينقل إليهم اليقين أنّ إخوانهم الموتى لن يفوتَهم مجيء الربّ، بل يقومون فيشاركونه في مُلكه (آ 15) كان إيمان كل منهم حيًا ومحبتُه حقّة. وكانت حياة الكنيسة حارّةً فترك بولس للإخوة أن يشجّع بعضُهم بعضًا.
5: 1-2 هنا وفِي الآيات التالية: يقول لنا بولس: مجيءُ الربّ قريبٌ لا نعرفه. فلنسهرَ ونبق هادئين. أما الأزمنة والأوقات فلا حاجة بكم أن يكتب إليكم فيها. من الممكن أنّ بولس أراد معالجة موضوع جديد، فأجاب على سؤال طرحه التسالونيكيّون في رسالتهم. أرادوا إيضاحًا في موضوع خاصّ. فأجابهم بولس: لا تحتاجون أن يُكتَب اليكم وقد علّمهم ذلك حين كان بينهم. ولكنّهم يريدون الآن أمورًا محدّدة عن زمن مجيء الربّ الذي ينتظرونه كلّ يوم بالقلق والخوف. سيبيّن لهم بولس أنه لا داعي للخوف في آ 4.
آ 3 حين يقولون...- من هم الذين يقولون؟ أناس هذا العالم والذين لا يؤمنون-: سلام وأمان! هذا ما قاله أيضًا جيلُ الطوفان (رج مت 24: 37 ي؛ لو 26:17 ي)، فطمأن بعضُهم بعضًا طمأنينة كاذبة. حين يحسب الناس أن لا شيء يحدث، يفاجئُهم بغتة الهلاك. والهلاك (رج 2 تس 1: 9؛ 1 كور 5: 5 ج؛ 1 تم 6: 9) يدلّ على نتائج سيئّة، عند مجيء الربّ، للذين لم يستعدّوا فوجدوا نفوسهم فجأة أمام الدينونة. وتشبَّه فُجاءة الحدَث بألم الولادة عند الحبلى فتدلّ على الضيقات التي بها يبدأ زمن المسيح (مر 8:13؛ مت 8:24). سيأتي ذلك اليوم فجأة ولا ينجو منه أحد.
آ 4 يومُ الربّ رهيبٌ للذين يفاجئهم. لكن المسيحيّين ليسوا من هؤلاء. أما أنتم أيها الاخوة فلستُم في الظلام حتى يفاجئكم ذلك اليوم. الظلام صورةٌ عن حالة البشر الذين لا يعرفون الله ولا مشيئته ولا خلاصَه. نحن أمام يوم الرب (آ 2) ولكن بالنسبة إلى الظلام، فإن هذا اليوم (واليوم يعني النهار في اللغات الساميّة) هو أيضًا نور، حضور الرب المشعّ الذي لا يتحمّله المقيمون في الظلمة. سيأتي ذلك اليوم كاللصّ (آ 2).
آ 5 لأنكم جميعًا.. هذا الكلام يهدّئ من روع أعضاء الجماعة القلقين على مصيرهم حين يأتي الربّ. كلهم أبناءُ النور وأبناءُ النهار. يقابل النورَ والنهارَ الليلُ والظلمةُ اللذان يدلاّن على حالة الناس الروحيّة في هذا العالم. ولا شيء يجمع المسيحيّين بالليل والظلمة بعد أن تركوا جهل الله واللاوعي وخطيئة الكافرين. هم يرتبطون بالنور والنهار اللذين يوجّهان سلوكهم. فمعرفة الله الحيّ والحقيقيّ، والوعي لقرب مجيء يوم الربّ موضوع رجائهم يجعلانهم في حالة روحيّة مغايرة. ويدعو الرسول التسالونيكيّين إلى استنتاج ما يجب استنتاجه لحياتهم.
آ 6 هكذا إذًا، لا نَنمْ كسائر الناس. النوم هنا يحدّد تصرّف الآخرين، أي الكافرين، إذ يقابل حالتهم الروحيّة التي صورتها الليل. ينامون فلا يعُون قرب المجيء الذي يقرّر مصيرهم، ويذهبون إلى أعمالهم وملذّاتهم فيعيشون في سراب من الأمان (آ 2). ولكن موقف المسيحيّين سيكون مغايرًا لهذا الموقف: لنَسهر ونبقَ واعين لتهرب مجيء الرب، لنبقَ متيقّظين لنحيا بطريقة تليق بالله ودعوته (12:2) ونستعدّ للقاء ذلك الآتي. ولنكن معتدلين ونحافظ على هدوئنا لأنه كان من الصعب أن ينتظر المؤمنون مجيء الربّ دون أن يشعروا بأيّة حمّى واندفاع، دون أن يوشكوا نسيان الواقع بكلامهم أو بأعمالهم. أشار التحريض في 4: 11ي، إلى علامات حمّى إسكاتولوجية وفوضى أخلاقية في كنيسة تسالونيكي: التخلّي عن العمل، الاضطراب، الغيرة المزعجة. فدعاهم بولس إلى الهدوء والسهر.
آ 7 ويذكّرنا بولس بواقع هو أن الليل زمنُ النوم وزمنُ الشرب الذي يُنتج السكر، وهاتان صورتان عن الذين يحمل إليهم يومُ الربّ الدمار.
آ 8 أما تصرّف المؤمنين فلا يكون هكذا. هم أبناء النهار، وبهذا يتميّزون عن الآخرين: يكونون معتدلين، ويحافظون على هدوئهم، ويتجنّبون كلّ حماس يجعل حُكمهم مظلمًا ويدفعهم إلى الاضطراب والهَيجان الأخرق. ورغم قرب اليوم الحاسم يحافظون على نقاوة عقولهم وهدوء قلبوهم ويتسلَّحون ليجابهوا هذا اليوم بلا خوف لبسوا درعًا هو الايمان والرجاء، وخوذةً هي رجاء الخلاص. هذه هي الاستعدادات التي تميّز المسيحي، وهذه هي عناصر حياته الروحيّة التي تساعده على الهدوء أمام قرب مجيء الرب: بالايمان بيسوع المسيح يتأكّد المسيحي أن الله معه (روم 5: 11؛ 8: 31 ي) ويحيا ليرضيَ الله بالحبّ (روم 8:13-10؛ غل 5: 14)، وبالرجاء ينتظر من مجيء الرب تكملة الخلاص الذي أدركه بالايمان (روم 8: 24؛ غل 5: 5). فلمَ هذا الاضطراب كأننا لا نعرف أن الربّ يحمل إلينا الخلاص لا الدمار (آ 3)؟
آ 9 يتذكّر بولس صليبَ المسيح فيؤكّد للمؤمنين أن الله لم يجعلهم للغضب الذي هو دمار الخطأة الذين يفاجأون في طمأنينتهم الكاذبة (آ 3)، بل جعلهم لاقتناء الخلاص بربّنا يسوع المسيح والمشاركة في مُلكه (17:4). قبل الايمان والرجاء والمحبة هناك قرارُ الله الذي تمّ في يسوع الذي مات عنا.
آ 15 بهذا الموت الفدائيّ أتمّ الله قصده بالنسبة إلى المؤمنين، حتى إذا كنّا ساهرين أو كنّا نائمين نحصل على الحياة معه. هاتان هما الحالتان اللتان سيكون فيهما المؤمن يوم مجيء الرب: نكون ساهرين أو نائمين، نكون موتى أو أحياء. ولكن لا قيمة للفرق بين هاتين الحالتين، لأن هدف موت المسيح الفدائيّ هو أن أخصّاءه الأحياء والأموات يحصلون معًا على الحياة معه بقيامتهم أو بتحوّلهم. وهكذا لن يعود ليوم المجيء أهميّة حاسمة لأن المؤمنين تيقّنوا، بموت المسيح وقيامته (4: 14)، أنهم سيشاركون كلُّهم في هذا الحدث الأخير ويكونون كلّ حين مع الرب.
آ 11 ويستنتج بولس استنتاجًا عمليًا من تعليمه فيعود إلى كلماته في 4: 18: عزّوا بعضُكم بعضًا، شجّعوا بعضكم بعضًا. وهنا نقابل بين 4: 13- 18 و5: 1- 10. في المقطع الأول نحن أمام قلق مؤلم يحسّ به التسالونيكيّون بالنسبة إلى إخوتهم الذين ماتوا. وفي المقطع الثاني نحن أمام قلق يحسّ به بعضهم بالنسبة إلى ذواتهم، أمام مجيء الرب القريب. وزاد بولس: وابنوا بعضُكم بعضًا. وهكذا بطاعة كلّ واحد وعمل كلّ واحد تنمو الكنيسة بحياة حقة. ويسرع بولس فيقول (رج 4: 1، 10): مثلما تفعلون الآن.

5- تعليمات من أجل حياة مسيحيّة جماعيّة (5: 12-22)
آ 12-13 الجماعة والذين يعملون في خدمتها. يقدّم لنا بولس هنا معلومات عن تنظيم الجماعات المسيحيّة الأولى: فالرسول المؤسّس لا يحتفظ بمسؤوليّة كاملة يحصرها بنفسه ويمارسها من بعيد برسائله أو موفديه. ففي تسالونيكي تتوزّع مجموعةُ المسيحيّين بعضَ الوظائف لفائدة الجميع. وهذه الوظائف نسمّيها الخدَم.
أما عمل هؤلاء الرجال فتحدّده كلمات ثلاث: الذين يتعبون بينكم، الذين يرعونكم، الذين يرشدونكم. نحن إذًا أمام إخوة تميّزوا بعطاء ذواتهم بتأثيرهم على الغير وتضحياتهم. فجُعلوا على رأس الجماعة لا عن طموح بل في الربّ، في الايمان والطاعة لربّ الكنيسة ليخدموه في شخص إخوتهم... بعد أن ذهب الرسل فجأة، سيّروا الجماعة وحملوا همّ سلوك الإخوة ورعَوا النفوس وأرشدوها إلى الطريق القويم. فاصطدموا بمقاومة، وهذا أمر طبيعيّ لأنه لم يفوّضهم أحد ولأن نصائحهم لم تُرض الجميع. لهذا يسأل التسالونيكيّين أن يعترفوا بهم وبنشاطهم، أن يقبلوا بإرشاداتهم ونصائحهم. ولكن هذا لا يكفي. لهذا يطلب بولس في آ 13 أن يعاملوهم بمنتهى الاحترام والمحبة من أجل عملهم. الرسول واع لضرورة عمل الموجّهين في الجماعة وقيمته. ويريد أن يقتنع التسالونيكيّون بهذا، فيسألهم أن يُكرموا الذين يرئسونهم إكرام المحبّة. إن الخدمة المسيحيّة بكلّ أشكالها لا تمارَس بفاعلية إلاّ إذا تقبّلها بفرح كلُّ أعضاء الكنيسة، وإذا كان الخدّام موضوعَ احترام من أجل عملهم. هذا العمل يتمّه الخدَم في الربّ فيعطيهم إكرام الذين يستفيدون منه ومحبّتهم.
عيشوا بسلام في ما بينكم... كانت هناك عمليّة شدّ حبال بين المؤمنين والمسؤولين. والكلُّ مسؤولٌ عن هذه الحالة، لهذا دعا بولسُ الجميعَ إلى هذا السلام.
آ 14 ونناشدكم أيها الاخوة...، أي يا أبناء كنيسة تسالونيكي. أرشدوا الكسالى (4: 11) أو الفوضويّين الذين يحيون حياةً مضطربة لأنهم لا يعملون. شجّعوا الخائفين في الاضطهادات أو في مجمل الحياة الشخصيّة التي يكتنفها الشكُّ والحيرة. ساعدوا الضعفاء الذين يسقطون في الخطيئة من دون مساعدتكم. أصبروا على جميع الناس ولا تغضبوا من المقاومات التي تجبَهكم... وهناك رأيٌ يعتبر أن هذه النصائح موجهةٌ إلى المسؤولين دون سواهم.
آ 15 كلامٌ يتوجّه إلى الكنيسة كلّها المسؤولة عن تصرّف أعضائها المسيحيّين. لا يكفي أن نصبر بل أن ننتصر على المقاومة والحذر ووسائل المعارضة بالمحبّة. لا تجازوا شرًا بشرّ، بل اعملوا الخير دائمًا بعضُكم لبعض ولجميع الناس. الخيرُ هو ما يوصي به الحبّ الذي وحده يفرض أن نجيب على الشرّ بالخير. ويبقى على كلّ واحد، وبالأخص المسؤولين، أن يبحثوا عن الأجوبة والحلول والمحاولات والأعمال التي دافعها الحبّ، في علاقات بعضهم مع بعض وفي علاقاتهم مع الجميع ليُعطوا المثَل الصالح.
آ 16-18 ثلاث آيات يتّصل بعضها ببعض وترتبط بما يبرّرها: تلك هي مشيئةُ الله في المسيح يسوع. هذه المشيئة أوحي بها في المسيح يسوع المصلوب والمنبعث. ويميّز بولس في العمل الفدائي ما أراده الله ويريده من المؤمنين. ولهذا صارت هذه المشيئة طلبًا لا بدّ من أن يحقّقوه وإلاّ عصَوا الله وفاتهم نداؤه. وهذه المشيئة هي أيضًا عطيّة ونعمة لأنه، في يسوع المسيح، في الحالة الجديدة التي حصلوا عليها به، أعطاهم الله أن يبقوا دومًا فرحين وأن يصلّوا كل حين. من الواضح أن المؤمنين لا يجدون في ذواتهم أسبابًا ليكونوا فرحين، بل في المسيح يسوع، في فعل المصالحة الذي تمّ من أجل العالم (2 كور 5: 19). ففي النعمة التي أعطيت لهم، للحاضر وللمستقبل، يملكون فرحًا دائمًا لا خطر عليه (فل 3: 1؛ 4: 4). وهم لا يستطيعون أن ينعشوا عطيّة الله التي هي فرحهم إلاّ إذا صلّوا في كلّ حين، لأن الصلاة تعيدهم إلى يسوع المسيح الذي به يصلون إلى الآب (أف 18:2) ويقدّمون له الشكر. فهم من طبعهم غيرُ مستعدّين للصلاة ولا يعرفون دومًا ماذا يطلبون، ولكن في يسوع المسيح، في حالتهم كمؤمنين، يقدرون في كلّ حين أن يشكروا لله ما عمله من أجلهم، الله الذي هو السبب الأول لصلاتهم وفرحهم. وهكذا ذكّر بولس جماعة تسالونيكي بالاختبارات الخارقة المرتبطة بالايمان الجديد.
آ 19-22 نقرأ في هذه الآيات خمسةَ تحريضات تتعلّق بالموقف الواجب أخذه تجاه مظاهر الروح في حياة كنيسة تسالونيكي. أيكون هناك سؤالُ إيضاح من قبل المسؤولين عن مظاهر الروح والنبوءة وتعدّد الألسن؟ رفض بولس أن يدخل في نظرتهم فتكلّم عن الروح لا عن الملهمين. فإن وضعوا حدًا لحريّة الروح السامية، أفقروا الكنيسة، لهذا قالت لهم: لا تطفئوا الروح، فعاد إلى صورة تشبّه الروح بالنار (أع 2: 3؛ 18: 25؛ روم 12: 11) وتعني أننا إن قاومناه أزلناه. لا تستهينوا بالنبوءات، وهذا يحدث حين نمنع الأنبياء من الكلام أو حين لا نسمع لهم. فإن استهانت الكنيسة بالنبوءات حرمت نفسها كلمات حقّة تدلّها على إرادة الله. من هنا جاءت النصيحة الايجابية: بل امتحنوا كلَّ شيء. الله بوحي بإرادته إلى الكنيسة بواسطة الأنبياء. إلاّ أن الأنبياء يمكن أن ينقصهم الصدق أو التجرّد ويعتبرون آراءهم الخاصة كلمة الله. ولهذا يمنح اللهُ بعض الناس موهبة تمييز الأرواح (1 كور 14: 29). أما القاعدة فهي هذه: تمسّكوا بالحسَن وتجنّبوا كلَّ شكل شرّ.
آ 23-24 صلاة ختاميّة. كما انتهى القسم الأول من الرسالة بصلاة، هكذا انتهى القسم الثاني. وتوجّهت الصلاتان نحو مجيء الرب يسوع المجيد، وكان موضوعُهما العام قداسة مؤمني تسالونيكي في ذلك اليوم الحاسم.
هكذا بعد أن أعطى بولس تعليماته توجّه إلى الله الذي يساعد المؤمنين على وضع هذه التعليمات موضع العمل. هو إله السلام (روم 15: 33؛ 16: 20؛ فل 4: 9؛ 2 كور 13: 11) بل الاله الذي يحمل الخلاص كاملاً إلى الانسان. فليقدّسكم في كلّ شيء، ليكرّسكم له فيبعدكم عن الخطيئة لتكونوا بكليّتكم له. ويعدّد بولسُ ثلاثة عناصر تكوّن الكائنَ البشريّ: الروحَ والنفسَ والجسد. الروحُ هو عنصر سام في كائن الانسان الحميم. والنفس عنصر يرتبط بالجسد. ويبقى الجسد. نحن هنا في العالم اليونانيّ.
ليقدّسكم اللهُ بكليّتكم ويحفظكم... حتى الجسدُ دخل في عمل التقديس الذي بدأ على الجلجلة والذي سيتمّ في يوم الربّ (4: 3-8؛ 1 كور 16: 12- 20). ليحفظكم الله منّزهين من كل لوم، لا في رأي البشر بل في رأي الله. وهذه الشكاوى يقدّمها الشيطانُ متّهمُكم أمام دينونة الله (روم 8: 33). إن المؤمنين تقدّسوا في يسوع المسيح بالمعموديّة وبالروح القدس (1 كور 1: 2؛ 6: 11)، وما يطلبه بولس هو أن يبقوا في الأمانة لله والطاعة حتى مجيء ربّنا يسوعَ المسيح الذي هو كمالُ عمل الله.
في آ 24 يعطي بولسُ التسالونيكيّين سببًا ليؤمنوا أن صلاتَه ستُستجاب. قال: الذي دعاهم إلى الخلاص، الذي هو كمال مصيرهم، هو أمين، وإرادته الخلاصيّة تجاه البشر لا تتبدّل (روم 3:3؛ 8:15). فلا نستطيع إلاّ أن نثق به ثقةً تامّة (روم 4: 20) وهو يعمل ما يطلبه الرسول لإخوته. إنه لا يطلب شيئًا لم يُعطَ لهم في المسيح وقد دعاهم إلى القداسة (7:4). وكما جعل طاعتهم ممكنةً في يسوع المسيح سيجعلها دومًا ممكنةً بالروح القدس (روم 8: 2-4؛ غل 5: 15) ويتمّمها في يوم الرب.
آ 25-28 سلامات. أيها الإخوة (آ 5-2). بعد أن صلّى بولس من أجل التسالونيكيّين (1: 2)، ها هو الآن يطلب صلاتهم (روم 15: 30؛ كو 3:4). ثم إنّ الإخوة في الكنيسة الأولى كانوا يعبّرون عن حبهم بعضهم لبعض بقبلة وصَفوها بمقدّسة، ليميّزوها عن القبلة التي يمارسها العالم.
إذًا، استلم بولس رسالةً من المسؤولين في كنيسة تسالونيكي وها هو يطلب منهم أن يتصالحوا مع الإخوة بقبلة مقدّسة، وأن يقرأوا رسالته على جميع الإخوة من دون استثناء. سأله المسؤولون مساندةً وطلبوا تعليمات عن أمور ملحّة لهم وللكنيسة فأجابهم بولس بحكمة ورقّة وأظهر لهم سلطةً يثقون بها ويحبّونها. فعالج بعض مشاكل الايمان في الكنيسة (3: 10) وبدّد كل خلاف بين المؤمنين والمسؤولين.
وتنتهي الرسالة بكلمة آمين، في بعض المخطوطات؛ وهذا يدلّ على قراءتها في الجماعة الليتورجيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM