الفصل الأربعون :مفهوم الرحمة في الرسائل البولسيّة

الفصل الأربعون
مفهوم الرحمة
في الرسائل البولسيّة

إذا أردنا أن نتعرّف إلى رحمة الله في رسائل القدّيس بولس، ندخل أوَّلاً في سرّ الخلاص، ثم نتعرّف إلى أبوّة الله. وفي النهاية نتوقّف عند طريقة حياة المسيحيّين الذين يُطلب منهم أن يلبسوا "أحشاء الوحمة واللطف والتواضع والوداعة والصبر" (كو 3: 12).

1- رحمة الله وسرّ الخلاص
رأى بولس أنَّ رحمة الله هي سرّ يتجاوز كلّ فهم. وحين فكّر بلا أمانة شعب اسرائيل ودعوة الأم الوثنية، هتف قائلاً: "يا لغنى عمق الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن التنقيب وطرقه عن الاستقصاء" (روم 11: 33).
طرح بولس السؤال الأساسي بالنسبة إلى شعب اسرائيل الذي نال "التبنّي والمجد والعهد والناموس والعبادة والمواعيد والآباء" (روم 9: 4): لماذا تبدّلت الأمور فصاروا هم خارجًا والوثنيّون داخلاً؟ هل فشلت كلمة الله، فلم تصل إلى هدفها؟ وكان جواب أوَّل: هناك بقيّة من بني إسرائيل هم حقًا أبناء وقد دخلوا في العهد الجديد. وكان جواب ثان ردّ فيه بولس على القائلين بأنَّ الله كان جائرًا. "أيكون عند الله ظلم؟ كلا وحاشا" (روم 9: 14). وتابع مستندًا إلى الكتاب المقدّس كما ورد في خر 33: 19: "أرحم من أرحم وأرأف بمن أرأف" (روم 9: 15). نحن هنا أمام جواب الله لموسى بعد حادثة العجل الذهبيّ (خر 32). صلّى موسى إلى الربّ وطلب منه أن يؤخّر ولا يسرع في العقاب. نشير هنا إلى أنَّنا لسنا أمام خلاص الأفراد الأدبيّ، بل أمام مكانة البشر في مخطّط الله. كانت الأولويّة للشعب اليهودي الذي اختير من أجل مهمة معيّنة، هي اعداد الطريق لمجيء الربّ يسوع. ولما سقط، صارت الأولويّة للأمم الوثنيّة التي كانت في الأصل "زيتونة بريّة" (روم 17:11) فطعّمت وصارت شريكة في الدسم، شريكة في غنى الزيتونة وأثمارها، وكلّ هذا يعود إلى لطف الله (آ 22).
إنَّ هذه الحرّية التامة في الاختيار الالهيّ، قد طرحت سؤالاً من جهة البشر: أترى الله ترك شعبه وانحاز إلى الأمم؟ هنا عاد بولس إلى الآباء ولاسيّما ابراهيم ويعقوب، كما عاد إلى موسى وشعبه في البريّة. لو تصرّف الله بقساوة لكان الشعب فني أو عاد إلى مصر، ولكانت فشلت مغامرة الخروج. ولكن الله عامل شعبه بالرحمة وإن حلّ العقاب بهذا أو ذاك. وفي النهاية أعطى وحيًا جديدًا عن نعمته، وثبّت المبدأ الأساسي في هذه النعمة، وهو أنَّ رحمته مجانيّة كلّها.
الله حرّ بالنظر إلى ما يصنعه للبشر. وثورة إسرائيل على المسيح لم تلغ الاختيار. ورفضُ فرعون أيضًا لم يقض على مخطّط الله بأن يكوِّن لنفسه شعبًا بقيادة موسى. بل إنّ الله استعمل رفض فرعون لكي يتابع عمل رحمته. هذا يدلّ على أنَّ عمله لا يرتبط بالذي يريد ولا بذلك الذي يسعى. فالحمد لله أنَّ الربّ لا يعاملنا بحسب أعمالنا. ومع أنَّ اسرائيل في النهاية رفض الله في شخص يسوع المسيح، فالله قد أعلن أنَّه لا يعود عن عطاياه (روم 11: 29).
كلّ شيء يرتبط برحمة الله (روم 9: 16). ويتابع بولس برهانه مستندًا إلى ما يخبره التقليد عن فرعون الذي قسّى قلبه، فعملت هذه التقسية على تحقيق مواعيد الله. في النهاية سيتراجع فرعون (خر 27:19) كما سبقه إلى ذلك سحرة مصر (خر 8: 15). وهكذا لا نكون أمام الحكم على فرعون ولا أمام هلاكه الأبديّ، بل داخل مخطّط سام يحقّقه الله، وكلّ هذا ليدعو حتى الشعوب الوثنيّة إلى التوبة. هذا ما نكتشفه في تراجع فرعون التدريجيّ في سفر الخروج، كما نكتشفه في سفر الرؤيا الذي فسّر الأحدات المعاصرة على أنّها ضربة من الله، ولكن هدفها كان دعوة إلى التوبة (9: 20- 21) والاستسلام إلى رحمة الله.
أمَّا بولس فعاد أيضًا إلى العهد القديم ولاسيّما إلى هو 2: 25 فدلّ على أنَّ الوثنيّين الذين لم يكونوا شعب الله قد صاروا في يسوع المسيح شعب الله. وقد يدلّ النصّ أيضًا على أن شعب اسرائيل الذي رُذل وقتًا من الأوقات بسبب خطاياه، سيعود إلى الربّ في يوم التوبة والغفران. وهذا ما سيقوله بولس في ما بعد: إنَّ تصلّب اسرائيل لا يدوم إلى النهاية. بعد أن "يدخل مجموع الأمم... يخلص جميع اسرائيل" (روم 11: 25-26).
هنا نجد مقابلة بين "كل اسرائيل" من جهة وبين "البقيّة" (آ 5) و"قسم من اسرائيل" (آ 25) من جهة ثانية. وفي كلّ هذا يستند بولس إلى أش 10: 22- 23: "وإن يكن عدد بني اسرائيل كرمل البحر، فبقيّة ستخلص. لأنَّ الربّ سينجز بالتمام وفي سرعة، كلمتَه على الأرض". شدّدت هذه العبارة الأشعيائيّة على كثرة الشعب الذي يدعوه الله والعدد القليل الذين يشاركون في الخلاص. ذاك هو قرار الله (روم 28:9). فهو يستطيع أن يدعو من يريد ويرذل من يريد. فلا يمنعه من ذلك نعمٌ حصل عليها البعض ولا عدم جدارة من البعض الآخر. فإن بقيت بقيّة فهذا نتيجة رحمته. كان باستطاعة الله أن يضرب شعبه كما ضرب سدوم وعمورة فلم يبق منهما شيء. هذا يعني أنّه حين تصرّف بحريّة، دلّ على لطفه وحنانه.
وسيصوّر بولس هذا المخطّط الإلهيّ في روم 5: 12-15: "كما أنّه بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأنّهم جميعهم خطئوا (آ 12، وتبقى الفكرة معلّقة حتى آ 15)... إن كان بزلّة واحد قد مات كثيرون، فكم بالأحرى نعمة الله وموهبته قد وفرتا للكثيرين بنعمة الإنسان الواحد، يسوع المسيح". إنّ هذا المخطّط الإلهي، مخطّط الخلاص المجاني، هو ما يفسّر وحي الله الذي بدأ في العهد القديم وتمّ مع العهد الجديد في إنجيل يسوع المسيح.

2- رحمة الله وأبوّته
إنَّ لطف الله وصبره وطول أناته، هي شكل من أشكال رحمة الله مع دينونته التي تُمارَس تجاه جميع البشر. كلّهم خطئوا، وثنيّين كانوا أم يهودًا، فاحتاجوا كلّهم إلى خلاص الربّ ورحمته وغفرانه. ولكننا لم نصل بعد إلى سرّ الله العميق، حيث ترتبط رحمته بأبوّته.
فالله هو أبو المراحم كما يدعوه بولس في 2 كور 1: 3، وإله كلّ تعزية. جاء كلام بولس في إطار فعل شكر رفعه إلى الله من أجل كنيسة كورنتوس، فبدا صدى لعبارات ليتورجيّة تعود إلى العهد القديم: هم المساكين والمضطهدون والخطأة يتوسّلون إلى الله مستندين إلى رحمته كما برزت عبر تاريخ الشعب المختار. فإنّ مز 105: 1- 11 يتذكّر مواعيد الله لابراهيم. وفي مز 62، يؤكّد المرنّم ثقته بالله صخرته وخلاصه وملجأه وموضع راحته. أمَّا مز 69: 14-17، فهو توسّل إلى الله باسم رحمته ولطفه وحنانه. يعلن مز 89: 1: "لمراحم الرب أرنّم إلى الأبد". ومز 101: 1: "في الرحمة والعدل نشيدي". ويعلن مزمور 51: 1: "تحنّن يا ربّ عليّ بحسب رحمتك، وبحسب كثرة رأفتك أمحُ معاصيّ".
العلاقة حميمة بين الله الرحيم وعمل الفداء الذي يتمّه، أو عمل التكفير في يسوع المسيح. فنقرأ في غل 4: 4: "ولما تمّ ملء الزمن، أرسل الله ابنه، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين هم تحت الناموس لننال نعمة التبني". فعلى مدّ التاريخ، هيّأ الله خلاص البشر. وفي يسوع أتمّ هذا الخلاص بحيث إنّ الزمان قد تمّ بمجيء يسوع (مر 1: 15). ولكن هل كنا نستحقّ هذا الخلاص؟ كلا. هنا نتذكّر كلام القدّيس بولس في روم 5: 6-9: "أجل، إنّ المسيح ونحن بعد ضعفاء، قد مات في الأوان المعيّن عن الكافرين. ولا يكاد يموت أحد عن بار. وقد يُقدم أحد على الموت عن الصالح. وأمّا الله فقد برهن على محبته لنا بأنّ المسيح قد مات عنا ونحن خطأة، فكم بالأحرى، وقد برّرنا الآن بدمه، نخلص به من الغضب".
لم يكن الوعد مجرّد أقوال. فالله قد أعطى برهانًا عن حبّه ورحمته: ما اكتفى يسوع بأن يعلن الملكوت ويدعو البشر إلى التوبة ليدخلوا فيه، بل مات وقام عن الخطأة. اكتشف البشرُ ضعفهم، اكتشفوا أنهم لا يستحقون شيئًا إلاّ الغضب لأنّهم جميعهم خطأة. ولكن الله لم يعاملهم كخطأة. بل إنّ ابنه مات عن الخطأة، عن الكافرين. في الأوان المعّين. والصليب لم يكن صدفة من صدف التاريخ، بل جاء يحقّق إرادة الله التي أحبّت أن ترحم جميع البشر. وأظهر بولس ما في موت المسيح من أجل الكافرين من مفارقة. فالناس يضحّون من أجل الخير، من أجل الصلاح، من أجل أناس "يستحقّون". وحتى مثل هذه التضحيّة قلّما نسمع بها. أمّا الربّ فأحبّنا ساعة كنا خطأة، وأظهر لنا بموت ابنه على الصليب رحمته تجاهنا. وهكذا جاء البرهان "بالأحرى" فدلّ على ما في عمل الله لأجلنا من عظمة، وعلى ما في موت يسوع من رحمة مجّانيّة.
أجل، ما كنا نستطيع أن نتخلّص من خطايانا، ولكن حبّ الله فعل ما فعل. أرسل ابنه مولودًا من امرأة. فمات هذا الابن في الجسد لكي يحرّرنا من الخطيئة. في هذا المجال يقول بولس في روم 8: 32: "الله الذي لم يشفق على ابنه الخاصّ بل أسلمه عنا جميعًا، كيف لا يهبنا أيضًا معه كلّ شيء". لقد أعطانا الله أفضل ما يستطيع. أعطانا ابنه الخاص كما فعل ابراهيم حين قدّم اسحاق ابنه (تك 22: 16). أعطانا ابنه الذي اشترانا بثمن كريم (1 كور 6: 20). في هذا يقول يو 3: 16: "لقد أحبّ الله العالم حتى إنّه بذل ابنه الوحيد بحيث إنَّ كلّ من يؤمن به لا يهلك بل تكون له الحياة الأبديّة.
يسوع هو الابن الحقيقيّ لله، لا ابنه بالتبنّي. وإذ لم يوفّر الله ابنه الخاصّ، دلّ على أنه تلفَّظ بحكمه من أجل المسيحيّين الذين هم أبناؤه بالتبني. وبما أنّه عمل ما عمل، فلماذا يعمل شيئًا آخر فيما بعد؟ بما أنّه بدأ وعاملنا بالرحمة، فلماذا يتغيّر؟ نحن هنا في إطار ليتورجيّ، في إطار عماديّ. فبولس ينسب إلى الآب مبادرة المخطّط الخلاصي الذي تحقّق في موت يسوع وقيامته. فماذا لا يعطينا الله بعد أن أعطانا ابنه؟
نستطيع أن نقابل هذه النصوص مع روم 23:3-26: "بعد أن كنا جميعًا تحت الخطيئة، أراد الله أن يبرّرنا مجانًا بنعمته بالفداء الذي بالمسيح يسوع الذي سبق الله فأقامه أداة تكفير بالإيمان بدمه. إذ تغاضى عن الخطايا السابقة في عهد صبره الإلهي، وما عاقبنا بسببها".
إنَّ عمل الله من أجل الانسان لا يأتي كي يكافئ الطاعة للشريعة. بل هو يمنح الانسان موهبة مجانيّة. وتجاه موقف الانسان الذي يعتبر أنّه "يستحق" نعمة الله، نجد موقف ذاك الذي ينتظر كلّ شيء من رحمة الله. هنا نتذكّر مثل الفريسيّ والعشّار (لو 18: 9-13): إنّ موقف الفريسي اجتذب إليه الغضب، أمَّا العشّار فعاد إلى بيته مبرّرًا. هذا الموقف الباطنيّ هو الإيمان. والايمان يتقبّل كلّ شيء من يد الله. وفي هذا الإطار، يتقبّل الرحمةَ ونعمة التبرير.
يتحدّث بولس عن تحرير الخطأة في يسوع المسيح. ولكن كيف يتمّ هذا التحرير؟ هنا يعود بولس إلى اللغة التقليديّة المرتبطة بعالم الذبائح. فالمسيح صار بموته أداة تكفير. وقد حلّت ذبيحتُه محلّ ذبائح العهد القديم. فالذبيحة هي الوسيلة التي بها يقترب الله من الخاطئ. وهكذا، بعد أن نكون قد متنا، يعيد إلينا المسيح بموته الحياة، فلا يبقى لنا إلاّ أن نتقبّل بالايمان والتوبة هذه النعمة المجانيّة.
وتلتقي عبارة روم 3 التي ذكرناها مع ما في أف 2: 4-5: "غير أنَّ الله، لكونه غنيًا بالرحمة، ومن أجل فرط محبّته التي أحبّنا بها، وحين كنا أمواتًا بزلاّتنا، أحيانا مع المسيح". نلاحظ أولاً الجمع بين الرحمة والمحبّة. وكلتا اللفظَتين ترتبطان بالنعمة كما نقرأ في نهاية آ 5: "أنتم بالنعمة مخلَّصون".
إذا قرأنا أف 2: 1- 10 نجد نفوسنا أمام منحدرين: منحدر الضلال: كنتم أمواتًا. ومنحدر النور: أنتم مخلّصون بالإيمان، وبين هذين المنحدرَين، يتمّ الانتقال من أرض العبوديّة والموت إلى رحاب أرض الميعاد. يرد التحوّل في آ 4-7. هناك الفاعل: الله الغنيّ باللطف والحنان. هناك الموضوع: الحبّ. والفعل: أعطانا الحياة. تلك هي مبادرة النعمة التي يلهمها حبّ الله الذي يتعدّى كل حدود.
نجد هنا الدور الذي لعبه الآب في عمل خلاصنا. ظننَّا أنَّ حياتنا جعلت حبَّه يملّ. بل إنّ هذه الخيانات تدفعه ليكشف حبّه الجديد. وإذ أعطانا ابنه، أعطانا أعظم تعبير عن حبّه ورحمته من أجل الخطأة. هنا نتذكّر روم 11: 32- 33: "فالله سجن جميع البشر في المعصية لكي يرحم الجميع. فيا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه"! الغنى والرحمة. كان العهد القديم قد ربط بين هاتَين اللفظَتين ليدلّ على لطف الله الذي لا يحدّ. أمَّا بولس فقال لنا إنّ الآب هو غنيّ بالرحمة، وقد دلّ على لطفه بفرط غنى رحمته.
لقد انتقل هذا الغنى بشكل طبيعي من الآب والابن، وهو بشكل من الأشكال تجسيد لرحمة الله كما ظهرت للبشر. وهكذا تدخّل الله في وجهَتين. واحدة ترتبط بكيانه: الغنيّ بالمراحم. والأخرى ترتبط بعمله الأخير: بسبب حبّه العظيم. الأولى ترتبط بنصوص عديدة من العهد القديم. والثانية تُجمل عمل الله الخلاصيّ في إطار المحبّة.
في هذه العبارات المختلفة، تبرز ثلاثة عناصر نجدها حاضرة بشكل واضح أو ضمنيّ: أبوّة الله. رحمته من أجل الخطأة. تدخّل ابنه للتكفير عن خطايانا. أمّا نصّ غل 4:4 فيذهب أبعد من ذلك، إذ يعلن أنَّ موضوع التجسّد هو مشاركتنا في كرامة الابن. وهكذا ترتدي عاطفة الثقة المطلقة بالله أبي المراحم، مظهرًا حميمًا ما كنا لنعرفه في السابق. فبولس يقدّم لنا سرّ تحوّل علاقاتنا مع الله بشكل لا يتصوّره عقل. بما أنّنا أبناء في الابن، "أرسل الله ابنه في قلوبنا وهو يصرخ أبَّا، أيُّها الآب" (غل 4: 6؛ روم 8: 15). صارت صلاة المسيح صلاة المسيحيّين فدلّت على الحياة الحميمة التي يعيشونها مع الآب. وهكذا مثّل المسيح بيننا رحمة الله. مثّلها بتجسّده وفدائه، بحياته وموته وقيامته. معه ظهر لطفُ الله محيينا ومحبّته للبشر (تي 3: 4).

3- رحمة الله وطريقة حياة المسيحيّين
نتوقّف هنا عند وجهَتين من التعليم البولسيّ. ما يسبق المعموديّة واعتناق الإيمان وفيه ما فيه من خطيئة. وما يتبع المعموديّة وما فيه من طلب للاقتداء بالله كالأبناء الأحبّاء.
في 1 كور 6: 11 يعلن بولس لأهل كورنتوس: "ذلك ما كنتم عليه، بعضكم. لكنّكم قد اغتسلتم. لكنّكم قد تقدّستم". ماذا كان عليه الوثنيون في ما مضى؟ هنا يورد بولس لائحة في آ 9- 10: عاهرون، عبدة أوثان، زناة، متخنّتون، مضاجعو الذكور، سارقون، طمّاعون، سكّيرون، شتّامون، خطفة. هذا ما يعود بنا إلى روم 1: 24- 31 حيث يدلّ بولس على الانحطاط الذي وصل إليه الوثنيّون حين رفضوا أن يعرفوا الله وفضّلوا عليه "صورة إنسان يبلى وطيور ودبّابات وزحّافات" (روم 1: 23). وهل اليهود أفضل من الوثنيّين؟ كلا. فهم خاطئون مثلهم. يسرقون، يزنون، يسلبون هياكل الأوثان (روم 2: 21-22). "زاغوا وفسدوا معًا. أرجلهم سريعة لسفك الدماء، وفي مسالكهم الدمار والشقاء" (روم 3: 12-16).
لماذا شدّد بولس على هذه الحالة المنحطّة للبشريّة؟ ليدلّ على الخلاص الذي حصلت عليه. شدّد على الظلام لكي يبرز النور الذي يعيش فيه المؤمن بعد اليوم. يقول بولس: "إذ قد بُرّرنا بالايمان فنحن في سلم مع الله بربنا يسوع المسيح" (روم 5: 1). كانت هناك عداوة. فتمّت المصالحة. كان التمرّد قد جعل كلّ إنسان تحت "الغضب" (هو يستحقّ العقاب)، قد جعله عدوًا لله. أمَّا الايمان الذي يتقبّل الله في المسيح، فهو يجعل الخاطئ ينعم بهذا الوضع الجديد. لقد دخل المؤمن في علاقة جديدة مع الله: نال السلام. اقترب من النعمة. فبعد الحياة الحميمة مع الله، جاء السلام (أو السلم) الذي هو النظام، الذي هو الوضع العاديّ للأمور. هذا ما يعارض الفوضى التي يدخلها انفصالُنا عن الله في العالم، في الإنسان، في علاقاته مع الله. انفصلنا عن الله بالخطيئة، فجاء يسوع المسيح يعيد الاتصال به. وهكذا يجد المبرَّر بالايمان بيسوع، طريقَ الاقتراب من الله ومشاهدة مجده. وكلّ هذا نعمة مجانيّة من لدنه.
ونشاهد عالم الخطيئة في عدد من رسائل القدّيس بولس تجاه عالم النعمة والحياة السائرة بحسب وصايا الله. نقرأ في غل 5: 19- 21 عن أعمال الجسد: "الفجور، النجاسة، العهر، عبادة الأوثان، السحر...". وفي أف 5: 3-5: "الزنى، النجاسة، الطمع، الكلام القبيح...". ويقابل الرسول في هذا المجال بين حالتين. في العالم الوثنيّ، كنتم ظلمة. أمَّا الآن، وبعد أن اعتمدتم، "فأنتم نور في الربّ. فاسلكوا كأبناء النور" (آ 8). ونقرأ في 1 تم:9- 10 عن الفجّار وقاتلي الامهات والزناة والكذّابين... (رج 2 تم 3: 3- 4؛ تي 3: 3).
أمَّا الآن وقد تبرّرنا وتقدّسنا، فلا نستطيع أن نعيش كما كنا نعيش في الماضي. لا نستطيع أن نحمل ثمر الظلمة، بل "ثمر النور الذي هو كلّ صلاح وبرّ وحقّ" (أف 9:5). لا نستطيع بعد أن نعمل أعمال الجسد. بل نطلب "ثمر الروح الذي هو المحبّة والفرح والسلام" (غل 5: 22). لا نستطيع أن نبقى في الانسان العتيق بما فيه من غضب وسخط وخبث وكلام قبيح وكذب، بل "نلبس الانسان الجديد الذي يتجدّد بالمعرفة على صورة خالقه".
تلك كانت الوجهة الأولى وفيها ما فيها من تشديد على الخطيئة التي تنتظر رحمة الله وتجاوب الانسان من أجل حياة تليق بالدعوة التي دُعينا إليها (أف 4: 1). أمَّا الوجهة الثانية في خطّ رحمة الله، فهي نداء لكي نعيش الرحمة على مثال الذي دعانا لكي نكون رحومين. وما يرافق هذه الرحمة من لطف ووداعة وتواضع.
بين الرحمة التي تميّز الله وتلك المطلوبة من البشر، هناك رباط واضح. ولقد انطلقت الفقاهة المسيحيّة ممّا في التقليد اليهوديّ فنظرت إلى هذا الرباط من زاويَتين مختلفتين. إنّ رحمة الله تفرض على الانسان واجبًا بأن يكون سلوكه موافقًا لسلوك الله. على الانسان أن يتمثّل بالله، فيكون رحيمًا كما أنّ الله رحيم. والزاوية الثانية تَبرز حين نتحدّث عن رحمة الله في نهاية الأزمنة. حينئذ على الإنسان أن يكون رحيمًا لكي ينال الرحمة من الله. أشرنا إلى هذه الزاوية الثانية حين توقّفنا عند الرحمة في الأناجيل. يبقى لنا أن نتوسّع في الأولى وهي تعلّمنا الرحمة التي يجب على المسيحيّين أن يمارسوهما.
نبدأ هنا فنذكر تحريض كو 3: 12-13: "فالبسوا إذن، أنتم مختاري الله وقديسيه وأحبّاءه، أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والصبر. إحتملوا بعضكم بعضًا، وتسامحوا إن كان لأحد شكوى على آخر. وكما أنّ الربّ سامحكم، سامحوا أنتم أيضًا". نجد هنا لفظَتين درسناهما في السابق: سبلانخنا: أحشاء. أويكترموس: الرحمة، الرأفة. هذا هو الأساس في ما يطلبه بولس من المؤمنين في كولسي. وعندما يرتدي الانسان أحشاء الرحمة، يستطيع أن يمارس الفضائل المسيحيّة: اللطف، التواضع...
يتأسّس هذا التحريض على علاقة المسيحيّين بالمسيح، وبالتالي بالله "الغني بالرحمة" والذي أحشاؤه أحشاء أمّ. وما يدفع المؤمنين إلى العمل هو حبّ الله بعد أن صاروا مختاريه وأحبّاءه. وبما أنّهم رأوا رحمة الله ورأفته تعمل فيهم، فعليهم أن يعملوا مثله هم الذين اقتبلوا سرّ العماد. إذن، لسنا أمام نصائح بشريّة تُعطى من الخارج من أجل حياة "مرتاحة" في وسط "جيل معوجّ ملتو" (فل 2: 5)، بل أمام موقف ينبع من العلاقة الجديدة التي تربط المعمّد بالله فتعلّمه أن يقتدي بالله (أف 5: 1).
نشير إلى أنّ عبارة "أحشاء الرحمة" تستلهم فل 2: 1 ي حيث نقرأ: "ومن ثمّ أناشدكم بما في المسيح من دعوة ملحّة، وفي المحبّة من قوّة مقنعة، وفي الروح من شركة، وبالحنان والرحمة أن اتّموا فرحي بأن تكونوا...". نجد هنا أيضًا "سبلانخنا" (أحشاء، مراحم). "أويكترموس" أي الرحمة والرأفة. المخاطر تهدّد الجماعة من الخارج ومن الداخل. فما هو الدواء؟ وحدة النيّة والهدف. أمَّا الينبوع فهو المحبّة والحنان والرحمة. إنّ المحبة التي تجمع المسيحيّين أساسها رحمة الله للبشر. تتحدّث روم 12: 1 عن "مراحم الله". وتسمّيه 2 كور 1: 3: "أبا المراحم". وعندما نبني حياتنا على مثل هذا الأساس، نفهم أهميّة الوحدة على مستوى المحبّة والفكر والنفس. "لا تعملوا شيئًا عن منازعة أو عجب" (فل 3:2-3).
هذه التحريضات على الحياة المسيحيّة المؤسّسة على رحمة الله نجدها في العهد القديم وفي التقليد اللابيبلي. ونعطي بعض الامثلة. الأوَّل من أبا شاول: "علينا أدن نتشبّه به. كما هو حنون ورحوم، كن حنونًا ورحومًا". وعلّم رابي مئير: "قال الربّ لموسى: تشبّه بي. فكما أردّ على الشرّ بالخير، أنت أيضًا ردّ على الشر بالخير. فقد كتب: من هو إله مثلك يغفر الذنوب ويسامح الخطايا" (مي 18:7)؟ وقال رابي حنا بن حنينا في تفسير تث 13: 5 (هو الربّ إلهكم فاتبعوه): "كيف نستطيع أن نتبع الله؟ نسلك سلوكه. كما كسا العراة، أنت أيضًا اكسُ العراة. وكما زار المرضى أنت أيضًا زُر المرضى". أمَّا الفضائل المذكورة في كو 2: 12 فنجدها أيضًا في غل 22:5-23؛ روم 4:2؛ 22:11؛ 1 تس 5: 14...
وننهي كلامنا عن طريقة حياة المسيحيّين التي تستلهم رحمة الله بهذا المقطع من الرسالة إلى أفسس: "كونوا بالحري ذوي رفق بعضكم ببعض، شفقاء. متسامحين كما سامحكم الله في المسيح. أجل، كونوا مقتدين بالله كأولاد أحبّاء" (32:4-5: 1). هذه هي قمّة الفقاهة الأولى التي بدأت في 17:4. هي تدعونا إلى الرحمة والتسامح على مثال الله. وبعد الأمور السلبيّة التي يجب أن نتجنّبها (لا كلمة فاسدة، لا كذب، لا غشّ)، نصل إلى الموقف الإيجابي: نقتدي بالله. نقتدي برفقه وحنانه وغفرانه. ثلاث صفات في الله تؤسّس العلاقات داخل الجماعة.

خاتمة
حاولنا في هذه المقالة وفي ما سبق أن نقدّم مفهوم الرحمة في العهد الجديد. بعد أن قرأنا الكلمات التي تشير إلى هذه الفضيلة الإلهيّة، توقّفنا بشكل خاصّ عند الانجيل ثمَّ توغّلنا في رسائل القدّيس بولس فوصلنا إلى النداء الذي يدعونا إلى الرحمة لكي نتشبّه بالله الرحيم.
حين يعي الانسان أنّه بائس خاطئ ينكشف له في الوقت عينه وجه الرحمة التي لا حدود لها. لا، ليس الله ذاك الذي يطلب الخاطئ لكي يعاقبه على خطاياه، بل ذاك الذي يبحث عنه بعد أن اعتبره "خروفًا ضالاً" فيعامله بالحنان ويعيده إلى الحظيرة مع التسعة والتسعين الباقين. وإن كان الله يعاقب على ثلاثة أجيال أو أربعة، فقد سبق العهد القديم وقال إنّه يصنع رحمة إلى ألف جيل، إلى ما لا حدود له من الأجيال. وإذا كان المسيح في العهد الجديد قد طلب من بطرس أن يغفر لا سبع مرات وحسب، بل سبعين مرّة سبع مرات، فلأنه أراد أن يعلّمه إلى أي حدّ يصل غفران الله ورحمته تجاه الخطأة.
وهكذا اكتشفنا في العهد الجديد وجه الرحمة الالهيّة من خلاله وجه يسوع الذي جاء من أجل المرضى، من أجل الخطأة، من أجل الصغار. وقد هتفوا له في أوقات الشدّة: إرحمنا، كيرياليسن (مت 15: 22). واكتشفنا من خلال فعلات يسوع قلب الله الحنون الذي ينتظر وينتظر طويلاً ليدلّ على فيض رحمته. كان قد قال في حز 18 إنه لا يريد موت الخاطئ، بل أن يتوب فتكون له الحياة. وها هو يفهمنا أنّه ليس إله الغضب، وإنّ غضب (بمعنى: رفض) على الشرّ الذي نقع فيه، أنّه الاله الذي يفرح عندما يغفر ويسامح. هنا نتذكّر فرحة الأب في مثل الابن الضال: "تعال نتنعّم ونفرح" (لو 15: 32). لقد أراد أن تنتقل فرحته إلى الجميع (آ 23-24) حتى إلى الأخ الذي أغلق أحشاءه عن أخيه فما أراد أن يستقبله.
الرحمة في العهد القديم هي أعظم فضيلة تدلّ على الله. وقد امتدّت في العهد الجديد حيث طلب منا الربّ أن نرحم على مثال الآب السماوي. هكذا نكون حقًا أبناء الآب الذي يرحم الجميع، الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار، الذي يريد خلاص كلّ بشر (لو 6:3). إنَّ الرحمة هي شرط ضروري لكي ندخل إلى السماء وهي تجعلني قريبًا من البائس الملقى على قارعة الطريق، والخاطئ الذي سبّب إليَّ الإساءة، والجائع والعطشان والغريب والسجين والعريان والمريض. غابت الرحمة لدى الوثنيّين (روم 1: 31 لا فهم لهم ولا استقامة، لا ودّ ولا رحمة) فاستحقوا غضب الله وعقابه، أو هم بالأحرى ابتعدوا عن إله الرحمة فاستسلموا إلى الفجور. وغابت الرحمة من قلب ذلك العبد الذي أمسك بخناق رفيقه مع أنّ السيد كان قد عفا عنه، فغضب السيّد ودفعه إلى الجلاّدين (مت 18: 34). وأفهمنا أنّنا إن لم نغفر، إن لم نسامح، لا يغفر الله لنا ولا يسامحنا. أجل إنّ حبّ الله لا يثبت فينا إذا كنا لا نمارس الرحمة. ولكن هنيئًا لنا إن تشبّهنا بإله الرحمة. فهو سيرى فينا صورته ويعلن لنا أنَّه يعترف بنا لأنّنا اعترفنا به بعد أن اكتشفنا وجهه في كلّ وجه بشريّ التقينا به على طرقات الحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM