الفصل التاسع والثلاثون :ملكوت الله عند بولس الرسول

 

الفصل التاسع والثلاثون
ملكوت الله عند بولس الرسول

إذا عدنا إلى أصول الملكيّة في أرض اسرائيل، نرى أن رجاء الشعب اليهوديّ بملكوت الله، ما زال يتوسّع على مدّ الألف الأولى ق. م. وجاء سقوط أورشليم وضياع الاستقلال السياسيّ، فقادا الشعب إلى التخلّي عن النظرة إلى ملك يملك على الأرض. فالملك الوحيد هو الله. أما الملك على الأرض، فهو يقوم مقام الله. وسوف يفشل الملوك الواحد بعد الآخر. فينتظر الشعب ملكًا من الأرض يختاره الله حسب قلبه كما اختار داود. بل هو تطلّع إلى السماء. وانتظر الشعب أن يرسل الله من عنده ذاك الذي يقيم العدل والانصاف على الأرض ويحمي أتقياءه من المضايق. لهذا هتف أشعيا النبي: "أقطري أيتها السماوات من فوق، ولتمطر الغيوم الصدّيق" (45: 8).
في السابق تحدّثنا عن ملكوت الله في أناجيل مرقس ومتّى، ولوقا ويوحنا. وهنا نحن نعود إلى بولس. عند مرقس بدأ يسوع رسالته فأعلن: "تمّ الزمان واقترب ملكوت الله". ودعا متّى إلى التوبة استعدادا لهذا الملكوت. غير أن لوقا تفرّد عن صاحبيه فما جاء الكلام عن الملكوت في الكرازة التي بها دشّن رسالته. وتوقّف يوحنا بشكل خاص عند يسوع الذي هو الملك الحقيقيّ تجاه بيلاطس الذي يمثل الامبراطوريّة الرومانيّة الواسعة. وتوقّف بولس عند الملكوت على أنه واقع خلاص يتمّ في حياة الجماعات الأولى، في حياة المعمّدين.
إن موضوع ملكوت الله الذي يميّز كرازة يسوع هو حاضر لدى بولس الذي يعتبره تعليمًا عرفه المسيحيّون وتقبّلوه. نحن نقرأ عند الرسول سبع مرات عبارة ملكوت الله، منها أربع في 1 كور (4: 20؛ 9:6، 10؛ 15: 50) وثلاث في غل 5: 21؛ روم 17:14؛ 1 تس 2: 12. هذا في الرسائل التي تعتبر من يده بولس. ولكننا نقرأ العبارة أيضًا في كو 4: 11؛ أف 5: 5؛ 2 تس 1: 5.

1- الدعوة المسيحيّة إلى ملكوت الله
يرى بولس بحسب التعليم الذي يعطيه لأهل تسالونيكي بأن المسيحيّين ينتظرون بشوق عودة يسوع. وهدفُ هذه العودة هو خلاص وسعادة، لا عقاب وشقاء، كما كانوا ينتظرون يوم الربّ في العهد القديم. فيسوع في عودته "يخلّصنا من الغضب الآتي" (1 تس 1: 10). فإذا أراد المؤمنون أن يحصلوا على الخلاص، وجب عليهم أن يسلكوا سلوكًا مليئًا بالايمان والمحبّة ليُوجدوا "بغير لوم في القداسة، لدى إلهنا وأبينا، عند مجيء ربنا يسوع مع جميع قدّيسيه" (1 تس 13:3).
ويحضّ بولس المؤمنين في الرسالة ذاتها، على أن "يعيشوا حياة تليق بالله". ويتابع قائلاً: "الله يدعوكم إلى ملكوته ومجده" (1 تس 2: 12). فبولس يهتمّ هنا اهتمامًا خاصًا بعودة الرب (1 تس 2: 19؛ 3: 13؛ 4: 15؛ 5: 23). لهذا لا يذكر إلاّ في هذه الآية "ملكوت الله". ولكن يسوع لم يعظ بالمجيء بل بالملكوت. إذن، الوضع يختلف كل الاختلاف عمّا في الأناجيل. ويختلف بولس أيضًا حين يزيد "المجد" على الملكوت. ربط الانجيليّون المجد بمجيء ابن الانسان (مر 8: 38 وز؛ 13: 26 وز؛ رج مت 19: 28). أما عند بولس فالمجد هو مجد المسيح القائم من الموت (فل 3: 21؛ 2 كور 3: 18؛ روم 6: 3). وهو موضوع رجاء المسيحيّين من أجل تحوّلهم النهائي (فل 3: 21؛ 1 كور 43:15؛ روم 5: 2؛ 8: 18؛ 9: 23). ولكن هذا المجد هو "مجد الله" وتنوير الانسان كله بنور الله نفسه (روم 8: 18؛ يُحرم الخطأة منه في روم 3: 23).
أما في 1 تس 2: 12، فنجد الملكوت مع المجد، أو بالأحرى ملكيّة الله بالنسبة إلى المختارين. هذا ما يقودنا إلى كلام بولس في 1 كور 8:4، حيتُ يسخر من الذين يعتبرون أنهم بلغوا منذ الآن إلى الملكوت الاسكاتولوجيّ: "ها قد شبعتم! ها قد استغنيتم! بدوننا، قد ملكتم! ويا ليتكم ملكتم لنملك نحن أيضًا معكم"!

2- الخطأة وملكوت الله
وتشرف هذه النظرة إلى المجازاة على التهديد الذي يطلقه بولس إلى مراسليه ليمنعهم من العودة إلى انحطاطهم السابق: "أفلا تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟ فلا تغترّوا! فإنه لا العاهرون، ولا عبدة الأوثان، ولا الزناة، ولا المخنثون، ولا مضاجعو الذكور... يرثون ملكوت الله" (1 كور 6: 9- 10). ويقول في غل 5: 19- 21: "أعمال الجسد بيّنة: الفجور والنجاسة والعهر وعبادة الأوثان... إن الذين يعملون أمثال هذه لا يرثون ملكوت الله".
وحسب لغة سفر التثنية الذي تعود إليه تعابير "دخل في ملكوت الله" أو "ورث ملكوت الله" (تث 4: 1؛ 6: 18؛ 8: 1؛ 11: 8؛ 16: 20) وغيرهما، هي مترادفة، فهي تدلّ في هذا السياق الجديد على الدخول إلى وضع نهائيّ من البرّ والسعادة الذي يحتفظ الله به للمختارين في "عالم" تخلّص من الشرّ والخطأة. وكما يعلّمنا سفر التثنية ساعة الحديث عن دخول إلى أرض الربّ هناك شروط لمثل هذا الدخول: الطاعة لمشيئة الله. أما الذين يتجاوزون وصيّة الله ومشيئته فيُستبعدون.
وهذا هو الأمر بالنسبة إلى بولس الرسول، الذي يعود إلى لائحة الرذائل التي أخذها من معلّمي الاخلاق في عصره. وهذا ما تقوله أيضًا 2 تس 1: 5 ولكن بشكل إيجابيّ: "وإن هو دليل حكم الله العادل الذي به تؤهّلون لملكوت الله الذي لأجله تتألّمون". يتحدّث الرسول عن تأهيل لهذا الملكوت، ويربطه بالآلام والاضطهادات التي تصيب المؤمنين. وهكذا نلتقي بما قاله القديس متّى عن المضطهدين من أجل البرّ، من أجل المسيح. والمؤمنون يحتملون هذه الآلام "من أجل ملكوت الله"، من أجل السعادة الأخيرة التي يمنحها الله للذين ظلّوا أمناء له حتى النهاية.

3- بين الحاضر والمستقبل
ونقرأ عند بولس عبارتين تبدوان وكأنهما تحديد لملكوت الله. نقرأهما في سياق هجوميّ وردّ على المعترضين. في العبارة الأولى يتطلّع الرسول إلى اعتداد يظهر في كنيسة كورنتوس. فنجاح بعض الوعّاظ مثل أبلوس، اجتذب المؤمنين كما يجتذبهم بعض "رؤساء" المدارس في العالم المحيط بهم، فظنّوا أنهم يستطيعون أن يقتنوا بقيادتهم براعة تميّزهم عن الآخرين. مثل هذا الغرور يقسم الجماعة. وانضمّ إليه خطرُ حصر الوحي الانجيليّ في حكمة فلسفيّة محض بشريّة. فجاء ردّ بولس قاسيًا وهازئًا. فقال لهؤلاء المعتدّين بأنفسهم الذين يحتقرون "مزاحميهم": إن علمهم يتوقّف عند جمل حلوة برّاقة. وواعدهم بأنهم سيأتي ويضع الأمور في نصابها فتزول هذه الفوضى. "لكني سآتيكم عن قريب، إن شاء الربّ، فأعرف لا أقوال هؤلاء المنتفخين، بل قوّتهم. لأن ملكوت الله ليس بأقوال، بل بالقوّة" (1 كور 4: 19- 20).
جاءت القوّة (ديناميس) لتدلّ على صدق تعليم بولس، لأن الوسائل التي في يده "ضعيفة" (1 كور 2: 1-5؛ 4: 9-13). وتأتي "القوّة" مع "الكلمة" لا لتتعارضا بل لتتكاملا (1 تس 1: 5؛ 2 كور 7:6). بل قد تحلّ الواحدة محلّ الاخرى (1 كور 1: 18). أما في 1 كور 2: 4-5 و4: 19-20، فالواحدة تستبعد الأخرى. "فالقوّة" تدلّ على روح الله، بل هي روح الله (1 كور 5: 14؛ رج روم 15: 13، 19).
كيف يبدو هذا البرهان؟ قد نفكّر باجتراح المعجزات التي تميّز الرسول، وهذا ما لاحظه الكورنثيون أنفسهم (2 كور 12: 12). ولكننا لا نتوقّف عند هذه الوجهة فقط. فالروح يحمل بديناميّته براهين أخرى ملموسة تُثبت الأصلَ الالهيّ للعمل الرسوليّ. ومنها ولادة جماعات مسيحيّة. وجود المواهب وليس أقلها موهبة الألسنة (1 كور 12: 1ي). كل هذا يختلف عن "أقوال" مجادلي هذا العالم الذين ينشرون حكمة دنيويّة وحسب.
في 1 كور 4: 20، يحدَّد ملكوت الله بواسطة هذه المعا نحاة بين "القوّة"، "والقول". وبما أن هذا يتحقّق في الجماعة المسيحيّة، نقرّ بأن ملكوت الله حاضر، وأننا لا ننتظره إلى نهاية العالم الحاليّ. فالمفارقة التي نجدها في الأناجيل، نجدها أيضًا عند القديس بولس. ففي ما يحقّقه الروح اليوم بشكل منظور، يرى الرسول استباقًا لما سيحصل في الساعة الأخيرة. الملكوت هو منذ الآن حاضر هنا. ولكنه ليس حاضرًا في كل مجده. دشّنته قوّة الروح فشعر به المؤمنون. ولكنه ترك لهم أيضًا مساحة رجاء. فـ "عربون الروح" (2 كور 1: 22؛ 5:5) الذي وُضع في قلوبهم ينتقل إلى الكنيسة حيث نجد بدايات ملكوت الله بفعل الروح عينه.
ونجد حضورَ هذا الملكوت في روم 17:14 ولكن في سياق يختلف كل الاختلاف. فبولس يرتبط هنا كما في عدد من "مقالاته" اللاهوتيّة، بوضع محدّد وهو يسعى إلى تقديم الحلّ لهذا الوضع. تولّد هذا الوضع من ممنوعات تنسكيّة لدى فئة من المسيحيين تجاه بعض الأطعمة ولاسيّما اللحم. فانتقد بعضُ المؤمنين هؤلاء "المتنسّكين"، وأخذوا يأكلون أمامهم بشكل ظاهر. شكّكوهم، وجعلوا بعض الضعفاء يأكلون معارضين ضميرهم (هذا هو وضع اللحوم المذبوحة للأوثان، 1 كور 8- 10). فكتب بولس يقول إن المحبّة هي القاعدة. وحذّرهم من "تدمير عمل الله من أجل الأطعمة" (روم 14: 20). ودعا "الاقوياء" إلى التنازل من أجل "الضعفاء". فهل الطعام مهمّ جدًا من أجل الخلاص؟ قال: "ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا، بل برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (روم 14: 17).
ابتعد بولس هنا عن موضوع نجده في العهد الجديد، ليتمثّل ملكوتَ الله بشكل وليمة (لو 19:13؛ مت 8: 11؛ رؤ 9:19..). فهمّه أن يزيل ما يمنع سيادة ما هو جوهريّ في الجماعة: "البرّ" الذي هو عطيّة أساسيّة من الله الذي يعيد الانسان إلى صداقته بموت المسيح وقيامته. ثم "السلام" و"الفرح" اللذان ينتجان عن البرّ (روم 13:15؛ فل 1: 25)، اللذان هما حالة تدوم حتى في الشدّة والضيق (2 كور 8: 2) بفضل عمل الروح (غل 22:5). في هذه الظروف يُبنى ملكوت الله وسط المؤمنين بانتظار أن يبلغ إلى تمامه. ونحن منذ الآن نتذوّق باكورته.
ولكن ما يكون وضع المسيحي في هذا العالم الذي يهيِّئه له الله بعد هذه الحياة على الأرض؟ فالتلاميذ في كورنتوس ضعُفَ إيمانهم فعارضوا القيامة، لأنهم ما فهموا الفرق بين الجسد الحالي والجسد المقبل، بين الجسد الفاسد "الذي زُرع في الذلّ، ونموّه المجيد" (1 كور 15: 42-44). قال: "لا يستطيع اللحم والدم أن يرثا ملكوت الله، ولا الفساد، عدم الفساد" (1 كور 15: 50).
أجل اللحم والدم بما فيهما من سرعة العطب تجعلهما ذاهبين إلى الموت، لا يستطيعان أن يدخلا كما هما الآن إلى العالم المقبل. يجب أن "نتحرّر من عبوديّة الفساد لنشارك أبناء الله في الحريّة المجيدة" (روم 8: 21). فحين يتحرّر كياننا من اللحم والدم، "يلبس" (2 كور 5: 1- 5) جسدًا يختلف عن ذلك المطبوع بالألم والموت، جسدًا يسمو على الأول بالمجد الذي يناله حين يتصل بالله ويراه وجهًا لوجه.


4- ملكوت المسيح والانجيل
في البدء، كان ملكوت الله واقعًا كرز به يسوع، ثمّ المرسلون المسيحيّون. هذا ما نجده في نهاية الرسالة إلى كولسي في مجال الحديث عن يهوديّين ارتدّا إلى الايمان المسيحيّ: مرقس نسيب برنابا، ويشوع المسمّى يوستس. فيهما يقول الكاتب: "وحدهم من أهل الختان، يعاونونني في أمر ملكوت الله" (كو 4: 11). عبارة فريدة ولكنها قريبة ممّا نقرأ في فل 1: 5 حيث يهيِّئ بولس الفيلبيّين "من أجل مساهمتهم في الانجيل". وفي فل 22:2، يمتدح بولس تيموتاوس فيقول عنه: "أما هو، على ما تعلمون، فرجل مختبر، قد خدم معي في الانجيل خدمة الولد مع أبيه". وحين نقابل هذه العبارات، نحسّ أن عبارة ملكوت الله هي مضمون الكرازة المسيحيّة كما نشرها الرسل ومعاونوهم.
كل هذا يصل بنا إلى ملكوت المسيح. ففي القسم المخصّص للحديث عن قيامة الموتى، نقرأ في الرسالة الأولى إلى الكورنثيين: "المسيح يسلّم الملكوت لله الآب، بعد أن يكون أبطل كل رئاسة وكل سلطان وكل قدرة. لأنه لا بدّ أن يملك إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه... ومتى أخضع له كل شيء، حينئذ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء ليكون الله كلاً في الكلّ" (24:15، 25، 28).
يصوّر لنا الرسول هنا عملين، ويصوّرهما في الترتيب المعاكس لحدوثهما. فبعد المجيء وقيامة الموتى (1 تس 4: 16؛ 1 كور 15: 52) التي هي نتيجة قيامة المسيح، تكون نهاية القتال. هذا القتال هو قتال المسيح ضدّ كل ما يعارض العمل الذي حقّقه المسيح وينوي تحقيقه إلى النهاية. والنصر مؤكّد. وقيامة الموتى تتوّج هذا النصر. والموت هو "آخر عدوّ" يتغلّب الله عليه. حرب لا هوادة فيها بقيادة المسيح الذي خطّط لها فقام بوظيفته الملوكيّة. فهو يملك منذ قيامته وتمجيده على يد الله الذي جعله "ربًا" خضع له الكون كله (فل 2: 9- 11). وهذا لا يتمّ بدون مقاومة من قبل القوى المعادية. فعلى هذا الملكوت أن يقاتل إلى أن يضع الله جميع أعدائه تحت قدمَي ذلك الذي خضع له الكون كله (رج مز 6:8؛ 10: 1).
بعد هذا يتطلِّع بولس إلى تسليم هذا المُلك الذي خضع كل الخضوع، لله الآب، لكي يكون الله عند ذاك "كلاً في الكلّ". الفكرة هي فكرة خلاص، لا فكرة ذوبان إلهي يمتصّ المسيح والبشريّة والكون كله. ما من شيء باق يُفلت من مخطّط الله الشامل الذي رسمه الله. هذا هو جوهر السيناريو الذي لا يمكن إلاّ أن يكون استعاريًا يعفينا من التساؤل حول مصير المسيح واستمراريّة سلطانه على العالم. يسوع بدأ ويسوع يُنهي، ويكون "الرب" إلى الأبد "لمجد الله الآب" (فل 11:2).
وفي الوصيّة (رجل يكتب وصيّته قبل أن يموت) التي نجدها في الرسائل الرعائيّة، تبدو النظرة مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي سبق وتوقّفنا عندها. فالمسيح لا يسلّم الملك إلى الله الآب (2 تم 4: 1)، بل يضمّ ممارسة سلطته الملوكيّة إلى ظهوره (ابيفانيا)، إلى تجلّيه الثاني في مجيئه (باروسيا). صوّر متّى الأمور بالشكل عينه في مثل الدينونة الأخيرة (35: 31-46) فبدت ممارسة هذه الملكيّة ملموسة في وظيفة الديّان الشامل كما في كرستولوجيّة بولس في رسائل الأسر. فالمسيح هو الذي يحتلّ "السماء" كلها. لأنه "الرب" (2 تم 1: 2-8) ومنه ينتظر الرسول على عتبة الموت "الخلاص في ملكوته السماويّ" (2 تم 4: 18).
وفي نهاية هذه المسيرة نتوقّف عند الرسالة إلى أفسس التي استقت من 1 كور 6: 9- 10 وغل 5: 21 تهديدًا أشرنا إليه، وزادت شيئًا له معناه. "واعلموا هذا جيدًا، أنه ليس للزاني ولا النجس ولا الطمّاع، وكلّهم عابد وثن، ميراث في ملكوت المسيح والله" (5: 5). أما الرسالة إلى كولسيّ فتعلمنا أن المسيحيين قد خُلِّصوا. أن الآب "انتزعهم من سلطان الظلمة، ونقلهم إلى ملكوت ابنه الحبيب" (13:1). مع أف ومع كو، نصل إلى درجة من التأوين للخلاص لا نجدها إلاّ في الانجيل الرابع. فمع أن هناك موضعًا للانتظار (كو 3: 4؛ أف 4: 4، 30؛ 5: 16)، فالبُعد المقبل هنا يتوازن مع الحاضر الذي حصلنا عليه. وبشكل خاص، تسير حياة المؤمنين حيث المسيح هو (كو 3: 1). وإذا قابلنا أف 2: 4، 6 مع روم 6: 14 (رج كو 2: 12- 13)، نلاحظ تدرّجًا، نجد تأوينًا كلّه جرأة: يستطيع المسيحيون أن يعتبروا نفوسهم أنهم منذ الآن يعيشون مع المسيح حياة جديدة. بل يعتبرون نفوسهم أيضًا أنهم قاموا مع المسيح بل جلسوا معه في السماوات عن يمين الآب (كو 3: 1؛ أف 1: 20).
هذا العالم العلويّ الذي يملك عليه الله والمسيح الممجّد، يعيش فيه المسيحيّ منذ الآن، فيشارك في "ميراث القديسين في النور" (كو 1: 12). والرجاء الذي ينتج من الدعوة المسيحيّة يُدرك منذ الآن موضوعه (أف 1: 18). ولكن هناك شروطًا أخلاقيّة مفروضة على المسيحيّ. فإن لم يحقّقها، يبقى، شأنه شأن الآخرين، على مستوى "عالم الظلمة" (أف 6: 12) الذي يريد الله أن يخرجه منه. فالميراث ليس للمسيحيين الذين لم يقطعوا كل رباط مع ماضيهم الوثني ومع الرذائل التي تميّز هذا الماضي (أف 5: 3- 5؛ كو 3: 5-8).

خاتمة
- لا يتحدّث بولس أبدًا عن ملكوت الله كواقع آت، كواقع يقترب (رج مر 1: 15). فـ "الممجيء" الذي ينتظره هو مجيء المسيح في النهاية (1 تس 5: 2؛ 1 كور 4: 5؛ 11: 26). مجيئه في الدينونة والغضب الآتي (1 تي 1: 10؛ كو 3: 6؛ أف 5: 6).
- وللملكوت عند بولس طابع مُقبل. فعبارة "ورث ملكوت الله" تحمل معنى سلبيًا. إنها تعبّر عن منع المجازاة الاخيرة عن الخطأة الفاسدين (1 كور 6: 9- 10؛ 15:50). عن استحالة الوصول إلى الملكوت بقوانا الخاصّة (1 كور 50:15).
- تحدّث بولس عن "القدرة" العجائبيّة التي أعطيت له بالروح ليدلّ على أن ملكوت الله يعمل الآن في العالم. لاشكّ في أن بولس لا يكرز بالملكوت كما نجده في الأناجيل. ولكن مضمون الكرازة الرسوليّة هو في الواقع الملكوت (كو 4: 11).
- يتطلّع بولس إلى "ملك" المسيح ما دام هذا العالم في الوجود (1 كور 15: 24-25). هذا ما يجعلنا قريبين من مثل الزؤان في الحقل (مت 13: 41). هذا مع العلم أن حقل المسيح هو العالم كله، هو وضع نعيش فيه وسوف تعيش فيه الكنيسة حتى انقضاء العالم.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM